نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)

﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ دالّات على صدقك في نبوّتك وفي جميع ما تخبر به ، موضّحات عن كفر من شكّ فيها ﴿وَما يَكْفُرُ بِها﴾ وما يجحدها ﴿إِلَّا الْفاسِقُونَ﴾ الخارجون عن طاعة الله وولايته ، والمتجاوزون عن كلّ حدّ مستحسن في العقل والشّرع ، فإنّ من يكون بصفة التمرّد مجترئ على الكفر بالآيات.

عن ابن عبّاس رحمه‌الله : أنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه ، فلمّا بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتّقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن أهل الشّرك ، وتخبروننا أنّه مبعوث ، وتصفون لنا صفته. فقال بعضهم : ما جاء لنا بشيء من البيّنات ، وما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١) .

ولعلّ المراد من الآيات القرآن وسائر المعجزات ، مثل امتناعهم عن المباهلة ، وعن تمنّي الموت ، وإشباع الخلق الكثير من الطّعام القليل ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وانشقاق القمر ، وغير ذلك.

ثمّ أنكر عليهم كفرهم بالآيات إعظاما له ، وعطف عليه توبيخهم على نقض عهد الأيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ظهر ، وتعاهدهم على إخراج المشركين من ديارهم إذا هاجر إليهم ، وأن لا يعينوا عليه أحدا بقوله : ﴿أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً﴾ من العهود المزبورة ﴿نَبَذَهُ﴾ ونقضه ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ حيث كفروا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يؤمنوا به ، وأعانوا قريشا عليه يوم الخندق ، وليس هذا الفريق قليلا منهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بنبوّته أبدا بغيا وحسدا.

﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)

ثمّ أنّه تعالى بعد توبيخهم على الكفر بالمعجزات ونقض العهود ، وبّخهم على كفرهم بالتّوراة وسائر الكتب السّماويّة بقوله : ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو ﴿مُصَدِّقٌ﴾ ومطابق [ في ] صفاته ﴿لِما مَعَهُمْ﴾ من التّوراة وسائر الكتب السّماويّة ﴿نَبَذَ﴾ ورمى

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ : ١٩٩.

٣٠١

﴿فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ من اليهود ﴿كِتابَ اللهِ﴾ من التّوراة وغيرها ﴿وَراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ وأعرضوا وتركوا العمل به ﴿كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أنّ الكتاب كتاب الله ، وأنّ ما فيه حقّ. فكما أنّ الجاهل بأنّ التّوراة كتاب الله ، لا يرى ترك العمل به قبيحا لا يرى هؤلاء العالمون بأنّ التّوراة كتاب الله ترك العمل بها قبيحا وشينها (١) على أنفسهم ، وهذا من غاية كفرهم وخباثتهم فمثلهم ﴿كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً(٢) .

﴿وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ

 الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ

وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ

 مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ

اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ

مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا

لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)

ثمّ ذكر الله تعالى نوعا آخر من قبائح أعمالهم ، وهو إقبالهم إلى السّحر وعملهم به بقوله : ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ بعد ترك اتّباع كتب الله ﴿ما تَتْلُوا﴾ وتقرأه ﴿الشَّياطِينُ﴾ وكفرة الجنّ من كتب السّحر ﴿عَلى﴾ عهد ﴿مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ وسلطنته ، أو افتروه على ملكه بأن ألقوا لملأ بني إسرائيل أن سليمان بن داود عليهما‌السلام إنّما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم.

ثمّ لمّا كان السّحر بمنزلة الكفر في القباحة والمعصية نزّه الله سبحانه سليمان عنه بقوله : ﴿وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾ بعمل السّحر ﴿وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ حيث عملوا بالسّحر وعلّموه النّاس.

ولعلّ اليهود في زمان سليمان أنكروا نبوّته ، ونسبوا جميع ما كان له من خوارق العادة وتسخير الرياح وعلمه بمنطق الطّير وسائر معجزاته إلى السّحر ، كما أنكر يهود عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نبوّته ، ونسبوا الآيات والمعجزات من القرآن المجيد ، وشقّ القمر ، وطاعة الجمادات له ، وتسبيح الحصاة في كفّه وغير ذلك إلى السّحر. وقالوا : نحن أيضا نظهر العجائب بالسّحر ، ونستغني عن الانقياد لمحمّد ، ولذا

__________________

(١) كذا ، والظّاهر وشينه ، أي شينى الترك.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٥.

٣٠٢

كفروا بالآيات ونبذوا العهود وراء ظهورهم ، فردّ الله عليهم بأنه ﴿ما كَفَرَ﴾ وما سحر سليمان ﴿وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا﴾ إذ ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ﴾ يعلّمونهم ﴿ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ اللّذين نزلا ﴿بِبابِلَ﴾ وهو بلد بالعراق. وقيل : جبل دماوند. وقيل غير ذلك (١) ، وكان اسم أحدهما ﴿هارُوتَ وَ﴾ اسم الآخر ﴿مارُوتَ

قصّة هاروت وماروت

عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « كان بعد نوح عليه‌السلام قد كثر السّحرة والمموّهون (٢) ، فبعث الله تعالى ملكين إلى نبيّ ذلك الزّمان بذكر ما يسحر به السّحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويردّ به كيدهم. فتلقّاه النبيّ عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله عزوجل ، وأمرهم أن يقفوا به على السّحر ، وأن يبطلوه ، ونهاهم أن يسحروا به النّاس. وهذا كما يدلّ على السّم ما هو ، وعلى ما يدفع به غائلة السّمّ ، ثمّ يقول للمتعلّم : ذلك السّمّ ، فمن رأيته سمّ فادفع غائلته بكذا ، وإيّاك أن تقتل بالسّمّ أحدا. قال : وذلك النبيّ أمر الملكين أن يظهر للنّاس بصورة بشرين ويعلّماهم ما علّمهما الله تعالى من ذلك ويعظاهم » (٣) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « اتّقوا الدنيا ، فو الّذي نفسي بيده إنّها لأسحر من هاروت وماروت » (٤) .

روي عن أبي محمّد عليه‌السلام أنّ رجلا قال : إنّ قوما عندنا يزعمون أنّ هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة ، فلمّا كثر عصيان بني آدم أنزلهما الله مع ثالث لهما إلى الدنيا ، وأنّهما افتتنا بالزّهرة وأرادا الزّنا بها ، وشربا الخمر ، وقتلا النّفس المحرّمة ، وأن الله يعذّبهما ببابل ، وأنّ السّحرة منهما يتعلّمون السّحر ، وأنّ الله تعالى مسخ تلك المرأة بالكوكب الذي هو الزّهرة.

