نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وأنزل الكتاب ولم يجعل له عوجا قيّما ليبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلا كبيرا ، وجعله في ظلمات الأرضين شمسا مضيئة وقمرا منيرا ، وأبلج به عن هدى رسوله ، وأوضح به الحقّ وأرشد البريّة إلى سبيله ، وذكّرهم به تذكيرا ، تحدّى (١) الجاحدين في إتيان سورة من مثله فلم يفعلوا ولن يفعلوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وتجلّى فيه بظهور قدرته ، وبهور حكمته ، وسطوع نور عظمته ، حتى رآه بقلبه من كان بصيرا.

والصلاة والسّلام على من أرسله برحمته وفضله إلى النّاس بشيرا ، وختم به الرسالة ، وبشّر به المرسلون أممهم تبشيرا ، وشرّف الملائكة المقرّبين بأن جعلهم له ظهيرا ونصيرا.

وعلى ابن عمّه ، وكاشف غمّه ، وزوج ابنته ، والمخصوص بأخوّته ، الذي وهبه الله له وصيّا ووزيرا ، وعلى الأئمّة من ذرّيّته الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا.

أمّا بعد : فقد طال ما جال فكري في أن أكتب للكتاب الكريم تفسيرا ، كي يكون ذخري لحين فقري ونجاتي في يوم يكون شرّه مستطيرا ، وإن كان لقصور باعي وقلّة اطّلاعي عليّ عسيرا ، إلّا أنّ شوقي الأكيد هاج روعي ، وكلّفني السّعي فوق ما في وسعي ، فشمّرت للغوص في هذا البحر العميق ، فشرعت فيه سائلا من الله الإعانة والتوفيق.

فاصطفيت من التفاسير ما هو لبابها ، واكتفيت من الوجوه بما هو صوابها ، وبالغت في الجدّ بنقل ما وصل إليّ بطرق الخاصّة والعامّة من الروايات ، واستفرغت الوسع في بيان وجه النظم بين السور والآيات ، وصرفت الهمّ في التعرّض لأسباب النزول الواردة في الآثار ، وبذلت الجهد في الإسفار عن وجوه بعض النكت والأسرار ، وكففت عن التكلّم في أعاريب الكلمات ، وبيان وجوه القراءات التي

__________________

(١) في النسخة : وحدّ.

٢١

كانت مخالفة للقراءة المشهورة ، إلّا الّتي وجدتها عن أهل الذّكر مأثورة ، وسمّيته ب ( نفحات الرّحمن في تفسير القرآن ) .

ثمّ إنّي رأيت أن أهدي للمهتدي البصير ، قبل الشروع في التفسير ، طرائف بارعة ، ولطائف نافعة ، تثبيتا للقلوب ، وتمهيدا للمطلوب ، وتشحيذا للأذهان ، وتنبيها للوسنان ، فهيّأت مع قلّة البضاعة ، وعدم التدرّب في الصناعة ، ببذل الجهد وتحمّل الكلفة ، من المطالب المرتبطة بعلم القرآن أربعين طرفة ، وجعلتها مقدّمة ، وجئت لها بخاتمة (١) ، راجيا من الله أن يجعل ذلك لي ولإخواني المؤمنين نعمة دائمة ، وأن ينعم عليّ بالاعتصام في مزالّ الأقدام.

__________________

(١) في النسخة : خاتمة.

٢٢

الطرفة الأولى

في أنّ الكتاب العزيز

أعظم معجزات خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله

لا ريب في أنّ الكتاب العزيز كان من أعظم معجزات خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث إنّه كانت جهة الإعجاز فيه أظهر من المعجزات الباهرة التي كانت لسائر الأنبياء العظام ، وتأثيره في النفوس أشدّ من تأثيرها ؛ لبداهة أنّ المؤمنين به صلى‌الله‌عليه‌وآله من العرب مع عرافتهم بشدّة العصبيّة واللّجاج ، كانوا في زمانه أكثر من المؤمنين بسائر الأنبياء في زمانهم ، وكان إيمان أتباعه به ، وانقيادهم لأمره - مع كونهم أشدّ الخلق تكبّرا ، وأكثرهم تفاخرا - أقوى وأزيد من إيمان سائر الأمم بأنبيائهم ، وانقيادهم لأوامرهم.

وكان حبّ العرب له ، وشغفهم به - مع كونهم أقسى النّاس قلبا ، وأقلّهم رأفة - أشدّ وأكثر من حبّ بني إسرائيل لموسى بن عمران عليه‌السلام مع كونه صاحب تسع آيات بيّنات ، ومن حبّ الحواريّين لعيسى بن مريم عليه‌السلام مع كونه محيي الأموات ، ومبرئ الأكمه والأبرص.

حيث إنّ المؤمنين بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يتسابقون إلى بذل المهج ، والغور في اللّجج ، ويتسارعون إلى معانقة السيوف ، وشرب الحتوف ، تحّفظا لسلامته ، وترويجا لشريعته ، وبنو إسرائيل كانوا أحفظ لأنفسهم من نفس موسى عليه‌السلام حيث إنّه لمّا قال لهم ﴿يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ(١)﴿قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ(٢) و﴿إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ(٣).

ولم ينقل عن (٤) حواريّي عيسى عليه‌السلام فزع شديد حين رأوه على الصليب ، ونقل أنّه لمّا مات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله عزيزا في فراشه غشي على بعض المؤمنين من شدّة الحزن ، وجنّ آخر ، وصار يوم موته مثلا في شدّة البكاء والحزن ، ولم يكن جميع ذلك إلّا لكون إعجاز كتابه الكريم أشدّ تأثيرا في

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٢١.

(٢) المائدة : ٥ / ٢٢.

(٣) المائدة : ٥ / ٢٤.

(٤) في النسخة : من.

٢٣

نفوسهم من آيات نبوّة موسى وعيسى عليهما‌السلام في نفوس أتباعهما.

مع أنّ القرآن العظيم أوجد في نفوس العرب آثارا لم توجدها (١) معجزات سائر الأنبياء ، حيث إنّه أخرجهم بسماعه من ظلمات الجهالة وغمرات الضلالة ، بعد تماديهم فيها وتمرّنهم عليها ، إلى نور الهداية وأوج الحكمة ، وصيّرهم بعد أمّيّتهم علماء حكماء ، بل كادوا أن يكونوا من الحكمة والمعرفة أنبياء ، وبلغوا من العلم إلى أن صاروا بعد وحشيّتهم أساتيذ الأمم ، وسادة العجم.

انظر إلى حواريّي عيسى مع كونهم أكمل من آمن به ، وأعلم بما جاء به ، قالوا : ﴿يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ(٢) وأطفال أمّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه كانوا يقولون : إنّ الله على كلّ شيء قدير ، ولا يعجز الله شيء في الأرض ولا في السّماء.

