نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

المداراة معهم والإحسان إليهم ﴿حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ اليهوديّة وتوافقهم في العقائد الفاسدة ، ومع ذلك كيف تتوقّع أن يتّبعوا ملّتك الحقّ ؟

فإن سألوا منك الدخول في دينهم ﴿قُلْ﴾ ردّا عليهم : ليست اليهوديّة دين الله وهداه ، بل ﴿إِنَّ هُدَى اللهِ﴾ ودينه الذي رضي به وهو الإسلام ﴿هُوَ﴾ حقيق بأن يقال له : ﴿الْهُدى﴾ وطريق مؤدّ إلى رضوان الله ورحمته ، وأمّا اليهوديّة فإنّ أتباعها أتباع الهوى وعين الضّلال ، والله منها بريء.

ثمّ هدّد الله على اتّباعها بقوله : ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ﴾ وأنت أحبّ الخلق إليّ ، وأشرف الممكنات لديّ ﴿أَهْواءَهُمْ﴾ النّفسانيّة وعقائدهم الناشئة عن القوى الشّهوانيّة الّتي سمّوها دين اليهوديّة ﴿بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ بدين الحقّ على الفرض المحال ، يعاقبك الله عليه ، و﴿ما لَكَ مِنَ اللهِ﴾ وبأسه ﴿مِنْ وَلِيٍ﴾ وصديق يشفع لك ﴿وَلا نَصِيرٍ﴾ ومعين يدفع العقاب عنك. وفيه نهاية التّهديد على اتّباع الهوى بعد وضوح الهدى وقيام الحجّة ، كما أنّ في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لئن عصيت لهويت » (١) . غاية الوعيد للعصاة.

﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ

فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)

ثمّ إنّه لّما كان مجال أن يقال : إنّ ملّة اليهوديّة هي الهدى لأنّها ممّا جاء به موسى عليه‌السلام ، ودلّت عليه التّوراة ، فاليهود آخذون ملّتهم من نبيّ الله وكتابه ، فلا بدّ أن يكون هدى الله ، دفع الله هذا التوهّم بقوله : ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ﴾ المعهود الذي نزل على موسى ، وهم ﴿يَتْلُونَهُ﴾ متدبّرا فيه ويقرأونه متفكّرا في معانية وحقائقه ، وذلك يكون ﴿حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ علموا بدلالته أنّ دين موسى وكتابه منسوخان ، وعرفوا أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّ ، وكتابه حقّ ، فالإيمان بالتّوراة ملازم للإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فالذين يؤمنون من أهل الكتاب بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿أُولئِكَ﴾ الّذين يصدّقون بكتاب التّوراة و﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ ويختصّون من بين اليهود باتّباعه ، كبعد الله بن سلّام وأضرابه.

وأمّا من كفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكتابه مع دلالة التّوراة على صدقهما ، فهو كافر بكتاب التّوراة ، ومكذّب له ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾ ولا يتّبع ما فيه ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ في صفقتهم ، المغبونون في تجارتهم ،

__________________

(١) الارشاد / للشيخ المفيد ١ : ١٨٢ ، بحار الأنوار ٢٢ : ٤٦٧.

٣٢١

إذ لا دين لهم ولا إيمان ، لا بموسى ولا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا جار في هذه الأمّة الذين اوتوا القرآن ، حيث إنّ المؤمنين به هم الذين يتلونه حقّ تلاوته ، ويتدبّرون فيه ، ويتّبعون أحكامه.

عن ( المجمع ) و( العيّاشيّ ) عن الصادق عليه‌السلام : « يتلونه حقّ تلاوته بالوقوف عند ذكر الجنّة والنّار (١) ؛ يسأل في الأولى ، ويستعيذ من الاخرى » (٢) .

وعن ( الكافي ) و( العياشي ) : « هم الأئمّة عليهم‌السلام » (٣) .

﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى

الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ

 وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)

ثمّ أنّه تعالى لمّا بدأ عند محاجّة اليهود بتذكيرهم نعمته التي أنعم بها عليهم إجمالا ، ختم محاجتّهم به لتأكيد الحجّة ، وإبلاغ النّصح ، والدّعوة إلى اتّباع الحقّ ، والتّسليم لدينه وأحكامه ، وتصديق نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه المجيد بقوله : ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ

ثمّ أردفه بالتّهديد بما هدّدهم به أوّلا من قوله : ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ وقد مرّ تفسيرهما (٤) .

قيل : نكتة تقديم عدم قبول الفدية في الذكر هنا على عدم قبول الشّفاعة وتأخيره عليه في الآية السابقة ، هي الإشارة إلى اختلاف النّاس في حبّ المال وعلوّ النّفس ، فمن كان حبّه للمال أكثر ، يقدّم الاستشفاع على بذل المال ، ومن كان بالعكس كان عمله بالعكس.

﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ

 وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)

ثمّ لمّا كان مشركو قريش ويهود المدينة من ولد إبراهيم عليه‌السلام وكان هو عليه‌السلام عظيما عندهم ، بل عند

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٥٢ / ١٨٩.

(٢) مجمع البيان ١ : ٣٧٥.

(٣) الكافي ١ : ١٦٨ / ٤ ، تفسير العياشي ١ : ١٥٢ / ١٨٨.

(٤) تقدم في تفسير الآية (٤٨) .

٣٢٢

جميع الامم أشار سبحانه وتعالى إلى أنّه عليه‌السلام لم ينل هذه الكرامة إلا بالتّوحيد والطّاعة ، وأنّه مع علوّ مقامه سأل الله تعالى كرامته لذرّيّته ، فما اجيب في حقّ الظّالمين والعاصين منهم لعدم قابليّة الظالم والعاصي نيلها ، بقوله : ﴿وَإِذِ ابْتَلى﴾ وامتحن ﴿إِبْراهِيمَ رَبُّهُ﴾ برأفة ربوبيّته له ، وكمال عنايته به ﴿بِكَلِماتٍ

في ابتلاء إبراهيم عليه‌السلام بكلمات ، والمراد منها

قيل : المراد بها التّكاليف الشاقّة ، والمصائب العظيمة ، كإلقائه في النّار ، والختان وهو ابن مائة وعشرين سنة ، والهجرة من الوطن المألوف ، وبناء البيت ، وذبح الولد (١) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : ابتلاه الله بثلاثين خصلة من خصال الإسلام (٢) ؛ عشر منها في سورة برائة ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...(٣) إلى آخره ، وعشر في الأحزاب : ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ...(٤) إلى آخره ، وعشر في سورة المؤمنون : ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى قوله : ﴿أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ(٥) .

وما عن القمّي رحمه‌الله : - هو ما ابتلاه به ممّا أراه في نومه من ذبح ولده فأتمّها إبراهيم عليه‌السلام وعزم عليها وسلّم (٦) - فمحمول على بيان أحد أفراد الكلمات.

وعن ( الخصال ) عن الصادق عليه‌السلام : « هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، وهو أنّه قال : يا ربّ أسألك بمحمّد (٧) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ ، فتاب [ الله ] عليه إنّه هو التّوّاب الرّحيم » (٨) الخبر.

﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ إبراهيم عليه‌السلام وامتثلهنّ وقام بهنّ حقّ القيام.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « يعني أتمّهنّ إلى القائم عليه‌السلام اثني عشر إماما ، تسعة من ولد الحسين » (٩) .

وعن ( العيّاشيّ ) قال : « أتمّهنّ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ والأئمّة من ولد عليّ صلوات الله عليهم » (١٠) .

أقول : الظاهر أنّ المراد من ابتلاء إبراهيم عليه‌السلام بالأسماء المباركات تكليفه بمعرفة ذواتهم المقدّسة والتّصديق بفضلهم عليه وعلى سائر الخلق ، فلمّا امتثله وكملت معرفته بهم إلى قائمهم ، صار قلبه

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ٣٧ و٣٨ « نحوه » .

(٢) في مجمع البيان : من شرائع الإسلام.

(٣) التوبة : ٩ / ١١٢. (٤) الأحزاب : ٣٣ / ٣٥.

(٥) مجمع البيان ١ : ٣٧٨ ، والآيات من سورة المؤمنون : ٢٣ / ١ - ١٠.

(٦) تفسير القمي ١ : ٥٩. (٧) في المصدر : بحق محمّد.

(٨) الخصال : ٣٠٥ / ٨٤ ، معاني الأخبار : ١٢٦ / ١.

(٩) الخصال : ٣٠٥ / ٨٤ ، معاني الأخبار : ١٢٦ / ١.

(١٠) تفسير العياشي ١ : ١٥٣ / ١٩٣.

٣٢٣

مخزن معرفة الله ووعاء علمه ، فاستغرق في بحار أنوار رحمته ، فعند ذلك أكرمه الله بغاية الكرامة ، وشرّفه بمنصب الإمامة ، و﴿قالَ﴾ له ثوابا على القيام بالطاعة والصّبر عليها : ﴿إِنِّي جاعِلُكَ﴾ وناصبك ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافّة إلى قيام السّاعة ﴿إِماماً﴾ ومقتدى يأتمّون بك ، ويهتدون بهداك ، فلذلك اجتمع أهل الأديان كلّهم على تعظيمه وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله باتّباع ملّته كما قال الله : ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً(١) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عليه‌السلام عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا ، وإنّ الله تعالى اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا ، وإنّ الله تعالى اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا ، وإنّ الله تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما ، فلمّا جمع له الأشياء قال : ﴿إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً﴾ فمن عظمها في عين إبراهيم عليه‌السلام ﴿قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي(٢) .

وفي رواية عن الرضا عليه‌السلام : « فقال الخليل عليه‌السلام سرورا بها ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي(٣) . ﴿قالَ﴾ الله عزوجل ﴿لا يَنالُ﴾ ولا يصل ﴿عَهْدِي﴾ والإمامة التي أمرها بيدي ﴿الظَّالِمِينَ﴾ من ذرّيتك ، والعصاة من نسلك ، فإنّ الإمام مانع عن الظلم ، فلا يجوز أن يكون هو ظالما.

قال الرضا عليه‌السلام : « فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة ، وصارت في الصّفوة » (٤) .

وفي رواية : « من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما » (٥) .

وفي اخرى ، قال عليه‌السلام : « لا يكون السّفيه إمام التّقيّ » (٦) .

وفي هذه الرّوايات من التّعريض ما لا يخفى.

وفي رواية القمّي رحمه‌الله : « ثمّ أنزل عليه الحنيفيّة ، وهي الطّهارة ، وهي عشرة أشياء ؛ خمسة في الرأس ، وخمسة في البدن ، فأمّا التي في الرأس : فأخذ الشّارب ، وإعفاء اللّحى ، وطمّ الشّعر ، والسّواك ، والخلال.

وأمّا التي في البدن : فحلق الشّعر من البدن ، والختان ، وقلم الأظفار ، والغسل من الجنابة ، والطّهور

__________________

(١) النحل : ١٦ / ١٢٣.

(٢) الكافي ١ : ١٣٣ / ٢ ، الاختصاص : ٢٢.

(٣) الكافي ١ : ١٥٤ / ١ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٧ / ١.

(٤) الكافي ١ : ١٥٤ / ١ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٧ / ١.

(٥) الكافي ١ : ١٣٣ / ١ ، الاختصاص : ٢٣.

(٦) الكافي ١ : ١٣٣ / ٢ ، الاختصاص : ٢٢.

٣٢٤

بالماء. فهذه الحنيفيّة الطاهرة التي جاء بها إبراهيم عليه‌السلام فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة » (١) .

في أن الإمامة لا بد أن تكون بنصّه تعالى وليس للخلق فيها نصيب

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذه الآية أقوى الأدلّة على أن الإمامة وهي الولاية العامّة والمطاعيّة المطلقة لا بدّ أن تكون بجعل الله ونصبه ، ليس للنّاس نصيب للتّصريح فيها ، على أنّها عهد الله ، فلا يعقل أن يكون جاعله غيره ، ولدلالتها على أنّها مرتبة شامخة فلا يّليق أن يكون جاعلها غير الله ، مع أنّه لو أمكن جعلها من قبل النّاس لما سأل ابراهيم عليه‌السلام ربّه أن يجعلها لذرّيته ، لإمكان أن يوصي لامّته أن يجعلوها فيهم.

في الاستدلال على وجوب عصمة الأئمة عن النعصية والخطأ والسهو والنسيان ، وكونه عالما بالأحكام ومصالح النّاس

ثمّ اعلم أنّ في الآية دلالة واضحة على لزوم كون الإمام معصوما من المعاصي والزّلل لوجهين:

الأول : أنّ معنى لفظ الإمام هو من يجب الائتمام به في جميع أقواله وأفعاله ، وأتّباعه في جميع أوامره وحركاته وسكناته ، ومن البديهيّ أنّ من يمكن صدور المعصية منه لا يمكن وجوب اتّباعه على الإطلاق ، للزوم إمكان اجتماع الأمر والنّهي ، وهو بديهيّ البطلان كوقوعه.

والثاني : قوله : ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ حيث إنّ الظّالم صادق على من تلبّس بمعصيته ولو كانت صغيرة ، فصدق عنوان الظّالم والعاصي على أحد في زمان ملازم لحرمانه عن نيل هذا المقام الشامخ أبدا.

ثمّ اعلم أنّها كما تدلّ على لزوم كونه معصوما عن المعاصي ، تدلّ على لزوم كونه معصوما عن الخطأ والسّهو والنّسيان لعدم إمكان وجوب اتّباع من أمكن في حقّه ذلك على الإطلاق لما ذكر.

ثمّ لا بدّ أن يكون الإمام عالما بجميع الأحكام حتّى لا يأمر بخلاف ما أمر الله ولا يحكم بغير حكمه ، بل لا بدّ أن يكون عالما بجميع مصالح الخلق ومفاسدهم ، حتّى لا يأمر أحدا بما فيه فساده ، ولا ينهاه عمّا فيه صلاحه ، وأن يكون أعلم النّاس ، وإلّا لا يكون إماما لجميعهم ، بل يكون مأموما لمن يكون هو أعلم منه.

