نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

الْأَرْضِ(١) وعلى هذا التفسير جمع من العامّة. وقال بعضهم : إنّ الله يحفظ العالم بالخليفة كما يحفظ الخزائن بالختم (٢) .

قيل : إنّ حكمة إظهار هذه الإرادة للملائكة تعليم العباد المشاورة في الامور ، أو سؤال الملائكة عن حكمة الجعل حتّى يظهر لهم شرف آدم وفضله عليهم ، فلمّا سمعت الملائكة ذلك الخطاب ﴿قالُوا﴾ استفهاما لحكمة جعل الخليفة ، لا اعتراضا على الله : ﴿أَ تَجْعَلُ﴾ يا ربّ ، وتنصب للخلافة ﴿فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها﴾ بالعصيان والطغيان شأنا واستعدادا ﴿وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ المحترمة ، كما كان بنو الجانّ يفعلون فيها ﴿وَنَحْنُ﴾ أولى وأحقّ بالخلافة ، لأنّه ليس فينا شأنيّة الفساد والظلم ، بل نحن مجبولون على عبادتك ، وشغلنا أنّا ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ وننزّهك عمّا لا يليق بك ، مقرونا بثنائك الجميل على نعمتك ﴿وَنُقَدِّسُ﴾ الأرض ونطهّرها ﴿لَكَ

قيل : الفرق بين التّسبيح والتّقديس ، أنّ التّسبيح : تنزيهه تعالى عمّا لا يليق به. والتّقديس : إثبات ما يليق (٣) .

فاستحقروا آدم وذرّيته ، ولم يعلموا أنّه أحقّ بخلافة الله منهم ، لأنّه مجمع عوالم النّفوس والعقول والأجسام ، وفيه انطوى العالم الأكبر ، ولعلّه لكون سؤالهم عن حكمة الجعل بصورة الاعتراض - إذ كان حقّ السّؤال أن يقولوا : ربّنا علّمنا حكمة هذا الجعل - طردهم الله عن حول العرش ، وجعل البيت المعمور توبة لهم على ما روي عن المعصومين عليهم‌السلام (٤) . ولا يخفى أنّ هذه الرّوايات تنافي كون المراد من الملائكة الملائكة الذين (٥) كانوا سكّان الأرض.

وعلى أيّ تقدير ، ﴿قالَ﴾ الله في جوابهم : ﴿إِنِّي أَعْلَمُ﴾ من الحكم والمصالح في هذا الخلق ﴿ما لا تَعْلَمُونَ

وفي رواية ، قال : « إنّي أخلق خلقا بيدي ، وأجعل في ذرّيته الأنبياء والمرسلين ، وعبادي الصّالحين ، وأئمّة مهديّين ، أجعلهم خلفائي في أرضي ، على خلقي يهدونهم إلى طاعتي ، وينهونهم عن معصيتي ، وأجعلهم حجّة لي عليهم » (٦) .

أقول : في خلق هذا النوع كمال قدرته وكمال رحمته وفضله وبعصاتهم ظهور صفة عفوه

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٩٣.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٩٥.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٧ ، تفسير العياشي ١ : ١١٤ / ١١٠.

(٥) في النسخة : التي.

(٦) تفسير القمي ١ : ٣٧.

٢٤١

وقهّاريّته.

ثمّ خلق ﴿وَعَلَّمَ﴾ بإفاضته ﴿آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها

عن السجّاد عليه‌السلام : « علّمه أسماء كلّ شيء ، وفيه أيضا أسماء أنبياء الله وأوليائه وعتاة أعدائه » (١) .

وعن القميّ رحمه‌الله قال : أسماء الجبال والبحار والأودية والنّبات والحيوان (٢) .

في بيان المراد من الاسماء الّتي علّمها الله آدم

وقيل : إنّ المراد بالأسماء حقائق الأشياء ، لكون العلم بها أنسب بمقام التفضيل على الملائكة من العلم باللغات. ولعلّ هذا المعنى هو الظاهر ممّا روي عن الصادق عليه‌السلام حيث سئل : ماذا علّمه ؟ قال : « الأرضين ، والجبال ، والشّعاب ، والأودية » ثمّ نظر إلى بساط تحته ، فقال : « وهذا البساط ممّا علّمه » (٣) .

وعلى هذا ، لا بدّ من التقدير في الآية بأن يكون التّقدير مسمّيات الأسماء ، أو القول بأنّ الاسم عبارة عمّا هو الدّالّ على الذّات ، وكما أنّ الأعلام اللفظيّة دالّة على الذّوات ، كذلك جميع الموجودات دالّ وكاشف عن ذاته المقدّسة دلالة المعلول على علّته.

فجميع الموجودات بهذا الاعتبار أسماء الله تعالى ، أو القول بأنّ المراد من الأسماء علل الموجودات وأسبابها وأرباب أنواعها ، وإطلاق الأسماء عليها في الأدعية وكلمات المعصومين غير عزيز.

والأقرب أنّ يقال : إنّ المراد من الأسماء هو الألفاظ الدالّة على المسمّيات واللغات الموضوعة للمعاني ، كما هو ظاهر الآية المباركة والروايتين المتقدّمتين ، وظاهر ما ببالي من عبارات التوراة في سفر التكوين ، وعليه جلّ مفسّري العامّة لو لا الكلّ (٤) .

ولا ريب أنّ معرفة أسامي الموجودات بحيث لو رأى موجودا عرف اسمه مستلزم لمعرفة جميع المسمّيات بخصوصيّاتها ومشخّصاتها إلى يوم القيامة ، كما أنّ من عرف أسامي الأدوية ، بحيث لو احضر دواء أو معجون عنده ، قال : هذا اسمه كذا ، لا بدّ له من معرفة مشخّصاتها من طعمها ولونها وأجزائها ، فعلى هذا يكون الاطّلاع على أسامي الموجودات ملازما لمعرفتها بماهيّاتها وحقائقها

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ٩٦.

(٢) تفسير القمي ١ : ٤٥ ، تفسير الصافي ١ : ٩٦.

(٣) مجمع البيان ١ : ١٨٠ ، تفسير الصافي ١ : ٩٦.

(٤) الكتاب المقدس : ٥ - الاصحاح الثاني من سفر التكوين ، وراجع : روح البيان ١ : ١٠١ ، تفسير أبي السعود ١ : ٨٤ ، تفسير الرازي ١ : ١٧٥.

٢٤٢

ومشخّصات أفرادها إلى يوم القيامة ، وللاطّلاع على جميع المصنوعات والمخترعات التي تحدث إلى آخر الدّهر كما قال الصادق عليه‌السلام : « وهذا البساط ممّا علّمه » .