فقال الإمام عليه‌السلام : « معاذ الله عن ذلك ، إنّ ملائكة الله معصومون محفوظون عن الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى ، قال الله عزوجل فيهم : ﴿لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ(٥) وقال تعالى : ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ يعني الملائكة ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ(٦) وقال في الملائكة : ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ إلى قوله : ﴿مُشْفِقُونَ(٧) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ١٣٨ ، مجمع البيان ١ : ٣٣٨.

(٢) في النسخة : والموهمون.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٧٣.

(٤) كنز العمال ٣ : ١٨٢ / ٦٠٦٣.

(٥) التحريم : ٦٦ / ٦.

(٦) الأنبياء : ٢١ / ١٩ و٢٠.

(٧) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٧٥ ، والآيات من سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦ - ٢٨.

٣٠٣

وفي رواية عن الرّضا عليه‌السلام أنّه سئل عمّا يرويه النّاس من أمر الزّهرة ، وأنّها أمرأة فتن بها هاروت وماروت ، وما يروونه من أمر سهيل وأنّه كان عشّارا باليمن ؟ !

فقال عليه‌السلام : « كذبوا في قولهم إنّهما كوكبان ، إنّهما كانتا دابّتين من دوابّ البحر ، فغلط النّاس وظنّوا أنّهما الكوكبان ، وما كان الله عزوجل ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ثمّ يبقيها ما بقيت السّماوات والأرض ، وأنّ المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام حتّى ماتت ، وما تناسل منها شيء ، وما على وجه الأرض اليوم مسخ ، وإنّ الذي وقع عليه اسم المسوخيّة مثل القرد والخنزير والدّبّ وأشباهها إنّما هي مثل ما مسخ الله عزوجل على صورها قوما غضب الله عليهم ولعنهم بإنكارهم توحيد الله وتكذيبهم رسله.

وأمّا هاروت وماروت ، فكانا ملكين علّما النّاس السّحر ليحترزوا به عن سحر السّحرة ويبطلوا به كيدهم » (١) الحديث.

ولا يخفى أنّ الرّوايات التي تكون موافقة لما اشتهر بين العامّة ، لا بدّ من حملها على التقيّة لمخالفتها الكتاب والعقل.

وقال بعض العامّة : إنّ مدارها ماروته اليهود (٢) . وأمّا توجيهها بالذي تكلّفه الفيض رحمه‌الله (٣) وبعض العامّة ، ففي غاية البعد (٤) . وحملها على كونها أسرارا لا يناسب رواتها كعطاء (٥) وابن الكوّاء (٦) لبداهة عدم كونهما من أهل السّرّ والفهم.

والحاصل : أنّ الروايات الدالّة على عصيان الملكين بالشّرك والزنا وشرب الخمر وقتل النّفس ومسخ الزّهرة ، ممّا يجب ردّها أو ردّ علمها إليهم عليهم‌السلام لو لم يمكن حمل جميعها على التقيّة.

﴿وَما يُعَلِّمانِ﴾ السّحر وإبطاله ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ من النّاس ﴿حَتَّى يَقُولا﴾ للمتعلّم : إعلم ﴿إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ وامتحان من الله للعباد ، ليعلم من يطيعه فيما يتعلّم بإعماله في إبطال السّحر ممّن يعصيه

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧١ / ٢.

(٢) تفسير أبي السعود ١ : ١٣٨ ، تفسير روح البيان ١ : ١٩١.

(٣) قال الفيض رحمه‌الله : وأما ما كذبوه من أمر هاروت وماروت ومسخ زهرة وقصّتهم المشتهرة بين النّاس فقد ورد عنهم عليهم‌السلام في صحتها أيضا روايات ، والوجه في الجمع والتوفيق أن تحمل روايات الصحة على كونها من مرموزات الأوائل واشاراتهم وإنهم لما رأوا أن حكاتها كانوا يحملونها على ظاهرها كذبوها ولا بأس بايرادها وحلها فان هاهنا محلها. الصافي ١ : ١٥٦ و١٦٠.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٩١.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٤٥ / ١٨٠.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٤٩ / ١٨١.

٣٠٤

باستعماله في إضرار النّاس ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ باستعماله للإضرار.

﴿فَيَتَعَلَّمُونَ﴾ النّاس ﴿مِنْهُما﴾ أي من الملكين ، أو من الصّنفين ؛ من السّحر ما تتلوا الشّياطين وما انزل على الملكين ؛ الأقسام المضرّة أظهرها وأشيعها ﴿ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ من الحيل والتّمويهات.

﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما هُمْ﴾ أي السّحرة ﴿بِضارِّينَ بِهِ﴾ أي بالسّحر ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ من العالمين ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ وتعليمه أو بسبب تخليته بين السّاحر وإرادته الناشئة من خبث ذاته وعمله القبيح ، ولو شاء أن لا يصدر منه لأعجزه عنه وحال بينه وبين قلبه وإرادته.

﴿وَيَتَعَلَّمُونَ﴾ هؤلاء اليهود من السّحر ﴿ما يَضُرُّهُمْ﴾ حيث إنّ ضرره على أنفسهم من العقوبة الاخرويّة أشدّ بمراتب من الضّرر الذي يصل إلى المسحور ﴿وَلا يَنْفَعُهُمْ﴾ ولا يفيد لهم فائدة يعتدّ بها العقلاء.

﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿لَقَدْ عَلِمُوا﴾ سبب تلاوتهم التّوراة المكتوب فيها : أنّه والله ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ وعاوض بكتب السّحر وتعلّمه والعمل به كتاب الله وأحكامه ﴿ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ ونصيب من رحمة الله ، أو خلاص من عقابه ﴿وَ﴾ بالله ﴿لَبِئْسَ ما شَرَوْا﴾ هؤلاء اليهود من العمل بالسّحر ، واستبدلوا ﴿بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ حيث عرّضوها للهلاك الأبد.

وهؤلاء اليهود ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ علم اليقين أنّ في هذا الاستبدال خسرانا ووبالا ما فعلوه.

ثمّ أرشدهم إلى التّجارة المربحة بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ بالنّبيّ وانقادوا له ﴿وَاتَّقَوْا﴾ الله في أعمالهم بالله ﴿لَمَثُوبَةٌ﴾ وأجر واصل إليهم ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ولو كان أقلّ قليل في الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ لهم وأنفع من الدنيا وما فيها ، لبقائه وزواله ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ويدركون حقائق الامور.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ

 أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ

 مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ

 الْعَظِيمِ (١٠٥)

٣٠٥

ثمّ ذكر الله تعالى في عداد قبائح أعمال اليهود إساءتهم الأدب بساحة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كانوا يخاطبونه بقولهم : راعنا.

