نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

قال لقمان لابنه : يا بنيّ ، إذا رأيت قوما يذكرون الله تعالى فاجلس معهم ، فإنّك إن تك عالما ينفعك علمك. وإن تك جاهلا علّموك. ولعلّ الله يطّلع عليهم برحمته فيصيبك معهم (١) .

في أقسام ذكر الله وأنواعه

قيل : الذكر قد يكون باللّسان ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالجوارح. فالذكر باللّسان :

أن يحمدوه ويسبّحوه ويمجّدوه ويقرأوا كتابه. والذكر بالقلب على ثلاثة أنواع :

أحدها : أن يتفكّروا في الدلائل الدالّة على ذاته وصفاته ، ويتفكّروا في الجواب عن الشبه العارضة في ملك الله (٢) .

وثانيها : أن يتفكّروا في الدلائل الدالّة على كيفيّة تكاليفه وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، فإذا عرفوا كيفيّة التّكليف وعرفوا ما في الطاعة من الوعد وفي تركها من الوعيد سهلت عليهم.

وثالثها : أن يتفكّروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتّى تصير كلّ ذرّة من ذرّات المخلوقات كالمرآة المجلوّة المحاذية لعالم القدس ، فإذا نظر [ العبد ] إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال ، وهذا المقام مقام لا نهاية له.

وأمّا الذكر بالجوارح فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي امروا بها ، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها. وعلى هذا الوجه سمّى الله تعالى الصّلاة ذكرا ، بقوله : ﴿فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ(٣) فالأمر في قوله : اذكرونى متضمّن لجميع الطّاعات.

كما نقل عن سعيد بن جبير ، أنّه قال في تفسيره : اذكروني بطاعتي (٤) .

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالذكر الذي هو بأحد الوجوه أهمّ العبادات وروحها ، أمر بالشّكر بقوله : ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ على جميع نعمي ، ظاهريّة كالصّحّة والأمنيّة وغيرها. وباطنيّة : كإرسال الرّسول والهداية إلى الدّين القويم والطريق المستقيم الذي منها تحويل القبلة.

وهذا أمر بجميع الطاعات ، فإنّ من الشكر القيام بالواجبات ، والاهتمام بترك المحرّمات ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « شكر كلّ نعمة الورع عن محارم (٥) الله (٦) » . وأقلّ مراتب الشّكر ثناؤه تعالى

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٥٧.

(٢) في تفسير الرازي : الشبهة القادحة في تلك الدلائل.

(٣) الجمعة : ٦٢ / ٩.

(٤) تفسير الرازي ٤ : ١٤٣ ، تفسير روح البيان ١ : ٢٥٦.

(٥) في الخصال وتفسير الصافي : عمّا حرّم.

(٦) الخصال : ١٤ / ٥٠ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٥.

٣٦١

وحمده.

كما عن ( العياشي ) : عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : هل للشّكر حدّ إذا فعله الرّجل كان شاكرا ؟ قال : « نعم » .

قيل : وما هو ؟ قال : « الحمد لله على كلّ نعمة أنعمها عليّ ، وإن كان له فيما أنعم به عليه حقّ أدّاه ، ومنه قول الله تعالى : ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا(١) .

وعنه عليه‌السلام في رواية : « عند النعمة الشّكر فريضة » (٢) الخبر.

وإنّما لم يقل : اشكروني ، لما في قوله : ﴿اشْكُرُوا لِي﴾ إشعار باختصاص الشكر به تعالى ، وعدم استحقاق غيره له ، لأنّ جميع النعم بفضله ومنتهية إليه.

ثمّ لتأكيد ذلك الأمر نهى عن ضدّه بقوله : ﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾ نعمي بجحدها ، وعصيان أمري ، بل عليه يكون ترك الشكر كفرانا.

وقيل : إنّ المراد لا تكفرون بي ، ولا تجحدون وحدانيّتي والوهيّتي ، وإنّما خصّ الكفر به تعالى بالنهي عنه ، للتّنبيه على أنّه أعظم قباحة بالنسبة إلى كفر نعمه (٣) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا

تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)

ثمّ لمّا كان حقيقة شكره وهو تذكّر نعمه والقيام بجميع أوامره وترك ارتكاب جميع منهيّاته شاقّا على النّفوس وثقيلا على الطّباع ، أمر بالصّبر والتوجّه إلى عظمته وسعة رحمته بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا﴾ على طاعة الله والتورّع عن محارمه وأداء حقّ شكره ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على تحمّل مشاقّ الامور وبكفّ النّفس عن مخالفة أحكام الله واتّباع الشّهوات ، فإنّ قوّة تحمّل المشاقّ من غير جزع وأضطراب ذريعة إلى فعل كلّ خير ، ومبدأ كلّ فضل.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الصّبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد » (٤) .

وقال : « الصّبر خير كلّه ، فمن تحلّى بحلية الصّبر سهل عليه القيام بالطّاعات ، والاجتناب عن

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٦٧ / ٢٢٦ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٥ ، والآية من سورة الزخرف : ٤٣ / ١٣.

(٢) الخصال : ٨٦ / ١٧ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٥.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٢٥٦.

(٤) الكافي ٢ : ٧٢ / ٣ ، تفسير روح البيان ١ : ٢٥٧.

٣٦٢

المنكرات ، وتحمّل البلايا والمصيبات » (١) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : « ثمّ ينادي مناد : أين أهل الصّبر ؟ فيقوم ناس يسيرون سراعا إلى الجنّة فتلقّاهم الملائكة فيقولون : إنّا نراكم سراعا إلى الجنّة ، فمن أنتم ؟ فيقولون : نحن أهل الصّبر. فيقولون : ما كان صبركم ؟ قالوا : كنّا نصبر على طاعة الله ، ونصبر عن معاصي الله. فيقال لهم : أدخلوا الجنّة » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام (٣) في رواية : « عند البلاء من الله الصّبر فريضة » (٤) .

وقيل : إنّ المراد بالصّبر هنا ، الصّبر على الصّوم (٥) .

ثمّ لمّا كان التوجّه إلى الله وحضور القلب عنده في الصّلاة أكمل وأتمّ ، أمر بالأستعانة بها بقوله : ﴿وَالصَّلاةِ﴾ التي روي أنّها معراج المؤمن (٦) ، وقربان كلّ تقيّ (٧) ، وأنّها الناهية عن الفحشاء والمنكر (٨) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كان إذا حزبه (٩) أمر فزع إلى الصّلاة ، وتلا هذه الآية (١٠) .

ثمّ لمّا كان الصّبر على الطّاعة متضمّنا للاهتمام بالصّلاة والقيام بسائر العبادات أكّد الأمر بالاستعانه به بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ بالتّوفيق واجابة الدّعوة والنّضرة على الأعداء.