فتعليم الأسماء يدلّ على تعليم المسمّيات بالدلالة الالتزامية ، ويدلّ عليه ما روي من أنه لمّا نفخ فيه من روحه علّمه أسماء المسمّيات - أي ألهمه - فوقع في قلبه ، فجرى على لسانه ما في قلبه بتسمية الأشياء ، فعلّمه جميع أسماء المسمّيات بجميع اللغات بأن أراه الأجناس التي خلقها ، وعلّمه أنّ هذا اسمه فرس ، وهذا اسمه بعير ، وهذا اسمه كذا ، وعلّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة والدنيويّة ، وعلّمه أسماء الملائكة وأسماء ذريّته كلّهم ، وأسماء الحيوانات والجمادات ، وصنعة كلّ شيء ، وأسماء المدن والقرى ، وأسماء الطير والشجر وما يكون ، وكلّ نسمة يخلقها إلى يوم القيامة ، وأسماء المطعومات والمشروبات ، وكلّ نعيم في الجنّة ، وأسماء كلّ شيء حتّى القصعة والقصيعة ، وحتّى الجفنة والمحلب (١) .

وفي الخبر : لمّا خلق الله آدم بثّ فيه أسرار الأحرف ، ولم يبثّ في أحد من الملائكة ، فخرجت الأحرف على لسان آدم بفنون اللغات ، فجعلها الله صورا له ، ومّثلت له بأنواع الأشكال (٢) .

وفي خبر آخر : علّمه سبعمائة ألف لغة ، فلمّا وقع في أكل الشجرة سلب اللغات إلّا العربيّة ، فلمّا اصطفاه بالنبوّة ردّ الله عليه جميع اللغات (٣) .

أقول : هذا كمال علميّ وإحاطة بالمغيّبات لا يليق بها الملائكة ، حيث إنّه متوقّف على استعداد تامّ وكمال وجوديّ كان لآدم والطّيبّين من ذرّيّته.

﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ﴾ أي أشباح الموجودات ، وفي الحديث « أنّه عرضهم أمثال الذّرّ » (٤)﴿عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾ وإرجاع ضمير ذوي العقول إليهم ، إمّا لأنّ أشباح الموجودات في عالم الملكوت جميعها ذوو الأرواح والعقول ، وإمّا لتغليب جانب ذوي العقول منهم.

فقال الله تعجيزا لهم : ﴿أَنْبِئُونِي﴾ وأخبروني أيّها الملائكة ﴿بِأَسْماءِ هؤُلاءِ﴾ الأشباح والصور المثاليّة للموجودات ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في دعوى أفضليّتكم على ما أردت خلقه ، وأولويّتكم بخلافتي منه ، حيث كان الدعوى مستفادا من قولهم : ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٠٠.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ١٠٠.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ١٠٠.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٠١.

٢٤٣

وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ ولمّا كان مطابقا لاعتقادهم ، وإنّ كان مخالفا للواقع ، لم يكن كذبا منافيا لعصمتهم.

﴿قالُوا﴾ تنزيها له عن فعل مناف للحكمة أو تعجيبا من أمره بما هو خارج عن وسعهم من إنبائهم بالأسماء مع علمه بجهلهم بها : ﴿سُبْحانَكَ﴾ إنّك تعلم أنّه ﴿لا عِلْمَ لَنا﴾ بشيء ﴿إِلَّا ما عَلَّمْتَنا﴾ بإفاضتك علينا ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ﴾ المحيط بجميع المصالح والمفاسد وخفيّات الامور ﴿الْحَكِيمُ﴾ في جميع أفعالك ، لا يصدر منك إلّا ما فيه الصّلاح الأتمّ.

قيل : إنّ المؤمن بعد اطّلاعه على قول الملائكة : ﴿لا عِلْمَ لَنا﴾ لا ينبغي أن يتأنّف عن قول لا أدري ولا أعلم (١) .

﴿قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ

 غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)

ثمّ ﴿قالَ﴾ الله : ﴿يا آدَمُ﴾ أظهر سعة علمك للملائكة و﴿أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ﴾ أي أسماء الأشباح.

﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ﴾ وأخبرهم ﴿بِأَسْمائِهِمْ قالَ﴾ الله تعالى تقريرا لهم : ﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وخفيّات أسرارهما وحكم جميع ما خلقته فيها قبل خلقه ﴿وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ﴾ من قولكم : ﴿أَ تَجْعَلُ فِيها(٢) إلى آخره ﴿وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ وتخفون في ضمائركم من هذا القول ، أو اعتقاد أنّه لم يخلق الله خلقا أكرم عليه منّا.

وقيل : إنّ المراد ما كتم إبليس من تمرّده لأمر الله بالسّجود لآدم.

وفي الآية دلالة على أفضلية العلم من جميع الكمالات النفسانيّة ، حيث احتجّ سبحانه وتعالى على كمال حكمته بظهور علم آدم ، ولو كانت صفة اخرى أفضل منه لاحتجّ بها.

في حديث أبي ذرّ رضى الله عنه : « حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة ، وعيادة ألف مريض ، وشهود ألف جنازة » فقيل : يا رسول الله ، ومن قراءة القرآن ؟ قال : « وهل ينفع القرآن إلّا بعلم » (٣) .

﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١٠١.

(٢) البقرة : ٢ / ٣٠.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ١٠٢.

٢٤٤

 الْكافِرِينَ (٣٤)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه وتعالى سعة علمه وحكمة خلق آدم وتشريفه بالعلم وتنبيه الملائكة بفضله عليهم ، ناسب أن يذكر جملة من قضايا بدو خلقته ، حيث إنّ منها فوائد عظيمة من وجوب تعظيم العالم وذمّ الكبر والحسد ، ووخامة معصية الله وآثار التوبة وغير ذلك فقال سبحانه : ﴿وَإِذْ قُلْنا﴾ بعد خلق آدم وتشريفه بالعلم ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ كافّة وفيهم إبليس : ﴿اسْجُدُوا﴾ تعظيما وإكراما ﴿لِآدَمَ﴾ أو طاعة له وتعظيما للانوار الطيّبة المودعة في صلبه.

قال عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما : « حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا عباد الله ، إنّ آدم لمّا رأى النّور ساطعا من صلبه - إذ كان الله

تعالى [ قد ] نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره - رأى النّور ولم يتبيّن الأشباح ، فقال : يا ربّ ما هذه الأنوار ؟ فقال عزوجل : أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ، ولذلك أمرت الملائكة بالسّجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح.

فقال آدم : يا ربّ لو بيّنتها لي. فقال الله عزوجل : انظر يا آدم إلى ذروة العرش ، فنظر آدم ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش ، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره ، كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية ، فرأى أشباحنا ، فقال : ما هذه الأشباح يا ربّ ؟

قال الله : يا آدم ، هذه أشباح أفضل خلائقي وبريّاتي ، هذا محمّد وأنا الحميد المحمود في فعالي ، شققت له اسما من اسمي ، وهذا عليّ وأنا العليّ العظيم ، شقت له اسما من اسمي ، وهذه فاطمة وأنا فاطر السّماوات والأرض ، فاطم أعدائي عن رحمتي يوم فصل قضائي ، وفاطم أوليائي عمّا يعروهم ، وهذا الحسن وهذا الحسين ، وأنا المحسن المجمل ، شققت اسميهما من اسمي ، هؤلاء خيار خليقتي ، وكرام بريّتي ، بهم آخذ وبهم اعطي ، وبهم اعاقب ، وبهم اثيب ، فتوسّل بهم إليّ.