والحاصل أنّ العاقل المتأمّل في آيات (٣) القرآن المجيد ، لا يرتاب في أنّها كلام الله ، وأنّها أعظم المعجزات ، وقد أفرد جمع كثير من علماء الاسلام إعجاز القرآن بالتصنيف ، ومع ذلك حاروا في كشف حجب البيان عن وجوه إعجازه بعد أن ثبتت عندهم بالوجدان والبرهان.

فالمنصف يرى القرآن في الهداية والبيان كالروح في الجسد ، يعرف بمظاهره وآثاره ، ويعجز العارفون عن بيان حقيقته وكنهه. فإنّ قريشا (٤) كانت أفصح العرب لسانا ، وأعذبهم بيانا ، وأخلصهم لغة ، وأرفعهم عن الرداءة لهجة ، ومع ذلك كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يحتجّ عليهم بالقرآن صباحا ومساء ، ويحثّهم على أن يعارضوه بسورة واحدة أو بآيات يسيرة ، فكلّما ازداد تحدّيا لهم بها وتقريعا عليهم ، كشف عجزهم عن نقصهم ما كان مستورا (٥) ، وظهر منهم ما كان خفيا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجّة ، قالوا : أنت تعرف أخبار الأمم ، ولذا تقدر على ما نعجز عنه ، فقال : جيئوا بها مفتريات ، ولذا لم يأت بمثله أريب عن معارضة ، ولم يبرم ذلك خطيب ، ولا طمع فيه شاعر ، ولا تكلّفه طبع فصيح ماهر ، ولو تكلّفه لظهر ذلك ، فدلّ ذلك على عجز القوم عن معارضته مع كثرة كلامهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أتباعه.

ومن الواضح أنّهم لو جاءوا بسورة واحدة أو آيات يسيرة بدل الهجاء ومعارضة الشعراء ، لكان

__________________

(١) في النسخة : يوجدها.

(٢) المائدة : ٥ / ١١٢.

(٣) في النسخة : الآيات.

(٤) في النسخة : القريش.

(٥) كذا ، ولا تخلو العبارة من اضطراب. ولعلّها : كشف عجزهم ما كان مستورا من نقصهم.

٢٤

أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأضرّ عليه وعلى أصحابه ، مع أنّ الكلام سيّد عملهم وقد احتاجوا إليه ، والحاجة تبعث على الفكر والجدّ في الأمر الغامض المشكل ، فكيف بالسّهل الجليل المنفعة والعظيم الفائدة !

روي عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقرأ عليه القرآن ، فكأنّه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه ، فقال : يا عمّ ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه لأن لا تأتي (١) محمّدا ، ولتعرض لما قاله (٢) . قال : قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالا. قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنّك كاره له. قال : وما ذا أقول ؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي ، ولا برجزه ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، وو الله إنّ لقوله الذي يقوله حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة (٣) ، وإنّه لمثمر أعلاه ، معذق (٤) أسفله ، وإنّه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنّه ليحطم ما تحته.

قال : لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه. قال : فدعني حتّى أفكّر. فلمّا فكّر قال : هذا (٥) سحر يؤثر ، يأثره عن غيره (٦) .

روي أنّ قوله عزوجل فى أوّل حم السجدة إلى قوله : ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(٧) نزل في شيبة وعتبة ابني ربيعة ، وأبي سفيان بن حرب ، وأبي جهل ، وذكر أنّهم بعثواهم وغيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكلّمه ، وكان حسن الحديث ، عجيب الشأن ، بليغ الكلام ، وأرادوا أن يأتيهم بما عنده. فقرأ النبيّ صلوات الله وسلامه عليه سورة حم السجدة من أوّلها حتّى انتهى إلى قوله : ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ(٨) فوثب مخافة العذاب ، فاستحكوه ما سمع ، فذكر أنّه لم يسمع منه كلمة واحدة ، ولا اهتدى لجوابه (٩) . ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرّدّ.

قال عثمان بن مظعون : والله ، لعلموا أنّه من عند الله إذ لم يهتدوا لجوابه (١٠) .

وروي أنّ جبير بن مطعم ورد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حليف له أراد أن يفاديه ، فدخل والنبيّ صلوات

__________________

(١) في الاتقان وحياة الصحابة : فانك أتيت.

(٢) في الاتقان وحياة الصحابة : لما قبله.

(٣) الطّلاوة : الحسن والرّونق.

(٤) في الاتقان وحياة الصحابة : مغدق.

(٥) في حياة الصحابة : إن هذا إلّا.

(٦) الاتقان في علوم القرآن ٤ : ٥ ، حياة الصحابة ١ : ٦٣.

(٧) فصلت : ٤١ / ٤.

(٨) فصلت : ٤١ / ١٣.

(٩) الدر المنثور ٧ : ٣٠٩.

(١٠) في النسخة : بجوابه ، وكذا في المورد المتقدّم.

٢٥

الله عليه يقرأ سورة ﴿وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ(١) في صلاة الفجر ، قال : فلمّا انتهى إلى قوله : ﴿إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ(٢) قال : خشيت أن يدركني العذاب فأسلمت (٣) .

وروي أنّ ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر من الدّهريّة (٤) اتّفقوا على أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن ، وكانوا بمكّة ، وعاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل ، فلمّا حال الحول ، واجتمعوا في مقام ابراهيم عليه‌السلام قال أحدهم : إنّي لمّا رأيت قوله : ﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ(٥) كففت عن المعارضة.

وقال الآخر : وكذلك أنا ، لمّا وجدت قوله : ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا(٦) أيست عن المعارضة. وكانوا يسرّون بذلك ، إذ مرّ عليهم الصادق صلوات الله عليه فالتفت [ إليهم ] وقرأ عليهم : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ(٧) فبهتوا (٨) . وأمثال هذه الروايات كثيرة جدّا.

وممّا يشهد على أنّ القرآن العظيم فوق طوق البشر ، أنّ من قايس بين آياته وكلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطبه البليغة ، وجد التفاوت بينهما تفاوت الخالق والمخلوق ، والواجب والممكن ، مع أنّه صلوات الله عليه كان أفصح من نطق بالضّاد ، ولم يسمع بكلام أحسن أسلوبا ، وألطف لفظا ، وأعدل وزنا ، وأجمل مذهبا ، وأحسن موقعا ، وأسهل مخرجا ، وأفصح بيانا ، وأبين فحوى ، وأكرم مطلعا من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والحاصل : أنّ الكتاب العزيز في لسان العربيّة بلغ مبلغا من الفصاحة والبلاغة وحسن النظم والاسلوب لا يمكن للبشر أن يدانيه بالفطرة والعقل والاكتساب. وقد صدق الصادق صلوات الله عليه حيث قال : « لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ، ولكنّهم لا يبصرون » (٩) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف القرآن قال : « ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه » (١٠) .