إذا تمهّد ذلك فاعلم أنّه لم تكن هذه الصّفات بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا في عليّ عليه‌السلام وأحد عشر من ولده ، ولم يدّعها أحد لغيرهم ، بل ثبت بالضّرورة واتّفاق الأمّة أنّ غيرهم كانوا فاقدين لها ، فوجب أن تكون

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٥٩.

٣٢٥

الإمامة مختصّة بهم ، وعدم صلاحيّة غيرهم لها.

في أنّ الشيخين لم يكونا صالحين للخلافة الإلهية

والحاصل : أنّ الآية الكريمة ظاهرة الدلالة باتّفاق أصحابنا الإمامّية رضوان الله عليهم على عدم صلاحيّة أبي بكر وعمر للإمامة لوجوه :

منها : أنّهما كانا مشركين باتّفاق الأمّة ، والشّرك ظلم لقوله تعالى : ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(١) فوجب عدم صلاحيّتهما للإمامة بهذه الآية.

إن قيل : إنّهما لم يكونا مشركين في زمان الإمامة ؟

قلنا : صدق مفهوم الظالم عليهما في زمان مخرج لهما عن صلاحيّتها أبدا ، كما أنّ صدق السارق على أحد في زمان موجب لقطع يده أبدا ، وليس الحكم دائرا مدار صدق العنوان ، لأنّه علّة محدثة لا مبقية حتّى يبقى ببقائه وينتفي بانتفائه ، والشاهد على ذلك حكم العقل بعدم تناسب الذّوات التي فيها شائبة الخباثة والدّناءة مع هذه المرتبة الشامخة الإلهيّة.

ومنها : أنّ من كان مذنبا في الباطن والسّرّ ، كان ظالما في الواقع وإن لم يطّلع عليه أحد ، وإذا لم تعرف طهارة باطنة لا يجوز أن يحكم بإمامته ، فوجب أن يكون معصوما حتّى يعلم عدم كونه ظالما في الباطن ، ولا تعلم العصمة إلّا بنصّ الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمّا لم يعرف أنّ أبا بكر وعمر ما كانا ظالمين في الظاهر والباطن لاتّفاق الأمّة على أنّهما لم يكونا معصومين ، لم يجز أن ينصّبا للإمامة ، ووجب أن لا تتحّقق إمامتهما.

قال الفخر الرازي : استدلّ الشيعة بهذه الآية على وجوب عصمة الإمام عن المعصية ظاهرا وباطنا ، وأمّا نحن فنقول : مقتضى الآية ذلك ، إلّا أنّا تركنا اعتبار الباطن ، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة (٢) .

أقول : في هذا الجواب ما لا يخفى من الوهن.

في أنّ الآيات الدالة على عصيان الأنبياء مؤوّلة

إنّ قيل : إنّ الله تعالى حكى عن يونس عليه‌السلام أنّه قال : ﴿سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(٣) وعن آدم عليه‌السلام أنّه قال : ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا(٤) وعن موسى عليه‌السلام أنّه قال : ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي(٥) فلا يكون الظلم منافيا للنبوّة.

قلنا : إنّ إطلاق الظلم وإنّ كان منصرفا إلى ارتكاب المنهيّات التّحريميّة ، إلّا أنّه لا بدّ من تأويله في

__________________

(١) لقمان : ٣١ / ١٣.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٤٢.

(٣) الأنبياء : ٢١ / ٨٧.

(٤) الأعراف : ٧ / ٢٣.

(٥) النمل : ٢٧ / ٤٤.

٣٢٦

موردهم إلى ارتكاب النّواهي التنزيهيّة بالقرينة القطعيّة ، وهو ثبوت عصمتهم عليهم‌السلام.

﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى

وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ

 السُّجُودِ (١٢٥)

ثمّ أنّه تعالى لمّا وهب لإبراهيم عليه‌السلام منصب الإمامة وأكرمه به ، شرّفه بتشريفات لم يشرّف بها أحدا من أنبيائه ، منها : أنّه جعل البيت الذي بناه بيده والحجر الذي قام عليه شرفا عظيما وفضلا جسيما ، فلذا نبّه سبحانه بشرفهما بعد تشريفه عليه‌السلام بالإمامة ، بقوله : ﴿وَ﴾ اذكر ﴿إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ﴾ الذي بناه إبراهيم عليه‌السلام وهي الكعبة المعظّمة ﴿مَثابَةً﴾ ومرجعا ومعادا ، أو معبدا ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافّة من الموحّدين والمشركين إلى يوم القيامة.

عن ابن عبّاس : أنّه لا ينصرف [ عنه ] أحد إلّا و[ هو ] يتمنّى العود إليه (١) .

وقيل : إنّ المثابة هي (٢) محلّ الثّواب ، حيث إنّ النّاس يحجّون إليه فيثابون به (٣) .

﴿وَ﴾ جعلناه ﴿أَمْناً﴾ ومأمنا ، عن ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « من دخل الحرم من النّاس مستجيرا [ به ] فهو آمن من سخط الله عزوجل ، ومن دخله من الوحش والطّير كان آمنا من أن يهاج حتّى يخرج من الحرم » (٤) .

ونقل أنّ أهل الجاهليّة كانوا متمسّكين بتحريمه لا يهيجون على أحد التجأ إليه ، وقد أخذوه من دين إسماعيل (٥) .

ونقل أنّ كلب الصّيد كان يهمّ بالضّبي فيفرّ الضّبي منه فيتبعه حتّى إذا دخل الضّبي الحرم لم يتبعه الكلب (٦) .

والروايات في تحريم مكّة كثيرة جدّا ، روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّ الله حرّم مكّة ، وإنّها لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا لأحد بعدي ، وإنّما احلّت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها كما كانت » (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ٤٦.

(٢) في النسخة : مثابة هو.

(٣) مجمع البيان ١ : ٣٨٣.

(٤) الكافي ٤ : ٢٢٦ / ١.

(٥) تفسير الرازي ٤ : ٤٧.

(٦) تفسير الرازي ٤ : ٤٧.

(٧) تفسير الرازي ٤ : ٤٧.

٣٢٧

وقيل : إنّه موضع آمن من القحط والجدب (١) لقوله تعالى : ﴿يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ(٢).

﴿وَ﴾ قلنا : ﴿اتَّخِذُوا﴾ يا عبادي ، واختاروا ﴿مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ﴾ وهو الحجر الذي عليه أثر قدمه ﴿مُصَلًّى

شرح مقام إبراهيم عليه‌السلام

عن الباقر عليه‌السلام في رواية : « ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على صخرة ، فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نتّخذها مصلّى » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « يعني بذلك ركعتي طواف الفريضة » (٤) .