قيل : كانت هذه اللفظة في اصطلاحهم بمعنى اسمع غير مسمع (١) .

وقيل : كانت مستعملة عندهم في الهزء والسّخرية (٢) .

روي أنّ سعد بن عبادة سمعها منهم ، فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأضربنّ عنقه. قالوا : أو لستم تقولونها ؟ فنزلت : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا﴾ - للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - ﴿راعِنا(٣) .

قيل : إنّ المؤمنين كانوا إذا سمعوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا من العلم ، قالوا : راعنا يا رسول الله ، أي أنظرنا وتأنّ بنا حتّى نفهم ، فلّما سمع اليهود ذلك من المؤمنين اتّخذوه ذريعة لسبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة تعريضا على اليهود (٤) ، بقوله : ﴿وَقُولُوا انْظُرْنا﴾ أي انظر إلينا.

ثمّ وعظهم بقوله : ﴿وَاسْمَعُوا﴾ لما يحكم به الله ويأمركم به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سماع طاعة وقبول ، ولا تكونوا كاليهود حيث قالوا : ﴿سَمِعْنا وَعَصَيْنا(٥) .

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿وَلِلْكافِرِينَ﴾ الذين لا يسلكون معه مسلك الإعظام والتجليل ، بل أهانوه بتعريضه للسّبّ والاستهزاء كاليهود ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.

روي عن ابن عبّاس : أنّ الله كان يخاطب في التّوراة بقوله : يا أيّها المساكين (٦) .

قيل : كرامة هذه الأمّة اقتضت مخاطبتهم بأشرف الأوصاف وهو الإيمان ، ولمّا خاطب بني إسرائيل أوّلا بقوله : يا أيّها المساكين ؛ أثبت عليهم آخرا المسكنة بقوله : ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ(٧) ولمّا خاطب امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلا بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يرجى أن يختم لهم بالإيمان والأمان من العذاب والهوان (٨) .

ثمّ نبّه الله الرّسول والمؤمنين بغاية حسد أهل الكتاب والمشركين عليهم ، وشدّة عداوتهم لهم بقوله : ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ من اليهود والنّصارى ﴿وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ وما يحبّون،

__________________

(١) تفسير الطبري ١ : ٣٧٤.

(٢) تفسير الرازي ٣ : ٢٢٤.

(٣) تفسير أبي السعود ١ : ١٤١.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٩٧.

(٥) البقرة : ٢ / ٩٣.

(٦) تفسير الرازي ٣ : ٢٢٣.

(٧) البقرة : ٢ / ٦١.

(٨) تفسير الرازي ٣ : ٢٢٣ « نحوه » .

٣٠٦

بل يبغضون ﴿أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ قليل أو كثير ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من الوحي والنبوّة والآيات والنّصرة على الأعداء.

أمّا أهل الكتاب فلادّعائهم أنّهم أبناء الأنبياء والناشئون في مهابط الوحي ، فهم أولى بتلك الفضائل من المسلمين الّذين هم امّيّون ، وأمّا المشركون فلغرورهم بالجاه والمال ، وظنّهم أنّ من له الرئاسة الدنيويّة أولى بالرئاسة الإلهيّة. ومن البديهي أنّ الحسد لا أثر له.

﴿وَاللهُ﴾ الذي بيده كلّ خير ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ وفضله وإحسانه ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ من عباده على حسب قابليّته واستعداده ﴿وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ على نبيّه وعلى المؤمنين ، ولا يمنعه حسد الحاسدين.

﴿ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ

شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)

ثمّ أنّه لمّا كان من عقائدهم الفاسدة امتناع وقوع النّسخ في النبوّات والأحكام الإلهيّة ، وبهذا المبنى طعنوا في دين الاسلام وقالوا : إنّ محمّدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ، ويقول اليوم قولا وفي الغد يرجع عنه (١) ؛ ردّ الله عليهم بقوله : ﴿ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ برفع حكمها ﴿أَوْ نُنْسِها﴾ برفع رسمها واستلاب ذكرها وحفظها عن القلوب (٢)﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ وأصلح ﴿مِنْها أَوْ﴾ نأت بآية ﴿مِثْلِها﴾ في الصّلاح والنّفع والحكمة ؛ لظهور أنّ الوظائف الشّرعيّة والأحكام الإلهيّة بالإضافة إلى الأمراض القلبيّة والرّوحانيّة ، كالأدوية بالنّسبة إلى الأمراض الجسمانيّة. فكما أنّ نفع الأدوية يختلف باختلاف الأمزجة والأوقات ، كذلك الأعمال والوظائف الشّرعيّة ، لبداهة اختلاف مصالحها باختلاف القرون والأزمنة وتغيير الجهات.

في بيان جواز النسخ

إن قيل : كيف يصحّ النّسيان في الآيات ومحو رسمها بالكلّيّة مع قوله : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ(٣) ؟

قلنا : صدق القضيّة الشرطيّة لا يلازم صدق طرفيها ، وهذا كقولنا إن عدمت هذه الشّمس يأت الله

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ : ٢٢٦.

(٢) في النسخة : واستلاب عن القلوب ذكرها وحفظها.

(٣) الحجر : ١٥ / ٩.

٣٠٧

بشمس اخرى ، مع أنّه معارض بقوله : ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللهُ(١) .

وروي أنّ قوما من الصّحابة قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها إلّا البسملة ، فغدوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبروه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها » (٢) .

وأمّا الآية فيتمكن أن يكون المراد منها أنّ الله حافظ له من تغيير الخلق لا من تغيير نفسه إذا اقتضته الحكمة والمصلحة.

﴿أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو قادر على تصريف المكلّف تحت مشيئته وحكمته وحكمه ، لا دافع لما أراد ، ولا مانع لما يختار ، وينزل الخير ، ويختصّ به من يشاء ، وينسخ الحكم ويبدّل الآيات ، ولا يسئل عمّا يفعل.

﴿أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا

 نَصِيرٍ (١٠٧)

ثمّ قرّر سعة قدرته وأنّه مراع لصلاح المؤمنين وخيرهم ما هو أنفع بحالهم بقوله : ﴿أَ لَمْ تَعْلَمْ﴾ بنورانيّة قلبك وكمال معرفتك ﴿أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ بالملكيّة الحقيقيّة الإشراقيّة ، له التصرّف فيهما وفيما خلق بينهما تصرّف السّلطان المطلق في مملكته ﴿وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومن ما سواه ﴿مِنْ وَلِيٍ﴾ وقيّم بالامور ﴿وَلا نَصِيرٍ﴾ ومعين فهو يقلّبكم بمشيئته ويتصرّف فيكم بإرادته ، فلا ناصر لكم غيره ، ولا قادر في الوجود الّا ذاته.

﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ

 بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)

ثمّ إنّه قيل : لمّا اقترح اليهود على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينزّل عليهم كتابا من السّماء ، كما حكى الله عنهم في سورة النساء بقوله : ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ(٣) الآية ، واقترح عليه المشركون وقالوا : ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ

__________________

(١) الأعلى : ٨٧ / ٦ و٧.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٠١.

(٣) النساء : ٤ / ١٥٣.

٣٠٨

يَنْبُوعاً(١) إلى آخرها ؛ وجّه الله الخطاب إلى جميعهم بنحو الإضراب عن ذكر سائر قبائح أعمالهم إلى الإنكار عليهم هذه الاقتراحات بقوله : ﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ وهل تعزمون أيّها اليهود والمشركون ﴿أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ﴾ وتقترحوا عليه ﴿كَما سُئِلَ مُوسى﴾ واقترح عليه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ بقولهم ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً(٢) وقولهم : ﴿اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ(٣) فإنّ هذه الاقترحات لا تكون الّا من الإصرار على الكفر والإعراض عن الإيمان.

﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ﴾ ويختاره لنفسه عوضا عنه ﴿فَقَدْ ضَلَ﴾ وأخطأ ﴿سَواءَ السَّبِيلِ﴾ ووسط الطّريق الذي يوصله إلى كلّ خير في الدنيا وإلى رحمة الله ونعيم الأبد في الآخرة ، وأخذ في الطّريق المؤدّي إلى نقمة الله والعذاب الدائم.

﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ

 أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ

اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)

ثمّ إنّه روي أنّ فنحاص (٤) بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر رضي الله عنهما بعد وقعة أحد : أ لم تروا ما أصابكم ؟ ولو كنتم على الحقّ ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمّار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا : شديد. قال : فإنّي عاهدت أن لا اكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما عشت. فقالت اليهود : أمّا هذا فقد صبأ.

وقال حذيفة : أمّا أنا فقد رضيت بالله ربّا ، وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّا ، وبالاسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين اخوانا.

ثمّ أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبراه ، فقال : « أصبتما خيرا وأفلحتما » (٥) . فنزلت : ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ وتمنّوا ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾ ويصيّرونكم بشبهاتهم وحيلهم وتسويلاتهم ﴿مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ﴾ بالرّسول ومعرفتكم الحقّ ووضوح آياته ﴿كُفَّاراً﴾ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه مرتدّين عن دين الإسلام

__________________

(١) الإسراء : ١٧ / ٩٠.

(٢) النساء : ٤ / ١٥٣.

(٣) الأعراف : ٧ / ١٣٨.

(٤) في النسخة : فنيحاص.

(٥) تفسير الرازي ٣ : ٢٣٦ ، تفسير أبي السعود ١ : ١٤٥.

٣٠٩

مع علمكم بنهاية شناعة الكفر بعد الإيمان الراسخ.

ومن البديهيّ أنّ هذا الودّ والتمنّي ليس لأجل تديّنهم ومعرفتهم بحقّانيّة مذهبهم ونصحهم لكم ، بل كان ﴿حَسَداً﴾ عليكم وتشهّيا ﴿مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ ومن خبث ذاتهم ﴿مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ﴾ وظهر ﴿لَهُمُ الْحَقُ﴾ من نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحقّانيّة دينه وكتابه بدلالة المعجزات السّاطعة والآيات الباهرة ، ولما عاينوا من إخبار التّوراة بظهوره وأوصافه وعلائمه المنطبقة عليه.

روي أنّ جماعة استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يقتلوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بانفسهم ، ودعوا المسلمين إلى الكفر (١) ، فنزل : ﴿فَاعْفُوا﴾ من عقابهم ﴿وَاصْفَحُوا﴾ عن تثريبهم وعتابهم ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ فيهم من القتل والتّعذيب ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ في كلّ وقت ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يعجز عن الانتقام إذا حان حينه وآن أوانه ، فلا تعجل عليهم.

روي عن ابن عبّاس : أنّه منسوخ بآية السّيف (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : أنّه لم يؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتال حتّى نزل جبرئيل عليه‌السلام بقوله : ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا(٣) وقلّده سيفا ، فكان أوّل قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل ، وبعده غزوة بدر (٤) .

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ

اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)

ثمّ إنّه بعد تكليف المؤمنين بالعفو والصّفح لصلاح حالهم وسلامة أنفسهم من رحمة الكفّار ، كلّفهم في حال الفراغ بالعبادات البدنيّة التي أهمّها الصّلاة بقوله : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ المفروضة ، ثمّ بالعبادات الماليّة التي أهمّها الزّكاة بقوله : ﴿وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ الواجبة ، لصلاح حالهم وسلامة أنفسهم من نقمة الله. ثمّ بسائر العبادات بقوله : ﴿وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ وعمل صالح من النّوافل والزّكاة المستحبّة وسائر أنواع البرّ ﴿تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ﴾ إمّا بصورته وحقيقته المثاليّة ، بناء على تجسّم

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٢٠٤.

(٢) تفسير أبي السعود ١ : ١٤٦.

(٣) الحج : ٢٢ / ٣٩.

(٤) تفسير الرازي ٣ : ٢٤٥.

٣١٠

الأعمال كما هو مدلول كثير من الأخبار (١) ، أو بثوابه وجزائه.

ثمّ لزيادة التّرغيب على العمل أكدّ ذلك بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ مطّلع ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجازيكم على القليل كما يجازي على الكثير.

﴿وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا

 بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ

 عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)

ثمّ نقل أنّ وفد نجران لمّا قدموا المدينة اجتمعوا في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود ، فكذّب بعضهم بعضا ، فقالت اليهود لبني نجران : لن يدخل الجنّة إلّا اليهود. وقال بنو نجران [ لليهود ] : لن يدخلها إلّا النّصارى (٢) . فحكى الله عنهم الدّعوى بقوله : ﴿وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى﴾ وإتيان ( كان ) مفردا باعتبار لفظ الموصول وخبره وهو هود ، والنّصارى جمعا باعتبار معنى الموصول وهو جمع ، و( أو ) التّرديديّة بلحاظ اختلاف القائلين ، كما روي في شأن النّزول (٣) .

ولمّا كان دعوى كلّ طائفة مبنيّة (٤) على حقّانيّة دينهم ، ردّ الله عليهم بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ المقالة التي يدّعونها ﴿أَمانِيُّهُمْ﴾ وأهواؤهم الباطلة ، ومن جملة مشتهياتهم الزائغة التي لا حجّة لهم عليها.

