نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

ومعاشا مأكولا وملبوسا.

فانظر إلى حسن ترتيب استدلاله سبحانه على استحقاقه العبادة ووجوبها ، فإنّه استدلّ أوّلا بأقرب نعمه إلى العبد ، وهو إيجاده وتربيته ، ثمّ الأقرب وهو خلق الأصول من الآباء والأمّهات ، ثمّ الأقرب وهو نعمة المقرّ والمسكن وهو الأرض ، ثمّ بعدها بنعمة السّماء التي تكون سقفا ومدارا للكواكب ، ومبدءا لنزول الخيرات ، ثمّ بنعمة الثّمرات الحاصلة من بركات السّماء والأرض لتكون معاشا لهم.

ومن الواضح أنّ كلّ واحد من هذه النعم [ هي ] آيات وحدانيّته وقدرته وعظمته وحكمته ، ولذا رتّب عليها النهي عن التشريك ، بقوله : ﴿فَلا تَجْعَلُوا﴾ ولا تتّخذوا ﴿لِلَّهِ أَنْداداً﴾ وشركاء في الخلق والرّزق والعبادة ﴿وَأَنْتُمْ﴾ أيّها العقلاء ﴿تَعْلَمُونَ﴾ أنّ الأجسام التي اتّخذتموها آلهة لا يقدرون على شيء ، والقول الباطل من العالم ببطلانه أقبح وأفضح.

قيل : من تأمّل في هذا العالم وجده كالبيت المعدّ ، فيه كلّ ما يحتاج إليه ساكنه ، الأرض بساطه ، والسّماء سقفه ، والنجوم مصابيحه ، والإنسان ساكنه ، وضروب النباتات والحيوانات والمعادن مهيّآت لمنافعه ، مصروفة في مصالحه ، فتدلّ هذه الجملة على أنّ هذا العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل ، وقدرة غير متناهية ، وحكمة بالغة.

ومن لطائف ما قيل : إنّ الله تعالى لمّا خلق السّماء والأرض ، أوقع بينهما شبه عقد النكاح ، فالسّماء مطلّة على الأرض ، فينزل الماء من المطلّة على المقلّة المفترشة ، فيخرج من بطنها الحيوانات شبه النّسل ، ثمّ تربّيها في حجرها كالأمّ ، وتطعمها ، وتلبسها من ثمارها ، وتحفظها من الحرّ والبرد ، فهي رؤوفة بنا حين نعيش في حجرها ونربّى بتربيتها ، فاذا انتقلنا من حجرها إلى بطنها تكون أرأف بنا بشرط أن ندخل في بطنها كما خرجنا من بطن أمّنا طاهرين من الذنوب ، مهذّبين من الرّذائل والعيوب.

في أنّ للشرك مراتب كثيرة وقلّما يخلو الإنسان منه.

ثمّ اعلم أنّ للشرك مراتب كثيرة ، وقلّما يكون الانسان بريئا منه ، روي : « أنّه أخفى في امّتي من دبيب النّملة على الصّخرة الصّمّاء » (١) .

وفي حديث طويل ، عن معاذ : « ويصعد الحفظة بعمل عبد من زكاة وصوم وصلاة وحجّ وعمرة وخلق حسن ، وذكر لله ، ويشيّعه ملائكة السّماوات حتّى يقطعوا الحجب كلّها إلى الله

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢١٣ « نحوه » .

٢٢١

عزوجل فيقفوا بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلص لله. فيقول الله عزوجل : أنتم الحفظة على عمل عبدي ، وأنا الرّقيب على قلبه ، إنّه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي. فتقول الملائكة : عليه لعنتك ولعنتنا ، فتلعنه السّماوات السّبع ومن فيهنّ » (١) .

﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا

شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا

النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)

في إثبات رسالة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابه الذي هو من أعظم معجزاته وتحدّيه به.