__________________

(١) الطور : ٥٢ / ١ و٢.

(٢) الطور : ٥٢ / ٧ و٨.

(٣) الكشاف ٤ : ٤٠٩.

(٤) رجل دهري : ملحد لا يؤمن بالآخرة ، يقول ببقاء الدهر. المعجم الوسيط ٢ : ٢٩٩.

(٥) هود : ١١ / ٤٤.

(٦) يوسف : ١٢ / ٨٠.

(٧) الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٨) الخرائج والجرائح ٢ : ٧١٠ / ٥.

(٩) أسرار الصلاه / للشهيد الثاني : ١٤٠.

(١٠) تفسير العياشي ١ : ٧٤ / ١ ، الكافي ٢ : ٤٣٨ / ٢.

٢٦

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « لا تنقضي عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء ، هو الذي لم تلبث (١) الجنّ إذ سمعته أن قالت : ﴿إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ(٢) .

وسيأتي - إن شاء الله - عند تفسير قوله عزوجل : ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا(٣) مزيد بيان لذلك والتعرّض لوجوه إعجازه بمقدار فهمي القاصر.

الطرفة الثانية

في تعريف المعجزة

وأنّ القرآن العظيم معجزة عقلية

المعجزة : هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدّي السالم عن المعارضة من مدّعي النبوّة عند احتمال صدقه في الدعوى ، وهي قسمان : حسّيّة ؛ كصيرورة العصا ثعبانا ، وإحياء الموتى ، وإطعام الجمع الكثير بالطعام اليسير. وعقليّة : كإعجاز القرآن المجيد.

قيل : كانت معجزات أنبياء بني إسرائيل أكثرها حسّيّة ، لبلادة أممهم ، وقلّة ذكائهم ، بخلاف معجزات نبيّنا صلوات الله عليه وآله فإنّ عمدتها عقليّة لفرط ذكاء أمّته ، وكمال فهمهم ، ولأنّ هذه الشريعة ونبوّة هذا النبيّ باقية دائمة مدى الدهر ، وأحكامه مستمرّة إلى يوم القيامة ، فخصّ نبيّنا بأن أعظم معجزاته عقليّة باقية ليراها ذوو (٤) البصائر قرنا بعد قرن ، كالشمس تجري ما استقرّت الأرضون ودارت السماوات.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي ما بمثله آمن (٥) البشر ، وإنّما كان الذي أوتيته (٦) وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا » (٧) .

قال بعض العلماء : إنّ معناه أنّ معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ، فلم يشاهدها إلّا من حضرها ، ومعجزة القرآن مستمرّة إلى يوم القيامة. وخرقه العادة في فصاحته وبلاغته ونظمه واسلوبه وإخباره بالمغبيّات باق إلى آخر الدهر ، فلا يمرّ عصر من الأعصار إلّا ويظهر فيه شيء ممّا أخبر به أنّه

__________________

(١) في تفسير العياشي : لم تكنّه.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٧٥ / ٢ ، والآيتان من سورة الجن : ٧٢ / ١ و٢.

(٣) البقرة : ٢ / ٢٤.

(٤) في النسخة : ذو.

(٥) في صحيح البخاري : ما مثله آمن عليه.

(٦) في صحيح البخاري : أوتيت.

(٧) صحيح البخاري ٦ : ٣١٣ / ٣ ، وزاد فيه : يوم القيامة.

٢٧

سيكون (١) ، وكلّ من سمعه في القرون المتطاولة ، وكان عارفا بكلام العرب واسلوب بيانهم ، تتمّ عليه الحجّة بسماعه ، كما قال الله عزوجل : ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ(٢) وقال تعالى : ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ(٣) فإنّ الآيتين دالّتان على أنّ الحجّة بتلاوة الكتاب العزيز وسماع كلام الله تتمّ على كلّ أحد من العارفين بكلام العرب ومحاوراتهم.

روي أنّ رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس (٤) إلّا غضاضة (٥) ؟ فقال عليه‌السلام : « لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله (٦) لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو فى كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة » (٧) .

وفي خطبة طويلة لأمير المؤمنين صلوات الله عليه : « ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقّده ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضلّ ناهجه (٨) ، وشعاعا لا يظلم ضوءه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وبنيانا لا تهدم أركانه » (٩) .

وفي رواية عن الرضا عليه‌السلام : « لا يخلق على الأزمنة ، ولا يغثّ (١٠) على الألسنة ، لأنّه لم يجعل لزمان دون زمان ، بل جعل دليل البرهان ، وحجّة على كلّ إنسان ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(١١) .

وفي خطبة فاطمة عليها‌السلام في أمر فدك : « لله فيكم عهد قدّمه إليكم ، وبقيّة استخلفها عليكم : كتاب الله ، بيّنة بصائره ، وآي منكشفة سرائره (١٢) ، وبرهان متجلّية ظواهره ، مديم للبريّة استماعه ، وقائد إلى الرضوان أتباعه ، ومؤدّ إلى النّجاة أشياعه ، فيه تبيان حجج الله المنيرة ، ومحارمه المحرّمة ، وفضائلة المدوّنة ، وجمله الكافية ، ورخصته الموهوبة ، وشرائطه المكتوبة ، وبيّناته الجاليه » (١٣) . إلى غير ذلك من الروايات.

__________________

(١) فتح الباري ٩ : ٥.

(٢) العنكبوت : ٢٩ / ٥١.

(٣) التوبة : ٩ / ٦.

(٤) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : عند النشر والدراسة.

(٥) الغضّ : الطريّ ، والغضاضة : الطّراوة والنّضارة.

(٦) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : لم ينزله.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٨٧ / ٣٢ ، أمالي الطوسي : ٥٨٠ / ١٢٠٣.

(٨) في النهج : نهجه.

(٩) نهج البلاغة : ٣١٤ الخطبة ١٩٨.

(١٠) خلق الثوب : بلي ، وغثّ حديث القوم : ردؤ وفسد.

(١١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٠ / ٩ ، والآية من سورة فصلت : ٤١ / ٤٢.

(١٢) في النسخة : سرائرها.

(١٣) بلاغات النساء : ٢٥ ، دلائل الإمامة : ١١٣ ، الاحتجاج : ٩٩.

٢٨

هذا في حقّ العارف بلسان العرب ، وأمّا غير العارف فتتمّ عليه الحجّة بتصديق أهل اللّسان إعجازه ، كما تمّت الحجّة على بني إسرائيل الجاهلين بعلم السحرة بتصديق السحرة إعجاز العصا ، وعلى الجاهلين بعلم الطبّ بتصديق الأطبّاء إعجاز إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.

