نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

الله وعده ، فوافق المخبر الخبر.

﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لما ينطقون به وما تدعوهم إليه ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما يضمرونه ، فيعاقبهم على ذلك ، المحيط بما في نيّتك وإرادتك من إظهار الدّين ، وهو مستجيب لك. وفي هذا التّذييل تأكيد لما سبق من وعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنّصرة والغلبة ، ووعد الكفّار بالقتل والخزي.

﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)

ثمّ لمّا كان دأب النّصارى تغسيل أولادهم بماء أصفر ، ويسمّونه المعموديّة ، ولعلّه المشهور بغسل التعميد ، وكان دأب اليهود على ما قيل صبغ أولادهم بالصّفرة ، وكان كلّ طائفة يعدّون ويحسبون ذلك الغسل والصّبغ طهارة لأولادهم ، وصف سبحانه دين الإسلام الذي حقيقته الإيمان بالامور المفصّلة في الآية السابقة بقوله : ﴿صِبْغَةَ اللهِ﴾ قيل : إنّ المعنى : قولوا : صبغنا الله صبغته (١) . وفسّرها الصادق عليه‌السلام بالإسلام كما عن ( الكافي ) (٢) . وقيل : هي فطرة التوحيد التي فطر النّاس عليها (٣) .

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « هي صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق » (٤) .

قيل : إنّ الله تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا : آمنّا ، وصبغنا الله بصبغة الإيمان ، وأنتم صبغتم أنفسكم بصبغ الصّفرة ، وصبغنا تطهير دون صبغكم ، حيث طهّرنا من دناسة الشّرك والكفر والعقائد الفاسدة ، بنور التّوحيد والتّسليم والولاية.

قال بعض المفسّرين : إنّ إطلاق الصبغة على العقائد الحقّة من جهة ظهور أثرها عليهم ظهور الصّبغ على المصبوغ وتداخلها قلوبهم تداخل الصبّغ الثّوب (٥) .

وقيل : إنّه من باب مجاز المشاكلة والازدواج ، لزعم أهل الكتاب أنّ الصّبغ بالصّفرة طهارة (٦) كما مرّ.

في أنّ إطلاق الصّبغة على الاسلام والإيمان على الحقيقة

ويمكن أن يقال إنّ إطلاق الصّبغ في الآية حقيقيّ بجميع تفاسيره ، حيث إنّ للعقائد الحقّة من الإسلام والإيمان والولاية نورا في القلب وضياء في النّفس. وكلّما اشتدّ اليقين بها ، اشتدّ ذلك النّور حتّى يحيط بجميع الجوارح ، كما أنّ للكفر والعقائد الفاسدة ظلمة محيطة. ومن الواضح أنّ لون النّور في الأنظار هو البياض ، ولون الظلمة

__________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ٩٠.

(٢) الكافي ٢ : ١٢ / ٢.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ٩٠.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٥٩ / ٢١٤ ، تفسير الصافي ١ : ١٧٦.

(٥) تفسير البيضاوي ١ : ٩٠ ، تفسير الصافي ١ : ١٧٦.

(٦) تفسير أبي السعود ١ : ١٦٨.

٣٤١

هو السّواد ، ولذا قال الله تعالى : ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ(١) .

وروي : أنّ المؤمنين في القيامة غرّ محجّلون (٢) .

وفي رواية : إن عمل خيرا ظهر في قلبه نقطة بيضاء ، ثمّ تزداد حتّى تحيط به ، ومن عمل سوءا ظهر فيه نقطة سوداء (٣) .

ومن الواضح أنّ المراد من السّواد والبياض في الآية والروايات هو النّور والظلمة ، وعلى هذا فالمؤمنون بيض الوجوه في الدنيا والآخرة ، وسيماهم ذلك البياض ، كما أنّ سيماء الكفّار أنّهم سود الوجوه فيهما ، ويعرفان في الآخرة بسيماهما ، وأمّا في الدنيا فلا يرى سيماهما إلّا من له عين البصيرة.

ثمّ لمّا كان النّور من قبل كمال الوجود الذي هو بإفاضة الله تعالى وجوده يضاف البياض والصّبغ الحاصل منه إليه ، وصحّ أن يقال : لذلك البياض : صبغة الله ، كما أنّ ظلمة الكفر والمعاصي من قبل النّفس والماهيّة ، ويصحّ أن يقال : إنّها صبغة النّفس والطبيعة ، حيث إنّ النّفس مبدأ الاحتجاب عن عالم الأنوار ومنشأ الانغمار في الشّهوات والضّلال.

ثمّ إنّه لمّا كان صبغ البياض أحسن الأصباغ ، سيّما إذا كان حاصلا من النّور الذي هو أشرف الموجودات ، خصوصا إذا كان حاصلا من الإيمان والولاية ، أنكر الله سبحانه كون صبغ أحسن منه ، بقوله : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً

ثمّ لمّا كان الإيمان ملازما للقيام بوظائف العبوديّة ، كان قوله : ﴿وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ﴾ بمنزلة الاستدلال على تحقّق صبغ الإيمان فيهم لدلالة التلبّس بشعار العبادة على تنوّر القلب بنور الإيمان ، وصبغ النّفس بأحسن الأصباغ ، فلا يبقى لأحد مجال إنكاره. وكان أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله متمحّضين بالعبادة كما قال الله تعالى : ﴿تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ(٤) فكان دليل صدق دعواهم معهم.

﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ

 مُخْلِصُونَ (١٣٩)

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ١٠٦.

(٢) سعد السعود : ١٠٩ « نحوه » .

(٣) الكافي ٢ : ٢٠٩ / ٢٠ « نحوه » .

(٤) الفتح : ٤٨ / ٢٩.

٣٤٢

ثمّ نقل أنّ اليهود والنّصارى كانوا يدّعون أنّهم أحقّ بكرامة الله ومنصب النبوّة لادّعائهم أنّهم أهل الدّين والكتاب ، وأنّ العرب عبدة الأصنام ، فعلّم الله نبيّه ردّه بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ﴿أَتُحَاجُّونَنا فِي﴾ أمر ﴿اللهِ﴾ ونبوّته التي اصطفانا بها ﴿وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ﴾ سواء إليه نسبتنا ونسبتكم ، لا قرابة ولا رحميّة بين أحد وبينه ، ولا كرامة لأحد عنده إلّا بالعبوديّة والأعمال الصالحة.

﴿وَلَنا﴾ كما ترون ﴿أَعْمالُنا﴾ الحسنة الصالحة ﴿وَلَكُمْ﴾ كما تعلمون ﴿أَعْمالُكُمْ﴾ السّيئة الشّنيعة ، والله مطّلع على جميعها ، هذا مع أنّ فضل الأعمال وكرامة العامل بخلوص النيّة.

﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ في العبادة ، وأنتم به مشركون فيها ، فليس لكم أن تستبعدوا أن نكون أكرم عنده منكم ، وأحقّ بالتّشريف بمنصب النبوّة ، وأولى بالتّفضيل بمرتبة الرّسالة ، فلم يبق لكم حجّة على وجوب تخصيصكم بهما ، بل لنا الحجّة البالغة على أولويّتنا منكم.

﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً

أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ

بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا

تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)

ثمّ من شبهاتهم ما أشار إليه بقوله : ﴿أَمْ تَقُولُونَ﴾ وتدّعون أنّ دينكم يا أهل الكتاب دين الله لادّعائكم ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى﴾ وأنتم مقتدون بهم في دينهم.

﴿قُلْ﴾ يا محمّد ردّا عليهم ، واسألهم تقريرا منهم : ﴿أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ﴾ بدينهم ﴿أَمِ اللهُ﴾ أعلم ؟ فإن تقرّوا أنّه تعالى أعلم فإنّه شهد في التّوراة والإنجيل وسائر الكتب السّماويّة بأنّهم كانوا على الملّة الحنيفيّة ودين الإسلام ، وإنّ ملّة اليهوديّة والنّصرانيّة حدّثنا بأهواء أهل الزّيغ بعدهم ، وأنتم مطّلعون على تلك الكتب ، والعالمون بتلك الشّهادة ، وتكتمونها لحبّ الجاه والرّئاسة والحطام الدنيويّة.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ على نفسه وعلى سائر النّاس ﴿مِمَّنْ كَتَمَ﴾ وستر وأخفى من العوامّ ﴿شَهادَةً﴾ ثابتة ﴿عِنْدَهُ﴾ صادرة ﴿مِنَ اللهِ﴾ وأظهر خلافها بين الخلق ؟

﴿وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بل مطّلع عليه ، وحافظ لجميع سيّئاتكم ، من إنكار الحقّ ، وادّعاء

٣٤٣

الأباطيل ، وكتمان شهادته ، فيعاقبكم عليها أشدّ العقاب ، فكونوا منه على حذر ووجل في جميع الآنات (١) والحالات ، ولا تغترّوا بصالح أعمال آبائكم الأنبياء وحسن سيرتهم ، فإنّ ﴿تِلْكَ﴾ الآباء الكرام ﴿أُمَّةٌ﴾ وجماعة صلحاء ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت من الدنيا ، يكون ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ من نفع أعمالها والثّواب الموعود عليها ﴿وَ﴾ يكون ﴿لَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿ما كَسَبْتُمْ﴾ من منافع أعمالكم وأجرها وتبعاتها ، فلا نصيب لكم من ثواب أعمالهم بشيء ، كما لا ضرر عليكم من سيّئاتهم إن كانت لهم ﴿وَلا تُسْئَلُونَ﴾ في القيامة ﴿عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في مدّة أعمارهم في الدنيا.

وحاصل الاحتجاج أنّكم يا أهل الكتاب بأيّ حجّة تتمسّكون على دعوى أولويّتكم بفضل الله وكرامته منّا ! فإن تتمسّكوا بأنّكم موحّدون فقد كذبتم ، لبداهة أنّنا موحّدون دونكم ، وإن تتمسّكوا بأنكم أتباع دين إبراهيم عليه‌السلام وسائر الأنبياء والصّلحاء بعده فنحن المتّبعون لهم دونكم ، وإن تتمسّكوا بانتسابكم إليهم فليس النّسب موجبا للكرامة عند الله ، ونافعا في القيامة ، كما قال تعالى : ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ(٢) .

حكاية هارون وبهلول

حكي أنّ هارون الرّشيد لمّا انصرف من الحجّ ، أقام بالكوفة أيّاما ، فلمّا خرج وقف بهلول على طريقه وناداه بأعلى صوته : يا هارون - ثلاثا - فقال هارون تعجّبا : من الذي يناديني ؟ فقيل له : بهلول المجنون. فوقف هارون وأمر برفع السّتر - وكان يكلّم النّاس من وراء السّتر - فقال له : ألم تعرفني ؟ قال : بلى أعرفك. فقال : من أنا ؟ قال : أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق وأنت في المغرب سألك الله عن ذلك في القيامة. فبكى هارون وقال : كيف ترى حالي ؟ قال : اعرضه على كتاب الله ، وهي : ﴿إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(٣) . قال : وأين أعمالنا ؟ قال : ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(٤) قال : وأين قرابتنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال : ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ(٥) .

﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ

الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)

__________________

(١) كذا ، والظاهر الآناء.

(٢) المؤمنون : ٢٣ / ١٠١.

(٣) الانفطار : ٨٢ / ١٣ و١٤.

(٤) المائدة : ٥ / ٢٧.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٢٤٥.

٣٤٤

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اعتراضات اليهود على النبوّة وردّها ، أخبر بأنّهم سيعترضون على دين الإسلام بوقوع النّسخ فيه بتغيير القبلة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة المعظّمة ، بقوله : ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ﴾ والخفاف العقول ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ الراغبين عن ملّة إبراهيم عليه‌السلام كاليهود.

في اعتراض اليهود على دين الإسلام بوقوع النسخ فيه ، وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

قيل : إنّهم ابتدءوا بالاعتراض لأنّهم كانوا يأنسون بموافقة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم في القبلة ، وكانوا يظنّون أنّ هذه الموافقة ربّما تدعوه إلى موافقتهم بالكلّيّة ، ولمّا تحوّل عنها اغتمّوا واعترضوا عليه. ثمّ وافقهم المشركون من العرب لأنّهم كانوا متأذّين من توجّهه إلى بيت المقدّس ، وقالوا : رغب عن ملّة آبائه ، ثمّ رجع إليها. ثمّ تبعهم المنافقون لحرصهم على الاستهزاء بالدّين ، فعابوا جميعهم على الرّسول والمؤمنين بقولهم : ﴿ما وَلَّاهُمْ﴾ وأيّ صارف صرفهم ﴿عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا﴾ مواظبين ﴿عَلَيْها﴾ متوجّهين في صلاتهم إليها ، وهي بيت المقدس.

عن ( الاحتجاج ) و( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : أنّه قال : « لمّا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة أمره الله عزوجل أن يتوّجه نحو بيت المقدس في صلاته ، ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن ، وإذا لم يمكن استقبل بيت المقدس كيف كان.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاث عشرة سنة ، فلمّا كان بالمدينة وكان متعبّدا باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن الكعبة سبعة عشر شهرا. وجعل قوم من مردة اليهود يقولون : والله لا يدري كيف يصلّي حتّى صار يتوجّه إلى قبلتنا ، ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا » (١) .

وروي من طرق العامّة : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى إلى نحو بيت المقدس بعد مقدمه المدينة نحوا من سبعة عشر شهرا ، تأليفا لقلوب اليهود ثمّ صارت الكعبة قبلة المسلمين إلى نفخ الصّور (٢) .