روي أنّه لمّا أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر ، ووضعهما بمكّة وأتت على ذلك مدّة ونزلها الجرهميّون ، وتزوّج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر ، إستأذن إبراهيم عليه‌السلام سارة في أن يأتي هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل.

فقدم إبراهيم عليه‌السلام وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يتصيّد ، وكان إسماعيل يخرج من الحرم يتصيّد. فقال لها إبراهيم عليه‌السلام : هل عندك ضيافة ؟ قالت : ليس عندي. سألها عن عيشهم فشكت إليه ، فقال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه السّلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه.

وذهب إبراهيم عليه‌السلام ، فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا - كالمستخفّة بشأنه - قال : فما قال لك ؟ قالت : قال : اقرئي زوجك السّلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه. قال : ذلك أبي ، وقد أمرني أن افارقك ، الحقي بأهلك. فطلّقها وتزوّج منهم اخرى.

فلبث إبراهيم عليه‌السلام ما شاء الله أن يلبث ، ثمّ استأذن سارة في أن يزور إسماعيل ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل. فجاء إبراهيم عليه‌السلام حتّى انتهى إلى باب إسماعيل عليه‌السلام فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يتصيّد وهو يجيئ الآن إن شاء الله ، فانزل رحمك الله.

قال : هل عندك ضيافة ؟ قالت : نعم. فجاءت باللّبن واللّحم ، وسألها عن عيشهم. قالت : نحن في خير وسعة. فدعا لهما بالبركة ، ولو جاءت يومئذ بخبز [ أو برّ ] أو شعير أو تمر ، لكانت أكثر أرض الله برّا أو شعيرا أو تمرا ، وقالت له : انزل حتّى أغسل رأسك. فلم ينزل ، فجاءت بالمقام فوضعته على

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٣٨٧.

(٢) القصص : ٢٨ / ٥٧.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٥٥ / ١٩٩.

(٤) التهذيب ٥ : ١٣٨ / ٤٥٤.

٣٢٨

شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه وهو راكب ، فغسلت شقّ رأسه الأيمن ، ثمّ حّولت إلى شقّ رأسه الأيسر فبقي (١) أثر قدميه (٢) عليه (٣) .

وروي أنّ ابراهيم عليه‌السلام قام على هذا الحجر وأذّن بالحجّ (٤) .

وفي رواية : أنّ الرّكن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة ، ولو لا مماسّه أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب (٥) .

وروي أنّه نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة : مقام إبراهيم عليه‌السلام ، وحجر بني إسرائيل ، والحجر الأسود (٦) .

ثمّ من تشريفاته عليه‌السلام ما ذكره الله ثانيا بقوله : ﴿وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ﴾ وأمرناهما أمرا أكيدا وألزمنا عليهما إلزاما شديدا ﴿أَنْ طَهِّرا﴾ ونزّها ﴿بَيْتِيَ﴾ من الأصنام والأوثان.

عن الصادق عليه‌السلام : « نحّيا عنه المشركين » (٧) .

وقيل : إنّ المراد نزّهاه عن جميع ما لا يليق به (٨) .

﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ وهم الذين يطوفون به ﴿وَالْعاكِفِينَ﴾ وهم الذين يقيمون فيه للعبادة ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ وهم المصلّون فيه.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : أيغتسلن النّساء إذا أتين البيت ؟ قال : « نعم ، إنّ الله عزوجل يقول : ﴿أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فينبغي للعبد أن لا يدخل إلّا وهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهّر » (٩) .

﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ

مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ

وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)

ومن تشريفاته عليه‌السلام أنّه استجاب دعوته في حقّ ساكني مكّة وأهلها ، كما قال تعالى : ﴿وَإِذْ قالَ

__________________

(١) زاد في النسخة : فيها.

(٢) في مجمع البيان : قدمه.

(٣) مجمع البيان ١ : ٣٨٣.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٢٢٦.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٢٢٦.

(٦) مجمع البيان ١ : ٣٨٣.

(٧) تفسير القمي ١ : ٥٩.

(٨) تفسير الرازي ٤ : ٥١.

(٩) تفسير العياشي ١ : ١٥٥ / ٢٠٠ ، علل الشرائع : ٤١١ / ١.

٣٢٩

إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا﴾ المكان ﴿بَلَداً آمِناً﴾ قيل : أي مأمونا من الخسف والمسخ والقتل (١) .

﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ﴾ وساكنيه ﴿مِنَ الثَّمَراتِ﴾ والمأكولات التي تخرج من الأرض والشجر ، من الأطعمة والفواكة ، فجمع في دعائه لأهله بين الأمن والسّعة وطيب العيش.

ثمّ أنّه عليه‌السلام لمّا رأى احتجاب دعائه بالإمامة لذرّيّته في حقّ الظالمين منهم ، كأنّه احتمل احتجاب هذا الدعاء أيضا في حقّهم ، فخصّه بالمؤمنين بقوله : ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

وأخرج الظالمين عن مسألة درّ الرّزق عليهم ، فدفع الله هذا التوهمّ ، وكأنّه ﴿قالَ﴾ لا أخصّ الرّزق بالمؤمنين منهم ، بل أرزق من آمن منهم ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ حيث إنّ النعم الدنيويّة ليست كالإمامة ، بل تعمّ الكافر والمؤمن ، إلّا أنّ المؤمن تتّصل نعمه الدنيويّة بالنعم الأخرويّة ، وأمّا الكافر ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ تمتيعا ﴿قَلِيلاً﴾ من النعم الدنيويّة التي لا قدر لها في المدّة القليلة من عمره ، ثمّ أقطعها عنه بموته ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ والجئه ﴿إِلى عَذابِ النَّارِ﴾ الذي لا انقطاع له ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع ذلك العذاب الشّديد الدائم.

عن ( العلل ) : عن الرضا عليه‌السلام : « لمّا دعا إبراهيم عليه‌السلام أن يرزق أهله من الثمرات ، أمر بقطعة من الأردنّ فسارت بثمارها حتّى طافت بالبيت ، ثمّ أمرها أن تنصرف إلى هذا الموضع الذي سمّي بالطائف ، ولذلك سمّي طائفا » (٢) .

قال بعض : الأردنّ ، بضمّتين : كورة بالشّام (٣) .

قيل : إنّ وجه اختلاف هذه الآية مع ما في سورة إبراهيم (٤) - حيث قال هنا : ﴿اجْعَلْ هذا بَلَداً﴾ بغير اللّام ، وهناك مع اللّام - أنّ دعوته هنا كانت قبل بناء البلد ، وهناك بعد بنائه (٥).

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ

 السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا

 مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٢٧.

(٢) علل الشرائع : ٤٤٢ / ٢.

(٣) معجم البلدان ١ : ١٧٦ ، لسان العرب ١٣ : ١٧٨.

(٤) في قوله تعالى : ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) ابراهيم : ١٤ / ٣٥.

(٥) تفسير الرازي ٤ : ٥٥.