وقيل : إنّ المراد بالصّبر في الآية الصّبر على الجهاد بشهادة إردافه بقوله : ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وجهاد أعدائه ونصرة دينه وإعلاء كلمته ، أنّهم ﴿أَمْواتٌ﴾ منقطعو الأثر في الدّنيا ، فإنّ الميّت من لا يبقى منه أثر ﴿بَلْ﴾ هم ﴿أَحْياءٌ﴾ حيث إنّهم أحيوا دين الاسلام وسنّة الجهاد ، فما دام الاسلام باقيا في الدّنيا ، آثارهم باقية وثواب عملهم غير منقطع عنهم ، لأنّ من سنّ سنّة حسنة ، كان له أجر من عمل بها.

﴿وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ بالحواسّ الظاهرة هذا النّحو من الحياة ، حيث إنّها أمر معنويّ لا يدرك إلّا بالعقل السّليم أو بالوحي من الله وإخبار أنبيائه.

في عدد قتلى بدر وأسمائهم

روي عن ابن عبّاس أنّها نزلت في قتلى بدر من المسلمين ، وهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستّة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، فمن المهاجرين : عبيدة بن الحارث

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٥٧.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٥٨.

(٣) في الخصال وتفسير الصافي : الباقر عليه‌السلام.

(٤) الخصال : ٨٦ / ١٧ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٥.

(٥) تفسير الرازي ٤ : ١٤٤. (٦) بحار الأنوار ٨٢ : ٣٠٣.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٧ / ١٦.

(٨) كما ورد في سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٥.

(٩) حزبه الأمر : نابه واشتدّ عليه.

(١٠) تفسير الرازي ٤ : ١٤٥.

٣٦٣

بن عبد المطّلب ، وعمر بن أبي وقاص ، وذو الشّمالين ، وعمرو بن نفيلة ، وعامر بن بكر ، ومهجع بن عبد الله. ومن الأنصار سعيد بن خيثمة (١) ، وقيس بن عبد المنذر ، وزيد بن الحارث ، وتميم بن الهمام ، ورافع بن المعلّى ، وحارثة بن سراقة ، ومعوّذ بن العفراء وعوف بن العفراء وكانوا يقولون : مات فلان ، ومات فلان ، فنهى الله تعالى أن يقال فيهم أنّهم ماتوا.

وقيل : إنّ الكفّار والمنافقين قالوا : إنّ النّاس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمّد من غير فائدة ، فنزلت هذه الآية (٢) .

وعن ( الكافي ) و( التهذيب ) : عن يونس بن ظبيان ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال له : « ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين ؟ » قال : يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش.

فقال عليه‌السلام : « سبحان الله ! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ! يا يونس ، إذا كان ذلك أتاه محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والملائكة المقرّبون ، فإذا قبضه الله تعالى صيّر تلك الرّوح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصّورة التي كانت له في الدنيا » (٣) .

وعن ( التّهذيب ) : عنه عليه‌السلام أنّه سئل عن أرواح المؤمنين فقال : « في الجنّة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت : فلان » (٤) .

في بيان حال المؤمن في البرزخ

أقول : ظهر أنّ المراد من الحياة في الآية هي الحياة البرزخيّة ، التي عبارة عن تعلّق الرّوح بالجسد المثالي الذي هو جوهر هذا الجسد الدنيويّ ، في عالم البرزخ الذي هو عالم بين العالمين ، كما دلّت عليه الأخبار المتواترة ، وضرورة المذهب أو الدّين.

وإنّما اختصّ هذه الحياة بالشّهداء والمؤمنين مع كونها للكفّار والعصاة أيضا ؛ لأنّ حياة الشّهداء مقرونة باللّذّة والنّعمة والبهجة والكرامة دون حياة غيرهم ، حيث إنّها مقرونة بالعذاب والنّقمة ، فكأنّها (٥) ليس بحياة ، كما قال تعالى في حقّ أهل النّار : ﴿لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى(٦).

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ

__________________

(١) في النسخة : سعيد بن خثيمة ، وما أثبتناه من تفسير الرازي.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ١٤٥.

(٣) الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٦ ، التهذيب ١ : ٤٦٦ / ١٥٢٦.

(٤) التهذيب ١ : ٤٦٦ / ١٥٢٧.

(٥) في النسخة : فكأنّه.

(٦) طه : ٢٠ / ٧٤.

٣٦٤

وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)

ثمّ أنّه تعالى لتوطين العباد نفوسهم على الصّبر في المكاره بعد أمرهم بالاستعانة به ، نبههم على أنّ جميع البلايا من جانب الله لطف بهم وامتحان لهم بقوله : ﴿وَ﴾ بالله ﴿لَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ ولنختبرنّ كمال نفوسكم وقوّة إيمانكم ﴿بِشَيْءٍ﴾ قليل ﴿مِنَ الْخَوْفِ﴾ من أعدائكم ﴿وَ﴾ من ﴿الْجُوعِ﴾ العارض لكم بسبب الفقر والقحط ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ﴾ بالتّلف بالسّرقة والغارة وغير ذلك ﴿وَ﴾ من ﴿الْأَنْفُسِ﴾ بالقتل والمرض والموت وغير ذلك من الآفات الجسمانيّة ﴿وَ﴾ من ﴿الثَّمَراتِ﴾ وحاصل الأشجار والزّرع بالجدب وسائر الآفات.

قيل : في توصيفها بالقلّة إشعار بأنّها وإن كثرت فقليلة بالنّسبة إلى ما فوقها (١) .

وقيل : إنّ المراد من الخوف خوف الله ، ومن الجّوع الصّيام ، ومن نقص الأموال الزكاة والصّدقات ، ومن نقص الأنفس الجهاد (٢) ، وإنّما صارت البلايا امتحانا لأنّ الإخلاص حال البلاء للمؤمن أكثر من الإخلاص حال الرّفاه والرّخاء.

ثم أنّه تعالى لازدياد رغبة المؤمنين بالتزام الصّبر ، وعدهم بالثّواب العظيم إجمالا بقوله : ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا رسول الله ﴿الصَّابِرِينَ﴾ على البلايا والمصائب طلبا لمرضاة الله بالرّحمة الواسعة والنعم الدائمة والفضل الذي لا يسعه البيان.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّة لمحمّد بن الحنفيّة ، قال : « ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر ، وعوّد نفسك الصّبر ، فنعم الخلق الصّبر ، واحملها على ما أصابك من أهوال الدنيا وهمومها » (٣) .

وعن الصّادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، قال : قال الفضل بن العبّاس (٤) في حديث : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن استطعت أن تجّمّل (٥) بالصّبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فاصبر فإنّ في الصّبر على ما تكره خيرا كثيرا » الخبر (٦) .

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يا حفص ، إنّ من صبر صبر قليلا ، وإنّ من جزع جزع قليلا » ثمّ قال :

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٠.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٧٦ / ٨٣٠.

(٤) في المشكاة والبحار : عبد الله بن العبّاس.

(٥) في المشكاة والبحار : تعمل.

(٦) مشكاة الأنوار : ٢٠ ، بحار الأنوار ٧٠ : ١٨٣ / ٥٢.