وحاصل اعتراض اليهود : أنّ البدء محال على الله بالاتّفاق لأنّه مستلزم لجهله بالمصالح ، وأمّا النسخ فإن كان واقعيا حقيقيا فهو عين البداء ، وإن كان صوريا ظاهريّا ، بمعنى أنّ الحكم الواقعيّ وصلاحه كان في الواقع مقيّدا بوقت محدود ، فعدم إظهار الحدّ وإطلاق الحكم في ظاهر اللّفظ بحيث يفهم العرف أبديّته ، مستلزم للتّجهيل ، وهذا قبيح ومحال على الله ، فردّهم الله بقوله : ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٩٢ / ٣١٢ ، الاحتجاج : ٤٠.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٤٧.

٣٤٥

وَالْمَغْرِبُ﴾ وبه تختصّ جميع الجهات ، ليس أحدها أقرب إليه وأخصّ به من الأخرى ، وهو ﴿يَهْدِي﴾ بأمره ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته من أهل العالم ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والطريق الموصل إلى قربه ورضوانه ، وهو التوجّه إلى الجهة التي فيها الحكمة ومصلحة العباد ، فتارة تكون بيت المقدس ، واخرى الكعبة ، وإنّما كان التوجّه إلى الكعبة صراطا مستقيما لأنّه غير مائل إلى قبلة اليهود وهو بيت المقدس ، وإلى قبلة النّصارى وهو المشرق ، فإنّ المشرق والمغرب مضلّة حيث إنّ في التوجّه إليهما مظنّة التوجّه إلى الشّمس وعبادتها.

وقيل : وجه تقديم هذه الآية على آية : ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ(١) والإتيان فيها بفعل المضارع ، تقدّم نزولها على تحويل القبلة وحصول الاعتراض ، حيث إنّ قبل الرّمي يراش السّهم ، وقبل توجّه الاعتراض يعلّم المؤمنون بيان ردّه ، وفيها دلالة على إمكان النسخ ووقوعه.

وحاصل تقرير الجواب : أنّ جميع الأرض ملك لله ، ونسبتها إليه تعالى سواء ، ليس مكان أقرب إليه وأخصّ به من مكان آخر ، وإنّما المصلحة في جعل جهة القبلة متفاوتة في الأزمنة ، فقد تكون المصلحة في الأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس في برهة من الزمان ، ثمّ تتغيّر وتكون في الأمر بالتوجّه إلى الكعبة ، فتغيير الحكم ليس من جهة انكشاف الخطأ في تشخيص المصلحة حتّى يلزم البداء المحال.

وأمّا شبهة التجهيل فواضحة البطلان ، فإنّ عدم الإعلام ليس تجهيلا قبيحا لبداهة عدم وجوب الإعلام بالتّكليف بقيوده وغايته قبل وقت الحاجة.

في بيان حكمة جعل القبلة

ثمّ اعلم أنّه ذكر بعض لتعيين القبلة حكما عديدة :

إحداها : أنّ الله تعالى خلق في الإنسان قوّة عاقلة مدركة للمجرّدات والمعقولات ، وقوّة خياليّة متصرّفة في عالم الأجسام والمحسوسات ، وقلّما تنفكّ القوّة العاقلة عن مقارنة القوّة الخياليّة ومصاحبتها والاستعانة بها.

فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقليّ مجرّد ، وجب أن يضع له صورة خياليّة حتّى تكون تلك الصورة الخياليّة معينة على إدراك ذلك المعنى العقليّ ، ولذلك يضع المهندس - إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير - صورة معيّنة وشكلا معيّنا ، ليصير الحسّ والخيال معينين على إدراك ذلك

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٤٤.

٣٤٦

الحكم الكلّيّ.

ولمّا كان العبد الضّعيف إذا دخل في مجلس الملك العظيم لا بدّ له من أن يستقبله بوجهه ولا يكون معرضا عنه ، وأن يبالغ في الثّناء عليه والتضرّع له والقيام بخدمته ؛ كان استقبال القبلة في الصّلاة جاريا مجرى كونه مستقبلا للملك ، غير معرض عنه ، والقراءة والتّسبيحات جارية مجرى الثّناء عليه ، والرّكوع والسّجود جاريان مجرى خدمته.

ثانيها : أنّ المقصود من الصّلاة حضور القلب ، ولا يحصل إلّا مع السّكون وترك الالتفات والحركة ، وهذا لا يتأتّى إلّا إذا بقي في جميع صلواته مستقبلا لجهة واحدة على التّعيين ، فإذا اختصّ بعض الجهات بشرف كان الاستقبال إليها أولى.

ونقل عن زردشت أنّه قيل له : اجعل لنا قبلة إذا أردنا أن نتوجّه إلى الله نتوجّه إليها ؟

قال : أشرف الموجودات الجسمانيّة هو النّور ، فتوجّهوا له ، فبنوا بيوت النّار فتوّجهوا إليها بعنوان أنّها قبلة.

ثالثها : أنّ الله تعالى يحبّ الموافقة والألفة بين المؤمنين ، وقد ذكر المنّة بها عليهم ، حيث قال : ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قوله : ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً(١) . ولو توجّه كلّ واحد في صلواته إلى ناحية اخرى ، لكان ذلك يوهم اختلافا ظاهرا ، فعيّن الله لهم جهة واحدة ، وأمرهم جميعا بالتّوجة إليها ، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك. وفية إشارة إلى أنّ الله تعالى يحبّ الموافقة بين عباده في أعمال الخير (٢) .

في حكمة جعل الكعبة قبلة

ثمّ ذكروا لتعيين جهة الكعبة حكما :

أحدها : أنّ الله تعالى خصّ الكعبة بإضافتها إلى نفسه بقوله : ﴿طَهِّرْ بَيْتِيَ(٣) وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبوديّة إليه ، وكلتا الإضافتين للتّكريم ، فكأنّه تعالى قال : يا مؤمن ، أنت عبدي ، والكعبة بيتي ، والصّلاة خدمتي ، فأقبل بوجهك إلى بيتي في خدمتي ، وبقلبك إلى عظمتي.

ثانيها : أنّه قيل : إنّ بعض اليهود استقبلوا إلى المغرب لأنّ النّداء جاء إلى موسى عليه‌السلام منه ، كما قال الله تعالى : ﴿وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا(٤) والنّصارى استقبلوا المشرق لأنّ جبرئيل ذهب إلى مريم من جانب المشرق ، كما قال تعالى : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ١٠٣.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٩٤.

(٣) الحج : ٢٢ / ٢٦.

(٤) القصص : ٢٨ / ٤٤.

٣٤٧

شَرْقِيًّا(١) فأمر الله المؤمنين بالتوجّه إلى الكعبة لأنّها قبلة خليلة.

وقيل : إنّ النّصارى استقبلوا مطلع الأنوار ، والمؤمنون استقبلوا مطلع سيّد الأنوار وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي خلق من نوره جميع الأنوار.