٣٣٠

الْحَكِيمُ (١٢٩)

في شرح بناء الكعبة وفضلها

ومن تشريفاته عليه‌السلام أنّه امر ببناء الكعبة ، فذكّر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله به بقوله : ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ والأساس من الكعبة ، وكان أساسه من زمان آدم عليه‌السلام ثمّ خرب بنيانه ، فرفع إبراهيم عليه‌السلام البنيان على ذلك الأساس.

روي أن آدم عليه‌السلام اهبط بالهند فقال : يا ربّ ، مالي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنّة ؟ قال : بخطيئتك ، فانطلق إلى مكّة فابن بها بيتا تطوف به كما رأيتهم يطوفون (١) .

أقول : يعني كما رأيتهم يطوفون حول العرش ، أو بيت المعمور. قال : فانطلق إلى مكّة فبنى البيت ، فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهارا وعمارة ، وما بين خطاه مفاوز ، فحجّ آدم البيت من الهند أربعين سنة.

ونقل أنّه سأل عمر كعبا ، فقال : أخبرني عن هذا البيت. فقال : إنّ هذا البيت أنزله الله تعالى من السّماء ياقوته مجوّفة مع آدم عليه‌السلام ، فقال : يا آدم ، إنّ هذا بيتي ، فطف حوله ، وصلّ حوله كما رأيت ملائكتي يطوفون حول عرشي ويصلّون. ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة فوضع البيت على القواعد ، فلمّا أغرق الله قوم نوح ، رفعه الله وبقيت قوعده (٢) .

وروي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « البيت المعمور بيت في السّماء يقال له الضّراح ، وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السّماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلّي فيه كلّ يوم سبعون ألفا من الملائكة ، لا يعودون فيه أبدا » (٣) .

وروي عنه عليه‌السلام قال : « مرّ عليه الدّهر بعد بناء إبراهيم عليه‌السلام فانهدم فبنته العمالقة ، ومرّ عليه الدّهر فانهدم فبنته جرهم ، ومرّ عليه الدّهر فانهدم فبنته قريش ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ شابّ. فلمّا أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه ، فقالوا : يحكم بيننا أوّل رجل يخرج من هذه السكّة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل من خرج عليهم ، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثمّ ترفعه جميع القبائل ، فرفعوا كلّهم فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعه » (٤) .

في وجه تسمية البيت بالحرام والكعبة

وروي : أنّ الكعبة إنّما سميّت بيت [ الله ] الحرام ، لأنّه حرّم على المشركين (٥) . وسمّي

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ٥٠.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٥٠.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ٥١.

(٤) تفسير الرازي ٤ : ٥١.

(٥) علل الشرائع : ٣٩٨ / ١.

٣٣١

الكعبة لأنّها مربّعة ، وصارت مربّعة لأنّها بحذاء البيت المعمور وهو مربّع ، وصار البيت المعمور مربّعا لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع ، وصار العرش مربّعا لأنّ الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع ، وهي : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر (١) .

وعن الزّهريّ أنّه قال : بلغني أنّهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه‌السلام ثلاث صفوح في كلّ صفح منها كتاب ، في الصّفح الأوّل : أنا الله ذو بكّة ، صنعتها يوم صنعت [ الشمس ] والقمر ، (٢) الخبر.

في وجه تسمية البيت بالعتيق

عن الصادق عليه‌السلام قال : « لمّا بلغ إسماعيل مبلغ الرّجال ، أمر الله إبراهيم عليه‌السلام أن يبني البيت ، فقال : يا ربّ ، في أيّ بقعة ؟ قال : في البقعة التي انزلت بها على آدم القبّة فأضاء لها الحرم ، ولم يدر إبراهيم عليه‌السلام في أيّ موضع يبني ، فإنّ القبّة التي أنزلها الله على آدم كانت قائمة إلى أيّام الطوفان أيّام نوح عليه‌السلام.

فلمّا غرقت الدنيا رفع الله تلك القبّة وبقي موضعها لم يغرق ، ولهذا سمّي البيت العتيق لأنّه اعتق من الغرق. فبعث الله جبرئيل فخطّ له موضع البيت ، فأنزل عليه القواعد من الجنّة ، وكان الحجر لمّا أنزله الله على آدم عليه‌السلام أشدّ بياضا من الثّلج ، فلمّا مسّته أيدي الكفّار اسودّ ، فبنى إبراهيم عليه‌السلام البيت » (٣) الخبر.

﴿وَإِسْماعِيلُ﴾ يعاونه ، أو يرفعها معه. عن ( الكافي ) في رواية : « فلمّا أذن الله له في البناء قدم إبراهيم عليه‌السلام فقال : يا بنيّ ، قد أمرنا الله ببناء الكعبة. وكشفا عنها ، فإذا هو حجر واحد أحمر ، فأوحى الله تعالى إليه أن ضع (٤) بناءها عليه. وأنزل الله عزوجل أربعة أملاك يجمعون إليه الحجارة ، فكان إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام يضعان الحجارة ، والملائكة تناولهما حتّى تمّت اثنا عشر ذراعا » (٥) .

وفي رواية : بنى إبراهيم وإسماعيل البيت كلّ يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود (٦).

قال أبو جعفر عليه‌السلام : « فنادى أبو قبيس [ إبراهيم عليه‌السلام ] : إنّ لك عندي وديعة ، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه » (٧) .

وعن ( العلل ) و( العياشي ) : عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الله عزوجل أنزل الحجر [ الأسود ] لآدم عليه‌السلام

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٩٨ / ٢.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٥١. (٣) تفسير القمي ١ : ٦١.

(٤) في النسخة : إليه أصنع.

(٥) الكافي ٤ : ٢٠٣ / ٣.

(٦) الكافي ٤ : ٢٠٥ / ٤.

(٧) الكافي ٤ : ٢٠٥ / ٤.

٣٣٢

من الجنّة إلى البيت درّة بيضاء ، فرفعه الله إلى السّماء ، وبقي اسّه. فهو بحيال هذا البيت ، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، لا يرجعون إليه أبدا ، فأمر الله إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ببنيان البيت على القواعد » (١) .

في أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام كانا شريكين في رفع القواعد ، وأن إسماعيل أول من نطق بالعربية

واعلم أنّ ظاهر الآية المباركة والروايات شركة إبراهيم وإسماعيل عليه‌السلام في رفع القواعد وبناء البيت.

وفي عدّة روايات اخر : أنّ إبراهيم كان متفرّدا في بناء البيت ، وإسماعيل كان يناوله الأحجار (٢) ، كما عن ( المجمع ) عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ إسماعيل أوّل من شقّ لسانه بالعربيّة ، وكان أبوه يقول وهما يبنيان : هاي ابني (٣) ، أي أعطني حجرا ، فيقول له إسماعيل بالعربيّة : يا أبه ، هاك حجرا ، فابراهيم يبني وإسماعيل يناوله » (٤) .

ولعلّ وجه الجمع أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان شغله منحصرا برفع البناء ، وإسماعيل يشاركه في الرّفع ويناوله الحجر أيضا ، والملائكة كانوا يعاونونهما بإعطاء الحجر.