٣٦٥

« عليك بالصّبر في جميع امورك ، فإنّ الله عزوجل بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره بالصّبر والرّفق » الخبر (١) .

وعنه عليه‌السلام في رواية : « فمن صبر كرها ولم يشك إلى الخلق ولم يجزع بهتك ستره فهو من العام ، ونصيبه ما قال الله تعالى : ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الخبر (٢) .

في أنّ البلاء والمصيبة من ألطاف الله بالمؤمن

ثمّ اعلم أنّ الآية صريحة في أنّ البلاء والرّخاء والنعمة والشّدّة كلّها من الله ، وأنّ البلاء والمصيبة من ألطافه تعالى بالمؤمن ؛ لأنّه مقدّمة للصّبر الذي هو من أفاضل الصّفات وأكمل الخصال والملكات للنّفس.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر ، فإذا صبر المؤمن عند نزول الشّدائد كان له درجات » الخبر (٣) .

نعم ، قد يكون كفّارة للسّيئات كما روي عن ( النهج ) « أنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السّيئة بنقص الثمرات ، وحبس البركات ، وإغلاق خزائن الخيرات ؛ ليتوب تائب ، ويقلع مقلع ، ويتذكّر متذكّر ، ويزدجر مزدجر » (٤) .

في بيان وجه أفضلية الصبر على الطاعة من الصبر على البلاء

ثمّ أنّه روي : « أنّ الصّبر على الطّاعة من عمل الواجبات وترك المحرّمات أفضل من الصّبر على البلاء » (٥) ، لوضوح أنّه متوقّف على قوّة الإيمان وشدّة اليقين ، حيث إنّ الانسان العاقل البالغ المكلّف له قوّة شهويّة تدعوه إلى اللذّات النفسانيّة العاجلة والاشتغال بها ، وقوّة عاقلة تدعوه إلى اللذّات الرّوحانيّة الباقية ، ولو كانت آجلة ، والتجنّب عمّا يصدّ عنها ، فإذا عرف العقل أنّ الاشتغال بطلب اللذّات الفانية يمنعه عن الوصول إلى اللذّات الباقية تكون هذه المعرفة صادّة ومانعة لداعية الشّهوة ، فيسمّى ذلك المنع والصّدّ صبرا.

نقل كلام الفخر الرازي وتزييفه

ثمّ من العجائب ، أنّ قال الفخر الرازي في ( تفسيره ) : إنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الغذاء لا يفيد الشّبع ، وشرب الماء لا يفيد الريّ ، بل كلّ ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب ؛ لأنّ قوله : ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ صريح في إضافة هذه الامور إلى الله ، انتهى (٦) .

__________________

(١) الكافي ٢ : ٧١ / ٣ ، بحار الأنوار ٩ : ٢٠٢ / ٦٦.

(٢) مصباح الشريعة : ١٨٦ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٥.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٤٩ ، إلى قوله : شكر.

(٤) نهج البلاغة : ١٩٩ الخطبة ١٤٣ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٦.

(٥) بحار الأنوار ٧٦ : ١٦.

(٦) تفسير الرازي ٤ : ١٥٣.

٣٦٦

وفيه من الوهن ما لا يخفى ، إذ يكفي في إضافة هذه الامور إليه تعالى على وجه الحقيقة ، إضافة إيجاد أسبابها إليه. وأمّا قوله : إنّ إضافتها بواسطة الأسباب إليه مجاز لا يصار إليه إلّا بعد تعذّر الحقيقة ، فممنوع أشّد المنع ، لوضوح كون إسناد الكتابة التي تحصل بتوسّط القلم إلى الكاتب الشاعر المختار حقيقة عند العرف. نعم ، لو كان الواسطة فاعلا عاقلا مختارا ، أمكن أن يكون الإسناد إلى غير المباشر مجازا ، كإسناد فتح البلد إلى الأمير.

﴿الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦)

ثمّ أنّه تعالى وصف الصّابرين بأنّهم ﴿الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ﴾ ووصلت إليهم ﴿مُصِيبَةٌ﴾ وبليّة وكريهة ﴿قالُوا﴾ تسكينا لقلوبهم ، وتسهيلا لتحمّلها على أنفسهم ﴿إِنَّا﴾ مملوكون ﴿لِلَّهِ﴾ مخلوقون بقدرته ، مقهورون تحت إرادته ، متقلّبون في قبضته بمشيئته ﴿وَإِنَّا﴾ بعد الموت والخروج من هذه الدنيا الفانية ﴿إِلَيْهِ﴾ وإلى حكمه ورحمته وقدرته وسلطانه ﴿راجِعُونَ﴾ كما كنّا قبل ولادتنا ودخولنا في تكفّل الآباء تحت قدرته وسلطنته ، لم يكن لأحد علينا في العوالم السابقة من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات تصرّف وتدبير وإرادة وتقدير ، بل كنّا نتقلّب وتعيش فيها بالعيش المناسب لها بمشيئته وحكمته وقضائه وقدره.

ففي الجملة الأولى إقرار بالمبدأ ، وفي الثانية : بالمعاد. ولا ريب أنّ معرفتهما من أكمل المسكّنات للقلب عند نزول ما يشقّ عليه تحمّله ، ورؤية ما لا يلائم طبعه ، حيث إنّ العبد إذا عرف أنّه لا وجود له إلّا بإفاضة الله ، ولا إرادة له عند إرادته ، ولا تصرّف له في شيء من أموره ، ولا معرفة له بمصالحه ومفاسده ، وأنّ هذه الحياة الدنيا منقطعة ، ونعمها زائلة ، وأنّه منتقل منها إلى دار الجزاء وعالم البقاء ، رضي برضا الله ، وسلّم الأمر إليه ، وهان عليه جميع ما يرد عليه من البلايا والمكاره.

عن ابن مسعود رضى الله عنه : لئن أخرّ من السّماء أحبّ إليّ من أن أقول في شيء قضاه الله : ليته لم يكن (١) .

وروي أنّه كلّما اشتدّ الأمر على الحسين بن عليّ عليهما‌السلام في يوم الطّفّ أشرق وجهه سرورا (٢) . وأنّ حبيب بن مظاهر كان يضحك في ذلك اليوم. فقيل له في ذلك ، فقال : أيّ موضع أحقّ بالسّرور من

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ١٥٥.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ : ٢٩٧ / ٢.

٣٦٧

هذا الموضع ! والله ما هو إلّا أن يقبل علينا هؤلاء القوم بأسيافهم ، ثمّ نعانق الحور العين (١) .

وعن سعيد بن جبير ، قال : ما اعطي أحد في المصيبة ما اعطيت هذه الأمّة - يعني الاسترجاع - ولو اعطيه أحد لاعطي يعقوب ، ألا تسمع إلى قوله في قصّة فقد يوسف ﴿يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ(٢) ؟

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه طفئ سراجه فقال : ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ﴾ فقيل : أمصيبة [ هي ] ؟ قال : « نعم ، ما (٣) يؤذي المؤمن فهو له مصيبة » (٤) .