ثالثها : أنّ الكعبة سرّة الأرض ووسطها ، وفي الأمر بالتوجّه إليها إشارة إلى أنّه يجب على المؤمن التوسّط والعدالة في جميع أموره (٢) .

﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ

عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ

مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ

لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)

ثمّ أنّه تعالى لمّا منّ على هذه الامّة بجعل الكعبة التي هي الوسط قبلة لهم ، وبهدايتهم إلى الصّراط المستقيم ، منّ عليهم أيضا بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ المذكور من جعلكم مهتدين ﴿جَعَلْناكُمْ﴾ ونصبناكم ﴿أُمَّةً﴾ وجماعة ﴿وَسَطاً﴾ وخيارا ، أو متوسّطين بين الإفراط والتّفريط لا يتجاوزون عن الحقّ ، ولا يميلون إلى الباطل.

في أن المراد من الأمة الوسط خصوص الائمّة المعصومين عليهم‌السلام

وهم خصوص الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام لشهادة الوجدان واتّفاق الامّة على عدم اتّصاف جميع أفراد المسلمين بهذه الصّفة لظهور كون أكثرهم فسّاقا ، فلا بدّ من أن يكون المراد من الامّة بعضهم ، نظير قول موسى لبني إسرائيل : ﴿يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً(٣) مع وضوح أنّه لم يكن كلّ فرد منهم ملكا.

عن القمّي رحمه‌الله : يعني الأئمّة (٤) .

وعن ( الكافي ) و( العياشي ) : عن الباقر عليه‌السلام : « نحن الأمّة الوسط » (٥) .

وعن ( المناقب ) : عنه عليه‌السلام : « فينا أنزل الله ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الخبر (٦).

__________________

(١) مريم : ١٩ / ١٦.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٩٥.

(٣) المائدة : ٥ / ٢٠.

(٤) تفسير القمي ١ : ٦٣.

(٥) الكافي ١ : ١٤٧ / ٤ ، تفسير العياشي ١ : ١٦٠ / ٢١٥.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ١٧٩.

٣٤٨

فلا دلالة في الآية على حجّيّة الإجماع كما ادّعاها بعض العامّة ، إلّا من جهة اشتماله على قول المعصوم أو كشفه بالحدس القطعيّ عن موافقة قول المجمعين لقول رئيسهم ، ووافقنا الفخر الرّازي وبعض آخر من العامّة في القول بعدم حجّيّة الإجماع إلّا من جهة اشتماله على قول من هو الوسط في الامّة ، وقالوا : إنّا لمّا لا نعرف من يكون بهذه الصّفة ، نحتاج إلى الاتّفاق ، إلّا انّهم فارقونا في أنّهم لا يعرفونه بوجه ، ونحن بحمد الله ومنّته نعرفه باسمه ونسبه عليه‌السلام.

وممّا يدلّ على أنّ المراد من الامّة الوسط خصوص الهداة المعصومين قوله تعالى : ﴿لِتَكُونُوا﴾ يوم القيامة ﴿شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ﴾ من سائر الامم بأنّ الرسل بلّغوهم في الدنيا وبيّنوا لهم الحقّ والدّين.

في رواية ( المناقب ) قال : « ولا يكون الشهداء على النّاس إلّا الأئمّة والرّسل ، فأمّا الأمّة فإنّه غير جائز أن يستشهدها الله تعالى وفيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل » (١) .

روي أنّ الامم يجحدون يوم القيامة تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا ، وهو أعلم ، فيؤتى بأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيشهدون لهم ، وهو صلوات الله عليه يزكّيهم (٢) ، وذلك قوله تعالى : ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً

وقيل : إنّ المراد : لتكونوا شهداء في الدنيا على النّاس (٣) - أي حججا عليهم - تبيّنون لهم الحقّ والدّين ، ويكون الرّسول عليكم شهيدا ومؤدّيا للشّرع ومبيّنا لكم أحكام دينه.

ثمّ بيّن الله تعالى حكمة جعل بيت المقدس قبلة للمسلمين بقوله : ﴿وَما جَعَلْنَا﴾ القبلة للصّلاة ﴿الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ﴾ مستقرا ﴿عَلَيْها﴾ وهي بيت المقدس لشيء من الأشياء ووجه من الوجوه ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ﴾ من المسلمين ﴿الرَّسُولُ﴾ ونميّزه ﴿مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ﴾ ويرتدّ عن دينه الحقّ ، ويرجع القهقرى إلى كفره السابق.

عن ( تفسير الإمام ) و( الاحتجاج ) : عنه عليه‌السلام : « يعني إلّا لنعلم ذلك منه موجودا بعد أن علمناه سيوجد. قال : وذلك أنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة ، فأراد [ الله ] أن يبيّن متبع (٤) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ١٧٩.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ١٠٠.

(٣) تفسير أبي السعود ١ : ١٧٣.

(٤) في الاحتجاج : متبعي.

٣٤٩

خالفه (١) باتّباع القبلة الّتي كرهها ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يامره (٢) بها. ولمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجّه إلى الكعبة ، ليتبيّن من يوافق محمّدا عليه‌السلام فيما يكرهه وهو مصدّقه وموافقه » (٣) .

وروى بعض العامّة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الهجرة يصلّي إلى الكعبة ، ثمّ بعد الهجرة - لكون غالب أهل المدينة اليهود - حوّل القبلة إلى بيت المقدس تأليفا لهم ، ثمّ رجع إلى القبلة التي كان عليها وهي الكعبة (٤) .

وعلى هذا حصل الامتحان المذكور في الآية بمجموع التّحويلين ، حيث إنّ العرب بتحويل القبلة إلى بيت المقدس ، واليهود بتحويلها عنه إلى الكعبة ، صاروا منزجرين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه.

ونقل أنّه رجع جمع عن الإسلام وقالوا : لو كان محمّد على يقين من أمره لما تغيّر رأيه. وكانوا يقولون : مرّة هاهنا ومرّة هاهنا ! وقال المشركون : تحيّر محمّد في دينه. وقال اليهود : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده (٥) ! ولذا قال تعالى : ﴿وَإِنْ كانَتْ﴾ التولية من قبلة إلى قبلة ، أو القبلة المحوّلة أو الصّلاة إلى بيت المقدس ﴿لَكَبِيرَةً﴾ وثقيلة مستنكرة على طباع جميع النّاس ﴿إِلَّا عَلَى﴾ طباع ﴿الَّذِينَ هَدَى اللهُ﴾ قلوبهم ، وعرّفهم بقوّة عقولهم وتنوّر بصائرهم أنّ المصالح تتغيّر بتغيّر الأوقات والأشخاص وسائر الجهات ، وأنّه تعالى يتعبّد العبيد بخلاف ما يريدونه ليبتلي طاعتهم في مخالفة هوى أنفسهم.