يا آدم ، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعاءك ، [ فإنّي ] آليت على نفسي قسما حقّا أن لا اخيّب بهم آملا ، ولا أردّ بهم سائلا ، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة ، دعا الله عزوجل بهم فتاب عليه ، وغفرت له » (١) .

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢١٩ / ١٠٢.

٢٤٥

﴿فَسَجَدُوا﴾ كلّهم من غير ريث لكونهم مخلوقين من النّور ، واقتضاء النّور الطاعة والانقياد ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ فإنّه كان من الجنّ مخلوقا من النّار.

قيل : اسمه حارث ، واستثناؤه من الملائكة باعتبار أنّه كان معهم يعبد الله حتّى ظنّوا أنّه منهم ، فشمله الأمر بالسّجود ، فلمّا عصى الله تعالى وتمرّد ، علموا أنّه لم يكن منهم.

وإنّما سمّي إبليس لكونه مبلسا من رحمة الله ، فلذلك ﴿أَبى﴾ وامتنع من السّجود حسدا ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ على آدم.

عن القمّي ، عنه عليه‌السلام : « الاستكبار أوّل معصية عصى الله بها » . قال عليه‌السلام : « فقال ابليس : ربّ اعفني عن السّجود لآدم ، وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل. فقال جلّ جلاله : لا حاجة لي في عبادتك ، إنّما عبادتي من حيث اريد لا من حيث تريد » (١) .

﴿وَكانَ﴾ من أجل تمرّده عن طاعة أمر الله وتكبّره على آدم معدودا ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾ بالله ، ومن زمرة الطّاغين عليه.

في ( العيون ) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّه أوّل من كفر وأنشأ الكفر » (٢) .

﴿وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا

هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا

كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى

 حِينٍ (٣٦)

﴿وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ﴾ واستقرّ ﴿أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ حوّاء ﴿الْجَنَّةَ﴾ قيل : إنّها جنّة عدن.

وعن ( الكافي ) و( العلل ) و( القمي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « أنّها كانت من جنّات الدنيا ، تطلع فيها الشّمس والقمر ، ولو كانت من جنّات الخلد ما خرج منها أبدا » (٣) .

وزاد ( القمي ) رحمه‌الله : ولم يدخلها ابليس (٤) .

﴿وَكُلا مِنْها رَغَداً﴾ واسعا بلا تقتير ولا تضييق ﴿حَيْثُ شِئْتُما﴾ بلا تعب ولا نصب ﴿وَلا تَقْرَبا

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٤٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٤ / ١.

(٣) الكافي ٣ : ٢٤٧ / ٢ ، علل الشرائع : ٦٠٠ / ٥٥.

(٤) تفسير القمي ١ : ٤٣.

٢٤٦

هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ كي تنالوا من ثمرها.

قيل : إنّها شجرة البرّ. وقيل : شجرة التّين. وقيل : شجرة الكرم. وقيل : شجرة الكافور (١) . وفي رواية : أنّها شجرة الحسد.

وفي تفسير الامام عليه‌السلام : « أنّها شجرة علم محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم آثرهم الله تعالى بها دون سائر خلقه » (٢) .

في بيان حكم تسليط الشيطان على آدم

وعن ( العيون ) عن عبد السّلام بن صالح الهروي ، قال : قلت للرّضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ، أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحوّاء ما كانت فقد اختلف النّاس فيها ، فمنهم من يروي أنّها الحنطة ، ومنهم من يروي أنّها العنب. ومنهم من يروي أنّها شجرة الحسد ؟ فقال عليه‌السلام : « كلّ ذلك حقّ » .

قلت : فما معنى هذه الوجوه على اختلافها ؟ فقال : « يا أبا الصّلت ، إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا ، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب ليست كشجرة الدنيا ، وإنّ آدم عليه‌السلام لمّا أكرمه الله تعالى بإسجاده ملائكته له وإدخاله الجنّة ، قال في نفسه : هل في خلق الله بشر أفضل منّي ؟ فعلم الله ما وقع في قلبه ، فناداه : ارفع رأسك يا آدم ، وانظر إلى ساق عرشي ، فرفع رأسه فنظر الى ساق العرش ، فوجد [ عليه ] مكتوبا : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وزوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. فقال آدم : يا ربّ ، من هؤلاء ؟ فقال عزوجل : هؤلاء من ذرّيتك ، وهم خير منك ومن جميع خلقي ، ولولاهم ما خلقتك ولما خلقت الجنّة والنّار ، ولا السّماء ولا الأرض ، فإيّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد [ فأخرجك عن جواري ، فنظر إليهم بعين الحسد ] وتمنّى منزلتهم ، فتسلّط عليه الشّيطان حتّى أكل من الشّجرة التي نهي عنها ، وتسلّط على حوّاء لنظرها إلى فاطمة عليها‌السلام بعين الحسد حتّى أكلت من الشّجرة كما أكل آدم ، فأخرجهما الله تعالى من جنّته ، وأهبطهما من جواره إلى الأرض » (٣) .

أقول : المراد من الحسد هنا : الغبطة اللائقة بمقام الأنبياء ، ولمّا كان في اغتباط آدم بمقام آل

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٩٥.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٢١ / ١٠٣.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٠٦ / ٦٧.

٢٤٧

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله - مع كونه بعيدا عنه بمراحل - ظهور نقصه وقلّة معرفته بنفسه وبمقامهم ، حيث إنّ استدعاء من كان رتبته في باب السلطان خدمة الحضور أن يجعله السلطان رئيس وزرائه ، كاشف عن نقص إدراكه وعدم معرفته بشأن نفسه وشأن رئاسة الوزراء ، فاقتضت الحكمة تسليط الشّيطان عليه حتّى يعرف أنّ من يغرّه الشّيطان لا يليق أن يتمنّى المقام الشامخ الذي لمحمّد وآله صلوات الله عليهم ، ولعلّ هذا هو المراد من القرب إلى شجرة علم آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين ، وتسليط الشّيطان عليهما إيكالهما إلى نفسهما وعقلهما والتّخلية بينهما وبين الشّيطان ، وترك حفظهما عن كيده ، فصارت الزّلّة سببا لعلمه بنقصه وباعثا له إلى تكميل نفسه الشّريفة.

ثمّ إنّه تعالى لم يقتصر على نهيهما عن الأكل من الشّجرة ، بل أكّده ببيان سوء عاقبة عصيانه تتميما للّطف بقوله : ﴿فَتَكُونا﴾ بعصياني ومخالفة نهيي ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسكم حيث إنّكم تحرمون من النّعم وتبعدون عن جوار الله وتبتلون بمشاقّ المعيشة ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها﴾ بوسوسته ، وأوقعهما في الخبط عن الجنّة بخديعته.