﴿أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)

ثمّ بيّن الله تعالى ما يبشّر به الصابرون تفضيلا بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الصابرون المسترجعون ﴿عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ﴾ كثيرة وعطوفات خاصة متتالية كائنة ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ومليكهم اللطيف بهم ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ عظيمة دائمة غير منقطعة ، وهي شاملة لإيصال جميع المسارّ إليهم ، ودفع جميع المضارّ عنهم في الدنيا والآخرة ﴿وَأُولئِكَ﴾ المكرمون عند الله ﴿هُمُ﴾ بالخصوص ﴿الْمُهْتَدُونَ﴾ إلى كلّ حقّ وصواب وخير وفلاح ، المرشدون إلى مقام القرب وطريق الجنّة والنعم الدائمة.

عن ابن عبّاس ، قال : أخبر الله تعالى أنّ المؤمن إذا سلّم لأمر الله ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال : الصّلاة من الله ، والرّحمة ، وتحقيق سبيل الهدى (٥) .

عن ( الخصال ) و( العيّاشيّ ) عن الصادق عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أربع خصال من كنّ فيه ، كان في نور الله الأعظم : من كان عصمة امره شهادة أن لا اله إلّا الله وأنّي رسول الله ، ومن [ إذا ] أصابته مصيبة قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ومن إذا أصاب خيرا قال : الحمد لله (٦) ، ومن إذا أصاب خطيئة قال : أستغفر الله وأتوب إليه » (٧) .

وعن ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام : « ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة ويصبر حين يفجع إلّا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وكلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكر المصيبة غفر الله له

__________________

(١) رجال الكشي : ٧٩ / ١٣٣.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٦١ ، والآية من سورة يوسف : ١٢ / ٨٤.

(٣) في تفسير الرازي : نعم كل شيء.

(٤) تفسير الرازي ٤ : ١٥٥.

(٥) تفسير الرازي ٤ : ١٥٥.

(٦) زاد في الخصال : رب العالمين.

(٧) الخصال : ٢٢٢ / ٤٩ ، تفسير العياشي ١ : ١٦٩ / ٢٣٤.

٣٦٨

كلّ ذنب [ اكتسب ] فيما بينهما » (١) .

وعن ( الخصال ) و( العيّاشيّ ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الله تعالى : « إنّي جعلت (٢) الدنيا بين عبادي قرضا ، فمن أقرضني منها [ قرضا ] أعطيته بكلّ واحدة منهنّ عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وما شئت من ذلك ، ومن لم يقرضني [ منها قرضا ] فأخذت منه قسرا أعطيته ثلاث خصال ، لو اعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا : الصّلوات ، والهداية ، والرّحمة. إن الله تعالى يقول : ﴿الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ الى آخره (٣) .

وفي رواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان ، ولا ينصب لهم ميزان ، يصبّ عليهم الأجر صبّا ، ثمّ قرأ ﴿إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ(٤) .

﴿إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ

 يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المسلمين بالتوجّه إلى الكعبة في صلاتهم ، واتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام في قبلته ، أمرهم باتّباعه عليه‌السلام في اتّباع سنّته الاخرى بقوله : ﴿إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ﴾ وهما جبلان بمكّة. قيل : سمّي أحدهما بالصّفا لأنّه جلس عليه آدم صفيّ الله ، والاخرى بالمروة لأنّه جلست عليه امرأته حواء (٥) .

﴿مِنْ شَعائِرِ اللهِ﴾ وأعلام مناسكه وطاعته. قيل : ما بينهما قبر سبعين ألف نبيّ (٦) .

﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ﴾ وقصده ﴿أَوِ اعْتَمَرَ﴾ وزاره للنّسكين المعروفين. روي أنّ الحجّ والعمرة علمان كالنّجم والبيت في الأعيان (٧) .

﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِ﴾ ولا إثم له في ﴿أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ وأن يدور ويسعى بينهما.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٢٤ / ٥.

(٢) في الخصال والعياشيّ : أعطيت.

(٣) الخصال : ١٣٠ / ١٣٥ ، تفسير العياشي ١ : ١٦٩ / ٢٣٢.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٢٦١ ، والآية من سورة الزمر : ٣٩ / ١٠.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٢.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٣.

(٧) جوامع الجامع : ٣٠.

٣٦٩

في وجوب السعي بين الصفا والمروة ، ونكتة التعبير عنه بنفي الجناح

عن ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل أنّ السّعي بين الصّفا والمروة فريضة أم سنّة ؟ فقال : « فريضة » .

قيل : أو ليس قال [ الله ] عزوجل : ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ قال : « كان ذلك في عمرة القضاء ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصّفا والمروة ، وتشاغل رجل عن السّعي حتّى انقضت الأيّام ، واعيدت الأصنام ، فجاءوا إليه فقالوا : يا رسول الله ، إنّ فلانا لم يسع بين الصّفا والمروة ، وقد اعيدت الأصنام ! فأنزل الله عزوجل ﴿إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ﴾ إلى قوله : ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ [ أي ] وعليهما الأصنام » (١) .

وعن القمّي : « أنّ قريشا كانت وضعت أصنامهم بين الصّفا والمروة و[ كانوا ] يتمسّحون بها إذا سعوا ، فلمّا كان من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة الحديبية ما كان ، وصدّوه عن البيت ، وشرطوا له أن يخلوا له البيت في العام القابل حتّى يقضي عمرته ثلاثة أيّام ، ثمّ يخرج منها ، فلمّا كانت عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة دخل مكّة ، وقال لقريش : ارفعوا أصنامكم [ من بين الصفا والمروة ] حتّى أسعى فرفعوها » الحديث (٢) . كما [ رواه ] في ( الكافي ) بأدنى تفاوت (٣) .

وفي ( الكافي ) : عنه عليه‌السلام : « أنّ المسلمين كانوا يظنون [ أنّ ] السّعي ما بين الصّفا والمروة شيء صنعه المشركون ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية » (٤) .

قيل : إنّه كان على الصّفا صنم يقال له إساف ، وعلى المروة صنم يقال له نائلة ، وإنّهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين ، فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلمّا طالت المدّة عبدا من دون الله ، فكان أهل الجاهليّة إذا سعوا بين الصّفا والمروة مسحوهما تعظيما لهما ، فلمّا جاء الإسلام وكسّرت الأوثان كره المسلمون الطّواف بينهما لأنّه فعل أهل الجاهليّة ، فأذن الله تعالى في الطّواف بينهما ، وأخبر أنّهما من شعائر الله (٥) .

وروي أنّ الصّفا والمروة بابان من الجنّة ، وموضعان من مواضع الإجابة ، وسعيهما يعدل سبعين رقبة (٦) .

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٣٥ / ٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ٦٤.

(٣) راجع الكافي ٤ : ٤٣٥ / ٨.

(٤) الكافي ٤ : ٢٤٥ / ٤.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٢.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٣.