ثمّ إنّه تعالى بعد الدعوة إلى توحيده واستحقاقه العبادة واقامة البرهان عليهما ، شرع في الدعوة إلى الايمان بكتابه الذي هو من أعظم الأدلّة على النبوّة بقوله : ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ وشكّ ﴿مِمَّا نَزَّلْنا﴾ نجوما وتدريجا من القرآن ﴿عَلى عَبْدِنا﴾ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّه لا مجال للرّيب في أنّه حقّ ونازل من قبل الله ، لكونه في أعلى درجة الإعجاز ﴿فَأْتُوا﴾ وهاتوا أيّها الماهرون في الفصاحة والبلاغة ﴿بِسُورَةٍ﴾ ولو كانت قصيرة ، وقطعة كلام ولو كانت مختصرة كائنة ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ وعلى صفة ما نزّلناه من الفصاحة والبلاغة ، أو من مثل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمّيّ الذي لم يقرأ ولم يكتب ولم يتعلّم من أحد في مدّة عمره ، وكلّكم مطّلعون على أمره ﴿وَادْعُوا﴾ معاشر المشركين ﴿شُهَداءَكُمْ﴾ وأصنامكم الذين تعبدونها ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وتسمية الأصنام شهداء بملاحظة أنّ مشركي العرب كانوا يعتقدون أن أصنامهم يشهدون عند الله بعبادتهم ، ويشفعون لهم ، ويغيثونهم عند الشّدائد ، وينجونهم من البلايا والشدائد.

ويحتمل أن يكون الخطاب شاملا لجميع أهل الكتاب أيضا ، ويكون شهداؤهم شياطينهم الذين كانوا يعتقدون أنّهم أنصارهم ، وعلى هذا يكون حاصل المعنى : ادعوا - أيّها المشركون ، ومعاشر أهل الكتاب - أصنامكم وشياطينكم الّذين هم أنصاركم ليعينوكم على إتيان مثله ، ويشهدوا لكم أنّكم أتيتم بعدله في حسن النّظم وفصاحة البيان والاسلوب البديع ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في قولكم : إنّ ما أتى به محمّد قول البشر وليس من الله الأكبر ، وإنّه تقوّل في ما أتى به وبهته على الله وافتراه ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ما أمرتكم به من المعارضة ، ولم تأتوا بمثله بعد التظاهر والسّعي والجدّ والتفكّر ﴿وَلَنْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٧٧.

٢٢٢

تَفْعَلُوا﴾ أبدا ، ولا يكون ميسوركم ومقدوركم ولو جئناكم بالإنس والجنّ مددا ﴿فَاتَّقُوا﴾ بالإيمان برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصديق كتابه أنّه كلام الله المنزل عليه ﴿النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا﴾ وما به اشتعالها ﴿النَّاسُ وَالْحِجارَةُ﴾ قيل : هي حجارة الكبريت لأنّها أشدّ حرّا ، وبه رواية (١) . وقيل : حجارة الأصنام المنحوتة ، لأنّهم أحبّوها في الدنيا ، وقد روي : « من أحبّ حجرا حشرة الله معه » (٢) .

قيل : إنّهم لمّا قرنوا أنفسهم في الدنيا بها وظنّوا أنّ بها نجاتهم في الآخرة ، كان اقترانهم بها في العذاب موجبا لزيادة الحسرة عليهم ، كما قال تعالى : ﴿يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ(٣) .

وهذه النّار ﴿أُعِدَّتْ﴾ وهيّئت في الآخرة ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ بالله ورسله والدّين المرضيّ عنده.

ثمّ اعلم أنّ التّحدّي من مدّعي النبوّة بما يعجز النّاس عن الإتيان بمثله دليل صدقه ، وقد جاء في القرآن على وجوه من البيان.

أحدها : قوله : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(٤) .

وثانيها : وهو أقرع من الأوّل ، قوله : ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ(٥) .

وثالثها : وهو أشدّ تقريعا وتبكيتا ، هذه الآية المباركة ، فترتيب هذه الأنحاء من التحدّي نظير تحدّي مصنّف كتاب بقوله : ائتوني بمثل هذا الكتاب ، فإن لم تقدروا فبنصفه ، وإن لم تقدروا فبباب أو مسألة منه.

ثمّ اعلم أنّ الله تعالى كما جعل معجز موسى في إلقاء العصا لبلوغ علم السحر في زمانه كماله ، ومعجز عيسى في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لبلوغ علم الطّبّ في زمانه نهايته ، جعل معجز خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله في فصاحة الكتاب العزيز وبلاغته وحسن اسلوبه لبلوغ علم البيان في عصره أعلى درجته.

فلمّا عجز العرب وفرسان ميدان البيان بعد هذه التقريعات عن المعارضة بالكلمات والحروف ، وبادروا إلى المبارزة بالأسنّة والسّيوف ، وحملهم العناد والعصبيّة على شرب كأس الحتوف ، أو

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٥٩.

(٢) أمالي الصدوق : ٢٧٨ / ٣٠٨.

(٣) البقرة : ٢ / ١٦٧.

(٤) الاسراء : ١٧ / ٨٨.

