نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

روي أنّ الوالد يتعلّق بولده يوم القيامة فيقول : يا بنيّ ، انّي أنا أبوك في الدنيا ، وقد احتجت إلى مثقال حبّة من حسناتك لعلّي أنجو بها ممّا ترى. فيقول له ولده : إنّي أتخوّف مثل الذي تخوّفت أنت ، فلا اطيق أن اعطيك شيئا. ثمّ يتعلّق بزوجته فيقول لها : يا فلانة ، إنّي زوج لك في الدنيا (١) ، الخبر ، وحاصل السؤال والجواب قريب ممّا بينه وبين ولده.

﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْها﴾ وفي موردها إذا كانت كافرة ﴿شَفاعَةٌ﴾ من الشفعاء ﴿وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ﴾ وفداء من مال ومتاع لو فرض إمكانه ﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ ولا يعاونون في دفع العذاب ولا يحامون.

والحاصل : أنّ جميع وجوه التخلّص من المكارة الدنيويّة. منقطع عنهم ، حيث إنّها منحصرة في أربع :

أحدها : نيابة الغير عنه في تحمّلها.

وثانيها : التّفدية بالمال.

وثالثها : شفاعة الشفعاء.

ورابعها : نصرة الأنصار ودفاع الأحبّة ، فلا يبقى للعاصي طمع النّجاة في الآخرة.

إن قيل : مقتضى هذه الآية أنّه لا تنفع شفاعة شفيع للعصاة يوم القيامة ، مع أنّ ضرورة المسلمين ؛ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع للعصاة من امّته ، وأنّه الشّافع المشفّع ، وضرورة الإماميّة أنّ فاطمة عليها‌السلام والأئمّة يشفعون لعصاة شيعتهم ، بل مقتضى كثير من الرّوايات أنّ العلماء أيضا يشفعون لمن استفاد علمهم ، بل المؤمنين يشفعون بعضهم لبعض.

قلنا : لا بدّ من تخصيص هذه الآية وأمثالها بالكفّار ومن في حكمهم من منكري الولاية وأهل البدع.

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية : « هذا يوم الموت فإنّ الشّفاعة والفداء لا يغني عنه ، فأمّا في القيامة فإنّا وأهلنا نجزي [ عن ] شيعتنا كلّ جزاء ، ليكوننّ على الأعراف بين الجنّة والنّار محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطيّبون من آلهم ، فنرى بعض شيعتنا في تلك العرصات ، فمن كان منهم مقصّرا ، وفي بعض شدائدها ، فنبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٢٧.

٢٦١

ونظرائهم في العصر الذي يليهم ، ثمّ في كلّ عصر إلى يوم القيامة ، فيقعون (١) عليهم كالبزأة والصّقور ، ويتناولونهم كما تتناول البزاة والصّقور صيدها ، فيزفّونهم إلى الجنّة زفّا ، وإنّا لنبعث على الآخرين من محبّينا خيار شيعتنا كالحمام فيلقطونهم من العرصات كما يلقط الطّير الحبّ ، وينقلونهم إلى الجنان بحضرتنا.

وسيؤتى بالواحد من مقصّري شيعتنا في أعماله بعد أن حاز الولاية والتقيّة وحقوق إخوانه ، ويوقف بازائه ما بين مائة وأكثر من ذلك ، إلى مائة ألف من النصّاب ، فيقال له : هؤلاء فداؤك من النّار ، فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنّة ، واولئك النصّاب النّار ، وذلك ما قال الله عزوجل : ﴿رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني بالولاية ﴿لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ(٢) يعني في الدنيا منقادين للامام (٣) ، ليجعل مخالفوهم فداءهم من النّار » (٤) .

﴿وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ

وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)

ثمّ شرع الله تعالى في تعديد نعمه العظام عليهم وعلى آبائهم مفصّلا بقوله : ﴿وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ﴾ واذكروا حين خلّصنا أسلافكم ﴿مِنْ﴾ تعدّيات ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وظلم أشراف قومه.

قيل : كان فرعون لقب ملك العمالقة ، كما أنّ كسرى لقب ملك الفرس ، وقيصر لقب ملك الروم ، وخاقان لقب ملك التّرك ، والنّجاشيّ لقب ملك الحبشة (٥) .

وقيل : اسم فرعون [ موسى : هو ] الوليد بن مصعب بن ريّان ، وكان من القبط ، وعمّر أكثر من أربعمائة سنة (٦) ، وكان اسم فرعون يوسف ريّان ، وبينهما أربعماءة سنة (٧) .

ثم بيّن سبحانه أوّلا شدّة ظلم فرعون وآله إجمالا ، بقوله : ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ ويعذّبونكم ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾ وشديدة ، ثمّ فصّله ثانيا بقوله : ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ﴾ ويكثرون القتل فيكم ﴿وَيَسْتَحْيُونَ

__________________

(١) في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : فينقضّون.

(٢) الحجر : ١٥ / ٢.

(٣) في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : للإمامة.

(٤) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٤١ / ١١٩.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ١٢٨.

(٦) تفسير روح البيان ١ : ١٢٨.

(٧) تفسير روح البيان ١ : ١٢٨.

٢٦٢

ويبقون ﴿نِساءَكُمْ﴾ لخدمتهم وليكنّ إماء لهم ﴿وَفِي ذلِكُمْ﴾ القتل واستحياء النّساء ﴿بَلاءٌ﴾ ومحنة شديدة كائنة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ وكبير عليكم.

وقيل : إنّ المراد من البلاء هنا العطاء والنعمة ، والمعنى أنّ في ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة عليكم من ربّكم (١) .

﴿وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ

واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ

عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)

ثمّ ذكر النعمة الثانية بقوله : ﴿وَإِذْ فَرَقْنا﴾ وشققنا ﴿بِكُمُ﴾ ولأجل عبوركم ﴿الْبَحْرَ﴾ الذي يقال له القلزم ، أو اساف ، وفصّلنا فيه اثني عشر مسلكا جافّا ﴿فَأَنْجَيْناكُمْ﴾ من القتل والغرق ﴿وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ وقومه في البحر ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ إلى غرقهم وهلاكهم.

ثمّ ذكر النعمة الثالثة بقوله : ﴿وَ﴾ اذكروا ﴿إِذْ واعَدْنا مُوسى﴾ وأمرناه أن يأتي الميقات ويقف فيه ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ بأيّامها.

في نكتة تعيين عدد الأربعين للميقات

قيل : وجه تعيين عدد الأربعين ، اختصاصه بالكمال ، لأنّ مراتب الأعداد أربع : الآحاد ، والعشرات ، والمئات ، والالوف ، وعدد العشرة في نفسها عدد كامل ، كما قال الله تعالى : ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ(٢) وإذا ضعّفت العشرة أربع مرّات يكون أربعين ، ففيه كمال فوق كمال (٣) .