﴿قُلْ﴾ يا محمّد : ﴿هاتُوا﴾ وأحضروا ﴿بُرْهانَكُمْ﴾ وحجّتكم على دعواكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فيما تدّعونه.

في عدم صحّة التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقاء الشريعة ونبوة النبيّ السابق

إن قيل : برهانكم على اختصاص الجنّة بهم ثبوت حقّانيّة دينهم ، وعدم ثبوت نسخه.

قلت : لا يكفيهم هذا ، بل يجب عليهم إقامة البرهان على بقاء دينهم ، فكما أنّ الشّريعة الجديدة محتاجة إلى البرهان القاطع ، كذلك بقاء الشّرع السابق محتاج إلى الحجّة والدّليل الساطع ، ولا يكفي استصحاب بقاء نبوّة النبيّ السّابق وشريعته ، لأنّ الاستصحاب إن كان حجّة في الشّرع السابق فبقاؤه أوّل الكلام ، وإن كانت حجّيّته في الشّرع اللاحق ، فالمفروض أنّ المتمسّك به لا يعترف بالشّرع الّلاحق ، مع أنّه على فرض حجّيّته في الشّريعتين فإنّما

__________________

(١) راجع : بحار الأنوار ٧٤ : ٤٤ / ٤.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٢٠٦.

(٣) راجع تفسير الرازي ٤ : ٣.

(٤) في النسخة : مبنيا.

٣١١

هو في الفروع والأحكام العمليّة لا في اصول الدّين ؛ لأنّه لا بدّ فيها من القطع واليقين ، ولا يفيد الظّنّ والتّخمين كما قال تعالى : ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(١) .

في إبطال القول بامتناع النسخ في الأحكام

فإن قيل : هذا مبنيّ على إمكان النّسخ ، واليهود قائلون بامتناعه لأنّه يؤول إلى البداء ، وهو محال على الله.

قلنا : أوّلا : ليس في الحقيقة والواقع نسخ في الأحكام والشّرائع بل الشّرع السّابق مقيّد بقاؤه بعدم بعث النّبيّ الّلاحق المبشّر به ، فإذا بعث انقضت مدّته مع أنّه منقوض بنسخ شرع إبراهيم عليه‌السلام بشرع موسى عليه‌السلام ، مضافا إلى أنّ من البديهي اختلاف مصالح الأحكام باختلاف الأشخاص والقرون والأزمان ، فقد يكون لحكم مصلحة في زمان ، أو لطائفة دون زمان آخر وطائفة اخرى.

نعم ، إذا أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببقاء أحكامه واستمرارها إلى يوم القيامة ، كما أخبر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، كشف عن جامعيّة أحكامه لمصالح عموم البشر إلى يوم القيامة بخلاف ما إذا لم يخبر بأبديّة دينه ، بل كان بيانه مطلقا ، فإنّه يحتمل وقوع التّغيير والنّسخ وإن ظنّ من جهة الإطلاق عموم حكمه للأزمنة المتأخّرة ، وحينئذ فإذا دلّ دليل معتبر على النّسخ كشف عن خطأ العرف في فهم الاستمرار ، ودلّ على كونه مغيّى.

وأمّا ما نقله اليهود من قول موسى عليه‌السلام : تمسّكوا بالسّبت أبدا فغير ثابت ، مع أنّه يمكن أن يراد منه دوامه ما دام بقاء شريعته ، فيرجع إلى الإخبار بأنّ السّبت لا يتغيّر ولا ينسخ ما دام بقاء دينه ، مع أنّه معارض بإخباره في عدّة مواضع من التّوراة بمجيئ نبيّ آخر بعده.

فقول اليهود بأنّ الحقّ منحصر في اليهوديّة ، وقول النّصارى بمثل ذلك ، ودعوى كلّ طائفة منهم أنّه لا يدخل الجنّة غيرهم ، بقول بلا برهان ، بل البرهان على خلافه ، حيث قال الله تعالى : ﴿بَلى﴾ يدخل الجنّة غيرهم بل هم لا يفوزون بها.

ثمّ كأنّ قائلا يقول : فمن يدخل الجنّة ؟ فقال : ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ وبذل نفسه ﴿لِلَّهِ﴾ بالانقياد والخضوع والتذلّل في طاعته ، والتجنّب عن اللّجاج والعناد والمعاصي خالصا لله بلا شوب شرك وهوى ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ لا يكون خضوعه بالأعمال القبيحة ، كما نقل عن بعض المرتاضين في الهند

__________________

(١) يونس : ١٠ / ٣٦.

٣١٢

﴿فَلَهُ أَجْرُهُ﴾ وثوابه العظيم الذي أدناه الدّخول في الجنّة حال كونه ثابتا ﴿عِنْدَ رَبِّهِ﴾ اللّطيف به ، المالك لأمره.

﴿وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من انقطاع الثّواب وزوال النّعم وممّا يشاهدون من عقاب الكفّار ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على فائت عند الموت ، حيث يبشّرهم ربّهم برحمة منه ورضوان وهم يقولون ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ(١) وهذه نهاية السّعادة وغاية الاسترباح والاستفادة. وإفراد الضّمير أوّلا باعتبار لفظ الموصول وجمعه (٢) آخرا باعتبار المعنى.

﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى

 شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ

 بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ

أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ

خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)

ثمّ أنّه لمّا حكى الله تعالى دعوى اليهود والنّصارى صحّة دينهم ، وكونهم على الحقّ ، واختصاص الجنّة بهم ، وتوافقهم على أنّ المسلمين على الباطل حكى الله تعالى اختلافهم فيما بينهم ، وأنّ كلّ واحد من الفريقين ينسب الآخر إلى الكفر والضّلال من غير تأمّل في كتاب الله الذي بينهم حتّى يرشدهم إلى الحقّ بقوله : ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ﴾ من دين الحقّ ، بل ما اعتقدوه باطل وكفر. ﴿وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ﴾ من دين الحقّ ، بل هم على كفر وضلال ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ﴾ الذي أنزله الله لرفع الاختلاف من التّوراة والإنجيل ، ولا يتأمّلون فيهما حقّ التأمّل حتّى يعرفوا الحقّ ويعلموا دين الله بدلالته ، بل ما يقولونه ليس إلا عن تقليد وعصبيّة.

﴿كَذلِكَ﴾ القول الباطل ﴿قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الدّين والكتاب من المشركين ﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ إذ هم أيضا يكفّر بعضهم بعضا ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ الذي هو يوم فصل القضاء ﴿فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ في الدّنيا بأنّ يدخل جميعهم في النّار ويريهم أنّ الحقّ مع غيرهم ، ويبيّن لهم

__________________

(١) فاطر : ٣٥ / ٣٤.