روي « أنّ ابليس دخل بين لحيي الحيّة فأدخلته الجنّة ، وكان آدم يظنّ أنّ الحيّة هي التي تخاطبه ، وبدأ بآدم ، فقال : ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ﴾ إن تناولتما منها تعلمان الغيب وتقدران على ما يقدر عليه من خصّه الله بالقدرة ، ﴿أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ﴾ لا تموتان أبدا ، ﴿وَقاسَمَهُما﴾ وحلف لهما ﴿إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ(١) فرد آدم على الحيّة ، فقال : أيّتها الحيّة ، هذا من غرور ابليس ، كيف يخوننا ربّنا ، أم كيف تعظّمين الله بالقسم به وأنت تنسبينه إلى الخيانة وسوء النّظر ، وهو أكرم الأكرمين ؟ أم كيف أروم التوصّل إلى ما منعني منه ربّي وأتعاطاه بغير حكمه ؟ !

فلمّا أيس ابليس من قبول آدم منه ، عاد ثانية بين لحيي الحيّة ، فخاطب حوّاء من حيث يوهمها أنّ الحيّة هي التي تخاطبها ، وقال : يا حوّاء ، أرايت هذه الشجرة التي كان الله عزوجل حرّمها عليكما ! لقد أحلّها لكما بعد تحريمها لمّا عرف من حسن طاعتكما له ، وتوقيركما إيّاه ، وذلك أنّ الملائكة - الموكّلين بالشجرة - التي معها الحراب ، يدفعون عنها سائر حيوانات الجنّة ، ولا تدفعك عنها إن رمتها ، فاعلمي بذلك أنّه قد احلّ لك ، وأبشري بأنّك إن تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه الآمرة النّاهية فوقه.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠ - ٢١.

٢٤٨

فقالت [ حواء ] : سوف اجرّب هذا ، فرامت الشجرة ، فأرادت الملائكة أن تدفعها عنها بحرابها ، فأوحى الله إليها : إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره ، فأمّا من جعلته متمكّنا مميّزا مختارا ، فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجّة عليه ، فإن أطاع استحقّ ثوابي ، وإن عصى وخالف أمري استحقّ عقابي وجزائي. فتركوها ولم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم. فظنّت أنّ الله نهاهم عن منعها لأنّه قد أحلّها بعد ما حرّمها. فقالت : صدقت الحيّة ، وظنّت أنّ المخاطب لها هي الحيّة ، فتناولت منها ولم تنكر من نفسها شيئا ؛ فقالت لآدم : ألم تعلم أنّ الشجرة المحرّمة علينا قد ابيحت لنا ، فتناولت منها ولم يمنعني أملاكها ، ولم انكر شيئا من حالي ؟ ! فلذلك اغترّ آدم وغلط وتناول » (١) . الخبر.

إن قيل : كيف دخل الشّيطان الجنّة ولم تمنعه الخزنة ، مع أنّه اخرج منها وكان منهيّا عن الدخول فيها ؟ .

قلت : لعلّه كان منه عصيان آخر ، وإنّما لم يمنعه الخزنة لأنّ الله أراد ابتلاء الحيّة وآدم.

وما قيل في ردّه من أنّه كان منهيّا عن الدخول بارزا لا مختفيا ، ففيه : أنّ الظاهر من الأمر بالخروج هو حرمة الدخول عليه مطلقا ، بارزا ومستترا ، والظاهر أنّ وجه اختفائه بين لحيي الحيّة التحرّز - بزعمه - عن اطلاع الخزنة عليه ، وعن معرفة آدم وحواء إيّاه ، حيث إنّهما مع علمهما بكونه عدّوا لهما ؛ لم يكونا معتنيين بقوله.

إن قيل : إذا كان الشّيطان قادرا على أن يدخل بين لحيي الحيّة ، كان قادرا على أن يتصوّر بصورتها.

قلت : لعلّ وجه دخوله بين لحييها قصّد إغوائها وإيقاعها في الخطيئة وتبعيدها عن ساحة الرّحمة ، حيث كان همّه ذلك بالنسبة إلى جميع الخلق.

إن قيل : إذا لم يكن للحيّة عقل ، ولم يكن لها تكليف ، فكيف يتصوّر وقوعها في الخطيئة ؟

قلت : لعلّه كان لها في ذلك الوقت وذاك العالم مرتبة من العقل يصحّ معها تكليفها ببعض الامور ، فكانت إعانتها لإبليس على دخوله في الجنّة وموادّتها له خطيئة ومعصية.

إن قيل : إذا كان أكل آدم وحوّاء من الشجرة لاعتقاد إباحتها لهما ونسخ النّهي والتّحريم أو الكراهة والتنزيه ، كانا معذورين في المخالفة ، فكيف عوتبا وعوقبا عليها ؟

قلت : لعلّه كان اعتقادهما مستندا إلى التّقصير ، حيث إنّ الله تعالى باشر بذاته المقدّسة مخاطبتهما

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٢٢ / ١٠٤.

٢٤٩

بالنّهي عن قرب الشجرة ، وأخبرهما بأنّ الشّيطان لهما عدوّ مبين ، فإذن كان عليهم التثبّت وانتظار الإذن الصّريح من الله تعالى ، ولم يكن لهما الاعتماد بقول الحيّة والأمارات الظّنّيّة ، فلمّا اعتمدا بقول من لا حجّة في قوله ، وعملا بالظّنّ النّاشئ عن الطّمع والهوى كان ذلك خلاف العزم والحزم ، ولذا قال تعالى في حقّ آدم : ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً(١) فقول الفخر الرازي : إنّ هذه الرواية ممّا لا يلتفت إليها (٢) ، لتوهّمه ورود بعض هذه الاشكالات عليها ، ممّا لا يلتفت إليه.

وعن ( العيون ) عن الرّضا عليه‌السلام : « أنّ الله تعالى قال لهما : ﴿لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ وأشار لهما إلى شجرة الحنطة ، ولم يقل لهما : لا تاكلا من هذه الشّجرة ولا ممّا كان من جنسها ، فلم يقربا تلك الشجرة ، فأكلا من غيرهما لمّا أن وسوس الشّيطان إليهما » (٣) الخبر. وفيه إشعار بأنّه كان الأولى أن يراجع آدم عليه‌السلام ربّه في إباحة ما كان من جنسها أو يحتاط ، فوسوس إليه الشّيطان وأوهمه نسخ حرمة تلك الشجرة الخاصّة لترتفع جهة الاحتياط ، وعليه كان جهة القبح في أكله أضعف ، ومخالفته أهون. ﴿فَأَخْرَجَهُما﴾ الشّيطان ﴿مِمَّا كانا فِيهِ﴾ من الجنّة ونعيمها ﴿وَقُلْنَا﴾ لآدم وحوّاء والحيّة وإبليس : ﴿اهْبِطُوا﴾ وتنزّلوا من الجنّة إلى الأرض في حال ﴿بَعْضُكُمْ﴾ مع نسله ﴿لِبَعْضٍ﴾ آخر ولذراريه ﴿عَدُوٌّ﴾ ومبغض.