فذهب عليه‌السلام بأمر ربّه إلى الميعاد واستخلف هارون ، ﴿ثُمَ﴾ بعد ذهابه من بينكم يا بني إسرائيل ﴿اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ﴾ إلها ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ وفي غيبته ﴿وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ على أنفسكم حيث اعتقدتم أنّ ربّكم حلّ في العجل ، وصار العجل حاويا له ، مع أنّه متعال عن أن تسعه السّماوات والأرض ، بل هو على كلّ شيء محيط.

وفي هذه الحكاية تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنّصارى من

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٣٠.

(٢) البقرة : ٢ / ١٩٦.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ١٣٦ ، وفيه : وإذا ضغّفت العشرة أربع مرات وهو كمال مراتب الأعداد تكون أربعين وهو كمال الكمال.

٢٦٣

الخلاف ، وممّا كان يعلم من أمر الخلافة بعده ، فإنّ إعراض الأمّة عن وصيّه وخليفته بعد استخلافه إيّاه وتنصيصه على رؤوس الأشهاد بولايته وإمامته ووصايته ، ثمّ إقبالهم وتبعيّتهم لمن لم يكن له حظّ من العلم والنّسب والحسب ، ليس بأعجب وأفضع من اتّخاذ قوم موسى العجل إلها مع مشاهدة الآيات والمعجزات الظاهرات.

﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ﴾ أي عن أسلافكم ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ الفعل الشّنيع ، وهو عبادة العجل ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لنعمة العفو التي أنعمنا بها على آبائكم ، فانّها كانت نعمة عليكم ، إذ لو عجّل في عقوبتهم لم يبق لهم نسل.

﴿وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)

ثمّ ذكر النعمة الرابعة بقوله ﴿وَ﴾ اذكروا ﴿إِذْ آتَيْنا﴾ وأعطينا ﴿مُوسَى الْكِتابَ﴾ وهو التّوراة ﴿وَ﴾ أعطيناه ﴿الْفُرْقانَ

روي أنّه عهد الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه صلوات الله عليهم أجمعين ، فمن آمن بهم بقلبه ظهر نور في جبهته (١) .

وقيل : الفرقان : هي المعجزات الباهرات الفارقة بين المحقّ والمبطل (٢) .

وقيل : الكتاب والفرقان واحد ، فإنّ التّوراة جامعة بين [ كونها كتابا ] وبين الحجّيّة والتّفريق بين الحقّ والباطل (٣) .

﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى الحقّ بالنّظر في الآيات والتدبّر في الكتاب.

﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا

 إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ

 التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)

ثمّ ذكر النعمة الخامسة بقوله : ﴿وَ﴾ اذكروا يا بني إسرائيل ﴿إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ الذين عبدوا العجل ، شفقة عليهم : ﴿يا قَوْمِ﴾ اعلموا ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ﴾ وأضررتم ﴿أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ

__________________

(١ و٢) . تفسير الصافي ١ : ١١٧.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ١٣٤.

٢٦٤

إلها ، إذ حقّت عليكم كلمة العذاب.

ثمّ كأنّهم قالوا : فما نصنع إذن ؟ قال : إن اردتم العلاج ﴿فَتُوبُوا﴾ وارجعوا ﴿إِلى بارِئِكُمْ﴾ وخالقكم الذي برّأكم من العيب والتّفاوت.

ثمّ كأنّهم قالوا : كيف نتوب ؟ فقال : إن عزمتم على التوبة ﴿فَاقْتُلُوا﴾ أيّها العابدون للعجل ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بعضكم بعضا ، أو غير العابدين العابدين ، فإنّ خالقكم وموجدكم ومبرّئكم من العيوب في الخلق أمركم بالقتل ، ورضي بإعدامكم لتبرؤوا من الذنب العظيم ، فإنّ ﴿ذلِكُمْ﴾ القتل وإن كان فيه ذهاب الحياة وزوال النعم الدنيوية ، ﴿خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ﴾ من ابتلائكم بالعذابات (١) الاخرويّة الأبديّة.

ثمّ من نعم الله عليكم أنّه وفّقكم حتّى فعلتم ما امرتم به ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ قبل فناء جميع أسلافكم ، وإلّا لم يبق والد ولا ولد ﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ﴾ وسريع القبول للإنابة ، وهو ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده ، لا يرضى بضررهم وقتلهم إلّا أن يكون لهم خيرا ولا بعذابهم إلّا إذا لم يكونوا للعفو والرّحمة أهلا.

قيل : كان عدّة بني إسرائيل ستّمائة ألفا. وقيل : ستمائة وعشرون ألف مقاتل ، لا يعدّون منهم ابن العشرين لصغره ، ولا ابن الستّين لكبره (٢) . وكان عدد عابدي العجل سبعين ألفا. وقيل : كان عدد غير العابدين اثني عشر ألفا (٣) .

﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ

وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)

ثمّ ذكّرهم النعمة السادسة ، بقوله : ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ ولن نصدّقك في دعوى النبوّة وفي أن التّوراة كتاب الله ، وأنّ الله يكلّمك ﴿حَتَّى نَرَى اللهَ﴾ رؤية ﴿جَهْرَةً﴾ وظاهرة ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ وأصابتكم النّار المحرقة النازلة مع الصّوت الهائل ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ إلى نزولها إليكم.

قيل : كان القائلون [ غير ] السبعين الذين اختارهم موسى عليه‌السلام لأن يذهبوا إلى الطّور للاعتذار عن

__________________

(١) في النسخة : بالعذاب.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ١٣١.

(٣) تفسير الرازي ٣ : ٨٢.

٢٦٥

عبادة العجل (١) .

﴿ثُمَّ بَعَثْناكُمْ﴾ وأحييناكم ﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ وهلاككم (٢) بالصّاعقة ، وفي هذه الآية دلالة صريحة على إمكان الرّجعة إلى الدنيا بعد الموت ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ بإقراركم بالتّوحيد ، وقيامكم بالطّاعة ﴿تَشْكُرُونَ﴾ نعمة الحياة بعد الموت.

قيل : ماتوا يوما وليلة ثمّ بعثهم الله (٣) ، وفيها ردّ على من يقول إنّ نعوت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان مخبرا [ عنها ] في التّوراة ، لم يمكن إنكارها من أهل الكتاب ، فإنّ أسلافهم مع مشاهدة المعجزات الباهرات قالوا : يا موسى لن نؤمن لك .. إلى آخره.