(٢) في النسخة : وجمعيته.

٣١٣

ضلالهم وفسقهم.

في تحاكم اليهود والنصارى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام : « إنّما نزلت لأنّ قوما من اليهود وقوما من النّصارى جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد ، اقض بيننا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قصّوا عليّ قصّتكم. فقالت اليهود : نحن المؤمنون بالله الواحد الحكيم ، وأولياءه ، وليست النّصارى على شيء من الدّين والحقّ. وقالت النّصارى : بل نحن المؤمنون بالله الواحد الحكيم ، وأولياؤه ، وليست هؤلاء اليهود على شىء من الحقّ والدّين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلكم مخطئون ، مبطلون ، فاسقون عن دين الله وأمره ، فقالت اليهود : وكيف نكون كافرين وفينا كتاب الله التّوراة نقرأه ؟ وقالت النّصارى : كيف نكون كافرين وفينا كتاب الله الإنجيل نقرأه ؟ فقال رسول الله : إنّكم خالفتم أيّها اليهود والنّصارى كتاب الله فلم تعملوا به ، فلو كنتم عاملين بالكتابين لما كفّر بعضكم بعضا بغير حجّة ؛ لأنّ كتب الله أنزلها شفاء من العمى ، وبيانا من الضّلالة ، يهدي العاملين بها إلى صراط مستقيم ، وكتاب الله إذا لم تعملوا به كان وبالا عليكم ، وحجّة الله إذا لم تنقادوا لها كنتم لله عاصين ولسخطه متعرّضين.

ثمّ أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على اليهود ، فقال : احذروا أن ينالكم لخلاف أمر الله وخلاف كتابه ما أصاب أوائلكم الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ الخبر (١) .

والظاهر أنّهم لمّا تنازعوا واكتفوا بالدّعوى بغير إقامة حجّة وبرهان ، أجابهم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ كتاب الله انزل لرفع الاختلاف ، فلو تأمّلتم فيه حقّ التأمّل ، وتركتم العصبيّة والتّقليد ، وأعطيتم النّظر فيه حقّه ، لارتفع الخلاف من بينكم وهديتم جميعا إلى الحقّ.

ونقل أنّ وفد نجران لمّا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدّين ، وكفروا بعيسى عليه‌السلام والإنجيل. وقالت النّصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى عليه‌السلام والتّوراة (٢) .

ثمّ أنّه تعالى لمّا حكى عن اليهود والنّصارى والمشركين دعوى كلّ واحد أنّه على الحقّ وأنّهم

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٤٤ / ٣٢٥ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٥٩.

(٢) تفسير الرازي ٤ : ٧.

٣١٤

أولياء الله وأحبّاؤه ، ردّهم بأنّهم أظلم النّاس ، بقوله : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ﴾ وهي مساجد خيار المؤمنين ، أو بلدة مكّة ، أو المسجد الحرام ، أو جميع وجه الأرض لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « جعلت لي الأرض مسجدا » (١) .

﴿أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها﴾ بالمنع من عبادة الله فيها ، حيث إنّ تعمير المساجد بكثرة العبادة ﴿أُولئِكَ﴾ المانعون عن ذكر الله السّاعون في تخريب بيوت الله ﴿ما كانَ﴾ يحقّ ﴿لَهُمْ﴾ بعدل الله وحكمته ﴿أَنْ يَدْخُلُوها﴾ إن كان المراد بلدة مكّة والمسجد الحرام ، أو يسكنوها ان كان المراد جميع وجه الأرض ﴿إِلَّا خائِفِينَ﴾ من سيوف المؤمنين وسياطهم ، فهو وعد للمؤمنين بالنّصرة واستخلاص المساجد من سلطة الكفّار.

وقيل : إنّ المراد ما كان لهم أن يدخلوها إلّا بخشية وخضوع ، فضلا عن الاجتراء على تخريبها (٢) .

ومع ذلك ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ فضيع بطردهم عن الحرم ، ومنعهم أن يعودوا إليه ، أو بضرب الجزية في حقّ أهل الذّمّة منهم ، وبالقتل في حقّ أهل الحرب ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ في النّار بما ارتكبوا من الظلم العظيم ، وهو أشدّ من خزي الدنيا ومن كلّ عذاب. روي أن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.

عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : « ولقد كان من المنافقين والضعفاء وأشباه المنافقين قصدوا إلى تخريب المساجد بالمدينة وتخريب مساجد الدنيا كلّها بما همّوا [ به ] من قتل عليّ عليه‌السلام بالمدينة وقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في طريقهم إلى العقبة » يعني [ في ] غزوة تبوك.

وقيل : إنّ سبب نزول الآية أنّ طيطوس (٣) الرّوميّ ملك النّصارى وأصحابه غزوا بني إسرائيل ، فقتلوا مقاتلتهم ، وسبوا ذراريهم ، وأحرقوا التّوراة ، وأخربوا بيت المقدس ، وقذفوا فيه الجيف ، وذبحوا فيه الخنازير ، ولم يزل خرابا حتّى بناه أهل الإسلام في أيّام عمر بن الخطّاب (٤) .

﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر المساجد وتخريبها ، أشار إلى إنّه لا ينبغي أن يصير تخريب المساجد أو المنع

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٣٦١.

(٢) تفسير أبي السعود ١ : ١٤٩ ، تفسير روح البيان ١ : ٢٠٩.

(٣) في تفسير أبي السعود : طيطيوس.

(٤) تفسير أبي السعود ١ : ١٤٩.

٣١٥

من دخول الحرم أو المسجد الحرام صارفا للمؤمن عن الصّلاة والاشتغال بذكر الله بقوله : ﴿وَلِلَّهِ﴾ بالملكيّة الإيحاديّة ﴿الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ وجميع الجهات ، لا تختصّ به جهة ومكان ﴿فَأَيْنَما تُوَلُّوا﴾ في أيّ مكان ، وتتوجّهوا بقلوبكم ، وتستقبلوا بوجوهكم إلى الله بالدّعاء والصّلاة النّوافل ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ وذاته المقدّسة ، إذ لا يخلو منه مكان. أو المراد : فثمّ مرضاته ، حيث ﴿إِنَّ اللهَ واسِعٌ﴾ ذاتا وقدرة وفضلا ورحمة على عباده ، يبيّن لهم ما فيه صلاحهم كي يصلوا إلى رضوانه ﴿عَلِيمٌ﴾ بحقائق الامور وما يصدر عن العباد من القيام بوظائف العبوديّة والتّفريط فيها.