قيل : كان إهباط الشّيطان بعد إخراجه من الجنّة إهباطا من حواليها.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر غير واحد من الأخبار أنّ الجنّة التي كان آدم فيها كانت في السّماء ، ومقتضى ما مرّ (٤) من قول الصادق عليه‌السلام « إنّها كانت من جنّات الدنيا تطلع عليها الشّمس والقمر » أنّها كانت في الأرض ، وعلى هذا يكون المراد من الإهباط الانتقال من أرض الجنّة الأرضيّة إلى أرض غيرها ، كقوله تعالى : ﴿اهْبِطُوا مِصْراً(٥) .

في بيان حكمة إسكان آدم الجنّة مع أنّه خلق للخلافة في الأرض ، وحكمة ابتلائه بالخطيئة وتبعيده

إن قيل : مقتضى قوله تعالى : ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً(٦) أنّ خلق آدم كان للسّكونة (٧) في الأرض ، فلم أسكنه في الجنّة ؟

قلت : لعلّه لإظهار أنّ من لا ذنب له يستحقّ الجنّة.

__________________

(١) طه : ٢٠ / ١١٥.

(٢) تفسير الرازي ٣ : ١٥.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٦ / ١.

(٤) تقدّم في أول تفسير الآيتين (٣٥ و٣٦) من هذه السورة.

(٥) البقرة : ٢ / ٦١.

(٦) البقرة : ٢ / ٣٠.

(٧) كذا ومقتضى الاشتقاق أن يكون للسكن أو السّكنى.

٢٥٠

إن قيل : لأيّ حكمة ابتلاه الله بالذّنب ؟

قلت : كان ابتلاؤه بالذّنب لطفا عليه ، حيث إنّ فيه تنبيهه على نقصه ، وبعثه إلى تكميل نفسه ، حيث إنّ من لا يطّلع على مرضه لا يهتمّ بعلاجه ، فكان في تبعيده تكميله وتقريبه.

﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ ومحلّ إقامة وموضع تعيّش ﴿وَمَتاعٌ﴾ وانتفاع بها وبما فيها من الأمتعة ﴿إِلى حِينٍ﴾ الموت. وعن القمّي : إلى يوم القيامة (١) . وهذا إمّا بالنّظر إلى ما روي من أنّ من مات فقد قامت قيامته (٢) . وإمّا إلى أنّ أهل البرزخ أيضا متمتّعون في أرض الدنيا ، فإذا كانت القيامة تتبدّل الأرض غير الأرض.

عن العيّاشيّ : عن الصادق عليه‌السلام « أنّ الله تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشّمس من يوم الجمعة ، ثمّ برأ زوجته من أسفل أضلاعه [ ثم اسجد له ملائكته ] وأسكنه جنّته من يومه ذلك ، فما استقرّ فيها إلا ستّ ساعات من يومه ذلك حتّى عصى الله ، فأخرجهما من الجنّة بعد غروب الشّمس ، وصيّرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا ، وبدت لهما سوآتهما ، فناداهما ربّهما ألم أنهكما عن تلكما الشّجرة ؟ فاستحيى آدم من ربّه وخضع ، وقال : ربّنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا. قال الله لهما : اهبطا من سماواتي إلى الأرض ، فإنّه لا يجاورني في جنّتي عاص ولا في سماواتي » .

ثمّ قال عليه‌السلام : « إنّ آدم لمّا أكل من الشّجرة ذكر ما نهاه الله عنها فندم ، فذهب ليتنحّى عن الشّجرة ، فأخذت الشجرة برأسه فجرّته إليها ، وقالت له : أ فلا كان فرارك من قبل أن تأكل منّي ؟ » (٣) .

والقمّي عن الصادق عليه‌السلام : « إن آدم هبط على الصّفا ، وحوّاء على المروة ، فمكث أربعين صباحا ساجدا ، يبكي على خطيئته وفراقه للجنّة » (٤) .

قيل : وقع آدم بأرض الهند على جبل سرنديب ، ولذا طابت رائحة أشجار تلك الأودية ، لما معه من ريح الجنّة ، ووقعت حوّاء بجدّة وبينهما سبعمائة فرسخ ، والطاووس بمرج الهند ، والحيّة بسجستان أو بأصفهان ، وإبليس بسدّ يأجوج ومأجوج (٥) .

وعن ابن عبّاس : بكى آدم حوّاء مائتي سنة ، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما ، ولم يقرب آدم

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٤٣.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٣٨٧.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١٣٩ / ١٥٥٣.

(٤) تفسير القمي ١ : ٤٣ ، تفسير الصافي ١ : ١٠٧.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ١١١.

٢٥١

وحوّاء مائة سنة (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « نزل جبرئيل على آدم فقال : يا آدم ألم يخلقك الله بيديه ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ؟ قال : بلى. قال : وأمرك أن لا تأكل من تلك الشجرة ، فلم عصيته ؟

قال : يا جبرئيل ، إنّ إبليس حلف لي بالله أنّه لي ناصح ، وما ظننت أنّ أحدا خلقه الله يحلف بالله عزوجل كاذبا. فقال له جبرئيل : يا آدم تب إلى الله » (٢) .

﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)

﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ﴾ في ( الكافي ) : عن أحدهما عليهما‌السلام : « إنّ الكلمات : لا إله إلّا أنت سبحانك اللهمّ وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي ، فاغفر لي وأنت خير الغافرين ، لا إله إلّا أنت سبحانك اللهمّ وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي ، فاغفر لي وارحمني إنّك أنت أرحم الرّاحمين ، لا إله إلّا أنت سبحانك اللهمّ وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي ، فتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم » .

وفي رواية : « بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين » (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ آدم عليه‌السلام قال : بحقّ محمّد أن تغفر لي » (٤) .

﴿فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ بالتّائبين ، وفي ذكر الوصفين وعد بليغ بالاحسان مع العفو والغفران.

في بيان عصمة الأنبياء بدلالة العقل والنقل والضرّورة

ثمّ اعلم أنّ من ضروريّات مذهب الإماميّة الاثني عشريّة عصمة الأنبياء والأئمّة والأوصياء ، من بدو تولّدهم في الدنيا إلى خروجهم منها ، بمعنى امتناع صدور المعاصي الكبيرة أو الصّغيرة والقبائح العقليّة عنهم عليهم‌السلام عمدا أو خطأ أو سهوا أو نسيانا ، والدليل عليه مضافا إلى الضّرورة حكم العقل وتواتر النّقل.

أمّا حكم العقل فتقريره : أنّه لا شبهة في أنّ اللّطف على النّاس بتقريبهم إلى الطّاعة والمحسّنات العقليّة وتبعيدهم عن المعصية واجب على الله ، لكونه حسنا غير مزاحم بجهة قبح ، وكما أنّ من

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١١٤.

(٢) تفسير القمي ١ : ٤٣ ، تفسير الصافي ١ : ١٠٧.