وهما في هذا الحال يدعوان ويقولان : ﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ عمل بناء بيتك ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ لدعائنا ومسألتنا ﴿الْعَلِيمُ﴾ بنياتنا والمشقّة التي نتحمّلهما خالصا لك ، وتقربا إليك.

وفي تخصيص الوصفين به تعالى إشعار بالتّوحيد الصّفاتي ، كأنّهما قالا : إنّ سمع كلّ سميع وعلم كلّ عليم منك وراجع إليك ، وصفات غيرك مندكّة في صفاتك.

وأمّا الدّعوة الثانية ، فقولهما : ﴿رَبَّنا وَاجْعَلْنا﴾ بتوفيقك وتأييدك ﴿مُسْلِمَيْنِ﴾ منقادين ﴿لَكَ﴾ مسلّمين لأوامرك وحكمك ، راضين بقضائك وقدرك ، خالصين لوجهك ، لا نعبد سواك ولا نتوجّه إلى غيرك ﴿وَ﴾ اجعل بعضا ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِنا﴾ ونسلنا ﴿أُمَّةً﴾ وجماعة ﴿مُسْلِمَةً لَكَ

وإنّما خصّا الدعاء ببعض ذرّيتهم لعلمهم من قوله : ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(٥) بأنّه لا بدّ أن يكون بعضهم ظالما ، ولم يعلما أنّ فيهم أهل التّسليم والتّفويض ، ولذا سألا أن يجعل الله بعضهم مسلما مخلصا منقادا كي يكون صالحا للإمامة.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٥٦ / ٢٠٣ ، علل الشرائع : ٣٩٨ / ١.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٤٨.

(٣) في مجمع البيان : يا إسماعيل هات ابن.

(٤) مجمع البيان ١ : ٣٨٩.

(٥) البقرة : ٢ / ١٢٤.

٣٣٣

وإنّما خصّا ذرّيّتهما بالدعاء لزيادة شفقتهما بهم ، وكثرة ثوابهما بعبادتهم ، ولأنّ في صلاح أولادهم وكونهم أنبياء صلاح عامّة الخلق.

عن ( العياشي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « أراد بالامّة بني هاشم خاصّة » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، ولم يزل في ذرّيّتهما الأنبياء والرّسل والأئمّة والهداة » (٢) .

وأمّا الدّعوة الثالثة فقولهما : ﴿وَأَرِنا﴾ وعرّفنا ﴿مَناسِكَنا﴾ وعباداتنا التي تلزمنا في هذا المقام.

في وجه تسمية عرفات وحكمة رمي الجمرات

نقل أنّ جبرئيل عليه‌السلام أرى إبراهيم عليه‌السلام المناسك كلّها حتّى بلغ عرفات ، فقال : يا إبراهيم ، أعرفت ما أريتك من المناسك ؟ قال : نعم ، فسمّيت عرفات ، فلمّا كان يوم النّحر أراد أن يزور البيت ، عرض له إبليس فسدّ عليه الطّريق ، فأمره جبرئيل عليه‌السلام أن يرميه بسبع حصيّات ، ففعل ، فذهب الشّيطان ، ثمّ عرض له في اليوم الثّاني والثّالث والرّابع ، كلّ ذلك يأمره جبرئيل عليه‌السلام برمي حصيّات (٣) .

وأمّا الدّعوة الرّابعة فقولهما : ﴿وَتُبْ عَلَيْنا﴾ ممّا فرط منّا من ترك الأولى ، والتّوجّه إلى غيرك فإنّ توبة الأنبياء لا تكون من ذنب بل من أحد الأمرين.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّه ليغان (٤) على قلبي ، وإنّي لأستغفر » (٥) إلى آخره.

﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ﴾ لمن تاب إليك ﴿الرَّحِيمُ﴾ بمن استرحمك.

ثمّ ختما دعاءهما بقولهما : ﴿رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ﴾ أي في ولد إسماعيل ، أو في الأمّة المسلمة ﴿رَسُولاً﴾ كائنا ﴿مِنْهُمْ﴾ روي أنّه لم يبعث فيهم غير نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أنا دعوة [ أبي ] إبراهيم » (٧) وإنّما سألا أن يكون الرّسول في مكة من ذرّيّتهما ليكون بسبب النّسب أرأف وأشفق بهم ، وأحرص على دعوتهم وهدايتهم وتربيتهم ، وليكون له عزّا وشرفا فوق الشّرف ، فيقوم بدعوتهم وهدايتهم.

﴿يَتْلُوا﴾ ويقرأ ﴿عَلَيْهِمْ آياتِكَ﴾ ودلائل توحيدك وكمال صفاتك ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ﴾ المنزل

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٥٧ / ٢٠٦ ، مجمع البيان ١ : ٣٩٣.

(٢) تفسير الصافي ١ : ١٧٣.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ٦٢.

(٤) الغين : الغيم ، وقيل : الغين شجر ملتفّ.

(٥) صحيح مسلم ٤ : ٢٠٧٥ / ٢٧٠٢.

(٦) تفسير الصافي ١ : ١٧٣.

(٧) تفسير القمي ١ : ٦٢ ، مجمع البيان ١ : ٣٩٥.

٣٣٤

من عندك بمعانيه وحقائقه بعد التّلاوة عليهم ﴿وَ﴾ يعلّمهم ﴿الْحِكْمَةَ﴾ وما تكمل به نفوسهم من المعارف والأخلاق وتمييز الحقّ من الباطل ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ عن الرّذائل والعيوب وسيئّات الأخلاق حتّى يقوموا بطاعتك وعبوديّتك.

﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ القادر الغالب الذي لا يغلب على ما يريد ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يجهل شيئا ، ولا يفعل على غير صلاح.

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ

 فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما وصف إبراهيم عليه‌السلام بكونه إماما ومتّبعا للعالمين ومشرّفا بتشريفات لم يشرّف بها أحد من النبيّين ، وكونه أكمل الموحّدين ، وأسلم المسلمين ، وكان اللازم أن يحكم العقل بوجوب اتّباع مثل هذا النبيّ الكريم والشخص العظيم ، مع أنّ العقل حاكم بمختاره من التّوحيد والتّسليم ، نبّه سبحانه على أنّه لا ينبغي لأحد أن يعرض عن اتّباعه ، بل ينبغي أن يعدّ المعرض في زمرة السّفهاء والمجانين ، بقوله في مقام التعجّب لمن كان أهله : ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ﴾ ويعرض ﴿عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ﴾ وهو التّوحيد والتّسليم ﴿إِلَّا مَنْ سَفِهَ﴾ واستخفّ وأمتهن ﴿نَفْسَهُ﴾ إذ كلّ من أعرض عن طريق يرغب فيه العقلاء ويوصل الساعي فيه إلى عزّ الدنيا وشرف الآخرة ، لا ينبغي أن يحسب في زمرة العقلاء ، بل هو أسفه النّاس.