وفيها أيضا دلالة على امتناع الرّؤية ، وكفر المجسّمة.

﴿وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما

رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)

ثمّ ذكّرهم النعمة السابعة بقوله : ﴿وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ﴾ وجعلناه يظلّكم من الشّمس ، وذلك في التّيه ﴿وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ﴾ قيل : هو التّرنجبين ، كان ينزل عليهم باللّيل ، أو من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ، فيأكلونه ﴿وَالسَّلْوى﴾ وهو السّمانيّ. قيل : هو أطيب طير ، فيصطادونة ، أو كان يقع على موائدهم مشويّا ، فاذا أكلوا وشبعوا طار عنهم.

فقلنا لهم : ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ ولا تدّخروا منها شيئا ، فكفروا وظلموا وما أدّوا حقّ النّعم ﴿وَما ظَلَمُونا﴾ بكفرهم وادّخارهم ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ حيث ابتلوها بضرر سيّئاتهم ، من استيجاب العذاب ، وسلب النعم ، حيث قطع عنهم الرّزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ، ولا حساب في الآخرة ، ولم يضرّوا الله شيئا.

عن ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام في قوله عزوجل : ﴿وَما ظَلَمُونا﴾ قال : « إنّ الله أعظم وأعزّ [ وأجلّ ] وأمنع من أن يظلم ، ولكنّه خلطنا بنفسه ، فجعل ظلمنا ظلمه ، وولايتنا ولايته ، حيث يقول : ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...(٤) يعني الأئمّة » (٥) . الخبر. وتوضيحه : أنّ الله قرن ولاية المؤمنين -

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٣٩.

(٢) في النسخة : وهلاكهم.

(٣) بحار الأنوار ١٣ : ٢٤٧.

(٤) المائدة : ٥ / ٥٥.

(٥) الكافي ١ : ١١٣ / ١١.

٢٦٦

وهم الأئمّة - الكاملين في الإيمان بولايته بشهادة الآية.

﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ

سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ

 ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما

كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)

ثمّ ذكّرهم النعمة الثامنة ، بقوله : ﴿وَ﴾ اذكروا ﴿إِذْ قُلْنَا﴾ بتوسّط يوشع بن نون وصيّ موسى ، لأسلافكم من بني إسرائيل حين خروجهم من التّيه : ﴿ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ

قيل : هي مدينة بيت المقدس : وقيل : قرية أريحا (١) من بلاد الشّام قريبة من تلك المدينة ، فإذا دخلتم القرية ﴿فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ بلا تعب ﴿رَغَداً﴾ واسعا هنيئا ﴿وَادْخُلُوا الْبابَ﴾ الذي للقرية.

قيل : كان لمدينة بيت المقدس سبعة أبواب ، وقد امروا أن يدخلوا من الثاني المعروف الآن بباب حطّة حال كونهم ﴿سُجَّداً﴾ لله ، شكرا على نجاتهم من التّيه.

وقيل : إنّ المراد الدخول راكعين متواضعين لله.

﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ ولعلّ المعنى أنّ مسألتنا من الله أن يحطّ ذنوبنا ، فإن دخلتم بهيئة الرّكوع أو السّجود ، وقلتم هذا القول ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ونستر عليكم ﴿خَطاياكُمْ﴾ السّالفة ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ ثوابا. قيل : هم الذين لم يفارقوا الذنوب.

﴿فَبَدَّلَ﴾ وغيّر ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وعصوا أمر الله ﴿قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ فلم يسجدوا ولم يركعوا ، بل رفعوا أستاههم ، أو لم يقولوا : حطّة ، وقالوا : حنطة حمراء ، سخرية واستهزاء.

قال الفخر في تفسيره : ذكره نعمة قبول التّوبة في مقام الامتنان مناف لكونه واجبا على الله عقلا ، لأنّه لا امتنان في الواجبات العقلية (٢) .

وفيه : أنّ وجوب التفضّل والاحسان عليه لكونه جوادا لا يجوز عليه البخل ، ومنع التفضّل غير مناف للامتنان عقلا.

﴿فَأَنْزَلْنا﴾ عقيب ذلك التّبديل ﴿عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بتبديل كلام الله ، أو بفعلهم خلاف

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ١٠٤.

(٢) تفسير الرازي ٣ : ٩٠.

٢٦٧

أمر الله ﴿رِجْزاً﴾ وعذابا ﴿مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وبسبب خروجهم عن طاعة الله.

قيل : مات بالطّاعون مائة وعشرون ألفا في بعض اليوم ، وهم الذين كانوا في علم الله أنّهم لا يؤمنون ، ولا يتوبون (١) .

عن ( العيّاشي ) : عن الباقر عليه‌السلام قال : « نزل جبرئيل بهده الآية : ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ آل محمّد حقّهم ﴿غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ آل محمّد حقّهم ﴿رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ(٢) .

والمراد بإنزال جبرئيل هذه الآية هكذا ، بيان تأويلها حين نزولها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وانطباقها على ظالمي حقّ آل محمّد ، لا أنّه كان جزءا للآية ، فيكون مؤدّاها كما في الرواية السابقة : إنّ الله خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمة.

﴿وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا

عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي

 الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)

ثمّ ذكّرهم النعمة التاسعة ، بقوله : ﴿وَ﴾ اذكروا ﴿إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ حين عطشوا في التّيه وضجّوا إليه بالبكاء ﴿فَقُلْنَا﴾ له بالوحي ﴿اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ﴾ المعهود الذي جاء به جبرئيل من الجنّة ، وكان وقر بعير ، على ما في الرواية (٣) .

قيل : كان عصا من آس الجنّة ، طولها عشرة أذرع على طول موسى ، ولها شعبتان تتّقدان في الظلمة نورا ، حملها آدم ، فتوارثها الأنبياء حتّى وصلت إلى شعيب ، فأعطاها موسى (٤) ، فضربه بها داعيا بمحمّد وآله الطيّبين ، كما في الرّواية (٥) .

﴿فَانْفَجَرَتْ﴾ وانشقّت ﴿مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قيل : كانت الحجر مربّعا ، وانفجر من كلّ طرف منه ثلاثة عيون ، لكلّ سبط عين (٦) .

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ١٢١.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٣٥ / ١٥٣.

(٣) الكافي ١ : ١٨٠ / ٣.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٤٦.

(٥) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٦١ / ١٢٩.

(٦) تفسير الرازي ٣ : ٩٥.