(٣) الكافي ٨ : ٣٠٤ / ٤٧٢ ، تفسير الصافي ١ : ١٠٥.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١١٣.

٢٥٢

اللّطف نصب الخليفة والسائس والمربّي والآمر والنّاهي لهم ، كذلك من كمال اللّطف تزيينه بالصّفات الحسنة والمكارم الجميلة ، وتنزيهه عن الأخلاق السيّئة وما يوجب نفرة الطباع واشمئزاز القلوب عن تبعيّته وانقياده ، حيث إنّه لا ريب أنّ صدور القبائح والمعاصي - ولو كان عن سهو ونسيان - موجب لانحطاط قدره وسقوطه عن الأنظار ، والاستنكاف عن تبعيّته وقبول طاعته ، وعدم تأثير نصحه وموعظته ، بخلاف ما إذا كان من بدو أمره وأوّل عمره منزّها عن الرّذائل ، مزيّنا بالأخلاق الحميدة والفضائل ، محترزا عن قبائح الأعمال مكترثا عن ذمائم (١) الخصال ، فإنّ له وقعا في القلوب ، وعظمة في الأنظار ، ومهابة في الصّدور ، ولكلامه أثر في النّفوس ، فيكون النّاس إلى اتّباعه أرغب ، ولأوامره ونواهيه أطوع.

ولمّا لم يكن في قدرته تعالى قصور عن إيجاد من هو واجد لهذه الخصال ، فالحكمة البالغة والرّحمة الشاملة مقتضية لايجاده واصطفائه للهداية والرّسالة ، وإلّا فهو مناقض لحكمته ، مخالف لشؤون لطفه ورحمته ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا النّقل فلتراكم الآيات وتواتر الرّوايات على اعتبار العصمة بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة ، حتّى إنّ الأشاعرة المنكرين لوجوب اللطف ، والجاحدين للحسن والقبح ، ملتزمون بوجوب عصمة الأنبياء للأدلّة النقليّة.

في بيان حقيقة العصمة وملاكها

ثمّ لا يذهب عليك أنّه ليس المراد من امتناع صدور المعاصي والقبائح عنهم عدم قدرتهم عليها ، أو عدم وجود مقتضيها من الشّهوة والغضب فيهم ، بل المراد وجود المانع عن إرادتها فيهم ، وهو كمال عقلهم ، وشدّة يقينهم بعظمة الله ، ووفور علمهم بحقائق المعاصي وقباحتها وسوء آثارها ، كما يمتنع من العاقل الكامل العالم بحقيقة النّار ومضرّاتها إلقاء نفسه فيها ، أو من الملتفت بشدّة قذارة بعض الأقذار أكله منها ، بل لا يخطر بخاطره ، بل يتغيّر حاله من تصوّره.

فالعصمة من آثار قوّة العقل وكمال المعرفة واليقين ونورانيّة القلب والطّينة المأخوذة من أعلى علّيّين ، إذا عرفت ذلك فكلّ ما يكون في الآيات والرّوايات العاميّة والإماميّة من ظهور نسبة الخطأ والعصيان إلى الأنبياء والمرسلين والهداة المعصومين ، محمول على ما لا ينافي عصمتهم من فعل ما يكون تركه أولى وترك ما يكون فعله أحسن ، كما أنّ ما ظاهره نسبة العصيان إلى الملائكة الذين هم

__________________

(١) كذا والصحيح غير مكترث بذمائم.

٢٥٣

معصومون باتّفاق الأمّة وإجماع المسلمين ، محمول على ذلك للقرينة العقليّة القطعيّة.

مضافا إلى ما ورد من الرّوايات الكثيرة عن أئمّتنا صلوات الله عليهم في تأويل عصيان آدم ، وخطيئة داود ، وظهور قول ابراهيم عليه‌السلام : ﴿هذا رَبِّي(١) في الشّرك ، وقوله : ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا(٢) في الكذب ، وقوله : ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى(٣) في الشّكّ في المعاد ، وسؤال موسى عليه‌السلام رؤيته تعالى في اعتقاده بالتجسّم ، وظهور قوله تعالى في حقّ يوسف : ﴿وَهَمَّ بِها(٤) في قصده عليه‌السلام الفاحشة ، وأمثال ذلك.

وأمّا ما في رواية ( العيون ) عن الرضا عليه‌السلام من « أنّ الله تعالى قال لهما : ﴿لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ*﴾ إلى أن قال : « وكان ذلك من آدم قبل النبوّة ، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار ، وإنّما كان من الصّغائر التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم. فلمّا اجتباه الله تعالى وجعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله تعالى : ﴿وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى(٥) فمحمول على التقيّة لأنّه قول العامّة ، أو مطروح.

﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ

عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمرهم أوّلا بالهبوط اجمالا ، كرّر الأمر ثانيا به لبيان كيفيّته بقوله : ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً﴾ لا يتقدّم بعضكم بعضا أو لبيان تحتّم مقتضاه.

وقيل : إنّ الأمر الأوّل بالهبوط لبيان أنّ الغرض المعاداة والبليّة ، والأمر الثاني لبيان غرض التّكليف والامتحان ، ويؤيّده قوله : ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً﴾ وجاءكم من قبلي رشد وشريعة ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ﴾ وأقتدى بشريعتي ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الدنيا ممّا ينزل من البلايا والمحن بالتّوكل على الله والتفويض إليه وبذكر الله تطمئنّ قلوب المؤمنين ، وفي الآخرة من العذاب ، ببشارة الملائكة لهم : ﴿أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(٦) .

﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الدنيا على ما فاتهم من الفوائد الدنيويّة لحقارتها في نظرهم ، وفي الآخرة

__________________

(١) الأنعام : ٦ / ٧٧.

(٢) الأنبياء : ٢١ / ٦٣.

(٣) البقرة : ٢ / ٢٦٠.

(٤) يوسف : ١٢ / ٢٤.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٦ / ١ ، والآيتان من سورة طه : ٢٠ / ١٢١ و١٢٢.

(٦) فصلت : ٤٢ / ٣٠.

٢٥٤

على انحطاط درجتهم عمّن هو أعلى منهم ، لكمال سرورهم بما آتاهم الله من فضله.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)

ثمّ أنّه تعالى لمّا وعد متّبعي الهدى بالأمن ممّا يخاف من العذاب والفراغ من الحزن ، عقّبه بذكر من أعدّ له العذاب الدائم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ برسلنا ﴿وَكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ المنزلة عليهم من الإنس والجنّ ﴿أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ﴾ وملازموها غير منفكّين عنها و﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ دائمون.

﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ

بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما دعا عموم النّاس إلى الاعتراف بتوحيده وعبادته والاتّقاء من سخطه وعذابه مستدلا بخلق نعمه العظام من السّماء والأرض والأمطار والثّمار وخلق الاصول ونعمة الحياة وغير ذلك ، حيث إنّ كلّ واحد منها دالّ على وجوده ووحدانيّته واستحقاقه العبادة وقدرته على الإعادة والتّعذيب على الشّرك والعصيان ، خصّ خصوص طائفة بني إسرائيل منهم بالخطاب والدّعوة إلى الإيمان بتوحيده ورسالة رسوله وتصديق كتابه ، لكونهم في ذلك العصر متخصّصين باللّجاج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وشدّة المعاندة للحقّ ، مستدلا بنعمه الخاصّة بهم وبآبائهم ، حيث إنّ فيها مع ذلك استمالة قلوبهم ، وكسر لجاجهم وعنادهم ، فبدأ سبحانة بتذكيرهم النعم الخاصّة بهم إجمالا بقوله : ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ وهم اليهود الذين كانوا في ذلك العصر في المدينة وحولها.

روي أنّ إسرائيل لقب يعقوب عليه‌السلام ومعناه في العربيّة : عبد الله ، لأنّ اسرا : هو العبد. وئيل : هو الله (١) . وقيل : إسرا : هو الإنسان ، فالمعنى : رجل الله (٢) . وفي رواية اخرى : اسرا : هو القوّة (٣) .

﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ وهي نعمة هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مدينتهم ووضوح علامات نبوّته ودلائل صدقه ، أو هي مع سائر النّعم التي أنعم الله على آبائهم ، فإنّها انعام على أبنائهم.

﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ الذي أخذه أنبياؤكم من أسلافكم وأمروهم أن يؤدّوه إليكم وإلى أخلافكم ، وهو أن تؤمنوا بمحمّد العربيّ القرشيّ الموصوف في كتبهم.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ : ٢٩.

(٢) تفسير الرازي ٣ : ٢٩.

(٣) علل الشرائع : ٤٣ / ٢.

٢٥٥

روي عن ابن عباس أنّ الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة : أنّي باعث من بني إسماعيل نبيّا امّيّا ، فمن تبعه وصدّق [ بالنور ] الذي يأتي به - أي بالقرآن - غفرت له (١) ، إلى آخره.

إن قلت : لو كان هذا العهد ثابتا ، فكيف يمكن جحده من جماعتهم ؟

قلت : يمكن أن يكون العلم بذلك كان حاصلا عند علمائهم فأخفوه عن العوامّ حفظا لرئاستهم ، أو أوّلوا عبارة العهد كما أوّل العامّة نصّ الولاية.

﴿أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ من النّعيم الأبد ، وأعطكم الذي وعدتكم جزاء لإيمانكم به ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ في مخالفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والخروج عن طاعته.

﴿وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي

 ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ

 تَعْلَمُونَ (٤٢)

ثمّ بعد تذكيرهم النّعمة ومطالبة الوفاء بالعهد وبيان جزائه ، فسّر العهد بقوله : ﴿وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ﴾ من القرآن ، حيث إنّكم ترونه ﴿مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ﴾ من التّوراة ، فإنّ التوراة تشهد بأنّه حقّ ، لأنّها مبشّرة ببعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكتابه ، فالإيمان بالتّوراة مستلزم لتصديق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ، وتكذيب القرآن تكذيب التّوراة ، وفي نسبة التّصديق إلى القرآن إظهار لشرفه وفضيلته على التّوراة ، وتوصيفه بكونه مصدّقا إقامة الحجّة عليهم في وجوب الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لوضوح أنّ شهادة الكتب السّماويّة لا تكون إلّا حقّا مضافا إلى أنّ إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بكون القرآن مصدّقا لما في التّوراة من الإخبار بالمغيّبات لتسالم الكلّ على عدم اطّلاعه بما في التّوراة بالقراءة والتعلّم.

ثمّ أردف الأمر بالإيمان الذي هو من المعروف ، بالنّهي عن المنكر ، بقوله : ﴿وَلا تَكُونُوا﴾ أيّها اليهود ﴿أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ﴾ مع أنّ اللائق بكم أن تكونوا أوّل مؤمن به ، فيتبعكم سائر اليهود وغيرهم من أهل الكتاب ، لما ترون من صفات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفات أصحابه وصفات كتابه مطابقا لما في التّوراة ، وأنتم مع ذلك عالمون بشأنه وأهل النّظر في معجزاته والمستفتحون به.

﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي﴾ ولا تأخذوا بدلا منها ﴿ثَمَناً﴾ وعوضا ﴿قَلِيلاً﴾ من الحطام الدنيويّة ، ولا

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ : ٣٥.

٢٥٦

تحرّفوا الآيات بعوض الأمتعة الدّنيئة والهدايا القليلة ، وفي التوصيف بالقلّة إشعار بأنّ جميع ما يأخذون من الأثمان ولو كان كثيرا في جنب النعم الأخرويّة قليل غايته.

عن الباقر عليه‌السلام : « إنّ حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف وآخرين من اليهود كان لهم مأكلة على اليهود في كلّ سنة ، فكرهوا بطلانها ، فحرّفوا لذلك آيات من التّوراة فيها صفته وذكره ، فذلك الثّمن الذي أريد به في الآية » (١) .

﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ في كتمان أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّه عليه‌السلام.

قيل : الفرق بين الرّهبة والاتّقاء ، أنّ الرّهبة : الخوف في معرض الضّرر وعند إمكان وقوعه ، والاتّقاء : في مورد تيقّن الضّرر.

﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَ﴾ المنزل في التّوراة ﴿بِالْباطِلِ﴾ الذي تخترعونه ، أو المراد : لا تلبسوا نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ودلائلها بالشّبهات الباطلة الّتي تلقونها بين النّاس ﴿وَ﴾ لا ﴿تَكْتُمُوا الْحَقَ﴾ بالسّعي في أن لا يطّلع أحد على دلائله ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ بأنّ ما تفعلونه كتمان للحقّ ومكابرة لعقولكم ، أو تعلمون ما في إضلال الخلق من الضّرر العظيم ، وفعل القبيح مع العلم بقبحه أقبح.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من كتم علما وهو يقدر على إظهاره ولا يمنعه التقيّة ، الجم يوم القيامة بلجام من النّار » (٢) .

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)

ثمّ بعد ما دعاهم إلى الإيمان بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاهم إلى العمل بشريعته ، بقوله : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ المكتوبة في دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ زكاة المال والنّفس والفطرة ﴿وَارْكَعُوا﴾ وتواضعوا لعظمة الله ﴿مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ المتواضعين له. والمراد : صلّوا مع المصلّين جماعة والتعبير عن الصّلاة بالرّكوع لاختصاصه بشريعة الإسلام دون اليهود والنّصارى.

﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٢١٠.

(٢) بحار الأنوار ٧ : ٢١٧ / ١٢٠.

٢٥٧

ثمّ لمّا كان دأب علمائهم أن يأمروا بالبرّ والعبادات والصّدقات ، مع تركهم للعمل بها ، وبّخهم الله تعالى وقرّعهم بقوله : ﴿أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ والصّدقات والعبادات ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ تغفلون عن حقّها ، كأنّكم نسيتموها ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ﴾ وتقرءون ﴿الْكِتابَ﴾ وهو التّوراة الآمرة بالخيرات والصّدقات ، الناهية عن المنكرات ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ أنّ أنفسكم أحقّ بالأمر والنّهي ، وعقابكم مع علمكم أشدّ من عقاب الجهّال !