الطرفة الثالثة

في أنّ الكتاب العزيز مع قطع النظر

عن وجوه إعجازه دليل صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

لا شبهة أنّ الكتاب العزيز مع غضّ النظر عن وجوه إعجازه ، يكون من أقوى دلائل صدق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لوجوه ، منها :

[١] - أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلن في النّاس بصريح كتابه الكريم بأنّ موسى بن عمران عليه‌السلام بشّر أمّته بظهوره صلوات الله عليه وبعثته ، وأخبر بعلائمه ونعوته ، وأنّ عيسى بن مريم عليه‌السلام بشّر مع ذلك باسمه السامي ، حيث قال في كتابه العزيز : ﴿وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ(١) .

فلو لم يكن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله صادقا في دعواه ، وعلى حجّة فيما ادّعاه ، ما كانت اليهود والنصارى مع كثرة عددهم ورهبانهم ، وشدّة عداوتهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله ولجاجهم في ملّتهم ، ساكتين عن معارضته مع تمكّنهم من إدحاض حجّته ، وقدرتهم على إبطال دعوته ، ولبادروا إلى تكذيبه ، ولتسارعوا إلى تفضيحه وتنكيبه بأن كانت الأحبار والرهبان لحفظ رياستهم وملّتهم حرّموا على أنفسهم الرّقاد ، وتنادوا بأعلى أصواتهم في البلاد ، وأحضروا الناس في الميعاد ، وأتوا بكتبهم في محضر الحاضر والبادي ، وفتحوها على رؤوس الأشهاد ، وألزموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن يريهم منها آية فيها اسمه أو نعته ، ويخرج منها عبارة فيها علامته وصفته فيظهر عند ذلك بعجزه ، إفحامه وبهته ، فلم يمكن أن يخضرّ له بعد ذلك عود ، ولم يقم له عمود ، فلمّا لم يظهر تظاهرهم في ردّه - ولو كان لبان - علمنا بثبوت نعوته في كتبهم ، وتيقّنّا بصدقه في إخباره.

إن قيل : قد نطق الكتاب العزيز في عدّة مواضع ، بأنّ اليهود والنصارى حرّفوا الكتابين ، وغيّروا

__________________

(١) الصف : ٦١ / ٦.

٢٩

الآيات المبشّرات ببعثته ، الدالات على نعوته ، واتّفق المسلمون عليه ، ولازم ذلك أنّه لم يكن في ذلك الوقت في الكتابين آية دالّة على نعته ، ولم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قادرا على إثبات بشارة موسى وعيسى عليهما‌السلام بمجيئه ورسالته ، ولذلك لم يؤمن أكثر أهل الكتابين بنبوّته ، ولو كان في الكتابين ذكر علائمه المنطبقة عليه ، لم يبق لهم عذر في عدم الايمان والتسليم.

قلنا : نعم ، ولكنّه لم يقع التحريف في جميع النسخ الموجودة في ذلك العصر من الكتابين ، وإنّما وقع في عدّة كتب كانوا يظهرونها لعوامّهم ، ويتلونها عليهم إضلالا لهم ، وحفظا لرياستهم في السرّ والخفاء ، ولم يقدروا على التجاهر بالمعارضة لكون النسخ غير المحّرفة كثيرة الوجود ، وكانت عدّة من المسلمين من علماء الفريقين مطّلعين على الآيات غير المحرّفة ، قادرين على إفحام المعارضين الجاحدين ، فلم يجسر أحد على التظاهر بالتكذيب والإنكار ، بل سلك المتمرّدون مع النبيّ والمسلمين سبيل النفاق.

[٢] - ومنها : أنّ العادة قاضية بأنّ كلّ من يريد أن يثبت لنفسه بين الناس مرتبة من الكمال التي ليست له ، ويدّعي كونه في مرتبة الواجدين أو فوقهم ، وكان لتلك المرتبة من الكمال آثار في الأنظار ، لا بدّ لذلك المدّعي الكاذب من السّعي في إلقاء الشّبهات في ملازمة تلك الآثار لتلك المرتبة من الكمال ، وإزالة اعتقاد الناس بها ، ومن المبالغة في تنقيص من عرف بهذه المرتبة وتكذيبه في دعوى وجدانه الآثار ، وتكذيب نقلها عنه ، ومن الجدّ في الإرزاء به حتّى تحصل له رفعة القدر وسماع الدعوى.

مثلا إذا ادّعى مدّع كاذب لنفسه مرتبة النبوّة ، وكانت في اعتقاد الناس ملازمة لإتيان المعجزة وعمل خارق للعادة ، وكان المدّعي عاجزا عن ذلك ، فلا بدّ له من إنكار ملازمة النبوّة للاعجاز ، ومن السّعي في إلقاء الشبهات في أذهان المعتقدين بصدور الإعجاز وخوارق العادات من الأنبياء عليهم‌السلام ، ومن حطّ رتبتهم وقدرهم ، ومن سلب العصمة عنهم حتّى يمكنه دعوى التساوي معهم أو التعالي عليهم.

كما ترى ذلك من الفرقة الضالّة البابيّة (١) ، حيث إنّهم على ما نقل عنهم أنكروا جميع المعجزات

__________________

(١) البابيّة : فرقة أسسها علي محمد ، الملقب بالباب ، المولود بشيراز سنة ١٢٣٥ ه‍ والمقتول سنة ١٢٦٦ ه‍ في تبريز بإيران ، وادّعى أنه الباب الذي لا يجوز الدخول إلّا منه ، وقال بنسخ فرائض الإسلام ، وإنه أفضل من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن أقرانه أفضل من الصحابة ، وإن البشر يعجز عن الإتيان بقرآنه ، وسمّى كتابه ( البيان ) وكان يقول إنه المهدي. معجم الفرق الإسلامية : ٤٨.

٣٠

ونسبوها إلى الكذب وقالوا : إنّه لا برهان على صدق دعوى مدّعي النبوّة إلّا نفوذ قوله وتأثيره في النفوس وقبول الناس.

وكما نرى من أهل السنّة من القول بعدم لزوم عصمة الإمام ، حتّى يتمشّى من الفرقة الأولى دعوى النبوّة أو مرتبة فوقها ، ومن الفرقة الثانية دعوى إمامة أئمّتهم مع اتّفاق المسلمين على أنّهم كانوا مشركين في المدّة المديدة من عمرهم.

ولمّا رأينا أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغ في كتابه العزيز في تعظيم سائر الأنبياء أكثر من تعظيم أممهم لهم ، وأثبت لهم من المعجزات وخوارق العادات أزيد ممّا اعتقد بها المؤمنون بهم ، كتكلّم عيسى عليه‌السلام في (١) المهد ، وعروجه حيّا إلى السّماء ، وإلقاء شبهه على غيره ، ثم ادّعى لنفسه النبوّة ، بل ادّعى أنّه أفضل وأعظم شأنا من الأنبياء الذين هم ذوو المعاجز الباهرة ، ثم علمنا أنّه آمن به كثير من العقلاء وجمع من امم سائر الأنبياء كاليهود والنّصارى وغيرهم من مشركي العرب مع نهاية افتتانهم بآلهتهم وكمال ثباتهم في ملّتهم ، علمنا أنّ هذا المدّعي للنبوّة كان قادرا على ما كان سائر الأنبياء قادرين عليه من المعجزات ، وأتى بخارق عادة دالّ على صدقه كما أتى غيره من الأنبياء ، وكان له من العلم ما كان لهم ، ومن الأخلاق والأعمال ما يشبه أخلاقهم وأعمالهم ، وإلّا لم يكد يمكن أن ينتظم آخره ، ويبهر نوره ، ويزداد على الشمس ظهوره.