٣٧٠

في حكمة تشريع السعي

قيل في حكمة تشريع السّعي : أنّه لمّا اشتدّ العطش على هاجر وابنها إسماعيل ، سعت بين الصّفا والمروة لطلب الماء ، فأغاثها الله بالماء الذي أنبعه من زمزم ، فأمر الله الخلق بالسّعي بين الصّفا والمروة ليتذكّروا هذه القصّة ، ويعلموا أنّ الله وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدّنيا عن المحن والبلايا ، إلّا أنّ فرجه قريب ممّن دعاه ، فإنّه غياث المستغيثين. فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما الله ، ثمّ جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة ليعلموا أنّ الله لا يضيع أجر المحسنين.

وقيل : إنّ ذلك تحقيق لما أخبر الله تعالى به قبل ذلك من أنّه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع إلى آخره ، فمن صبر على ذلك نال السّعادة في الدّارين ، وفاز بالمقصد الأعلى في المنزلين (١).

عن الصادق عليه‌السلام : « جعل السّعي بين الصّفا والمروة مذلّة للجبارين » (٢) .

قيل : في إيراد التطّوّف الذي هو من باب التفعّل إشعار بأنّ من حقّ السّاعي أن يتحمّل الكلفة في السّعي ويبذل جهده فيه (٣) .

﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ وتبرّع بفعل المستحبّات أو أتى بالطّوع والرّغبة عملا ﴿خَيْراً﴾ من الخيرات من السّعي الزائد على القدر الواجب ، أو غيره من سائر الصّالحات ﴿فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ﴾ له ، مجاز على عمله. وفي التعبير عن الجزاء بالشّكر اشعار بكمال اللّطف بعبيده ﴿عَلِيمٌ﴾ بعمله وحسن نيّته ومقدار جزائه ، فلا يمكن أن يبخس منه شيئا.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي

الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا

وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن عدّة من الأحكام ، حذّر النّاس عن كتمانها وكتمان كلّ حقّ بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ ويخفون عن تعمّد وعناد ﴿ما أَنْزَلْنا مِنَ﴾ الآيات ﴿الْبَيِّناتِ وَ﴾ البراهين الموضّحات لأمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحّة دينه ، ومن ﴿الْهُدى﴾ والرّشاد إلى كلّ حقّ وصواب.

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ١٥٨.

(٢) الكافي ٤ : ٤٣٤ / ٥.

(٣) تفسير أبي السعود ١ : ١٨١ ، تفسير روح البيان ١ : ٢٦٣.

٣٧١

﴿مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ﴾ وأوضحناه وفصّلناه ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافّة ، الكاتمين وغيرهم ﴿فِي الْكِتابِ﴾ السّماويّ من التّوراة والإنجيل وغيرهما ، بحيث يتلقّاه ويفهمه كلّ أحد من غير أن يكون فيه شبهة وريب.

﴿أُولئِكَ﴾ الكاتمون ﴿يَلْعَنُهُمُ اللهُ﴾ ويبعدهم من رحمته وفضله في الدّارين ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ من الملائكة والجنّ والإنس ، بل كلّ ما يتأتّى منه اللّعن من سائر الحيوانات والنّباتات والجمادات بلسان حالهم وقدر شعورهم ، بل حتّى نفس الكاتم حيث إنّه يقول : لعن الله الكاتمين.

عن العيّاشيّ عن الصادق عليه‌السلام في قوله : ﴿اللَّاعِنُونَ﴾ قال : « نحن هم ، وقد قالوا : هوامّ الأرض » (١) .

عن ابن مسعود رضى الله عنه : ما تلاعن اثنان إلّا ارتفعت اللّعنة بينهما ، فإن استحقّها أحدهما وإلّا رجعت على اليهود الذين كتموا صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

عن ( الاحتجاج ) و( تفسير الإمام ) عن أبي محمّد عليه‌السلام قال : « قيل لأمير المؤمنين صلوات الله عليه : من خير خلق الله بعد أئمّة الهدى ومصابيح الدّجى ؟ قال : العلماء إذا صلحوا.

قيل : ومن شرّ خلق الله بعد إبليس وفرعون وثمود (٣) ، وبعد المتسمّين بأسمائكم والمتلقّبين بألقابكم والآخذين لأمكنتكم والمتأمّرين في ممالككم ؟ قال : العلماء إذا فسدوا ، المظهرون للأباطيل ، الكاتمون للحقائق ، فهم الذين قال الله عزوجل : ﴿أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(٤) .

في حرمة كتمان العلم عن المحتاج الأمين

عن القمّي مرفوعا : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا ظهرت البدع في امّتي فليظهر العالم علمه ، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله » (٥) .

وعن النبيّ أنّه قال : « من سئل عن علم يعلمه فكتمه ، الجم يوم القيامة بلجام من نار » (٦).

وعن العيّاشيّ عن الباقر عليه‌السلام : « إنّ رجلا أتى سلمان الفارسيّ ، فقال : حدّثني فسكت ، ثمّ عاد فسكت ، ثمّ عاد فسكت ، فأدبر الرّجل وهو يتلو هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ فقال له : أقبل ، إنّا لو وجدنا أمينا لحدّثناه » الخبر (٧) .

فدلّت الرّواية على أنّ مطلق الكتمان لا يكون محرّما ، بل يكون مشروطا بكون الطّالب أمينا على

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٧٣ / ٢٤٧.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٥. (٣) في الاحتجاج وتفسير الإمام : ونمرود.

(٤) الاحتجاج : ٤٥٨ ، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٠٢ / ١٤٤.

(٥) الكافي ١ : ٤٤ / ٢.

(٦) مجمع البيان ١ : ٤٤٢ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٩.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٧٢ / ٢٤٤ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٩.

٣٧٢

العلم ، حافظا له كما سمعه ، غير مبدّل ولا مغيّر ، وأن لا يكون في إظهار العلم ضرر على المظهر ولا على المستمع ، وأن يكون العلم ممّا يحتاج إليه السائل في عقيدته وعمله ، بحيث يجب عليه تحصيله. ودلّت الرّوايات أيضا على أنّ حكم الآية عامّ ، وإن قيل أنّها نزلت في رؤساء اليهود وأحبارهم (١) .

كما روي عن ابن عبّاس أنّه سأل جماعة من الأنصار نفرا من اليهود عمّا في التّوراة من صفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الأحكام ، فكتموا فنزلت (٢) .

وعنه أيضا أنّه قال : نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنّصارى. الخبر (٣) لوضوح أنّ خصوصيّة المورد لا يخصّص عموم الحكم.