ثمّ وعد المؤمنين الثابتين على الإيمان والمطيعين للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصّلاة إلى بيت المقدس بقوله : ﴿وَما كانَ اللهُ﴾ وليس من شأنه ﴿لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ﴾ وثباتكم على تصديق الحقّ أو صلاتكم التي صلّيتم إلى الصّخرة.

عن الصادق عليه‌السلام في رواية : « ولمّا أن صرف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة عن بيت المقدس ، قال المسلمون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أ رأيت صلواتنا الّتي كنّا نصلّي إلى بيت المقدس ، ما حالنا فيها وحال من مضى من أمواتنا وهم يصلّون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله ﴿ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ﴾ فسمّى الصّلاة ايمانا. فمن لقي الله حافظا لجوارحه ، موفيا كلّ جارحة من جوارحه ما فرض الله عليه ، لقي الله مستكملا لإيمانه

__________________

(١) في تفسير العسكري عليه‌السلام : من مخالفه.

(٢) في تفسير العسكري عليه‌السلام والاحتجاج : يأمر.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٩٥ / ٣١٢ ، الاحتجاج : ٤٢.

(٤) تفسير الكشاف ١ : ٢٠٠ ، تفسير الرازي ٤ : ١٠٣.

(٥) تفسير الرازي ٤ : ١٠٤.

٣٥٠

وهو من أهل الجنّة ، ومن خان في شيء منها ، أو تعدّى ما أمر الله فيها ، لقي الله ناقص الإيمان » (١) .

ونقل أنّ جماعة من المسلمين كأبي أمامة ، وسعد بن زرارة ، وبراء بن عازب ، وبراء بن معرور وغيرهم ، ماتوا على القبلة الاولى ، فتوهّم عشائرهم أنّ الصّلاة التي أتوا بها على القبلة الاولى كانت ضائعة ، لتوهّم أنّ الحكم الأوّل كان باطلا. فقالوا : يا رسول الله ، توفّي إخواننا على القبلة الاولى ، فكيف حالهم وحال صلواتهم ؟ فنزلت (٢) .

فحاصل مفاد الآية والله أعلم : أنّ التّكليف الأوّل كالتّكليف الثاني ، كلاهما عن مصلحة تامّة في وقتهما ، والمتمسّك بكلّ تكليف في وقته متمسّك بدين الله فيوفّيه أجره ، إنّه لا يضيع أجر المحسنين.

ثمّ علّل سبحانه تغيير القبلة وعدم الإضاعة بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ﴾ فلا يرضى بضياع أعمالهم ﴿رَحِيمٌ﴾ مفضّل عليهم بنقلهم من صلاح إلى ما هو أصلح ، ومن نافع إلى ما وهو أنفع لهم في الدّين والدنيا. والمراد أنّه تعالى يعطيهم زيادة على أجر أعمالهم من رحمته وفضله ما لا يتصوّر ولا يحصى.

﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)

ثمّ أنّه روي عن العسكريّ عليه‌السلام « أنّه بعد حكاية مقالات اليهود في اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلتهم ، قال : فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما اتّصل به منهم ، وكره قبلتهم ، وأحبّ الكعبة فجاءه جبرئيل ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل ، لوددت لو صرفني الله عزوجل عن بيت المقدس إلى الكعبة ، فلقد تأذّيت بما اتّصل بي من قبل اليهود. فقال جبرئيل عليه‌السلام : فسل ربّك أن يحوّلك إليها ، فإنّه لا يردّك عن طلبتك ، ولا يخيّبك عن بغيتك. فلما استتمّ دعاءه صعد جبرئيل عليه‌السلام ثمّ عاد من ساعته ، فقال : اقرأ يا محمّد ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ(٣) ونشاهد تردّده في جهتها إلحاحا في الدّعاء وتطلّعا

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٦١ / ٢٢٠.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ١٠٦.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٩٢ / ٣١٢.

٣٥١

للوحي.

وروي من طرق العامّة أنّه صلوات الله عليه وآله كان يقع في روعه ويتوقّع من ربّه أن يحوّله إلى الكعبة ، لأنّها قبلة أبيه إبراهيم عليه‌السلام وأقدم القبلتين. وأدعى للعرب إلى الإيمان من حيث إنّها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا ، ولمخالفة اليهود ، فإنّهم كانوا يقولون إنّه يخالفنا في ديننا ، ثمّ إنّه يتّبع قبلتنا ، ولو لا نحن لم يدر أين يستقبل. فعند ذلك كره أن يتوجّه إلى قبلتهم - إلى أن قال - إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن يأتيه جبرئيل بالذي سأل ربّه ، فأنزل الله هذه الآية (١) .

ثمّ اعلم أنّ توضيح معنى كراهة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التوجّه إلى الصّخرة بعد ما اتّصلت به مقالات اليهود ، أنّه لاتّصال نفسه المقدّسة باللّوح المحفوظ ، واطّلاعه على انقضاء عدّة الصّلاح العارضيّ الذي كان في التوجّه إلى الصّخرة ، وتحقّق الصّلاح الملزم في التوجّه إلى الكعبة ، كره التوجّه إلى الأوّل ، وأحبّ التوجّه إلى الثاني ، فكان ينتظر الوحي وصدور الأمر من الله.

ثمّ لمّا كان تمام الصّلاح في حكمه تعالى متوقّفا على أن يقع التّحويل باستدعائه وإظهار رضاه به ، وكراهته عن التوجّه إلى قبلة اليهود ، وكان ذلك مصادفا لمقالاتهم الشّنيعة ، أظهر عليه‌السلام تلك الكراهة وذلك الرّضا ، وسأل ودعا ، فأبان الله عظمة شأن حبيبه عنده بإجابة دعائه وموافقة رضاه بقوله : ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ ولنعطينّك ﴿قِبْلَةً تَرْضاها﴾ ولنجعلنّك متمّكنا من استقبال جهة تحبّها لمصالح دينيّة من غير [ دواعي ] الهوى النفسانيّة.

قيل : إنّه تعالى قال : ﴿قِبْلَةً تَرْضاها﴾ ولم يقل قبلة أرضاها للإشارة إلى أنّ جميع الكائنات يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدّارين ، أمّا في الدّنيا فبتحويل القبلة ، وأمّا في الآخرة فبالعفو عن أمّتك حتّى ترضى (٢) .

﴿فَوَلِ﴾ وحوّل ﴿وَجْهِكَ﴾ مع جميع مقاديم بدنك في حال صلاتك ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ ونحوه ، وفي ذكر الشّطر إشعار بكفاية مراعاة الجهة وعدم لزوم الاستقبال الحقيقيّ لعين الكعبة بحيث إذا خطّ مستقيما انتهى إليها.

وقيل : إنّ فيه إشعارا بوجوب التّوجّه إلى العين لوقوع الكعبة في شطر المسجد وهو نصفه ، والحقّ هو الأوّل.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٥١.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٩٥.