في بيان معنى وجه الله

عن ( التّوحيد ) عن سلمان الفارسيّ ، في حديث الجاثليق الذي سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن مسائل فأجابه عنها ، أنّ فيما سأله أن قال : أخبرني عن وجه الرّبّ تبارك وتعالى ؟ فدعا عليّ عليه‌السلام بنار وحطب فأضرمه ، فلمّا اشتعلت ، قال [ علي عليه‌السلام ] : « أين وجه هذه النّار » ؟ قال النّصرانيّ : هي وجه من جميع حدودها.

قال عليّ عليه‌السلام : « هذه النّار مدبّرة مصنوعة لا يعرف وجهها ، وخالقها لا يشبهها ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ لا يخفى على ربّنا خافية » (١) .

عن القمي رحمه‌الله : أنّها نزلت في صلاة النّافلة ، تصلّيها حيث توجّهت إذا كنت في السّفر ، وأمّا الفرائض فقوله تعالى : ﴿وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ(٢) يعني الفرائض لا تصلّيها إلّا الى القبلة (٣) .

عن ( الفقيه ) عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل يقوم في الصّلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا ؟

فقال : « قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الخبر (٤) .

في وجه رفع اليد والنظر إلى السماء عند الدعاء

قيل : لمّا نزل ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(٥) قالوا : أين ندعوه ؟ فأنزل الله : ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ الآية (٦) .

إن قيل : فما معنى رفع اليد والنظر إلى السّماء عند الدّعاء مع أنّ الله منزّه عن الجهة ؟

__________________

(١) التوحيد : ١٨٢ / ١٦.

(٢) البقرة : ٢ / ١٤٤.

(٣) تفسير القمي ١ : ٥٩.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٧٩ / ٨٤٦.

(٥) غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ٢١١.

٣١٦

قلنا : ليس رفع اليد لأنّ الله في جهة العلوّ ، بل لأنّ في السّماء خزائن رحمته ، والعرش مظهر استواء صفة رحمانيّته.

﴿وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ

قانِتُونَ (١١٦)

ثمّ أنّه بعد ما حكى الله تعالى تنازع كلّ فريق من اليهود والنّصارى ومشركي العرب في الحقّ والدّين ووعد الحكومة بينهم في القيامة ، حكم على بطلان دعوى جميعهم في الدنيا لقول كلّ طائفة ، بما يحكم على خلافه بديهة العقل بقوله : ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً﴾ إذ قالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النّصارى : المسيح ابن الله ، وقالت مشركو العرب : الملائكة بنات الله.

ثمّ ردّ عليهم بقوله : ﴿سُبْحانَهُ﴾ إنّه منزّه عن التجسّم والماهيّة والسّنخيّة (١) مع خلقه ﴿بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ كلّه ملكه وتحت قدرته.

﴿كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ منقادون مقرّون بعبوديّته طبعا وجبلّة ، لا يجانسونه ولا يسانخونه. والحال أنّه لا بدّ من السّنخيّة بين الوالد والولد ، ولمّا كان القنوت في أصل اللّغة بمعنى الدّوام ، كان فيه إشعار بأنّ جميع ما في السماوات والأرض بقاؤه به سبحانه لا تنقطع حاجته عنه ، والتعبير بلفظ ﴿ما فِي السَّماواتِ﴾ مع أنّ كثيرا منها عقلاء للتّحقير بشأنها.

﴿بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)

ثمّ أنّه بعد بيان أنّ كلّ ما في السّماوات والأرض ملكه ومخلوقه ، بيّن أنّه أيضا ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومنشئهما من غير مثال.

عن الباقر عليه‌السلام في تفسير البديع : « ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فابتدع السّماوات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون. أما تسمع لقوله تعالى : ﴿وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ الخبر (٢) .

ثمّ بيّن كيفية الإبداع بقوله : ﴿وَإِذا قَضى أَمْراً﴾ وأراد شيء ، كائنا ما كان ﴿فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ﴾ لا

__________________

(١) السنخ : الأصل من كلّ شيء.

(٢) الكافي ١ : ٢٠٠ / ٢ ، والآية من سورة هود : ١١ / ٧.

٣١٧

بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، بل بصرف إرادته ﴿فَيَكُونُ﴾ ويوجد بمجرّد نفاذ قدرته ، ولا يحتاج في خلقه إلى فكر ، واستعانة بشيء ، وتحقّق مادّة ، ومضيّ مدّة ، فتمّ البرهان القاطع على امتناع أن يكون شيء ممّا سواه ولدا له ، حيث إنّ لازم الولادة هو الحدوث والمسبوقيّة بالعدم ، وكلّ مسبوق بالعدم مخلوق بإفاضة الوجود عليه من الواجب ، والمخلوق لا يعقل أن يكون ولدا لخالقه ، والوالد لا يمكن أن يكون موجدا ومالكا. ولذا احتجّ في مواضع من الكتاب العزيز على القائلين بأن الله ولدا بأنّ من في السّماوات والأرض عبيد له ، وأنّه إذا قضى أمرا يقول له : كن فيكون.

﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)

ثمّ إنّه تعالى لمّا بيّن شركهم واتّخاذهم الولد لله ، عقّبة بذكر شبهاتهم السّخيفة في النبوّة ، وإنكارهم لها عن تعنّت وعناد بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ من جهلة قريش والمشركين وسفهاء أهل الكتاب ﴿لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ﴾ كما تدّعي أنّه كلّم موسى في الطّور وكلّمك في معراجك ﴿أَوْ تَأْتِينا﴾ من السّماء. ﴿آيَةٌ﴾ من كتاب وصحيفة ، كما قال تعالى : ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً(١) وقال : ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ(٢) .

وتقرير الشبهة أنّ الله حكيم ، والحكيم إذا أراد الوصول إلى غرض لا بدّ أن يختار أقرب طرق الوصول إليه ، فإذا أراد الله تعالى هدايتنا ، فأقرب الطرق إليها أن يكلّمنا بنفسه مشافهة ، كما كلّم الملائكة والأنبياء فإنّه أقرب إلى التّصديق وأبعد من الشّكوك والشبهات ، أو ينزّل عليها كتابا يصرّح فيه بنبوّتك ، فردّ الله عليهم بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ القول السّخيف ﴿قالَ الَّذِينَ﴾ كابروا أنبياءهم ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الامم الماضية ﴿مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ من التعنّتات والاقتراحات ، بل فاقوا عليهم بقولهم : ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً(٣) وقالوا لعيسى : ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ(٤) فهؤلاء والسّابقون عليهم من المصرّين على الكفر ﴿تَشابَهَتْ﴾ وتماثلت ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ في العمى والعناد وعدم التفقّه ، لأنّ المكذّبين للرّسل طينتهم واحدة وأقوالهم وأفعالهم متماثلة.