إن قيل : إنّ كتابه ناطق أنّه لم يكن له معجزة من معاجز موسى بن عمران عليه‌السلام حيث قال سبحانه : ﴿فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى(٢) بل فيه آيات دالّة على أنّه لم يكن له معجزة أصلا كقوله تعالى : ﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ(٣) ثمّ لم يجبهم الرسول بأنّي قد جئتكم بما جاء به موسى أو : آتيكم بعد به ، أو : أتيتكم بمثل ما أتى به سائر الأنبياء والرّسل ، بل أجابهم بقوله : ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ(٤) أو قوله : ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ أو قوله : ﴿إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(٥) وأمثال ذلك.

قلنا : إنّه يكفي في إثبات النبوّة إتيان أمر خارق للعادة بحيث يكون إيجاد الله له بيد ذلك النبيّ تصديقا منه تعالى لدعواه ، وإن لم يكن من أنواع إعجاز سائر الأنبياء ، كما أنّه كان لكل واحد من أنبياء

__________________

(١) في النسخة : على.

(٢) القصص : ٢٨ / ٤٨.

(٣) يونس : ١٠ / ٢٠.

(٤) القصص : ٢٨ / ٤٨.

(٥) العنكبوت : ٢٩ / ٥٠.

٣١

بني إسرائيل نوع خاصّ من الإعجاز ، أو أنواع مخصوصة ، ولم يكونوا متوافقين على نوع واحد أو أنواع خاصّة ، فإنّ موسى عليه‌السلام كان له معجزة العصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، وسائر الآيات التسع ، لاقتضاء زمانه لها وعدم اقتضائه لغيرها ، ولم يظهر من عيسى عليه‌السلام هذه الأنواع من المعجزات ، بل ظهر منه ما ناسب زمانه من إحياء الأموات وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك.

فلازم النبوّة إتيان جنس المعجزة كي يكون دليلا على صدق الدعوى ، فإذا أتى مدّعي النبوّة بمعجزة دالّة على صدق دعواه ، وجب الإيمان به ، والتصديق بنبوّته ، واتّباع أحكامه ، ولو لم يكن من الأنواع التي كانت لغيره.

نعم إذا توقّف هداية شخص على الإتيان بمسؤوله ، وكان سؤاله عن إرادة الاهتداء لا عن التعنّت واللّجاج ، كان على النبيّ إجابة مسؤوله وإزالة شبهته ، وأمّا إذا كان السؤال عن تعنّت ولجاج بعد وضوح الحقّ ، فلم يحسن إجابة السائل المتعنّت ، بل يجب جوابه بما يدلّ على تعنّته ، كما أجابهم الله بقوله : ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ(١) .

والغرض من التقرير السابق ، هو علمنا من الأمارة القاطعة بأنّه كان له عليه‌السلام معجزة ظاهرة دالّة على صدقه إجمالا ، ولو لم يكن من أنواع معجزات سائر الأنبياء عليهم‌السلام بل كان أقلّ ، كتحرّك الشجر من مكانه بأمره ، أو تسبيح الحصاة في يده ، أو أعظم كانشقاق القمر ، وإحياء الرّمم ، فبعد ثبوت إتيانه بما كان مشتركا مع معجزات سائر الأنبياء في جنس الإعجاز ، وإن كان مغايرا لها بالنوع ، يظهر صدقه ويجب اتّباعه.

ولا ينافي هذه الآيات ما ادّعيناه حيث إنّ الظاهر أنّ الكفّار سألوا إتيان الأنواع المعهودة من سائر الأنبياء كموسى وعيسى ، لا أنّهم سألوا صدور جنس المعجزة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بل الكتاب العزيز دالّ بالصراحة على أنّه كان له معجزة وآية حيث قال : ﴿وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ(٢) وقال في تقريع معارضته : ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(٣) وأمثال ذلك.

ولمّا كان سؤالهم تعنّتا لم يحسن إجابة مسؤولهم ، ولذا لم يجبهم إلّا بالتقريع والتبكيت كقوله : ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ(٤) ، وقوله : ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ(٥) ، وقوله : ﴿إِنَّ اللهَ

__________________

(١) القصص : ٢٨ / ٤٨.

(٢) الأنعام : ٦ / ١٢٤.

(٣) القمر : ٥٤ / ٢.

(٤) القصص : ٢٨ / ٤٨.

(٥) الأنعام : ٦ / ١٢٤.

٣٢

قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(١) ، وقوله : ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(٢) إلى غير ذلك.

[٣] - ومنها : أنّ العاقل المنصف ، البصير ببيانات الأنبياء والمرسلين ، وكلمات الأولياء المقرّبين ، والحجج المعصومين ، إذا تأمّل في الكتاب العزيز ومطالبه ، وتدبّر في مضامينه وجوانبه ، علم أنّ هذه المطالب المهمّة الشافية ، بهذه البيانات اللطيفة العالية الوافية ، لا يمكن أن تصدر إلّا من لسان النبوّة ، وأنّ هذه الدرر الثمينة لا تخرج إلّا من معدن الرسالة ، وهذه الأنوار الباهرة لا تشرق إلّا من عالم الربوبيّة ، حيث إنّه ليس فيه إلّا بيان التوحيد بأنواعه ، من الذاتيّ والصفاتيّ والأفعاليّ ، وبيان الصفات الجلاليّة السلبيّة ، والجمالية الثبوتيّة ، والحثّ على القيام بالعبودية ، والدعوة إلى المحسّنات العقليّة كالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى وابن السبيل ، وصلة الرّحم ، والوفاء بالعقود والعهود وغير ذلك ، والزجر من المنكر والفحشاء والبغي ، وبيان أحكام العبادات والمعاملات ، وقوانين السياسات ، والترغيب إلى تهذيب الأخلاق ، والزهد في الدنيا ، والتوجّه إلى الآخرة ، وبيان العبر والمواعظ ، وذكر حكم بعض الأحكام ، وقصص الأنبياء السالفة ، وعظمة شأنهم وتفصيل معاجزهم وكيفية دعوتهم وشرح معاملة أممهم معهم ، واستئصال من خالفهم بالعذاب ، وبيان المعاد ، وإقامة الأدلّة عليه وكيفيّة الحشر والصراط والميزان والحساب ، والتّلطّف والعتاب ، وبيان الجنّة وكيفية نعمها ، وبيان النّار وتفصيل شدائدها.