﴿إِلَّا الَّذِينَ تابُوا﴾ ورجعوا عن كفرهم ، وندموا على كتمانهم ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ نيّاتهم وأعمالهم وتداركوا ما أفسدوه ﴿وَبَيَّنُوا﴾ للنّاس ما في الكتب السّماويّة من نعوت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلائمه. ﴿فَأُولئِكَ﴾ التائبون الصالحون ﴿أَتُوبُ﴾ وأرجع ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بقبول التّوبة والرّحمة المغفرة ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ﴾ السّريع القبول للتّوبة ، الواسع المغفرة للتّائبين ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالمؤمنين.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ

أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)

ثمّ لمّا لم تكن في الآية السابقة دلالة على استمرار اللّعنة عليهم ، صرّح سبحانه وتعالى بكونهم ملعونين بعد الموت إذا استمرّوا على كفرهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله وبآياته وكتموها عن النّاس ﴿وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ لم يرتدعوا عن عقائدهم الفاسدة ، ولم يتوبوا من أفعالهم الشّنيعة. ﴿أُولئِكَ﴾ المصرّون على الكفر ومعاندة الحقّ ، مستقرّ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بعد خروجهم من الدنيا ﴿لَعْنَةُ اللهِ﴾ وطردهم من رحمته ﴿وَ﴾ لعنة ﴿الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ حتّى الكفّار منهم ، حيث إنّهم يلعنون الكفّار في الدنيا لادّعائهم أنّهم ليسوا منهم ، وقد أخبر الله تعالى بأنّ يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٤.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ١٦٢.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٦٢.

٣٧٣

وقيل : إنّ المراد بالنّاس في الآية المؤمنون منهم لأنّهم المنتفعون بالإنسانيّة ، وأمّا الكفّار فهم كالأنعام بل هم أضلّ (١) ، فاللّعنة محيطة بهم حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ودائمين ﴿فِيها﴾ لا خلاص لهم منها ، فلازم دوام اللّعنة عليهم أنّه ﴿لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ﴾ كيفيّة ولا يهوّن عليهم ساعة ﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ويمهلون لحظة.

وقيل : إنّ المراد أنّه لا ينظر إليهم ربّهم نظر الرّحمة (٢) .

﴿وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)

ثمّ أنّه لمّا كان الشّرك ساريا في اليهود والنّصارى وغيرهم من العرب ، دعا الله تعالى جميعهم بعد محاجّتهم في النبوّة إلى التّوحيد الخالص بقوله : ﴿وَإِلهُكُمْ﴾ ومعبودكم أو مفزعكم أيّها النّاس ﴿إِلهٌ واحِدٌ﴾ ومفزع أو معبود فارد لا تعدّد له حتّى تباينوا في المقصد وتتشعّبوا في المسلك.

ثمّ قرّر وحدانيّته وأكّدها بقوله : ﴿لا إِلهَ﴾ موجود ومتصوّر ﴿إِلَّا هُوَ﴾ فلا تعبدوا إلّا إيّاه ، ولا ترجوا ولا تخافوا ما سواه.

وفي الإتيان بضمير الغائب إشعار بأنّه تعالى من غاية إبهام ذاته وكنه صفاته ، يكون غيب الغيوب وحقيقته من العقول والأوهام مستورا ومحجوبا ، لا تدركه الأبصار والقلوب ، وهو يدرك الأبصار والألباب ، ليس له دون خلقه ستر ولا حجاب ، محيط بذرّات الكائنات ، قيّوم على جميع الممكنات ، فهو بذاته مع قطع النّظر عن نعمه مستحقّ لأن يعبده جميع الموجودات.

ثمّ أضاف إلى استحقاقه الذاتيّ استحقاقه الصّفاتيّ بقوله : ﴿الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ﴾ المولى بجميع النعم ، اصولها وفروعها ، حيث إنّ جميع ما سواه إمّا نعمة وإمّا منعم عليه من فضله ورحمته ، فلا يستحقّ غيره العبادة.

روي عن أسماء بنت يزيد أنّها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم : ﴿وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ﴾ و﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ*(٣) .

ثمّ أنّه روي أنّه : لمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ، نزلت عليه آية : ﴿إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ﴾ فسمع [ كفّار ]

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٥.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٥.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٧ والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥ ، وآل عمران : ٣ / ٢.

٣٧٤

قريش فقالوا : كيف يسع النّاس إله واحد ؟ فنزل ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ(١) .

وروي أنّ المشركين كان لهم حول البيت ثلاثمائة وستّون صنما ، فلمّا سمعوا آية ﴿إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ﴾ . قالوا : إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك ، فنزل ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ *﴾ الآية (٢) .

وروي عن سعيد (٣) بن مسروق ، قال سألت قريش اليهود ، فقالوا : حدّثونا بما جاءكم [به] موسى من الآيات فحدّثوهم بالعصا وباليد البيضاء ، وسألوا النّصارى عن ذلك فحدّثوهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.

فقالت قريش عند ذلك للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ادعوا الله أن يجعل لنا الصّفا ذهبا فنزداد يقينا وقوّة على عدوّنا فسأل ربّه ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ، ولكن إن كذّبوك بعد ذلك لاعذّبنّهم عذابا لا اعذّبه أحدا من العالمين !

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « ذرني وقومي أدعوهم يوما فيوما » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبينا لهم أنّهم إنّ كانوا يريدون أن أجعل لهم الصّفا ذهبا ليزدادوا يقينا ، فخلق السّماوات والأرض وسائر ما ذكر في الآية أعظم (٤) .

أقول : ظاهر الرّواية أنّ قريش الذين اقترحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل لهم الصّفا ذهبا ، كانوا من المؤمنين به ، حيث قالوا : فنزداد يقينا وقوّة على عدوّنا ، والظاهر أنّه لم يكن في المؤمنين منهم أجسر من صنميهم.

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي

تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ

الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ

الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ١٧٩ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ١٦٤.

(٢) تفسير أبي الفتوح ١ : ١٨٤ ، تفسير روح البيان ١ : ٢٦٧.

(٣) في النسخة : شعبة ، وهو سعيد بن مسروق الثوري ، راجع : تهذيب الكمال ١١ : ٦٠.

(٤) تفسير الرازي ٤ : ١٧٩.

٣٧٥

ثمّ شرع الله تعالى في إقامة البرهان على وحدانيّته ، ومن الواضح أنّ الاستدلال بالآثار على وجود المؤثّر أقرب إلى فهم العامّة ، ولذا جرت سيرته تعالى في الكتاب العزيز بالاستدلال على وجوده ووحدانيّته بمخلوقاته العجيبة ومصنوعاته البديعة ، مع أنّ من توغّل في التفكّر في مخلوقاته تعالى كان أكثر علما بجلال الله وعظمته وقدرته وحكمته.

ثمّ لمّا كان من أظهر الآيات وأعظمها في أنظار العامّة خلق السّماوات ، بدأ بذكره ، بقوله : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ﴾ السّبع أو التسع وإنشائها على سبيل الاختراع والإبداع بلا عمد تمنعها من السّقوط ، وعلاقة تحبسها عن الوقوع.

ثمّ ثنّاه بذكر الآية التي هي دون السّماوات وفوق غيرها في العظمة ، بقوله : ﴿وَ﴾ في خلق ﴿الْأَرْضِ﴾ مع ما فيها من أعاجيب وبدائع الصنائع التي يعجز عن فهمها عقول البشر.