٢٦٨

﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ﴾ وسبط ﴿مَشْرَبَهُمْ﴾ لا يزاحم الآخرين ، وقال الله : ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ﴾ الذي آتاكموه من المنّ والسّلوى ، والماء العذب ﴿وَلا تَعْثَوْا﴾ ولا تعتدوا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ حال كونكم ﴿مُفْسِدِينَ﴾ عاصين لأوامر الله ، أو مفسدين بالمبالغة في التّنازع على قسمة الماء ، فإنّ لكلّ سبط يخرج بقدر حاجتهم من الماء ثمّ ينقطع.

وكان من معجزات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا أنّه استسقى لقومه ، روي أنّ أعرابيّا جاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الجمعة ، وقال : يا رسول الله ، هلكت الكراع والمواشي ، وأجدبت الأرض ، فادع الله أن يسقينا. فرفع يديه ودعا ، قال أنس : والسّماء كأنّها زجاجة ليس بها قزعة ، فنشأت سحابة ومطرت إلى الجمعة القابلة (١) .

﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا

تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ

الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ

عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ

اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)

ثمّ نبّههم على كمال لطفه به بإجابة مسؤولهم مع ما هم عليه من غاية السّفه ، بقوله : ﴿وَ﴾ اذكروا يا بني إسرائيل كفرانكم لنعمة الله ﴿إِذْ قُلْتُمْ﴾ أي قال أسلافكم : ﴿يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ﴾ وغذاء ﴿واحِدٍ﴾ بالنّوع من المنّ والسّلوى ، بل لا بدّ لنا من خلط معه ، أو تبديل. ولعلّه لملالة طباعهم من الطّعام الواحد بسبب مداومتهم عليه ، أو لتوهّم أنّ البقاء على النّهج الواحد موجب لاختلال مزاجهم. والظاهر من قولهم : لن نصبر ، هو الوجه الأوّل.

﴿فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها﴾ كالكرّاث وغيره ، ﴿وَ﴾ من ﴿قِثَّائِها﴾ قيل : هو أخضر (٢) شبه الخيار ﴿وَ﴾ من ﴿فُومِها﴾ عن ( المجمع ) : عن الباقر عليه‌السلام : « هو الحنطة » (٣) .

وقيل : هو الثّوم ، بقرينة قوله بعده : ﴿وَعَدَسِها وَبَصَلِها﴾ حيث إنّ العدس يطبخ بالثّوم والبصل.

﴿قالَ﴾ لهم موسى تعجّبا واستنكارا منهم : ﴿أَ تَسْتَبْدِلُونَ﴾ وتعاوضون الطّعام ﴿الَّذِي هُوَ أَدْنى

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٤٨.

(٢) في النسخة : خضر.

(٣) مجمع البيان ١ : ٢٥٢.

٢٦٩

وأدون ، ولعلّه من حيث المجموع ، وإن كانت الحنطة أشرف ﴿بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ لكم وأنفع في الدنيا والدّين ، لأنّ ما اختاره الله لهم من الطّعام لا بدّ أن يكون أصلح من جميع الجهات ، وعدم رضاهم بما رزقهم الله ، واتّباعهم شهوة أنفسهم ، كان من مذامّ أخلاقهم.

ومع ذلك أجاب الله برحمته مسألتهم وقال : إن كنتم تريدون هذه الأشياء ﴿اهْبِطُوا﴾ وانزلوا ﴿مِصْراً﴾ من الأمصار ﴿فَإِنَّ لَكُمْ﴾ فيه ﴿ما سَأَلْتُمْ﴾ من البقول وغيرها ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾ بعد هذه الألطاف ﴿الذِّلَّةُ وَ﴾ الهوان بإلزامهم بالجزية ، وشملتهم ﴿الْمَسْكَنَةُ﴾ ولازمهم الفقر والفاقة.

قيل : إنّهم ولو كانوا أغنياء ، يعيشون عيش الفقراء.

﴿وَباؤُ﴾ ورجعوا أو التجأوا ﴿بِغَضَبٍ﴾ عظيم ، ولعنة دائمة كائنة ﴿مِنَ اللهِ

ثمّ بيّن سبحانه سبب ذلك العذاب واللّعنة وهو أمران ، أعظمهما ما فعلوه في حقّ الله ، ولذا بدأ بذكره بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ النّكال والغضب معلّل ﴿بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ دائما ﴿بِآياتِ اللهِ﴾ الباهرة ، وينكرون معجزات موسى ، وقرآن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ بعده ما فعلوه في حقّ الأنبياء ، ولذا ثنّاه بقوله : ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ كشعيب وزكريّا ويحيى وغيرهم ، وهم يعلمون أنّ قتلهم يكون ﴿بِغَيْرِ الْحَقِ﴾ الموجب له.

عن ابن عبّاس : أنّه لم يقتل قطّ من الأنبياء إلّا من لم يؤمر بقتال ، ومن امر بقتال نصر (١).

ثمّ ذكر سبب وجود الكفر والطغيان منهم ، بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الكفر والقتل ﴿بِما عَصَوْا﴾ الله في أفعالهم الراجعة إلى أنفسهم ﴿وَ﴾ بما ﴿كانُوا يَعْتَدُونَ﴾ في حقوق غيرهم ، ويظلمون النّاس ، فإنّ عصيانهم أحكام الله واعتداءهم على عباده جرّهم إلى الكفر بآيات الله وقتل النبيّين لوضوح أنّ صغار الذنوب تؤدّي إلى كبارها.

عن ( الكافي ) و( العياشي ) : عن الصادق عليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية ، فقال : « والله ما ضربوهم بأيديهم ، ولا قتلوهم بأسيافهم ، ولكن سمعوا أحاديثهم فأضاعوها ، فاخذوا عليها فقتلوا ، فصار قتلا واعتداء ومعصيتة » (٢) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٥١.

(٢) الكافي ٢ : ٢٧٥ / ٦ ، تفسير العياشي ١ : ١٣٥ / ١٥٥.

٢٧٠

الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ

 يَحْزَنُونَ (٦٢)

ثمّ إنّه لمّا ذكر الله تعالى ما حلّ بكفرة أهل الكتاب من النّكال والغضب والعقوبة ، أردفه بذكر ما للمؤمنين من الأجر والثّواب العظيم ، على عادته الجارية في الكتاب العزيز بأن كلّما ذكر العقوبة للكفّار ، ذكر المثوبة للمؤمنين حتّى يعلم أنّه كما يجزي المسيء بإساءته ، يجزي المحسن باحسانه ، فقال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبما جاء به ﴿وَالَّذِينَ هادُوا﴾ واتّخذوا دين اليهوديّة.