٣٥٢

في تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

عن ( الفقيه ) في رواية : « ثمّ عيّرته اليهود فقالوا : إنّك تابع لقبلتنا. فاغتمّ لذلك غمّا شديدا ، فلمّا كان في بعض اللّيل خرج يقلّب وجهه في آفاق السّماء ، فلمّا أصبح صلّى الغداة ، فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل ، فقال له : ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ الآية. ثمّ أخذ بيد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فحوّل وجهه إلى الكعبة ، وحوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرّجال مقام النّساء ، والنّساء مقام الرّجال. فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة. وبلغ الخبر مسجدا بالمدينة و[ قد ] صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو الكعبة ، فكانت أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فسمّي ذلك المسجد : مسجد القبلتين » (١) .

وقيل : كان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشّمس قبل قتال بدر بشهرين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد بني سلمة. فسمّي المسجد مسجد القبلتين (٢) .

ثمّ لئلّا لا يتوهّم متوهّم أنّ وجوب التوّجه إلى الكعبة مختصّ ببلد المدينة وبشخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه الحاضرين عنده ، عمّم سبحانه وتعالى الخطاب ثانيا بقوله : ﴿وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ﴾ أيّها المسلمون ، وفي أيّ مكان صلّيتم ﴿فَوَلُّوا﴾ وحوّلوا ﴿وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ ونحوه.

ثمّ أنّه تعالى لاطمئنان قلوب المؤمنين بأنّ هذا التّحويل من قبل الله ، أخبرهم بأنّه مكتوب في الكتب السّماويّة ، بقوله : ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ بقراءتهم في التّوراة والإنجيل [ يعلمون ] أنّ من علائم خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه يصلّي إلى القبلتين ، والله ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ﴾ النازل ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فإذا كان ذلك حالهم ، فلا ينبغي أن تختلج الشّبهة في قلوبكم أيّها المؤمنون ، مع علمكم بصدق نبيّكم بالمعجزات الباهرة.

﴿وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ من اتّباعكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتسليمكم لأمره ، فيجازيكم عليه أحسن جزاء العاملين.

﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ

 قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ

مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٧٨ / ٨٤٣.

(٢) تفسير أبي السعود ١ : ١٧٤.

٣٥٣

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر أنّ أهل الكتاب عالمون بأنّ تحويل القبلة حقّ ، بيّن أنّ إصرارهم على المخالفة من جهة العناد واللّجاج بقوله : ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ من اليهود والنّصارى ﴿بِكُلِّ آيَةٍ﴾ باهرة وبرهان قاطع على أنّ التوجّه إلى الكعبة حقّ ﴿ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ لأنّ مخالفتهم ليست عن شبهة حتّى يزيلها البرهان ، بل عن عناد ولجاج ومكابرة ، لعلمهم بكونها حقّا ، والمكابر لا تنفعه الدلائل ﴿وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ فليس لهم أن يطمعوا في رجوعك إليها.

نقل أنّهم كانوا يتناجون في ذلك ويقولون : لو ثبت محمّد على قبلتنا ، لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. وكانوا يطمعون في رجوعه إلى قبلتهم (١) .

ثمّ وبّخهم الله في قوله : ﴿وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ بأنّهم مع اتّفاقهم على مخالفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قبلته ليسوا متّفقين على قبلة واحدة ، حيث إنّ اليهود كانوا يستقبلون إلى الصّخرة ، والنّصارى إلى المشرق ، بل كلّ معرض عن قبلة الآخر ، لتصلّب كلّ في التي يهواها بهواه.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ دينهم وثباتهم على قبلتهم صرف متابعة الهوى ، وأنّها من أشدّ المعاصي ، بالغ في تهديدهم بالكناية التي هي أبلغ من التّصريح ، حيث وجّه الخطاب إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَلَئِنْ﴾ وافقت أهل الكتاب و﴿اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ﴾ ومشتهيات نفوسهم في أمر القبلة ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ﴾ بفضل الله ورحمته ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ بأنّ قبلة الله هي الكعبة ﴿إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على نفسك بتعريضها للهلاك وأشدّ العذاب ، مع أنّك أشرف الكائنات عند الله ، وأحبّ الخلق إليه ، فكيف بهؤلاء الكفرة وهم أبغض الخلق عنده !

﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ

 الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)

ثمّ أكّد سبحانه أنّ مخالفتهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دينه مطلقا ، قبلة كان أو غيرها ، ليست إلّا عن عناد وعصبيّة وهوى ، لا للشّبهة في نبوّته وصدقه ، بقوله : ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ﴾ وكان لهم فهم دراسته ، كالأحبار والرّهبان ﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ بالرّسالة لمعرفتهم بعلائمه المذكورة في الكتب السماويّة

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ١٢٦.

٣٥٤

﴿كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ﴾ لا يشتبهونهم (١) بغيرهم. والتكنية عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالضّمير من غير سبق ذكره لتعظيمه وتفخيمه وللايذان بشهرته غاية الاشتهار ومعروفيّته بغاية المعرفة.

قيل : وجه تخصيص الأبناء بالذكر دون البنات ، أنّهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق. وإنّما لم يقل : كما يعرفون أنفسهم ، لأنّ الانسان لا يعرف نفسه إلّا بعد انقضاء برهة من الزّمان من ولادته ، ولكن يعرف ولده حين ولادته (٢) .

نقل أنّه سئل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أنا أعلم به منّي بابني ، لأنّي لست أشكّ في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه نبيّ ، وأمّا ولدي فلعلّ والدته خانت (٣) .

﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ﴾ وهم المصرّون على اللّجاج دون فريق آخر كعبد الله بن سلّام وأضرابه ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ﴾ عنادا وتحفّظا لرئاستهم الباطلة ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنّ محمّدا نبيّ ، وأنّ الكعبة قبلة الله ، وأنّ كتمان الحقّ من أقبح المعاصي.

﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)

ثمّ لمّا كان تغيير القبلة غريبا في الأنظار ، ومجالا لشبهات الكفّار ومقالاتهم ، وكانت قلوب ضعفاء المؤمنين معرضا للتزلزل والشّكّ في دينهم ، أكّد الله أمر القبلة بقوله : ﴿الْحَقُ﴾ الذي أنت يا محمّد عليه من أمر القبلة نازل ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ اللّطيف ، بل المتفضّل عليك ، فإذا كان ذلك ﴿فَلا تَكُونَنَ﴾ فيه ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ والشاكّين. والمقصود من نهيه نهي امّته عن الامتراء ، من باب ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة ) ومرجع نهيهم عنه أمرهم بضدّه الذي هو اليقين وطمأنينة القلب.

قيل : إنّ الحقّ مفعول ليعلمون ، ومنصوب به.