قيل : إنّما جمع السّماوات وأفرد الأرض ، للإشعار بأنّ كلّ سماء ليست من جنس الاخرى بخلاف الأرضين ، فإنّها كلّها من جنس واحد وهو التّراب (١) .

ثمّ ذكر الآية الاخرى التي تكون من توابع خلق السّماوات بقوله : ﴿وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ﴾ وتعاقبهما بحيث يخلف كلّ واحد منهما الآخر ، أو المراد اختلافهما بالجنس والهيئة والصّفات والمنافع ، حيث إن الليل جعل سكنا وراحة لظلمته لأن لا ينهك الأبدان بشدّة الكدّ والتعب ، والنّهار مبصرا لطلب المعاش وأبتغاء فضل الله.

ثمّ ذكر الآية التي تكون من خواصّ الأرض بقوله : ﴿وَالْفُلْكِ﴾ وهي السّفن ﴿الَّتِي تَجْرِي﴾ وتسير ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ مصحوبة ﴿بِما يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ من الأمتعة.

في وجه كون الفلك وسيرها في البحر من آيات الله

وإنّما جعل خلق الفلك وسيرها من آياته مع أنّها مصنوعات خلقه ؛ لأنّ في خلق أجزائها بحيث تستقرّ على البحر في أمد بعيد لا تغرق ولا تغوص فيه ، كما إذا كان كلّها من حديد ، وتسخير البحر لها بحيث تجري فيه بسهولة ، وتعليم صنعها حمولة (٢) بحيث تنقل بها الأمتعة النافعة من بلد إلى بلد ، وإرسال الرّياح غير العاصفة لتحريكها وتسييرها بسرعة ، وتقوية القلوب لركوبها ، وجعل الأمتعة فيها حتّى ينتفع عموم النّاس بأشياء نافعة مختصّة ببعض البلاد ، حيث إنّه من الواضح اختصاص بعض البلاد ببعض الأمتعة التي يحتاج إليها أهل البلاد

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٧.

(٢) كذا.

٣٧٦

البعيدة ، من ظهور قدرة الله وحكمته ورحمته ما لا يخفى على ذي لبّ ، حيث إنّه لو لا تبعيّة السّفن بتعليم الله وجريانها في البحار ، وحفظهما من تلاطم الأمواج ، ووكوف الأمطار (١) ، ومصادمة الحيوانات العظيمة ، والجبال والأشجار من خرق الألواح ، ومخالفة عواصف الرّياح ، لما وصلت سفينة إلى ساحل سليمة ، ولما كثرت في البلاد نعمة ووقع (٢) الخلق في مشقّة عظيمة وكلفة وخيمة.

﴿وَ﴾ كذا في ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّة أو من جهة العلوّ ، الأمطار التي تكون ﴿مِنَ﴾ جنس ﴿ماءٍ﴾ عظيم النّفع به حياة كلّ شيء وبقاؤه ورزقه ، فإنّ دلالة خلق الماء البارد العذب وإنزاله من السّماء حتّى يحيط بجميع الأرض على كمال القدرة والحكمة أوضح من أن يحتاج إلى البيان.

في أنّ غالب الأمطار نازل من السماء ، لا أنّ كلّها متكوّن من الأبخرة

ثمّ اعلم أنّ ظاهر كثير من الآيات والأخبار أنّ المطر نازل من السّماء المعروفة إلى السّحاب ، ومنه إلى الأرض.

وقال الطّبيعيّون : إنّه من أبخرة متصاعدة من الأرض إلى الجوّ البارد بتأثير الشمس فيها فتبرد حينئذ وتنقلب بذرّات الماء فتتّصل الذّرّات فتكون قطرات ، وليس السّحاب إلّا تلك الأبخرة المتراكمة. وادّعوا أنّه محسوس لمن مارس ، وهذا القول وإن كان في نفسه غير بعيد إلّا أنّه مخالف لظواهر الآيات وصريح الرّوايات ، ولا وجه لرفع اليد عنها بعد إمكان تحقّق مضمونها. نعم يمكن القول بأنّ الأغلب أنّه نازل من السّماء المعروفة ، وقد يوجد بالمبادئ التي ذكروها ، والله العالم بحقائق الامور.

﴿فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ﴾ وأنبت فيها به أنواع النّباتات والأزهار والزّروع والأشجار ، وحصل لها به حسن ورونق ونضارة ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ ويبوستها حسب ما

تقتضيه طبيعتها.

قيل : إنّ إطلاق الحياة على حصول النّماء والإثمار استعارة بعلاقة أنّ الحياة الحقيقيّة - وهي الرّوح في الأحياء - منشأ لوجود الآثار والنّماء والنزهة والبهاء ، وفيه أنّ الظاهر أنّ لفظ الحياة حقيقة في كون الشيء مبدءا للآثار المتوقّعة منه. وبهذا المعنى يطلق الحيّ على الله تعالى ، وعلى القلوب ، والموت الذي هو ضدّه حقيقة في سقوط الشيء عن قابليّة تلك الآثار.

ولمّا كان الرّوح مبدأ للآثار يطلق عليه الحياة ، فعلى هذا يكون لكلّ شيء ، ولو كان من الجمادات ،

__________________

(١) وكف المطر : سال وقطر.

(٢) كذا ، والظاهر : ولوقع.

٣٧٧

حياة وموت.

﴿وَ﴾ في أنّه تعالى ﴿بَثَ﴾ في الأرض وفرّق ﴿فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ من الانسان وسائر الحيوانات التي تدبّ وتتحرّك على وجه الأرض ، فإنّ من تفكّر في خلق الحيوانات خصوصا الانسان ، تحصل له معرفة كاملة بوحدانيّة صانعه وكمال حكمته ، فلينظر العاقل إلى بدو خلقته ؛ كان نطفة متشابهة الأجزاء ، ثمّ بعد استقرارها في الرّحم صارت دما متشابه الأجزاء ، ثمّ صار بعد مدّة بعضه عظما ، وبعضه لحما ، وبعضه عصبا ، وبعضه عروقا ، وبعضه شحما ، وبعضه جلدا ، مع كون جميع هذه الأجزاء متخالفات بالطّبع والوصف والفائدة ، حيث إنّ لكلّ منها فوائد عظيمة غير ما للاخرى.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « سبحان من بصّر بشحم ، وأسمع بعظم ، وانطق بلحم » (١) .

في بيان بعض عجائب خلقة الانسان

ثمّ لينظر إلى عجائب تركيب جسده ، فإنّ من راجع علم التّشريح وجد فيه من العجائب ما تحار فيه العقول وتضلّ فيه الأفهام ، ثمّ ليتفكّر في أنّه بعد انفصاله عن أمّه طفلا لو وضعت على فمه وأنفه خرقة تمنعه من التنفّس لمات في ساعته ، ومع ذلك بقي في رحم امّه حيّا من غير تنفّس مدة قريبة من خمسة أشهر ولم يمت.