وقال بعض : إنّ القرآن العظيم قد اشتمل على كلّ شيء ، أمّا أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل إلّا وفي القرآن ما يدلّ عليها ، ولا يعلمها إلّا الراسخون ، وفيه الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، ووصف الجنّة والنّار ، وتعليم الإقرار بالله وبصفاته وأفعاله ، وتعليم الاعتراف بإنعامه ، والشكر عليها ، والاحتجاج على المخالفين ، والرّدّ على الملحدين ، وبيان الرّغبة والرّهبة ، والخير والشّر ، والحسن والقبيح ، ونعت الحكمة ، وفضل المعرفة ، ومدح الأبرار وذمّ الفجّار ، والتسليم والتحسين ، والتوكيد والتقريع ، وبيان الأخلاق الذميمة ، وشرف الآداب.

وفيه عجائب المخلوقات ، وملكوت السماوات والأرض ، وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى ، وبدء الخلق ، وأسماء مشاهير الأنبياء والرسل والملائكة ، وعيون أخبار الأمم السالفة ، وقصّة آدم مع

__________________

(١) الأنعام : ٦ / ٣٧.

(٢) العنكبوت : ٢٩ / ٥٠.

٣٣

إبليس في إخراجه من الجنّة ، ورفع إدريس إلى السماء ، وإغراق قوم نوح ، وقصّة عاد الاولى والثانية ، وثمود والناقة ، وقوم يونس ، وقوم شعيب ، وقوم لوط ، وقوم تبّع ، وأصحاب الرّسّ ، وقصّة إبراهيم في مجادلة قومه ومناظرته نمرود ، وقصّة ابنه إسماعيل مع أمّه بمكّة ، وبنائه البيت ، وقصّة الذبح ، وقصّة يوسف بطولها ، وقصّة موسى في ولادته وإلقائه في اليمّ ، وقتل القبطي ، ومسيره إلى مدين وتزوّجه بنت شعيب ، وكلامه تبارك وتعالى معه بجانب الطور ، ومجيئه إلى فرعون ، وخروجه مع بني إسرائيل من مصر ، وإغراق عدوّه فرعون وجنوده ، وقصّة العجل ، والقوم الذين خرج بهم إلى الطور وأخذتهم (١) الصاعقة ، وقصّة القتيل من بني إسرائيل ، وذبح البقرة ، وقصّته مع الخضر (٢) ، وقصّته في قتال الجبّارين ، وقصّة القوم الذين ساروا في سرب (٣) من الأرض إلى الصّين ، وقصّة طالوت وداود مع جالوت ، وقصّة سليمان وفتنته وخبره مع ملكة سبأ ، وإتيان عرشها (٤) .

وقصّة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم الله ثمّ أحياهم ، وقصّة ذي القرنين ومسيره إلى مغرب الشمس ومطلعها ، وبنائه السّدّ ، وقصّة أيّوب ، وذي الكفل ، وإلياس ، وقصّة أصحاب الرّقيم ، وقصّة بخت نصّر (٥) ، وقصّة الرّجلين اللذين لأحدهما الجنّة ، وقصّة أصحاب الجنّة ، وقصّة مؤمن آل ياسين ، وقصّة أصحاب الفيل.

وفيه من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوة إبراهيم به ، وبشارة عيسى بمجيئه ، وبعثته ، وهجرته ، ومن غزواته سريّة ابن الحضرميّ في سورة البقرة ، وغزوة بدر في سورة الأنفال ، وغزوة أحد في سورة آل عمران ، وقصّة بدر الصغرى فيها ، وغزوة الخندق في سورة الأحزاب ، وقصّة الحديبية في سورة الفتح ، وقصّة بني النّضير في سورة الحشر ، وغزوة حنين وتبوك في سورة البراءة ، وحجّة الوداع في سورة المائدة ، ونكاحه زينب بنت جحش في سورة الأحزاب ، وتحريم سرّيّته وتظاهر أزواجه عليه ، وقصّة الإفك ، وقصّة الإسراء ، وانشقاق القمر ، وسحر اليهود إيّاه.

وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته ، وكيفية الموت وقبض الروح وما يفعل بها بعده ، وصعودها إلى السّماء ، وفتح باب السماء للروح المؤمنة ، وإلقاء الكافرة في النّار ، وعذاب القبر والسّؤال فيه ، ومقرّ الأرواح ، وأشراط الساعة الكبرى ؛ وهي نزول عيسى ، وخروج الدّجّال ، ويأجوج ومأجوج ، ودابّة

__________________

(١) في النسخة : وأخذهم.

(٢) في النسخة : خضر.

(٣) السّرب : الحفير تحت الأرض.

(٤) في النسخة : عرشه.

(٥) في النسخة : بخت النصر.

٣٤

الأرض ، والدّخان ، ورفع القرآن ، والخسف ، وطلوع الشمس من مغربها ، وغلق باب التوبة ، وأحوال البعث من النّفخات الثلاث : نفخة الفزع ، ونفخة الصّعق ، ونفخة القيام ، والحشر والنشر وأهوال الموقف ، وشدّة حرّ الشّمس ، وظلّ العرش ، والميزان ، والحوض ، والصراط ، والحساب لقوم ونجاة آخرين منه ، وشهادة الأعضاء ، وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهر ، والشفاعة والمقام المحمود ، والجنّة وأبوابها ، وما فيها من الأنهار والأشجار والأثمار والحليّ والأواني والقصور والحور والدّرجات ومقام الرضوان ، والتجلّيات الإلهيّة ، والنار وأبوابها وما فيها من الأودية والسلاسل والأغلال وأنواع العقارب وألوان العذاب والزقّوم والضريع والحميم.

وفيه جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث (١) ، وجملة أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه شعب الإيمان ، ومقامات المتّقين ، وشرائع الاسلام ، وأنواع الكبائر ، وكثير من الصغائر ، وغير ذلك من العلوم.

وقد أفرد جمع من العلماء كتبا فيما تضمّنه القرآن. والظاهر أنّ جميع ما تضمّنه ظاهر الكتاب تحت ثلاثة عناوين :

التوحيد : ويدخل فيه معرفة الله بصفاته وأفعاله ، ومعرفة أنبيائه ومخلوقاته.

والتذكير : وفيه قصص الأمم الماضية ، والمعاد ، والوعد ، والوعيد ، والجنّة ، والنار.

والأحكام : من العمليّات والأخلاقيّات.