إن قيل : كيف يمكن أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعرف من أبنائهم عندهم إلّا إذا كان في التّوراة والإنجيل بيان جميع مشخّصاته ؛ من صفاته ، وصورته ، وشمائله ، واسمه ، واسم أبيه ، وامّه ، ونسبه ، وقبيلته ، وزمان ظهوره. وإذا كان ذلك كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله معروفا بين المشرق والمغرب لمعروفيّة الكتابين في أطراف العالم. فإذن لم يمكن لأحد من اليهود والنّصارى إنكاره.

__________________

(١) كذا ، وفي روح البيان ١ : ٢٥٢ لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه أبناؤهم.

(٢) روح البيان ١ : ٢٥٢.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٢٨.

٣٥٥

قلت : يكفي في تعريفه عليه‌السلام بيان جملة من صفاته في الكتابين منضمّة إلى معجزاته الباهرات المشهورات في المدينة ونواحيها ، فلم يكن لأهل الكتاب الساكنين فيها مجال للرّيب في أنّه هو النبيّ الموعود ، خصوصا مع التّصريح باسمه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في التّوراة واسمه أحمد في الإنجيل ، مع إخبار جمع من الكهنة بقرب زمان ظهوره ، أو ظهوره (١) .

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً

إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)

ثمّ أنّه تعالى قرّب أمر تحويل القبلة إلى الأذهان ، ورفع استبعاد تخصيص المسلمين بوجوب التوجّه إلى الكعبة المعظّمة بقوله : ﴿وَلِكُلٍ﴾ من الامم ، ولأيّ ملّة من الملل ﴿وِجْهَةٌ﴾ معيّنة ، وقبلة مختصّة مقرّرة من قبل الله ﴿هُوَ مُوَلِّيها﴾ إيّاهم ، وآمر بالتوجّه والاستقبال إليها كلّهم.

بل قال بعض : إنّ لكلّ طائفة من الملائكة أيضا قبلة خاصّة بهم : العرش قبلة الحملة ، والكرسيّ قبله البررة ، والبيت المعمور قبلة السّفرة (٢) .

وقال آخر : العرش قبلة المقرّبين ، والكرسيّ قبلة الرّوحانيّين ، والبيت المعمور قبلة الكروبيّين ، والحقّ قبلة المتحيّرين ، حيث قال : اينما ﴿تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ وبيت المقدس قبلة الأنبياء والمرسلين ، والكعبة قبلة إبراهيم عليه‌السلام وخاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) . فأمر القبلة راجع إلى الله ، والعبادة والانقياد راجع إلى العباد.

اذا تبيّن ذلك ﴿فَاسْتَبِقُوا﴾ وتسارعوا أيّها المؤمنون إلى ﴿الْخَيْراتِ﴾ والطّاعات وموجبات المثوبات التي منها التزام التوجّه إلى الكعبة والصّلاة إليها.

﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا﴾ وفي أيّ مكان من أطراف العالم تصلّون ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ ويجمع صلواتكم إلى جهة واحدة وهي الكعبة ، على ما قيل (٤) . أو أينما متّم من البلاد يأت بكم الله إلى المحشر فيجازيكم على أعمالكم.

﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من جمعكم في المحشر ، وجمع أعمالكم وتأدية ما تستحقّون من

__________________

(١) كذا ، والظاهر أو بظهوره.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٩٥.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٣١.

(٤) تفسير أبي السعود ١ : ١٧٧.

٣٥٦

الثواب ﴿قَدِيرٌ

عن ( الاكمال ) و( العياشيّ ) : عن الصادق عليه‌السلام : « لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم عليه‌السلام وإنّهم المفتقدون من فرشهم ليلا ، فيصبحون بمكّة ، وبعضهم يسير في السّحاب نهارا ، نعرف اسمه واسم أبيه واسم حليته ونسبه » (١) .

وقريب منها روايات محمولة على بيان التأويل والبطن (٢) .

﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ

وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ

إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ

تَهْتَدُونَ (١٥٠)

ثمّ أنّه تعالى لتأكيد أمر القبلة وبيان أنّه لا يوجب اختلاف مكان المصلّي تغييرا فيه ، وأنّه أبديّ لا يطروه النسخ ، كرّر الحكم بقوله : ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ يا نبيّ الرّحمة ، وإلى أيّ مكان سافرت ﴿فَوَلِ﴾ واصرف ﴿وَجْهَكَ﴾ حال صلاتك ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ وجانبه ، واعلم في هذا التولّي ﴿وَإِنَّهُ﴾ بالله ﴿لَلْحَقُ﴾ الموافق للحكمة والمصلحة ، الثابت ﴿مِنْ﴾ قبل ﴿رَبِّكَ﴾ لا يطروه التغيير والنسخ أبدا.

ثمّ أردف الله التأكيد بالوعد والوعيد على الطّاعة والمخالفة بقوله : ﴿وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من التزامكم بامتثال أمره ، وتجرّيكم عليه بعصيانه ، فيجازيكم على أعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

ثمّ كرّر سبحانه وتعالى قوله : ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ أيّها الرّسول ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ﴾ أيّها المسلمون ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

قيل : في تكرار الحكم في الآيات الثلاث فوائد :

__________________

(١) اكمال الدين : ٦٧٢ / ٢٤ ، تفسير العياشي ٢ : ١٦٦ / ٢٢٤ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٣.

(٢) راجع البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٢٠ - ٣١.

٣٥٧

منها : أنّ في الآية الاولى - وهي قوله : ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ(١) - بيان حكم أهل المسجد ، وفي الآية الثانية بيان حكم أهل المدينة ، وفي الثالثة بيان حكم من كان في خارج المدينة وأقطار العالم.

ومنها : أنّ المرّة الاولى توطئة لبيان أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّ أمر نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر القبلة حقّ. والمرّة الثانية لبيان أنّ الله يعلم أنّه الحقّ ، والمرّة الثالثة لبيان ذكر علله ، فلاختلاف الفوائد حسن التكرار.

ومنها : أنّ في المرّة الاولى بيان حكم القبلة ، وفي الثانية التّنبيه على أنّه ليس لمحض رضاك بغير ملاحظة صلاح فيه ، بل لعلم الله بأنّه الحقّ وذو صلاح تامّ. وفى الثالثة بيان دوام هذا الحكم ، بحيث لا يتطرّق إليه النّسخ.

وقيل : إنّ في المرّة الاولى إشارة إلى أنّ أحد علل التّحويل حبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاها من حيث إنّها قبلة إبراهيم عليه‌السلام وأشرف بقاع الأرض ، ومورد توجّه العرب.

وفي الثانية إشعار بأنّ لكلّ صاحب دعوة وشريعة قبلة مخصوصة ، فاختار الله لهذه الأمّة التي هي أفضل الامم أشرف البقاع والجهات.