(٥) هود : ١١ / ١٣.

٢٢٣

مفارقة العشيرة والوطن المألوف ، ولو قدروا على إتيان سورة تماثله في الفصاحة والبلاغة لأتوا بها ، مع شدّة عداوتهم وحرصهم على معارضته وإبطال أمره ، وكمال جدّهم في إطفاء نوره ، وهم مهرة فنّ المحاورة والكلام ، ولم يدانهم أحد من الفصحاء مدّ الدّهور والأيّام ، علمنا أنّ الإتيان بمثله فوق طاقة البشر ، وأنّ كلّ سورة من الكتاب العزيز معجزة قاهرة ، وتصديق دعواه من الله الأكبر.

في إثبات كون القرآن معجزا وبيان وجوه إعجازه

والحاصل : أنّه لا شبهة في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدّى العرب ، بل العالمين بالقرآن في هذه الآية المتضمنّة للتهكّم بآلهتهم بقوله : ﴿وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وتقريعهم بقوله : ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ وتوعيدهم بالعذاب الشديد بقوله : ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ﴾ ونسبتهم إلى الكفر بقوله : ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ

ولا شبهة أنّ أهل ذلك العصر مع بلوغهم في علم الفصاحة غايته ، وفي فنّ الكلام نهايته ، بحيث لم يأت الزّمان بمثلهم ، ولم يتيسّر للدّهر تربيته عدلهم ، وفاقوا الأوّل والآخر ، وفضّلوا على الماضي والغابر ، لم يعارضوه بالمثل في شدّة عداوتهم للرّسول ، ونهاية تأنفهم عن تلقّي قوله بالقبول ، حتّى هاجروا الأوطان ، وفارقوا الأولاد والإخوان ، وهجروا العشائر ، وأسلموا النفوس والمهج للأسنّة والبواتر ، ولو كان في وسعهم إتيان مماثل لأقصر سورة من القرآن ، أو مقارب له في حسن النّظم وملاحة البيان ، لأتوا به ولم يتحمّلوا الشدّة والعتب (١) ، وأفحموه وفضحوه بلا نصب ، وأبطلوا أمره ، وأطفأوا نوره ، وأخذوا بنفسه ، واستراحوا من بأسه ، فعند ذلك لم يمكن أن يخضرّ له عود ، وأن يقوم لدينه عمود.

فلمّا رأينا أنّه قد غلب نوره الظلام ، علمنا بعجز جميع فصحاء عصره عن معارضته بالكلام ، كما أنّا لمّا علمنا بعجز سحرة موسى عن معارضته وإتيان مماثل لما أتى به مع تحدّي موسى بإلقاء عصاه وصيرورتها ثعبانا ، علمنا بكونه صادقا في دعواه ، مع أنّه لو عارضوه بسورة تماثله لوصلت الينا بالنقل المتواتر ، واثبتت في الزبر والدفاتر ، لتوفّر الدّواعي في نقله كما توفّرت في نقل القرآن.

على أنّه قد تواتر اعترافهم بالعجز ، ودلّ عليه كثير من الآيات ، كقوله تعالى : عن قولهم : ﴿إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ*(٢) و﴿إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(٣) و﴿اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

__________________

(١) كذا ، ولعلّها تصحيف التعب.

(٢) المائدة : ٥ / ١١٠ ، الأنعام : ٦ / ٧.

(٣) المدّثر : ٧٤ / ٢٤.

٢٢٤

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ(١) ولا مجال لاحتمال كذب نسبة هذه الأقوال إليهم ، لاشتهار هذه الآيات بين جميع الطوائف والطبقات ، فلو كانت كذبا كفاه في إبطال دعوته ووضوح فضيحته وانفصام عروته.

ثمّ اعلم أنّ وجه إعجاز القرآن لعامّة النّاس هو فصاحته وبلاغته وحسن اسلوبه ونظمه ، وهذا الوجه يعلم من وجوه :

منها : نهاية فصاحة كلّ آية وسورة في نفسها ، مع قطع النّظر عن غيرها.

ومنها : بالنّظر إلى سائر الآيات والسّور ، وهذا أيضا من وجوه :

منها : أنّا قد استقرأنا كلمات فصحاء العرب فرأيناهم مختلفين في صناعة الفصاحة ، وأنّ كلّ واحد منهم له مهارة في فنّ الكلام دون فنّ آخر ، منهم فصيح في الحماسة ، ومنهم فصيح في المدح ، ومنهم فصيح في الهجاء ، ومنهم فصيح في التّطريب والتعشّق ، إلى غير ذلك ، والقرآن العظيم في غاية الفصاحة في جميع الفنون من الكلام.