روي عن أنس ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مررت ليلة اسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النّار ، فقلت : يا أخي جبرئيل ، من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم » (١) .

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على جميع الناس.

وروي عن الصادق عليه‌السلام قال : « من لم ينسلخ عن هواجسه ولم يتخلّص من آفات نفسه وشهواتها ولم يهزم الشيطان ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته لا يصلح للأمر (٢) بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لأنّه إذا لم يكن بهذه الصّفة ، فكلّ ما أظهر [ أمرا ] يكون حجّة عليه ، ولا ينتفع النّاس به ، قال الله تعالى : ﴿أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ ويقال له : يا خائن ، أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك » (٣) .

ولا يذهب عليك أنّ هذه الرّواية لا تكون مقيّدة لوجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لأنّهما واجبان مطلقان على جميع الخلق.

كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به ، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه » (٤) .

بل يجب عليه تحصيل هذه الصّفات ، فلو ترك الأمر بالمعروف لعدم وجود هذه الصفات فيه ، لكان معاقبا على ترك العمل وترك الأمر ، كما أنّ من ترك العمل بالواجبات لعدم الإيمان الذي هو شرط في صحّة العمل ، كان معاقبا على ترك الإيمان والعمل.

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ : ٤٧.

(٢) في مصباح الشريعة : له الأمر.

(٣) مصباح الشريعة : ١٨.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٢٣.

٢٥٨

﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ

 أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)

ثمّ إنّ اليهود لمّا كانوا مبتلين بمرض حبّ الدنيا ، والغفلة عن الله والدّار الآخرة - ولذا كان تحمّل تكاليف الإسلام ، وترك الرئاسات ، والإعراض عن الجاه والمال شاقّا عليهم - بيّن الله دواء مرضهم بقوله : ﴿وَاسْتَعِينُوا﴾ على تحمّل مشاقّ التّكاليف ، ومخالفة الهوى ﴿بِالصَّبْرِ﴾ وكفّ النّفس عنها ، أو بالصّوم الذي هو كاسر للشّهوات ومصفّ للنّفس ﴿وَالصَّلاةِ﴾ التي هي ناهية عن الفحشاء ، ومعراج المؤمن ، فإنّها موجبة لتوجّه القلب إلى الله وعظمته وجلاله ، وحقوق نعمه وقهره ورحمته ، فتسهّل طاعته وترك معاصيه ، لأنّه كلّما أقبل القلب إلى الله تعالى والدّار الآخرة أعرض عن الدنيا ولذّاتها ، وكلّما استنار القلب بذكر الله خرج من ظلمات هوى النّفس وشهواتها ، وكلّما تفكّر في خروجه من الدنيا هانت عليه شدائدها ومصيباتها.

روي عن الصادق عليه‌السلام : « ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضّأ ثمّ يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله فيهما ؟ أما سمعت الله يقول : ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ..(١) .

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا حزبه (٢) أمر فزع إلى الصّلاة (٣) .

وعن ابن عبّاس ، أنّه نعي له بنت وهو في سفر فاسترجع ، وقال : عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله. ثمّ تنحّى عن الطّريق وصلّى ، ثمّ انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ(٤) .

﴿وَإِنَّها﴾ أي الاستعانة بهما ، أو أنّ الصّلاة ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ وثقيلة شاقّة على النّفوس ﴿إِلَّا عَلَى﴾ نفوس ﴿الْخاشِعِينَ﴾ الخائفين من عقاب الله وسطواته ، فإنّ خوف العقاب يهوّن على العبد مشقّة التّكاليف.

ثمّ وصف الخاشعين بأنّهم ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ ويعتقدون ﴿أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾ محضرون في محضر عدله وحكومته ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ﴾ وإلى حكمه ﴿راجِعُونَ﴾ بعد الموت أو بعد الحشر ، لا يملك أمرهم غيره ، والتعبير بالرّجوع إليه مع أنّ الانسان لا يخرج في آن من الآنات عن حكم الله حتّى

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٣٣ / ١٤٣ ، مجمع البيان ١ : ٢١٧.

(٢) حزبه الأمر : نابه واشتدّ عليه.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ١٢٤.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٢٤.

٢٥٩

يرجع إليه ، لأنّه كان قبل ولادته تحت سلطنة الله في الظاهر والواقع ، فلمّا تولّد دخل في تربية والديه وغيرهما ، وكان لهما ولغيرهما ولنفسه سلطنة عليه في الظاهر ، ثمّ يرجع بعد الموت إلى سلطنة الله وحكمه كما كان قبل ولادته.

وقيل : إنّ الظّنّ هنا بمعناه ، والمراد أنّهم يظنّون ملاقاة رحمة الله والرجوع إلى رضوانه حيث إنّ المؤمن لا يعلم الوصول إلى رحمة الله إلّا حين الموت ولا يزال خائفا من سوء العاقبة حتّى يأتيه اليقين.

﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى

 الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ

 وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)

ثمّ كرّر الله تذكير النعم تأكيدا للحجّة وتحذيرا من ترك اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا﴾ واشكروا ﴿نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ قيل : هي النعمة التي أنعمها على أسلافهم من بعث موسى وهارون فيهم وهدايتهم إلى نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصاية عليّ عليه‌السلام وإمامة عترته الطّيّبين صلوات الله عليهم فإنّها فوق النعم وأولى بالامتنان عليهم ، ثمّ بعدها ما أشار إليه بقوله : ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ﴾ بسبب تفضيل آبائكم الأقدمين ﴿عَلَى الْعالَمِينَ﴾ وجميع أهل زمانهم بقبول ولاية محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين وبتظليلهم الغمام ، وإنزال المنّ والسّلوى ، وتخصيصهم بسائر النعم العظام (١) ، حيث إنّ الإنعام على الآباء وتشريفهم بالنعماء موجب للشكر على الأبناء وتشريفهم ، ثمّ قرّب الله تعالى الدّعوة بالوعيد.

وقيل : إنّ اليهود كانوا يقولون : نحن أولاد إبراهيم الخليل وإسحاق الذبيح ، وهما يشفّعوننا في القيامة عند الله ، فردّهم الله بقوله : ﴿وَاتَّقُوا﴾ يا بني إسرائيل واحترزوا ﴿يَوْماً﴾ فيه حشركم وحسابكم وجزاؤكم ، فإنّه يوم لا ﴿تَجْزِي﴾ ولا تكفي ﴿نَفْسٌ﴾ مؤمنة كانت أم كافرة ﴿عَنْ نَفْسٍ﴾ كافرة ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا من الإجزاء كما قال الله : ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ(٢) بل قال : ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(٣) الآية.

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ١١٢.

(٢) الممتحنة : ٦٠ / ٣.

(٣) عبس : ٨٠ / ٣٤.

٢٦٠