ثمّ العجب من قريش واليهود الذين أعظم مفاخرهم بالانتساب إلى إبراهيم عليه‌السلام الذي قال سبحانه في حقّه : ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ﴾ واجتبيناه ﴿فِي الدُّنْيا﴾ إذ جعلناه أمّة قانتا ، ومفخرا ، ومطاعا للأمم العظيمة ﴿وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا(١) .

﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الّذين هم أكرم النّاس منزلة ، وأرفعهم درجة ، إنّهم كيف تركوا ملّته ولم يسلموا لرسول استجاب الله به وببعثته دعوته !

في الاستدلال على النبوّة

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآيات وما بعدها حجّة بالغة على اليهود وغيرهم على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق دعواه ، وأنّه المبعوث من الله للرّسالة ، حيث إنّ دعوة إبراهيم عليه‌السلام بأن يبعث

__________________

(١) مريم : ١٩ / ٥٠.

٣٣٥

الله رسولا في مكّة كان من المسلّمات ، ولم يظهر فيها مدّع للنبوّة إلّا وجوده المقدّس ، وكانت هذه الآيات بفصاحتها واشتمالها على الأخبار الغيبيّة معجزة ظاهرة له ، إذ لم يكن عليه‌السلام قارئا للكتب ومجالسا لعلماء أهل الكتاب ، فثبت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو مسؤول إبراهيم عليه‌السلام.

إن قيل : كيف يمكن القطع بأنّ جميع ما أخبر به من قصّة إبراهيم ، من إتمامه الكلمات ، وبناء البيت ، وسائر الدعوات ، كان مسلّما بين أهل الكتاب ، ومسطورا في الكتب ؟

قلنا : لو لم يكن بينهم من الوضوح بمكان ، لتسارعوا إلى تكذيبه مع شدّة عداوتهم وحرصهم على إطفاء نوره ، ولو كذّبوه في هذه الامور لنقل إلينا ، ولو بأخبار الآحاد.

عن ( المجمع ) : عن السجاد عليه‌السلام (١) : « ما أحد على ملّة إبراهيم إلّا نحن وشيعتنا ، وسائر النّاس منها براء » (٢) .

﴿إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ

وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ

مُسْلِمُونَ (١٣٢)

ثمّ ذكر الله علّة اصطفائه بقوله : ﴿إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ﴾ حين خرج من الغار على ما قيل ، بالإلهام في قلبه ، وتقوية عقله ، وتنفيذ بصيرته ، وإرادة الآيات الباهرات ﴿أَسْلِمْ﴾ وأخلص وجهك لله ﴿قالَ﴾ إبراهيم عليه‌السلام مبادرا إلى الطاعة والانقياد باستعداده الكامل : ﴿أَسْلَمْتُ﴾ وجهي وأخلصت قلبي ﴿لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ بالتّوحيد الكامل ، والعرفان التّامّ.

والظاهر أنّه كان إقراره بلسان حاله ورسوخ المعرفة في شراشر وجوده ، لا بلسان قاله ، فلمّا كملت نفسه بمعرفة الله بادر إلى الدّعوة إلى ملّة التّوحيد والإسلام.

﴿وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ﴾ قبل سائر النّاس شفقة بهم ، قيل : كانوا أربعا وقيل : ثمان (٣) .

﴿وَيَعْقُوبُ : وصّى بها بنيه أيضا كجدّه إبراهيم عليه‌السلام وكانت وصيّته أن قال : ﴿يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) في المحاسن : الحسين بن علي عليهما‌السلام.

(٢) المحاسن ١ : ١٤٧ / ٥٤ ، تفسير الصافي ١ : ١٧٣ ، ولم نعثر عليه في مجمع البيان.

(٣) تفسير أبي السعود ١ : ١٦٣.

٣٣٦

اصْطَفى﴾ واستخلص ﴿لَكُمُ الدِّينَ﴾ المرضيّ له ، وصفوة الأديان الذي اختاره الملائكة والخلّصون من عباده ، بأن نصب الدلائل الظاهرة عليه ، ودعاكم إليه.

ثمّ عيّن ذلك الدّين صريحا ، وأكّد في وجوب الالتزام به بقوله : ﴿فَلا تَمُوتُنَ﴾ في حال من الأحوال ﴿إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لله ، موحّدون له. والمعنى : لا تفارقوا دين الإسلام في آن ، كي لا يبادركم الموت وأنتم على غيره فيدرككم غاية الخسران.

قيل : في هذه الحكاية دلالة قويّة على أنّ الالتزام بدين الإسلام أهمّ الامور ، حيث أمر إبراهيم عليه‌السلام بعنوان الوصيّة ، وهو آكد من الأمر ، وخصّ بها بنيه الّذين كان أشفق عليهم من جميع الخلق ، وما مزج بهذه الوصيّة وصية اخرى ، وعبّر عن حقّانيّته بأنّ الله اصطفاه لكم ، وعمّهم بتلك الوصيّة ، وما قيّدها بزمان دون زمان وحال دون حال ، وزجرهم عن أن يموتوا غير مسلمين (١) .

ثمّ لمّا كان عليه‌السلام مشهورا بالفضل والعقل والصّلاح وحسن الطّريقة ومتانة السّيرة ، ومع ذلك اهتمّ بلزوم هذا الدّين نهاية الاهتمام ، عرف أنّه أولى الامور وأحقّها به.

﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي

قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ

 لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان وصيّة إبراهيم ويعقوب عليهما‌السلام ، بيّن أنّ يعقوب عليه‌السلام ما اكتفى بالوصيّة ، بل أخذ من أولاده الإقرار والعهد على الالتزام به بقوله : ﴿أَمْ كُنْتُمْ﴾ قيل : إنّ المراد بل أكنتم أيّها اليهود الحاضرون ، أو معاشر المسلمين ﴿شُهَداءَ﴾ حضّارا ﴿إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ﴾ وحين احتضر وقرب وفاته ؟ ! والاستفهام على الإنكار ، والمعنى - والله العالم - ما كنتم حاضرين عند يعقوب حين حضرته الوفاة ، بل إن علمتم به فبالوحي.

﴿إِذْ قالَ﴾ حينئذ شفقة ﴿لِبَنِيهِ﴾ وهم كانوا اثني عشر : ﴿ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ وأيّ شيء تتّخذونه إلها بعد مفارقتي إيّاكم بالموت ؟ ﴿قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ﴾ قيل : عدّ اسماعيل في الآباء لأنّ العمّ صنو الأب ، وبمنزلته في التّعظيم (٢) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ٧٢.

(٢) تفسير الصافي ١ : ١٧٤.

٣٣٧

ثمّ بعد هذا الإقرار الإجمالي صرّحوا بالتّوحيد لاطمئنان قلب يعقوب ، بقولهم : ﴿إِلهاً واحِداً﴾ لا شريك له ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ منقادون.