قيل : ولذلك ورد أنّ الفاتحة أمّ القرآن لأنّ فيها الأقسام الثلاثة ، وسورة الإخلاص ثلثه لأنّ فيها التّوحيد كلّه ، فهل يأتي بمثل هذا الكتاب غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وهل يكون الغرض من بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا تكميل النفوس بمعرفة المبدأ والمعاد والحكمة النظريّة والحكمة العمليّة من العبادات والمعاملات والسياسات والأخلاق وتربية النفوس بالقيام بها ؟ وهل يقاس القرآن بسائر الكتب السماويّة التي ليس فيها عشر ما في القرآن من العلوم والحكم ؟ فإن كان سائر الكتب السماويّة من عند الله ومنتسبا إلى الله ، فهذا الكتاب الكريم أحقّ وأولى بالانتساب منها ، فإنّ جميع ما ذكرنا فهو ظاهره ، وأما باطنه فبحر لا ينزف ﴿وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ(٢) .

__________________

(١) راجع التوحيد للصدوق : ١٩٤ / ٨.

(٢) لقمان : ٣١ / ٢٧.

٣٥

نقل أنّه قيل لموسى بن عمران : يا موسى ، إنّما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن ، كلّما مخضته أخرجت زبدته.

الطرفة الرابعة

في بيان سرّ نزول القرآن جملة

إلى البيت المعمور في ليلة القدر

قد اتّفقت الأمّة من الخاصّة والعامّة ، وتظافرت بل تواترت نصوصهم على أنّ الكتاب العزيز نزل أوّلا في ليلة القدر مجموعا من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور الذي يكون في السماء الرابعة ، أو إلى بيت العزّة في سماء الدنيا إلى السّفرة الكرام البررة ، ثمّ نزل به جبرئيل نجوما على خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله في مدّة عشرين ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين سنة على حسب اختلاف العلماء في مدّة إقامته صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة بعد بعثته وقبل هجرته.

وقيل في سرّ إنزاله جملة أوّلا إلى سماء الدنيا أو إلى البيت المعمور : إنّه تفخيم أمر القرآن وأمر النبيّ الذي أنزل إليه ، وذلك لأنّ فيه إعلام سكّان السماوات السبع بأنّ هذا الكتاب آخر الكتب ، منزل على آخر الرسل وخاتمهم لأشرف الأمم ، قد قرّبناه إليهم لننزله عليهم ، ولو لا أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لنزّلناه إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله ، ولكنّ الله باين بينه وبينها ، فجعل لهذا النبيّ الكريم الأمرين : إنزاله جملة ، ثم إنزاله مفرّقا ، تشريفا للمنزل عليه.

وقيل : إنّ السّرّ هو تسليمه تبارك وتعالى لهذه الأمّة ما كان أبرز لهم من الحظّ من الرّحمة التي استحقّوها لأجل مبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أنّ بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت رحمة ، فلمّا خرجت الرحمة وفتح بابها جاءت بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالقرآن معا ، فوضع القرآن ببيت العزّة في السّماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا ، ووضعت النبوّة في قلب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجاء جبرئيل عليه‌السلام بالرسالة ثمّ بالوحي ، كأنّه تعالى أراد أن يسلّم إلى الامّة الرحمة التي كانت حظّها من الله.

وقيل : إنّ السّرّ في نزوله جملة إلى سماء الدنيا ، تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة ، وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم ، ولهذا المعنى أمر الله سبعين ألف ملك أن يشيّعوا سورة

٣٦

الأنعام ، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبرئيل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إيّاه وتلاوتهم له.

وفيه أيضا التسوية بين نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما‌السلام في إنزاله كتابه جملة كما أنزل كتابيهما جملتين ، والتفضيل لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في إنزاله عليه منجّما لحكم كثيرة لا يعلمها إلّا الله.

أقول : يمكن أن يكون السّرّ تكميل عالم الملكوت ووجود الرّوحانيّين بإيجاد الكتاب الكريم فيهم ، وتقريره أن يقال : المراد من إنزاله إلى سماء الدنيا أو إلى البيت المعمور هو إبداعه تعالى وإيجاده كتابه الكريم بوجوده الجوهري وصورته النوريّة في ملكوت السّماء وعالم الأنوار ، بعد وجوده في مكنون علمه المعبّر عنه بالعرش تارة وباللّوح المحفوظ أخرى.

ولمّا كان وجود خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ، حصل ببركته استعداد الكمال لجميع العوالم الملكيّة والملكوتيّة ، وكما كان للكتاب العظيم تأثير عظيم بوجوده اللّفظي والكتبي في تكميل النفوس المستعدّة في عالم الملك ، كان لوجوده الجوهريّ النّوريّ في عالم الملكوت تأثير في تكميل وجود الذوات المستعدّة الملكوتية والملكيّة ، وبحصول مرتبة من الكمال الوجودي لعالم الوجود صار مستحقّا لتزيينه بوجود خاتم النبيّين ، وتكميله ببعثته ، فشملته هذه الرّحمة العظيمة ، وبعثه الله فيه.

ثمّ بعد هذا الفيض حصل له استعداد قبول فيض آخر ، واستحقاق رحمة أتمّ من إنزال كتابه الكريم الذي هو تجلّي صفاته التامّة في العوالم ، وكان إيجاد الكتاب الكريم في عالم الملكوت تكميل الرحمة على جميع الموجودات الملكيّة والملكوتيّة ببركة وجود نبيّ الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله وإرساله رحمة للعالمين.

ولعلّ هذا الوجه الذي ذكرناه ، أوجه في الواقع ، وأقرب إلى الأذهان من الوجه الذي ذكره الفيض رحمه‌الله في مقدّمات ( الصافي ) فإنّه بعد نقل الرّوايات الدالّة على نزول القرآن جملة إلى البيت المعمور في ليلة القدر ؛ قال : كأنّه أريد به نزول معناه على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال الله تعالى : ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ(١) ثمّ نزل في طول عشرين سنة نجوما من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه

__________________

(١) الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ و١٩٤.

٣٧

كلّما أتاه جبرئيل بالوحي وقرأه عليه بألفاظه.

إلى أن قال رحمه‌الله : وبهذا التحقيق حصل التوفيق بين نزوله تدريجا ودفعة ، واسترحنا من تكلّفات المفسّرين (١) ، انتهى.

مع أنّه ليس فيما ذكرناه حمل الروايات على خلاف ظاهرها ، إذ من الواضح أنّه ليس المراد من القرآن الذي نزل في البيت المعمور الأصوات المعتمدة على المخارج ، المعبّر عنها بالحروف والكلمات ، ولا النقوش المنطبعة في الأوراق والصّفحات ، بل وجوده الجوهريّ ، فإنّ له صورة في عالم الملكوت مغايرة لصورته في هذا العالم ، واستعمال لفظ الإنزال في معنى الإيجاد غير عزيز كما قال تعالى : ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ(٢) أي أوجد لكم.