ثمّ من عجائب خلقة الانسان أنّه بعد ولادته يكون من أضعف الحيوانات بطشا وأقلّها إدراكا ، حيث إنّه لا يميّز بين امّه وغيرها ، ولا بين الماء والنّار ، والنّافع والمضرّ ، والملذّ والمؤذي ، ثمّ يصير بعد استكماله أعقل من سائر الحيوانات وأذكى من جميع موجودات عالم الأجسام ، بل يصير بإعمال القوّة النظريّة العمليّة جوهرا قدسيّا وعالما عقليّا ، مع أنّ أولاد سائر الحيوانات أقوى شعورا وأشدّ بطشا منه حال صغره. ومقتضى الطّبع أنّ كلّ ما كان في صغره وبدو أمره أذكى وأعقل وأبطش ، كان في كبره وأوان استكماله أكمل في تلك الصفات (٢) ، وليس هذه المزيّة للإنسان إلّا من عطايا القادر الحكيم المنّان.

ثمّ من عجائب خلق الانسان كثرة اختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم وأمزجتهم وأخلاقهم ، وكيفية أشكالهم وأصواتهم بحيث لا يكاد يرى فردان من الإنسان متماثلين في الشّكل وكيفيّة

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ١٩٩.

(٢) والانسان على الضدّ من ذلك ، ويؤيده ما جاء في الحديث عن العبد الصالح عليه‌السلام : « تستحبّ عرامة الصبي في صغره ليكون حليما في كبره ، ثمّ قال : ما ينبغي أن يكون إلا هكذا » الكافي ٦ : ٥١ / ٢.

٣٧٨

الصّوت ، متوافقين في المزاج وخصوصيّات الأخلاق بحيث لا يتمايز أحدهما عن الآخر ، مع أنّ غالب الحيوانات البريّة أو البحريّة لا يكون بين أكثر أفراد نوع واحد منها تميّز ظاهر ، وليس هذا الاختلاف في أفراد الإنسان إلّا للتّعارف ، ولولاه لاختلّت معائشهم ونظام امورهم. واستقصاء الكلام في عجائب خلقة الإنسان بل كلّ من أنواع الحيوانات لا مطمع فيه لأحد ، حيث إنّه بحر لا ساحل له (١) .

في حكمة تمويج الرياح

﴿وَ﴾ في ﴿تَصْرِيفِ الرِّياحِ﴾ وتحريكها وتمويجها ، فإنّ فيه حكمة بالغة والنظام الأتمّ ، حيث إنّ فيه كمال النّفع للنّباتات والحيوانات ، إذ لكلّ منها تنفّس بها ، فلو لم يتغير الهواء بهبوب الرّياح لفسد ، وبفساده هلكت الحيوانات والنباتات.

قال بعض : لو لم تكن الرّياح والذباب لأنتنت الدنيا (٢) .

في وجه تسمية الهواء المتموّج بالريح وبالمبشّر وبيان أقسام الرياح

قيل : سمّيت الرّيح ريحا لأنّ في هبوبها الرّوح والرّاحة ، وفي انقطاعها الكرب والغمّ (٣) .

وإنّما سمّى الله تعالى الرّياح مبشّرات ؛ لأنّ فيها مع عظم منافعها تحريك السحاب الممطر الذي به حياة الأرض ، وبحياتها حياة جميع الحيوانات ، فإنّ بالعشب تعيش الدّوابّ ، وبالثّمار يتقوّت الإنسان.

ثمّ اعلم أنّ للرّياح أقساما أربعة :

أحدها : الصّبا ، ويقال لها : القبول لاستقبالها الدّبور ، وهي شرقية.

وثانيها : الدّبور ، وهي غربيّة.

وثالثها : الشّمال وهي شمالية.

ورابعها : الجنوب وهي جنوبيّة.

وكلّ ريح هبّت من بين المهبّين من المهابّ الأربعة تسمّى نكباء ، ولكلّ واحدة منها منافع لا تحصى.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه إذا هبّت ريح ، قال : « اللهمّ اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا »(٤).

ولعلّ فيه إشارة إلى أنّ هبوب الرّياح من جميع الجوانب إحاطة الرّحمة بالخلق ، وأنّ لكلّ ريح

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٠.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٨.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ٢٠١.

(٤) تفسير الرازي ٤ : ٢٠٢.

٣٧٩

فائدة لا تتمّ إلّا بسائر الرّياح.

وأمّا القسم الخامس فهو الرّيح العقيم التي أهلك الله بها عادا ، وهي من آيات غضبه تعالى. عن ابن عبّاس ، قال : أعظم جنود الله الرّيح والماء (١) .

﴿وَ﴾ في ﴿السَّحابِ الْمُسَخَّرِ﴾ المذلّل تحت إرادته وأمره ﴿بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾ فإنّه لا يمسكه مع ثقله بحمل الماء عن السّقوط على الأرض إلّا إرادة الله ، ولا يسوقه من بلد إلى بلد إلّا أمره ، فلو انقطع عن بلد عظم الضّرر بسبب القحط وفقد العشب والزّرع والثّمار ، ولو دام وقوفه عليه عظم الضّرر بسبب استتار ضوء الشّمس وكثرة الأمطار ، فهو مسخّر تحت حكم الله يأتي به وقت الحاجة ويردّه عند زوالها.

في بيان وجه دلالة الآيات الثمانية على وجوده تعالى وقدرته وإرادته وحكمته وتوحيده ووجوب عبادته

ثمّ لمّا كان كلّ واحد من الامور الثّمانية آية عظيمة ودلالة واضحة على وجود الصّانع الواحد القادر المدبّر الحكيم ووجوب طاعته وعبادته ، قال : ﴿لَآياتٍ﴾ بيّنات ودلائل واضحات نافعات ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ دلالتها ، ويتفكّرون فيها بالإدراك السّليم والفهم المستقيم.

أمّا دلالتها على وجوده تعالى وقدرته ، فبأنّه لمّا كان امتناع حدوث الحادث من غير علّة من البديهيّات ، كان حدوث هذه الموجودات بعد عدمها دليلا على وجود موجد قادر لها.

وأمّا دلالتها على اختياره وإرادته ، فبأنّه لو كان المؤثّر موجبا لدام الأثر ، فتغيير الأثر دليل على كون المؤثّر مريدا مختارا.

وأمّا دلالتها على حكمته تعالى ، فبظهور كون وجود هذه الموجودات وتغييراتها على وفق الحكمة والصّلاح.

وأمّا دلالتها على وحدانيّته تعالى ، فبكون جميع امورها على نحو الاتّساق والانتظام ، ولو كان موجدها والمتصرّف فيها متعدّدا لاختلّ نظامها.

وأمّا دلالتها على وجوب شكره وعبادته ، فبأنّ كلّ واحد منها نعمة عظيمة ، ووجوب شكر المنعم من ضروريّات العقل ، ومن شكره طاعته وعبادته. وإنّما خصّ الآيات بالعقلاء لكونهم المنتفعين بها دون غيرهم ، كما أنّ ذوي الأمزجة الصحيحة والحواسّ غير العليلة مختصّون بالانتفاع بالأطعمة

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٦٨.

٣٨٠