قيل : إنّ اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أ لست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديّة يوم مات ؟ فنزلت (١) . وعلى هذا يمكن أن تكون كلمة ( أم ) وصليّة. والتّقدير : أتدّعون هذا أم كنتم شهداء ؟ يعني أكان أوائلكم شاهدين وأنتم علمتم ذلك ، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه براء ؟

وعن بعض التفاسير : أنّ يعقوب عليه‌السلام لمّا دخل مصر ورأى أهلها يعبدون النّيران والأوثان خاف على بنيه الشّرك بعد وفاته ، فوصّاهم بهذه الوصيّة ، وأخذ منهم الإقرار تحريضا لهم على التمسّك بعبادة الله (٢) .

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا

 يَعْمَلُونَ (١٣٤)

ثمّ لمّا كان اليهود يفتخرون بآبائهم إبراهيم وإسحاق ، ويرون أنّهم لصلاح آبائهم لا يعذّبون ؛ ردّهم الله تعالى بقوله : ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ﴾ وجماعة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت ، حال كونه ﴿لَها ما كَسَبَتْ﴾ وعملت ، لا يرجع إليكم نفع أعمالهم ﴿وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ﴾ من أعمالكم ، لا يرجع إليهم ثوابها ونفعها ﴿وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ولا تؤاخذون به. فلا تفخروا بأوائلكم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام اذ لا ينفعكم حسناتكم ، ولا يضرّكم سيّئاتهم.

﴿وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد إقامة البراهين على ضلالة اليهود والنّصارى ، بيّن أنّهم مع تلك الحجج القاطعة مصرّون على كفرهم وضلالهم واتّباع المسلمين لهم بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ للمسلمين ﴿كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى﴾ يعني قالت اليهود : كونوا هودا ، وقالت النّصارى : كونوا نصارى ، حتّى ﴿تَهْتَدُوا﴾ وتصيبوا طريق الحقّ.

﴿قُلْ﴾ يا محمّد ردّا عليهم : لا نتّبع اليهوديّة والنّصرانيّة ﴿بَلْ﴾ نتّبع ﴿مِلَّةَ إِبْراهِيمَ﴾ حيث كان

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ١٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٧٦.

٣٣٨

﴿حَنِيفاً﴾ ومائلا عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ.

وفي قوله : ﴿وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ تعريض عليهم وعلى غيرهم من أهل الشّرك ، لأنّ كلا منهم كانوا يدّعون ملّة إبراهيم عليه‌السلام والحال أنّهم كاذبون ، لأنّه ثبت أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان على التّوحيد ، واليهود كانوا مشركين بقولهم : عزير ابن الله ، والنّصارى بقولهم بالتّثليث ، أو إنّ المسيح ابن الله.

عن ( العياشي ) : عن الصادق عليه‌السلام قال : « [ ان ] الحنيفيّة هي الإسلام » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، قال : « ما أبقت الحنيفيّة شيئا حتّى إنّ منها قصّ الشّارب ، وقلم الأظفار ، والختان » (٢) .

﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ

 وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا

نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)

ثمّ أنّه تعالى لمّا ردّ قول اليهود والنّصارى بأنّهم متّبعون دين اليهوديّة والنّصرانيّة عن تقليد وبغير دليل ، وأنّه لو كان بناء الدّين على التّقليد كان تقليد إبراهيم عليه‌السلام الذي عرف بالاستقامة أولى وأقرب إلى السّلامة ، بيّن بطلان دينهم بالبرهان ، بقوله : ﴿قُولُوا﴾ أيّها المؤمنون.

عن ( الكافي ) و( العياشي ) : عن الباقر عليه‌السلام [ قال ] : « إنّما عنى بذلك عليّا وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وجرت بعدهم في الأئمّة عليهم‌السلام » (٣) .

﴿آمَنَّا بِاللهِ﴾ وهو أوّل الواجبات العقليّة ﴿وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا﴾ من الله ، وهو القرآن بدلالة المعجزات الباهرات ، وفيه الايمان بنبوّة من جاء به ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَما أُنْزِلَ﴾ من الله ﴿إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ﴾ وهم أحفاد يعقوب من أولاده الاثني عشر ، وكان منهم كثير من الأنبياء.

عن ( العيّاشي ) : عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل : هل كان ولد يعقوب أنبياء ؟ قال : « لا ، ولكنّهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء » (٤) .

والظاهر أنّ المراد أنّه لم يكن جميعهم أنبياء.

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٥٨ / ٢٠٨.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٥٨ / ٢٠٩.

(٣) الكافي ١ : ٣٤٤ / ١٩ ، تفسير العياشي ١ : ١٥٩ / ٢١٢.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٥٩ / ٢١١.

٣٣٩

﴿وَما أُوتِيَ﴾ من قبل الله ﴿مُوسى﴾ بن عمران من التّوراة ﴿وَعِيسى﴾ بن مريم من الإنجيل ﴿وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ من الصّحف والمعجزات حال كون جميعها منزلا ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ونحن ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض ، كما أنتم تفرّقون بينهم بالإيمان والتّكذيب ، مع أنّهم سواء في الحجج والآيات الدالّة على صدقهم لو أنتم تقولون : إنّهم متفرّقون في اصول الدّيانات ، ونحن نقول : إنّهم مجتمعون على اصول الإسلام.

﴿وَنَحْنُ﴾ بالله مؤمنون ، و﴿لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ منقادون ، نتّبع ما أمرنا ربّنا ، ولا نتّبع هوى أنفسنا ، فكلّ من ظهرت دلائل صدقه في دعوى النبوّة نصدّقه ونؤمن به ، فلذا نؤمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أظهر المعجزات وأقام الدلائل على صدقه كسائر الأنبياء.

﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)

ثمّ أنّه تعالى لمّا بيّن حقيقة الهدى التي تحكم العقول السّليمة بها ، وهو الإيمان بجميع الكتب السّماويّة وسائر الأنبياء الذين أتوا بالمعجزات الباهرات ، عارض قولهم : ﴿كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا(١) بقوله : ﴿فَإِنْ آمَنُوا﴾ اليهود والنّصارى وسائر الكفّار ﴿بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ﴾ من دين الإسلام وما يشابهه في الصّحة والاستقامة والسّداد ، وأنّى لهم بتحصيل مثل هذا الدّين القويم ! وقيل : معنى مثل ﴿ما آمَنْتُمْ ،﴾ هو ما آمنتم.

﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ إلى طريق الفلاح والنّجاح ، وإن لم يتمكّنوا من تحصيل دين مثله ، فلا بدّ لهم من الإيمان به والانقياد له.

﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن هذا الدّين ، فأعرض عنهم ﴿فَإِنَّما هُمْ﴾ ثابتون مستقرّون ﴿فِي شِقاقٍ﴾ وعناد وكفر ومشاقّة مع الله ورسوله.

ثمّ لمّا كان الشّقاق ممّا يؤدي إلى الجدال والقتال لا محالة ، أردف ذلك بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقوية قلوب المؤمنين بوعد النّصر والغلبة بقوله : ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ﴾ ويدفعهم عنك.

قيل : معنى السّين أنّ ذلك كائن لا محالة ، وإن تاخّر إلى حين (٢) . وفيه دلالة على صحّة النبوّة لإنجاز

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٣٥.

(٢) جوامع الجامع : ٢٧.

٣٤٠