قيل : سمّوا بذلك لأنّهم بعد عبادة العجل وتوبتهم منها ، قالوا : إنّا هدنا ، أو لنسبتهم إلى يهوذا (١) .

﴿وَالنَّصارى﴾ قيل : لقبوا بذلك لأنّهم كانوا يزعمون أنّهم يتناصرون في الله.

وعن ( العيون ) عن الرضا عليه‌السلام : « أنّهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشّام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر » (٢) .

﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ القمى رحمه‌الله : إنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، ولكنّهم يعبدون الكواكب والنّجوم (٣) .

قيل : إنّهم سمّوا بالصابئين لأنّهم زعموا أنّهم صبأوا وخرجوا إلى دين الحقّ.

روي أنّه جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لم سمّي الصابئون صابئين ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لأنّهم إذا جاءهم نبيّ أو رسول أخذوه وعمدوا إلى قدر عظيم فأغلوه حتّى إذا كان محميّ صبوه على رأسه حتّى يتفسّخ » (٤) ، الخبر.

فخصوص ﴿مَنْ آمَنَ﴾ منهم ﴿بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ مرضيّا ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة حين يخاف الفاسقون ، ويحزن المخالفون.

﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما

فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

 لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ : ١٠٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٧٩ / ١٠.

(٣) تفسير القمي ١ : ٤٨ ، تفسير الصافي ١ : ١٢٣.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٥٣.

٢٧١

ثمّ ذمّهم سبحانه بغاية العصيان والتمرّد بقوله : ﴿وَ﴾ اذكروا ﴿إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ﴾ والعهد الوثيق منكم أن تعملوا بالتّوراة التي أعطيتها موسى عليه‌السلام فأبيتم قبول ذلك ﴿وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ

قيل : أمر الله جبرئيل أن يقلع قطعة من جبل فلسطين ، فرسخا في فرسخ على قدر عسكر بني إسرائيل ، فقطعها وجاء بها فرفعها فوق رؤسهم.

وقيل : الطّور : هو الجبل المعروف الذي ناجى موسى عليه‌السلام عليه ربّه ، فقال لهم موسى : ﴿خُذُوا ما آتَيْناكُمْ﴾ من التّوراة ﴿بِقُوَّةٍ﴾ وبجدّ وعزيمة.

عن ( المحاسن ) : عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية ، بقوّة في الأبدان أم بقوّة القلوب ؟ فقال : « فيهما جميعا » (١) .

ونقل أنّه قال لهم موسى عليه‌السلام : إمّا أن تأخذوا بما امرتم به فيه ، وإمّا أن القي عليكم هذا الجبل. فألجئوا إلى قبوله كارهين إلّا من عصمه الله عن العناد ، فإنّه قبله طائعا مختارا ، ثمّ لمّا قبلوه سجدوا وعفّروا ، وكثير منهم عفّر خدّيه لا لإرادة الخضوع لله ، ولكن ينظر إلى الجبل هل يقع أم لا (٢) .

قيل : إنّ موسى جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الأخبار (٣) والتكاليف الشّاقّة ، فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، وكان ذلك بعد النّجاة من الغرق وقبل التّيه ، فأمر جبرئيل فقطع الطّور من أصله ورفعه وظلّله فوقهم ، وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلّا القي عليكم ، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم منها قبلوا وسجدوا ، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود لئلّا ينزل عليهم ، فصارت عادة [ في ] اليهود لا يسجدون إلّا على أنصاف وجوههم (٤) .

وقد منّ الله على امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن حمل عليهم فرضا بعد فرض ، ولم يفرض عليهم جملة ، فإذا استقرّ في قلوبهم فرض عليهم الفرض الآخر ، وأمّا بنو إسرائيل فقد فرض الفرائض عليهم دفعة واحدة ، فشقّ عليهم فلم يقبلوا.

قال بعض : إنّ هذا غير جائز ، لأنّه يجري مجرى الإلجاء بالإيمان ، وهو ينافي التكليف.

قلنا : الإلجاء الذي يوجب سلب الإرادة والاختيار ينافي التّكليف ، وهذا الإلجاء غير موجب لسلب

__________________

(١) المحاسن : ٢٦١ / ٣١٩.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٦٦ / ١٣٤ ، تفسير الصافي ١ : ١٢٤.

(٣) في تفسير روح البيان : الآصار.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٥٤.

٢٧٢

الاختيار ، بل هو تخويف ، كالتخويف بالعذاب الدنيويّ والاخروي ، بل هذا الانقياد كإيمان قوم يونس عليه‌السلام لمّا رأوا العذاب.

﴿وَاذْكُرُوا ما فِيهِ﴾ عن ( المجمع ) : عن الصادق عليه‌السلام : « واذكروا ما في تركه من العقوبة » (١) .

﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ المخالفة ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ يعني تولّى أسلافكم وأعرضوا عمّا في التّوراة وعن الميثاق ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ العهد الوثيق ، بأن كانوا يخالفون موسى عليه‌السلام ويعترضون عليه ويلقونه بكلّ أذى ، حتّى عوقب بعضهم بالخسف ، وبعضهم بالطّاعون ، وبعضهم بالنّار ، مع مشاهدتهم المعجزات الباهرات.

ثمّ فعل متأخّروهم ما فعلوا من تحريف التّوراة ، وقتل الأنبياء ، وعبادة الأصنام ، فلا عجب في إنكارهم ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكتاب والمعجزات ، وجحودهم لحقّه.

﴿فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أيّها الحاضرون في هذا العصر ، بإمهالكم للتوبة ، وعدم أخذكم بالعذاب بغتة ﴿لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ الهالكين المغبونين البائعين أنفسهم بنار جهنّم.

﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥)

فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)

ثمّ لمزيد تنبّههم بفضل الله عليهم ، نبّههم بقصّة بعض الخاسرين الذين لم يمهلهم الله ، بقوله : ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ حال ﴿الَّذِينَ اعْتَدَوْا﴾ وعصوا ﴿مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ لمّا اصطادوا السّموك فيه ، حيث أخذتهم بغتة ﴿فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً﴾ وكونوا ﴿خاسِئِينَ﴾ صاغرين مطرودين ، وهذا الأمر أمر تكوين لا تكليف ، وقد يعبّر عن الإرادة التكوينيّة في مقام الحكاية بالأمر.

نقل أنّه لمّا أبى المجرمون قبول النّصح ، قال النّاهون : والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسّموا القرية بجدار وصيّروها بذلك ثنتين ، فلعنهم داود وغضب الله عليهم [ لإصرارهم على المعصية ] ، فمسخوا ليلا. فلمّا أصبح الناهوهن أتوا أبوابها فإذا هي مغلقة لا يسمع منها صوت ، ولا يعلو منها دخان ، فتسوّروا الحيطان ودخلوا فرأوهم قد صار الشبّان قردة ، والشّيوخ خنازير لها أذناب ، يتعاوون (٢) .