ومنها : أنّ مضامين القرآن كلّها في المعارف ، وعلم الأخلاق ، والحثّ على الزّهد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة ، وبيان أحكام العبادات والمعاملات والسياسات ، ومن الواضح أنّ في هذه الامور ليس مجال الفصاحة وميدان البلاغة ، والقرآن العظيم في أعلى درجتها في جميعها.

ومنها : أنّ حسن الكلام وملاحة البيان موقوف على الكذب والاغراقات والمبالغات ، والقرآن العظيم مع عرائه وتنزّهه عن جميعها في غاية الحسن والملاحة.

ومنها : أنّه ما رئي فصيح من الفصحاء أتى بكلام طويل إلّا كان بعض قضاياه أو بعض كلماته خارجا عن حدّ الفصاحة ، أو كان بعضها أفصح من بعض ، والقرآن العظيم مع أنّه كتاب مطوّل لم تتنزّل آية منه من أعلى مرتبة الفصاحة فضلا عن خروجها عن حدّها ، وإلى هذا أشار سبحانه وتعالى : ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً(٢) .

وأمّا وجه إعجازه من غير جهة الفصاحة والبلاغة ، فامور :

منها : أنّه لا شبهة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان اميّا ، لم يتعلّم من أحد ، ولم يقرأ كتابا ، وهذا الكتاب العزيز الذي جاء به جامع لجميع العلوم ، ما من علم إلّا وفيه أصله بالمعنى الذي مرّ في الطرفة الثالثة ، مثل علم

__________________

(١) الأنفال : ٨ / ٣٢.

(٢) النساء : ٤ / ٨٢.

٢٢٥

المعارف الإلهيّة ، فإنّ من نظر في سائر الكتب السماويّة ، وزبر العرفاء الربّانيّة ، عرف أنّ ما في جميعها من المعارف بالنسبة إلى ما في القرآن المجيد كالقطرة بالإضافة إلى البحر المحيط ، ومثل علم الحكمة والكلام ، وكعلم الأخلاق ، وعلم الزهد في الدنيا ، وتفاصيل الآخرة ، ومثل علم الفقه من العبادات والمعاملات والسياسات.

ومنها : اشتماله على الإخبار بالمغيّبات عن جزم ويقين ، كقوله تعالى في الآية السابقة : ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ وقوله تعالى : ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ(١) وقوله تعالى : ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ(٢) وقوله تعالى : ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(٣) وقوله تعالى : ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ(٤) وقوله تعالى : ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ(٥) . إلى غير ذلك ، فإنّ هذه الآيات ونظائرها إخبار بامور قبل وقوعها ، ثمّ وقعت مطابقة لها.

ومنها : شدّة تأثير القرآن العظيم في النفوس ، فإنّه ما من كتاب سماويّ أو معجزة من معجزات الأنبياء السّلف له تأثير في القلوب كتأثيره.

ثمّ أنّه تعالى بعد ما استدلّ على وجوده وكماله ووجوب عبادته بمخلوقاته ، وعظيم نعمائه ، وعلى رسالة عبده وإعجاز كتابه ، بعجز جميع الخلق عن إتيان سورة مثله ، شرع بقوله : ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ الآية ، في ذكر المعاد وبيان عقاب الكفّار في الآخرة.

﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ

مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)

ثمّ أردفه بذكر ثواب المؤمنين بقوله ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بألسنتهم وقلوبهم ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ بجوارحهم ﴿أَنَّ لَهُمْ﴾ بالاستحقاق والتفضّل ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين عديدة ، إذ في التعدّد حظّ ليس في الانفراد.

__________________

(١) آل عمران : ٣ / ١٢.

(٢) البقرة : ٢ / ١٣٧.

(٣) الروم : ٣٠ / ٢ و٣.

(٤) الفتح : ٤٨ / ٢٧.

(٥) آل عمران : ٣ / ١١١.

٢٢٦

قيل : عددها ثمان : دار الجلال كلّها من نور ، ودار القرار كلّها من مرجان ، ودار السّلام كلّها من الياقوت الأحمر ، وجنّة عدن كلّها من زبرجد وهي مشرفة على الجنان كلّها ، وجنّة المأوى كلّها من الذّهب الأحمر ، وجنّة الخلد كلّها من الفضّة ، وجنّة الفردوس كلّها من اللؤلؤ ، وجنّة النّعيم كلّها من زمرّد.