﴿قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ﴾ الباهرات ، وأوضحنا صدقك بهذا القرآن الذي هو من أعظم المعجزات،

__________________

(١) المدثر : ٧٤ / ٥٢.

(٢) النساء : ٤ / ١٥٣.

(٣) النساء : ٤ / ١٥٣.

(٤) المائدة : ٥ / ١١٢.

٣١٨

ومجيىء الشّجر بأمرك ، وتسبيح الحصاة في كفّك ، وتكلّم الذئب معك ، وإشباع الخلق الكثير بالطعام القليل ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بالحقائق.

فحاصل الجواب : أنّا قد أيّدنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات ، فإن كنتم طالبين لليقين فقد جاءكم بأزيد ممّا تحتاجون إليه من الدّلالات والبراهين ، وإن كنتم تعنتون فلا يحسن إجابتكم.

﴿إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)

ثمّ لمّا كثر إصرارهم على الكفر والعناد ، وأغتمّ قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك ، سلّى سبحانه وتعالى قلب حبيبه حبّا له ، ورحمة عليه ، بقوله : ﴿إِنَّا أَرْسَلْناكَ﴾ إليهم إرسالا مقرونا ﴿بِالْحَقِ﴾ أو مصاحبا للكتاب المشتمل على حقائق المعارف ودقائق العلوم ، لتكون أو حال كونك ﴿بَشِيراً﴾ بالثّواب لمن أطاعك ﴿وَنَذِيراً﴾ بالعقاب لمن كفر وعصى ، فليس عليك إتعاب نفسك في ازدياد الدّعوة والمبالغة في التّبليغ ، فإنّه لا مزيد على ما فعلت ، فلا يكثر همّك من إصرارهم على الكفر ، ومكابرتهم للحقّ ، لأنّه ليس عليك تبعة سيّئاتهم.

﴿وَلا تُسْئَلُ﴾ يوم القيامة ﴿عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ﴾ ولا تؤاخذ بعصيانهم وكفرهم ، فإنّ ضررهما راجع إلى أنفسهم لا إليك.

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّه على النّهي » (١) .

أقول : قرأ به نافع أيضا (٢) ، وعلى هذا يكون نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن السؤال لأجل الإشعار بأنّ شدّة عذابهم وسوء حالهم ممّا لا يسعه البيان.

في تغليط ماروته العامة في كفر والدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستدلال على براءة آبائه وامهاته من الشرك

ثمّ اعلم أنّ من أغلاط كثير من العامّة أنّ النّهي كان عن سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حال أبويه حيث رووا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ليت شعري ما فعل أبواي » فنزلت (٣) .

أقول : ليت شعري ، كيف يمكن خفاء كذب هذه الرواية على من له أدنى مرتبة [ من ] الشعور والدراية ، لبداهة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أعلم الخلق بأنّ الكفّار معذّبون بالنّار ، وكان أعرف النّاس بعقائد أبوية ، فمع اطّلاعه بكفرهما - تعاليا عن ذلك - كيف يجوز

__________________

(١ و٢) . مجمع البيان ١ : ٣٧١.

(٣) تفسير الرازي ٤ : ٣٠ ، تفسير روح البيان ١ : ٢١٦.

٣١٩

عليه إظهار الشّكّ والتّرديد في حالهما في الآخرة بقوله : « ليت شعري ما فعل أبواي ؟ » مع أنّ الأنبياء خصوصا خاتمهم لا بدّ من كونهم منزّهين من كلّ شين ، وأيّ شين أعظم من كفر الأبوين !

مع أنّ الله تعالى أمر خليله إبراهيم عليه‌السلام بتطهير بيته الخاصّ بعبادته من لوث المشركين وأرجاس الأوثان للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود ، وكيف يمكن أن لا يطهّر بيتا خصّه بأنوار أنبيائه ونطف أصفيائه من أصلاب الآباء وأرحام الامّهات من دنس الشّرك ورجس الوثنيّة لهم عليهم‌السلام مع كونهم أفضل الّراكعين والساجدين (١) والعاكفين !

فآية ﴿طَهِّرْ بَيْتِيَ(٢) دالّة بالفحوى على طهارة آباء الأنبياء وأمّهاتهم من الشّرك ، ونزاهتهم من الكفر ، هذا مضافا إلى دلالة أخبار كثيرة على أنّهم عليه‌السلام لم يتولّدوا إلّا من الأصلاب الشامخة الطّاهرة ، والأرحام المقدّسة المطهّرة ، لم تنجّسهم الجاهليّة بأنجاسها (٣) .

﴿وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ

الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ

 وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)

ثمّ أنّه لمّا أراد الله راحة قلب حبيبه عن كثرة التّدبير لهداية اليهود والسّعي في دعوتهم إلى الحقّ ، ولم يمكن أن يحصل له الانصراف ما دام له رجاء فيهم ، بالغ سبحانه في إقناط رسوله عن إيمانهم وقطع رجائه في اتّباعهم لدين الحقّ ، بقوله : ﴿وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى﴾ بشيء من

__________________

(١) في النسخة : الركعين والسجدين.

(٢) الحج : ٢٢ / ٢٦.

(٣) ونضيف هنا ما أوردة الشيخ ابن شهر آشوب في ( متشابه القرآن ٢ : ٦٤ ) حول هذه المسألة حيث قال في تفسير قوله تعالى : ( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) [ الشعراء : ٢٦ / ٢١٨ و٢١٩ ] الثعلبي والواحدي وابن بطة في كتبهم عن عطاء وعكرمة ، عن ابن عباس : يعنى نذيرك من أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي حتّى أخرجك في هذه الامة ، وما زال يتقلب في أصلاب الأنبياء والصالحين حتّى ولدته امه ، وقد جاء في الخبر : فما زال ينقله من الآباء الأخاير والامهات الطواهر ، وقد من الله عليه بالآباء الطاهرة الساجدة ، ولو عنى شيئا من الأصنام لما منّ عليه ، لأنّ المنّ بالكفر قبيح.

وقوله سبحانه : ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ﴾ [ التوبة : ٩ / ٨٤ ] يدل على أن آمنة بنت وهب كانت مؤمنة ، لأنه روى مسلم في صحيحه في حديث بريدة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى إلى رسم قبر وجلس ، وجلس النّاس معه حوله فجعل يحرك رأسه كالمخاطب ، ثم بكى فقيل : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : هذا قبر آمنة بنت وهب ، وقد استأذنت ربي في زيارة قبر امي فأذن فزوروا القبور تذكركم الموت.

٣٢٠