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢٦٢.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ١٥٦.

٢٧٣

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة تلك المسخة بقوله : ﴿فَجَعَلْناها﴾ أي المسخة ﴿نَكالاً﴾ وعقوبة ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْها﴾ من ذنوبهم الموبقات ، أو عبرة للامم ، بأن صارت الامّة الممسوخة عبرة للسّالفة ، حيث أخبر بها أنبياؤهم ، وجعلناها رادعة ﴿وَما خَلْفَها﴾ من الذين شاهدوهم بعد مسخهم ، ومن الّذين يسمعون القضيّة والمسخة من بعدها ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ فهذه العقوبة كانت لهذه المصالح لا للتّشفّي.

﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ

 أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ

يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا

ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ

النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ

شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي

 الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا

يَفْعَلُونَ (٧١)  وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا

 اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)

ثمّ ذكّرهم بنعمة عظيمة اخرى على أسلافهم ، وهي أنّه قتل قتيل فيهم ولم يعلموا قاتله ، ولمّا كانت هذه الواقعة عظيمة عندهم ، وعارا وعزما على أكثرهم ، سألوا موسى عليه‌السلام أن يدعو الله فيكشف عن القاتل ، فدعا الله عزوجل ، ثمّ أخبرهم بما حكاه الله تعالى ، بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ وتضربوا ببعضها المقتول بين أظهركم ليقوم حيّا ويخبركم بقاتله ﴿قالُوا﴾ إنكارا وتعجيبا : ﴿أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً﴾ وتسخر منّا ؟ كيف يمكن أن يحيا ميت بضرب ميت به ؟

﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام : ﴿أَعُوذُ بِاللهِ﴾ وأستجير به من ﴿أَنْ أَكُونَ مِنَ﴾ زمرة ﴿الْجاهِلِينَ﴾ فإنّ السّخرية من السّفه والجهل ، والافتراء على الله من عمل الجاهل بعظمته وسطوته.

فلمّا علموا أنّهم قد أخطأوا فيما توهّموا من الهزء ﴿قالُوا﴾ يا موسى ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ﴾ ويوضّح ﴿لَنا﴾ أنّ البقرة التي أمرنا بذبحها ﴿ما هِيَ﴾ وما صفتها حتّى تتبيّن لنا ؟ ﴿قالَ موسى عليه‌السلام ،

٢٧٤

بعد ما سئل ، وراجع ربّه وجاءه الوحي من الله : ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا﴾ هي ﴿فارِضٌ﴾ كبيرة قاطعة عمرها ﴿وَلا بِكْرٌ﴾ صغيرة ، بل ﴿عَوانٌ﴾ ووسط ﴿بَيْنَ ذلِكَ﴾ الكبيرة والصغيرة ، وهو أكمل أحوالها. وتذكير الإشارة وإفرادها مع تأنيث المرجع وتعدّده ، لكونه إشارة إلى المذكور.

ثمّ قال : إذا علمتم صفتها ﴿فَافْعَلُوا﴾ وامتثلوا ﴿ما تُؤْمَرُونَ﴾ به. فلمّا عرفوا السنّ سألوا عن اللّون ، و﴿قالُوا﴾ يا موسى ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها﴾ من الألوان ، وما كيفيّة لونها ؟ ﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام لهم : ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ﴾ هذا أصل اللّون ، وأمّا كيفيّته فإنّه ﴿فاقِعٌ لَوْنُها﴾ شديدة صفرتها ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ إليها لبهجتها وحسنها.

قيل في كيفية لونها : إنّها كانت إذا نظر أحد إليها خيّل إليه أنّ شعاع الشّمس يخرج من جلدها.

ثمّ سألوا موسى زيادة توصيف للبقرة حتّى يكونوا أهدى إليها ، و﴿قالُوا﴾ يا موسى ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ ويزيد لنا في صفتها ، حيث ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا﴾ ولم يتّضح عندنا كمال الوضوح ﴿وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ﴾ بعد التّبيين ﴿لَمُهْتَدُونَ﴾ إليه.

وفي [ الحديث ] النّبويّ : « لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد » (١) .

﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام بعد مراجعة ربّه : ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ﴾ للكراب كي ﴿تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ وتقلّبها للزّراعة ﴿وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ والبستان بالدّوالي والنّواعير ، وصفتها الاخرى أنّها بقرة ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ من جميع العيوب ، والاخرى أنّها ﴿لا شِيَةَ﴾ ولا لون غير الصّفرة ﴿فِيها﴾ روي أنّها كانت صفراء الأظلاف والقرون (٢) .

فاقتصروا بهذا التعريف ، و﴿قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ﴾ وحقيقته ، وتبيّنت البقرة.

عن ( العياشي ) عن الرّضا عليه‌السلام : « لو عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم » (٣) .

﴿فَذَبَحُوها﴾ بعد اشترائها ﴿وَما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ لغلاء ثمنها ، ولخوف الفضيحة بالقتل ، ولكنّ اللّجاج وحرصهم على اتّهامهم موسى عليه‌السلام حملهم على فعله.

﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ قيل : كان شيخا موسرا ، قتله بنو عمّه طمعا في ميراثه - وفي رواية : حسدا (٤) ، كما

__________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ٦٨ ، تفسير الصافي ١ : ١٢٧.

(٢) تفسير الرازي ٣ : ١٢١ ، وفيه : صفراء القرون.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٣٧ / ١٦١ ، تفسير الصافي ١ : ١٢٧.

(٤) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٧٤.

٢٧٥

يأتي - فطرحوه على باب المدينة ، أو حملوه إلى قرية اخرى وألقوه بفنائها ، ثمّ جاءوا يطالبون بديته ، كذا قالوا. وتأخير ذكر القتل والتّنازع فيه مع كونه مقدّما على الأمر بذبح البقرة ، لكونه المقصود المهمّ من الحكاية.

﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ وتنازعتم ﴿فِيها﴾ وأردتم أن تدفعوا القتل عن أنفسكم ﴿وَاللهُ مُخْرِجٌ﴾ ومظهر لكم ﴿ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ وتسترون من أمر قاتله لترتفع الفتنة والفساد.