وروي أنّ المؤمن إذا دخل الجنّة رأى سبعين ألف حديقة في كلّ حديقة سبعون ألف شجرة ، على كلّ شجرة سبعون ألف ورقة ، وعلى كلّ ورقة : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، أمّة مذنبة وربّ غفور ، كلّ ورقة عرضها ما بين المشرق والمغرب (١) .

ثمّ وصف الجنّان وأشجارها ، بأنّها ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ لازدياد صفائها وطراوتها وحسنها بها.

قيل : إنّ المراد بالأنهار جنسها.

وقيل : إنّ المراد الأنهار الأربعة : نهر من ماء غير آسن ، ونهر من لبن لم يتغيّر طعمه ، ونهر من خمر لذّة للشّاربين ، ونهر من عسل مصفّى.

ثمّ بعد ذكر مسكنهم وشرابهم ، ذكر طعامهم بقوله : ﴿كُلَّما رُزِقُوا﴾ واطعموا ﴿مِنْها مِنْ﴾ نوع ﴿ثَمَرَةٍ رِزْقاً﴾ وطعاما ﴿قالُوا هذَا﴾ الثمر من جنس الثّمر ﴿الَّذِي رُزِقْنا﴾ وطعمنا ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا.

في بيان حكم جعل ثمرات الجنة من نوع ثمرات الدنيا.

قيل : إنّ الله جعل ثمرات الجنّة من نوع ثمرات الدنيا لزيادة شوق المؤمنين إليها بعد معرفة جنسها وطعمها ، حيث إنّهم إذا لم يعرفوا طعمها وخاصيّتها ، ولم يشتاقوا إليها في الدنيا ، لم يبادروا في الجنّة إلى تناولها ، ولم يفرحوا بها في بدو رؤيتها ، وأمّا إذا كانوا مطّلعين على طعمها فرحوا برؤيتها ، وعلموا أنّها ممّا رزقوا في الدنيا وإن كان التفاوت بينها وبين ما رزقوا في الدنيا كتفاوت الدنيا والآخرة ، ولا يستحيل أحدها إلى ما يستحيل به ثمرات الدنيا.

روي أنّه جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا أبا القاسم ، تزعم أنّ أهل الجنّة يأكلون ويشربون ؟ فقال : « نعم ، والذي نفس محمّد بيده ، إنّ أحدهم ليعطى قوّة مائة رجل في الأكل والشرب

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٨٢.

٢٢٧

والجماع » .

قال : فإنّ الذي يأكل له حاجة ، والجنّة طيّبة ليس فيها أذى ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حاجة أحدهم عرق ريحه كريح المسك » (١) .

ثمّ قال تعالى في وصف رزق الجنّة : ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ وجيئوا بذلك الرزق ﴿مُتَشابِهاً﴾ ومتماثلا في الحسن والكمال واللذّة والنّضج والطّيب ، ليس فيها غير منضوج ولا فاسد ولا قليل اللّذة ، بل كلّها في الصفات الكماليّة في أعلى درجة.

﴿وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ طهّرهنّ الله من الأدناس والأرجاس الجسمانيّة ، من الحيض والنفاس والاستحاضة ، ومن الأخلاق الرّذيلة والصفات الخسيسة.

قيل : فيه إشارة إلى نهاية كرامة المؤمنين ، حيث إنّ الله تعالى بذاته المقدّسة باشر تزيين أزواجهم.

عن ابن عبّاس : خلق الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران ، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر ، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب - أي الأبيض - ومن عنقها إلى رأسها من الكافور ، إذا أقبلت يتلألأ نور وجهها كما تتلألأ الشّمس لإهل الدنيا (٢) .

قيل : إنّه بعد ملاحظة قوله تعالى : ﴿الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ(٣) يعلم أنّهنّ لا يكنّ إلّا للمطهّرين من المعاصي والأخلاق السيّئة والصفات الذّميمة وحبّ الدنيا الدنيّة ، المزيّنين بالملكات الحسنة والصفات الكريمة.

ثم أنّه قد وردت روايات بأنّ زوجة المؤمن في الدنيا إذا كانت مؤمنة صالحة ، تختصّ بزوجها في الجنّة ، وتفوق على حور العين في الحسن والجمال والنور والبهاء.

ثمّ اعلم أنّه لمّا كان اصول النعم في الدنيا المسكن الطيّب ، والشّراب الهنيء ، والطعام اللّذيذ ، والزوجة الجميلة المحبوبة ، بشّر الله المؤمن بأنّ له هذه النعم في الآخرة.