وفي الثالثة دلالة على أنّ فيه قطع حجج اليهود والمشركين (٢) حيث قال : ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾ من المشركين واليهود ﴿عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ واعتراض ، حيث إنّ مشركي العرب كانوا يقولون إنّ محمّدا ليس على ملّة إبراهيم عليه‌السلام إذ قبلة إبراهيم عليه‌السلام بيت الكعبة وقبلة محمّد بيت المقدس ، وإنّ اليهود كانوا يقولون : إنّ النبيّ الموعود من صفاته أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد أن كان يصلّي إلى الصّخرة ، فلو دمتم على الصّلاة إلى بيت المقدس صرتم ملزمين بحجّة الفريقين. وكان يقع الطعن في نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه ، فبتغيير القبلة انقطعت مقالات النّاس (٣) .

﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أنفسهم وعاندوا الدّين الحقّ من مشركي العرب الذين يقولون : بدا لمحمّد فرجع إلى قبلة آبائه ، فيوشك أن يرجع إلى دينهم. ومن اليهود الذين يقولون : إنّ محمّدا ما ترك قبلتنا إلّا حبّا لبلده ، وميلا إلى دين قومه ، ولو كان على الحقّ للزم قبلة الأنبياء ولم يعرض عنها. ومن الواضح أنّ هذه الأباطيل غير لائقة للجواب ، وإطلاق الحجّة عليها تهكّم أو جري على اعتقادهم حيث إنّهم يسوقونها مساقها.

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٤٤.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ١٣٧.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٣٩.

٣٥٨

وعن القمي رحمه‌الله : إنّ ( إلّا ) هاهنا بمعنى ولا (١) .

﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ ولا تخافوا من طعنهم عليكم ، فإنّه لا يضرّكم شيئا ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ في مخالفة امري ، واحذروا عقابي في عدو لكم عمّا ألزمتكم عليه من التّوجه إلى بيتي.

ثمّ ذكر لتحويل القبلة علّة ثانية بقوله : ﴿وَلِأُتِمَ﴾ بالتّحويل ﴿نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ حيث وجّهتكم إلى القبلة الوسط بعد ما أنعمت عليكم بنبيّ وسط ، وجعلتكم امّة وسطا.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تمام النعمة دخول الجنّة » (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « تمام النعمة الموت على الإسلام » (٣) .

أقول : أتمّ النعم نعمة الولاية ، حيث قال الله تعالى : ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي(٤) والتلازم بين دخول الجنّة والاسلام الحقيقي والولاية واضح ، وأمر القبلة بعض متمّمات النعم.

قيل : إنّ المسلمين كانوا يفتخرون باتّباع إبراهيم عليه‌السلام اصولا وفروعا ، فلّما امروا بالتوجّه إلى بيت المقدس حصل الإنكسار والضّعف فيهم والتكدّر في قلوبهم ، ولذلك كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّ التحوّل إلى الكعبة ، فبالتّحويل تمّت النعمة بالنّسبة والإضافة (٥) .

ثمّ ذكر الله تعالى العلّة الثالثة بقوله : ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾ بالاهتداء إلى التّوجّه إلى الكعبة ﴿تَهْتَدُونَ﴾ إلى ما فيه خيركم وصلاحكم وحسن عاقبتكم.

﴿كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ

وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي

 وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما ذكر أنّ في تغيير القبلة إتمام النعمة ، بيّن أنّه في التماميّة كإرسال الرّسول بقوله : ﴿كَما﴾ أتممنا عليكم النعمة حيث ﴿أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً﴾ عظيم الشأن كائنا ﴿مِنْكُمْ﴾ جنسا ونسبا حتّى يكون لكم شرفا ، وهو ﴿يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا﴾ الدالّة على نبوّته التي هي مبدأ جميع الخيرات الدنيويّة والأخرويّة.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٦٣ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٤.

(٢) كنز العمال ٢ : ١٧ / ٢٩٦٥ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٤.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ١٤١ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٤.

(٤) المائدة : ٥ / ٣.

(٥) تفسير الرازي ٤ : ١٤١.

٣٥٩

﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ بتربيته ويطهّر نفوسكم من رذائل الأخلاق بتقوية عقولكم وتضعيف شهواتكم الحيوانيّة ، وتزهيدكم عن الدنيا وزينتها ، وقطع علائقكم عنها ، حتّى تكونوا باتّباعه مهذّبين من النواقص الأخلاقيّة ، مبرّئين عن الأهواء النّفسانيّة ؟ ؟ ؟

﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ﴾ المجيد والقرآن الحميد. وفيه إشارة إلى أنّ تعليم حقائقه ودقائقه بعد تلاوته نعمة فوق نعمة ، وفي تقديم التّزكية هنا على التّعليم إشعار بتقديم التّخلية على التّجلية ، وبأنّها العلّة الغائيّة ، وهي مقدّم في القصد واللّحاظ ومؤخّر في الوجود والفعل ، ولذا اخرّت في دعوة إبراهيم عليه‌السلام.

﴿وَ﴾ يعلّمكم ﴿الْحِكْمَةَ﴾ قيل : هو العلم بأحكام الشريعة (١)﴿وَيُعَلِّمُكُمُ﴾ بطريق الوحي ﴿ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ من العلوم بغيره ، ولا سبيل لكم إلى إدراكه واستكشافه.

وقيل : إنّ التّشبيه راجع إلى قوله تعالى : ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ فعلى هذا يكون المعنى على ما قيل : كما ذكرتكم بإرسال الرّسول فاذكروني بالطّاعة والانقياد ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ بالثّواب. أو فاذكروني بقلوبكم اذكركم برحمتي. أو اذكروني بالدعاء أذكركم بالاجابة. أو أذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات. أو اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي. أو اذكروني بالصّدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص. أو اذكروني بالرّبوبيّة أذكركم بالرّحمة والعبوديّة.

عن الصادق عليه‌السلام في حديث : « يا عيسى ، اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي ، واذكرني في ملئك اذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميّين » (٢) .

وعن ( العياشي ) عن الباقر عليه‌السلام قال : « قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الملك ينزل الصحيفة من أوّل النّهار وأوّل اللّيل يكتب فيها عملكم ، فاملوا في أوّلها خيرا وفي آخرها خيرا ، فإنّ الله يغفر [ لكم ] ما بين ذلك إن شاء الله ، فإنّه يقول : اذكرونى ﴿أَذْكُرْكُمْ(٣) .

وعنه عليه‌السلام : « ذكر الله لأهل الطاعة أكثر (٤) من ذكرهم إيّاه ، ألا ترى إنّه يقول : اذكرونى ﴿أَذْكُرْكُمْ(٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « اذكروا الله في كلّ مكان فإنّه معكم » (٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ١٤٣.

(٢) الكافي ٢ : ٣٦٤ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٤.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٦٧ / ٢٢٥ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٤.

(٤) في تفسير القمي : لأهل الصلاة أكبر ، وفي تفسير الصافي : لأهل الطاعة أكبر.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٥٠ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٤.

(٦) الخصال : ٦١٣ / ١٠ ، تفسير الصافي ١ : ١٨٤.

٣٦٠