قيل : إنّ الأمر بذبح البقرة مع قدرة الله على إحياء الموتى بغير الأسباب ، كان لمصالح ، منها : امتحان بني اسرائيل ببذل مال كثير. حيث روي أنّ البقرة لم توجد إلّا عند شابّ من بني إسرائيل ، فقالوا له : بكم تبيع بقرتك ؟ قال : بدينارين ، والخيار لأمّي. قالوا : رضينا بدينار. فسألها ، فقالت : بأربعة. فأخبرهم ، فقالوا : نعطيك دينارين. فأخبر امّه ، فقالت : ثمانية. فما زالوا يطلبون [ على النصف ] ممّا تقول امّه ، ويرجع إلى امّه فتضعف الثمن ، حتّى بلغ ثمنها ملء مسك ثور أكثر ما يكون ملؤه (١) دنانير ، فأوجبت لهم البيع ثمّ ذبحوها (٢) .

ومنها : وصول مال كثير إلى الشابّ المطيع لوالده أو والدته.

ومنها : أنّ الحجّة على بني إسرائيل بهذا النّحو من الإحياء تكون أوكد.

في إحياء القتيل بضربه ببعض البقرة ، والاستدلال بتلك القضية على صحّة الحشر في الآخرة.

﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ﴾ أي الميت ﴿بِبَعْضِها﴾ أي ببعض البقرة ، فضربوه بها ، فقام الميّت سويّا سالما ، وقال : يا نبيّ الله قتلني ابنا عمّي ، حسداني على بنت عمّي ، فقتلاني وألقياني في محلّة هؤلاء ليأخذا ديتي ، فأخذ موسى عليه‌السلام الرجلين فقتلهما ، هكذا روي (٣) .

وقال بعض في قوله تعالى : ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها﴾ تنبيه على أنّ من أراد إحياء قلبه لم يتأتّ له إلّا بإماته نفسه ، فمن أماتها بأنواع الرياضات ، أحيا الله قلبه بأنوار المشاهدات (٤) .

عن ( العياشي ) : عن الرّضا عليه‌السلام : « أنّ الله أمرهم بذبح بقرة ، وإنّما كانوا يحتاجون لذنبها [ فشدّدوا ] فشدّد الله عليهم » (٥) .

__________________

(١) في النسخة : ملاء ، وما أثبتناه من تفسير العسكري عليه‌السلام.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٧٨.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٧٨ ، تفسير الصافي ١ : ١٢٩.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٦٣.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٣٨ / ١٦٢.

٢٧٦

﴿كَذلِكَ﴾ الإحياء الذي علم به المنكرون للحشر في هذا الميت في الدنيا ﴿يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى﴾ في الآخرة ، وهذا من أتمّ الدلائل على صحّة الحشر والإعادة بعد الموت ، حيث إنّه بضرب الميت بالميت ، إذا حيي الميت (١) ، فبإنزال مطر يكون طبعه طبع النطفة على تراب الأجساد كانت الحياة أولى كما حيي في بدو الخلقة.

فإن قيل : هذا الاستدلال لا يتمّ على المشركين المنكرين للبعث إلّا إذا ثبتت عندهم هذه الواقعة.

قيل : يتمّ بكونها متواترة ، وكونها مدلولة لهذه الآيات الباهرات ، فلا مجال لهم لإنكار وقوعها ، فكان عليهم أن يعترفوا بإحياء جمع كثير من الأوّلين والآخرين بعد علمهم بوقوع إحياء ميت واحد بقدرة الله سبحانه ، ويحتمل أن بعد إحياء الميت قال الله لبني إسرائيل : ﴿كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى﴾ فاستدلّ به على ما حكمت به العقول ، وأخبر به الرّسول من إمكانه ووقوعه ، كما وقع نظير ذلك لإبراهيم عليه‌السلام بعد سؤاله ﴿كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى(٢) .

﴿وَيُرِيكُمْ آياتِهِ﴾ الدالّة ، من هذه الآية وغيرها ، على التّوحيد والنبوّة والمعاد ، بل هذه الآية بمنزلة الآيات المتعدّدة لدلالتها على جميع ما ذكر ، أمّا بالنّسبة إلى بني إسرائيل ونبوّة موسى عليه‌السلام فواضح ، وأمّا بالنّسبة إلى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلكون إخباره بهذه الواقعة إخبارا بالغيب ، لوضوح كونه امّيّا غير مطّلع على الكتب إلّا بالوحي.

﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وتتفكّرون أنّ من هو قادر على إحياء نفس واحدة ، قادر على إحياء الأنفس الكثيرة ، أو لكي يكمل عقلكم فتعلموا ذلك.

﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ

 لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما

 يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)

﴿ثُمَّ قَسَتْ﴾ وغلظت ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ أيّها اليهود ، حتّى خرجت عن قابليّة التأثّر بمطالعة الآيات والدلائل ، بسبب شدّة العناد واللّجاج ، وغاية التوغّل في الكفر والفساد ، بعد أن كانت قابلة لقبول كلّ

__________________

(١) كذا ، ولعل في العبارة تقديما وتأخيرا ، هكذا : حيث إنه إذا حيي الميت بضرب الميت بالميت ، ....

(٢) البقرة : ٢ / ٢٦٠.

٢٧٧

حقّ ، والانقياد لكلّ خير.

﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ المذكور من إحياء الميّت ، ومسخ القردة ، ورفع الجبل ، وغيرها من الآيات في زمن موسى عليه‌السلام والمرئيّ من المعجزات الباهرات من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

﴿فَهِيَ﴾ في الغلظة واليبوسة ﴿كَالْحِجارَةِ﴾ لا يرجى منها خير ، ولا يترشّح منها نفع ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ وغلظة ، ولعلّ الإبهام على السامعين لاختلاف قلوبهم في القساوة ، أو لأنّ الحكم بعد التّرديد والتبيين بهذا الإبهام أشدّ تأثيرا في قبول السّامع ، فكأنّه قال : أحكم بأنّ قلوبهم أشّد قسوه.

قيل : هذا التعبير أدلّ على فرط القسوة من التعبير بأنّ قلوبهم أقسى (١) .

ثمّ أنّه سبحانه علّل حكمه بكون قلوبهم أشدّ قساوة وأصلب ، بأنّ للحجارة منافع متعدّدة بخلاف قلوبهم ، وذكر أوّلها بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ﴾ وينفتح منه الماء الكثير الذي فيه كلّ خير من حياة الحيوان والنّبات.

وذكر ثانيها بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ﴾ القليل ، ولا يرجى من قلوبكم الخير الكثير ولا القليل.