نعم في خبر المفضّل إشعار بتوجيهه رحمه‌الله حيث قال : قال الصادق عليه‌السلام : « يا مفضّل ، إنّ القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة ، والله تعالى يقول : ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ(٣) ، وقال : ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(٤) ، وقال : ﴿لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ(٥) .

قال المفضّل : يا مولاي ، فهذا تنزيله الذي ذكره الله في كتابه ، فكيف ظهر الوحي في ثلاث وعشرين سنة ؟

قال : « نعم يا مفّضل ، أعطاه الله القرآن في شهر رمضان ، وكان لا يبلّغه إلّا في وقت استحقاق الخطاب ، ولا يؤدّيه إلّا في وقت أمر ونهي ، فهبط جبرئيل عليه‌السلام بالوحي فبلّغ ما يؤمر به [ وهو قوله : ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(٦)

فقال المفضّل : أشهد أنّكم من علم الله علمتم ، وبقدرته قدرتم ، وبحكمه نطقتم ، وبأمره تعملون (٧) .

ويمكن حمله على ما ذكرنا من الوجه ، أو إبقاؤه على ظاهره إن كان له ظهور فيما ذكره رحمه‌الله من التوجيه والقول بنزوله في البيت المعمور وفي قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا منافاة بينهما.

في بيان أسرار نزول القرآن العظيم نجوما على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

وأمّا سرّ نزوله نجوما ، فكثير منه :

[١] - أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنزوله نجوما كان يتحدّى بكلّ نجم من آية أو سورة تنزل عليه ، ومن

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ٥٧.

(٢) الزمر : ٣٩ / ٦.

(٣) البقرة : ٢ / ١٨٥.

(٤) الدخان : ٤٤ / ٣ - ٥.

(٥) الفرقان : ٢٥ / ٣٢.

(٦) القيامة : ٧٥ / ١٦.

(٧) بحار الأنوار ٩٢ : ٣٨.

٣٨

الواضح أنّ عجز الفصحاء عن الاتيان بمثل كلّ واحد من النجوم أظهر في الإعجاز من عجزهم عن إتيان مثل المجموع إذا كان نزوله جملة واحدة إذا كان تحدّى به.

[٢] - ومنه : أنّ في إنزاله نجوما كان لطفا على المؤمنين ، حيث إنّه كان بنزول نجم يزداد فرحهم ويقينهم ، كما قال الله تعالى : ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(١) .

[٣] - وأيضا : كان بنزول الآيات في مواقع الجهاد يزداد نشاطهم ورغبتهم وجدّهم فيه ، وإذا نزلت بهم بليّة ثم نزلت في شأنهم آية ، كان يهون عليهم تلك البليّة ، وإذا وقعوا في تعب وعناء ، كان نزول الآيات يزيل تعبهم وعناءهم بتكميل بصيرتهم ويقينهم.

[٤] - ومنه : أنّ مناسبة الوقائع ، وخصوصيّات المقامات ، وانضمام القرائن الحاليّة ، كانت موجبة لزيادة البلاغة.

[٥] - ومنه : أنّ نزول بعض الآيات ردّا على الكفّار في مواقع معارضتهم ، أو إلقاء شبهاتهم ، أو تهديدا لهم عند صدور استهزءاتهم والطعون منهم على الاسلام والمسلمين ، أو زجرا لهم عند إرادتهم الفساد في الدّين ، كان أشدّ تأثيرا في تبكيتهم وتقريعهم وردعهم وزجرهم وهدايتهم وتبعهم إلى الايمان والانقياد للحقّ.

[٦] - ومنه : أنّ نزوله مفرّقا أدعى لقبوله وتحمّل إطاعة أحكامه ، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة ، فإنّه كان يثقل قبوله على كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.

روي عن عائشة أنّها قالت : إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصّل (٢) فيها ذكر الجنّة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أوّل شيء : لا تشربوا الخمر ، لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل : لا تزنوا ، لقالوا : لا ندع الزّنا أبدا (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « ليس أحد أرفق من الله تعالى ، فمن رفقه تبارك وتعالى أنّه نقلهم من خصلة إلى خصلة ، ولو حمل عليهم جملة واحدة لهلكوا » (٤) .

وفي رواية عنهم عليهم‌السلام : « أنّ الله تعالى إذا أراد أن يفرض فريضة أنزلها شيئا بعد شيء ، حتّى يوطّن

__________________

(١) التوبة : ٩ / ١٢٤.

(٢) قيل : المفصل : مجموعة سور تبدأ من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آخر القرآن ، سميت بذلك لكثرة الفواصل بينها.

تفسير الصافي ١ : ١٨ ، وراجع : الطرفة (١٣) .

(٣) صحيح البخاري ٦ : ٣١٨ / ١٤.

(٤) الكافي ٦ : ٣٩٥ / ٣ ، التهذيب ٩ : ١٠٢ / ٤٤٣.

٣٩

الناس أنفسهم عليها ، ويسكنوا إلى أمر الله ونهيه [ فيها ] ، وكان ذلك من [ فعل الله عزوجل على وجه ] التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلى الأخذ بها ، وأقلّ لنفارهم منها » (١) .

أقول : ولعلّه إلى جميع الوجوه المذكورة أشار سبحانه وتعالى بقوله : ﴿وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً(٢) .

روي عن ابن عبّاس رضى الله عنه قال : أخذ موسى الألواح بعد ما سكن (٣) عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلّغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم وأبوا أن يقرّوا بها حتّى نتق الله عليهم الجبل كأنّه ظلّة ، ودنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم ، فأقرّوا بها (٤) .

أقول : لعلّه من الآصار التي كانت على بني إسرائيل أنّه نزلت التوراة على موسى دفعة ، وحمل عليهم جميع التكاليف بدوا ، فصار ثقيلا عليهم ، فأبوا عن قبولها.

الطرفة الخامسة

في أنّ جمع القرآن كان

 في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأمره

الحقّ الذي لا ينبغي أن يعرض عنه ، هو أنّ جمع القرآن كان في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأمره لشهادة الآثار ، وحكم العقل ، ومساعدة الاعتبار.

[ أولا ] : أمّا الآثار فقد روي عن ابن عبّاس ، قال : قلت لعثمان : ما حملكم [ على ] أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ووضعتموهما في السبع الطوال (٥) ؟

فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنزل عليه [ السور ] ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ، فظننت أنّها منها ، فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبيّن لنا أنّها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٠٧ / ٢.

(٢) الاسراء : ١٧ / ١٠٦.

(٣) في الاتقان : سكت.

(٤) الإتقان في علوم القرآن ١ : ١٥٤.

(٥) قيل : السبع الطوال هي السبع الأول بعد الفاتحة ، والمئين من سوره الإسراء إلى سبع سور ، سميت بذلك لأنّ كلّ منها على نحو مائة آية ، والمثاني بقية السور. تفسير الصافي ١ : ١٨ ، وراجع : الطرفة (١٣) .

٤٠