﴿وَإِنَّ مِنْها﴾ أي من الحجارة ، إذا اقسم عليها باسم الله ﴿لَما يَهْبِطُ﴾ وينزل من العالي إلى السّافل ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ وخوفه ، وقلب الكفّار مع شعور الانسانيّة لا يتأثّر بالخوف من الله وعقابه ، مع الإبلاغ في الإنذار والوعظ والتوعيد والتهديد من الله ورسوله ، كما قال تعالى : ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ(٢) .

في أنّ الوجود ملازم للشّعور ، ولكلّ موجود شعور وخشية وتسبيح وتحميد

والظاهر من هذه الآية وعدّة آيات اخر ، وكثير من الرّوايات ، كرواية تسبيح الحصاة في كفّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتسليم الجمادات عليه (٣) ، وحنين الجذع ، أنّ للجمادات مرتبة من الشّعور والإدراك والخوف من الله وعقابه ، بل لكلّ خضوع وتسبيح وانقياد لله ، ومعرفة واعتراف به وبأوليائه ، وقد مرّ أنّه لا يبعد عند العقل أن يكون الوجود ملازما للإدراك ، كما نرى في كثير من النباتات.

والحاصل : أنّ مراتب الإدراك تختلف باختلاف مراتب الوجود ، كلّما قوي قوي ، وكلّما ضعف

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٦٤.

(٢) الحشر : ٥٩ / ٢١.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٤٦ - ٤٧ / ٥٨ و٥٩ و٦٠ ، البداية والنهاية ٦ : ١٣٨.

٢٧٨

ضعف ، وأوّل المراتب ما يدرك به صانعه ومفزعه والمهيمن عليه ، فيحصل له خضوع وانقياد وخشية من سلب النعمة وانقطاع الفيض عنه ، ويمكن أن يستفاد من الآية أنّ كلّ حجر يسقط من مكان بلا سبب ظاهر ، يكون سقوطه بتأثير خشية الله فيه.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية ، قال : « إنّ أبعد النّاس من الله القلب القاسي » (١) .

وحاصل مدلول الآية ، أنّ الحجر تحرّكه الخشية ، والقلب القاسي لا يتحرّك بالإنذار والتخويف.

﴿وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة من أعمالكم يا معاشر أهل الكتاب ، ويجازيكم عليها ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ

 مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)

ثمّ لمّا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه حريصين على إيمان النّاس خصوصا اليهود ، وهم كانوا في غاية اللجاج مع تلك الحجج الباهرة ، قال الله تعالى تسلية لقلب حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقطعا لطمع المؤمنين في إيمانهم : ﴿أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ هؤلاء اليهود ﴿لَكُمْ﴾ وينقادوا لدعوتكم ، ويصدّقوكم بقلوبهم ﴿وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ في زمان موسى عليه‌السلام ﴿يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ﴾ في طور سيناء ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾ ويغيّرونه ﴿مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ﴾ وفهموه ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنّه كلام الله ، وأنّهم كاذبون في تقّولهم ، مع أنّ هؤلاء كانوا خيارهم ، فكيف حال بقيّتهم ! مع أنّهم في اللجاج والعناد لا يقصرون منهم ، بل يزيدون عليهم ، فلا تحزنوا من إصرارهم على الكفر.

روي أنّ فريقا من السّبعين الذين اختارهم موسى عليه‌السلام لميقات ربّه ، سمعوا كلام الله حين كلّم موسى عليه‌السلام بالطّور ، وما امر به موسى عليه‌السلام ، وما نهي عنه ، ثمّ قالوا : سمعنا الله يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس (٢) .

فإذا كان أسلافهم بهذه المرتبة من الخباثة والأخلاق الذميمة ، فأخلافهم مماثلون لهم ، ولا يتأتّى منهم إلّا ما أتى من أسلافهم ، فلا يرجى منهم الإيمان بما أنزل الله لدعوتكم.

__________________

(١) سنن الترمذي ٤ : ٦٠٧ / ٢٤١١ ، تفسير روح البيان ١ : ١٦٥.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ١٦٦.

٢٧٩

﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ

 بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَ وَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ

اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ

 وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)

ثمّ أكّد سبحانه غاية حمقهم ولجاجهم بقوله : ﴿وَإِذا لَقُوا﴾ وصادفوا هؤلاء المنافقون المطّلعون على التّوراة الأشخاص ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صميم القلب ، كسلمان وأضرابه ﴿قالُوا﴾ نفاقا ﴿آمَنَّا﴾ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كإيمانكم ، لمّا اطّلعنا على نعوته في كتبنا.

﴿وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ﴾ بعد ما نافق المؤمنين بإخبارهم بما في التّوراة من علائم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونعوته ﴿إِلى بَعْضٍ﴾ لم يعترف بذلك ، وكتم نعوته فيها ، اعترض الساكتون على المنافقين و﴿قالُوا﴾ إنكارا عليهم : ﴿أَ تُحَدِّثُونَهُمْ﴾ وتخبرونهم ﴿بِما فَتَحَ اللهُ﴾ وكشفه ﴿عَلَيْكُمْ﴾ من صفات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلائمه في التّوراة ﴿لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ﴾ يوم القيامة ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ ويقولوا : إن علمتم بدلائل صدقه ، فلم لم تؤمنوا به ؟ ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ أنّ ما في التّوراة من أوصاف محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة عليكم ؟

ثمّ ردّ الله عليهم بقوله : ﴿أَ﴾ يلومونهم على التّحديث ﴿وَلا يَعْلَمُونَ﴾ اللائمون لمخافة المحاجّة ﴿أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ﴾ من الكفر وعداوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَما يُعْلِنُونَ﴾ من الإيمان به ، فلا ينفعهم اللّوم والعتاب والسّرّ والكتمان.

﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ الذين لا يعرفون الكتابة والقراءة ، ولأجل امّيّتهم ﴿لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ﴾ من التّوراة وغيرها ﴿إِلَّا أَمانِيَ﴾ وما يسمعونه من مفتريات علمائهم.

في جواز تقليد العالم الصائن لدينه في الفروع دون الأصول

﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ كونه حقّا بتقليد علمائهم المحرّفين لكلمات الله ، المغيّرين لأحكامه ، ومع عدم يقينهم يتديّنون به ، مع أنّ التّقليد محرّم عليهم في اصول العقائد ، لأنّه لا يفيد إلّا الظنّ ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، مع أنّهم كانوا يعرفون علماءهم بالتحريف والتغيير والكذب ، فيكون إيمان علمائهم وعوامّهم بالحقّ في غاية البعد ، أمّا علماؤهم فلانغمارهم في محبّة الرّياسة والمال ، وأمّا عوامّهم فلالتزامهم بتقليد هؤلاء.

روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال ، له رجل : فإذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم ، لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟ وهل

٢٨٠