ثمّ لمّا كان خوف زوال النعمة من منغّصات العيش ، بشّر الله تعالى المؤمنين بدوام النعمة وبقائهم في الجنّة ، بقوله : ﴿وَهُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ مقيمون أبدا ، لا يخرجون منها ولا يموتون ، فلا يخطر ببالهم احتمال زوال النعمة وعود البلايا والمحن الدنيويّة.

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٨٤.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٨٤.

(٣) النور : ٢٤ / ٢٦.

٢٢٨

عن عكرمة ، أنّه قال : أهل الجنّة ولد ثلاث وثلاثين سنة رجالهم ونساؤهم ، وقامتهم سبعون (١) ذراعا على قامة أبيهم آدم ، جرد (٢) مكحّلون ، عليهم سبعون حلّة ، لكلّ حلّة في كلّ ساعة سبعون لونا ، لا يبزقون ولا يتمخّطون ، وما كان فوق ذلك من أذى فهو أبعد ، يزدادون كلّ ساعة حسنا وجمالا كما يزداد أهل الدنيا هرما وضعفا ، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم (٣) .

في إثبات المعاد

ثمّ اعلم أنّ المعاد الجسماني من ضروريّات دين الاسلام ، بل وسائر الأديان ، والعقل القاطع والنّقل الساطع حاكمان على إمكانه ووقوعه ، أمّا إمكانه عقلا فلوضوح أنّ إيجاد عالم آخر ، وإعادة النّاس ، ليس من الممتنعات الذاتيّة كشريك الباري ، ولا من المحالات العرضيّة لعدم استلزامه لقبيح أو محال ، والقول بأنّ الزائل لا يمكن أن يعود - على فرض تسليمه - فإنّما هو العود بعينه وبجميع مشخّصاته الزمانيّة والمكانيّة وغيرهما.

وأما تصوير مادته بصورة مماثلة لصورتها السابقة ، بحيث يقال : هذا هو ، فليس من الإعادة التي قالوا بامتناعها ، وهذه نظير لبنة سوّيت أولا بتراب مخصوص وقالب خاصّ ، ثمّ كسرت وفتّتت ، ثمّ سوّيت ثانيا بذلك التراب وذلك القالب ، بحيث كلّ من رأى اللّبنة الثانية قال : هي اللّبنة الاولى (٤) .

وأمّا قدرته تعالى فلا يتصوّر ولا يعقل فيها قصور عن الإعادة ، وقد استدلّ في مواضع من كتابه العزيز على قدرته على الإعادة بقدرته على الإبداء ، قال : ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى(٥) وقال : ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ(٦) .

بل لا شبهة أنّ الإعادة أهون من الإبداء لكونه بلا مثال سابق كما قال : ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ(٧) فلينظر العاقل إلى بدو خلقه ، فإنّ مادّة نطفته كانت ذرّات متفرّقة في أطراف العالم ، فجمعها الله تعالى في لقمة واحدة ، ثمّ فرّق فضلة الهضم الرّابع منها كالذّرّات في جميع أعضاء بدن الرجل ، ثمّ جمعها الله تعالى بالقوّة الشهويّة في وعاء المنيّ ، ولذا تلتذّ جميع الأعضاء بالوقاع ، لحصول انحلال ذرّات المنيّ عنها ، ثمّ أخرجها الله ماء دافقا إلى قرار الرّحم ، فمن هو قادر

__________________

(١) في تفسير روح البيان : ستون.

(٢) في تفسير روح البيان : آدم ، شباب جرد مرد.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٨٤.

(٤) وقد ورد حديث عن الامام الصادق عليه‌السلام في هذا المضمون راجع : الاحتجاج : ٣٥٤.

(٥) الاحقاف : ٤٦ / ٣٣.

(٦) يس : ٣٦ / ٧٩.

(٧) الروم : ٣٠ / ٢٧.

٢٢٩

على جمع الذّرّات المتفرّقة في اللّقمة الواحدة ، ثمّ تفريق ذرّات فضلتها في جميع أعضاء الجسد ، ثمّ جمعها من تلك الأعضاء في وعاء واحد ، ثمّ خلقها شخصا عاقلا بصيرا سميعا ، كيف يعجز عن جمع أجزاء ترابه المتفرّقة بالموت وخلقها مرّة اخرى بصورتها الأولى ؟ ! بل هو سبحانه بالقدرة على هذا الجمع والخلق أحرى وأولى ، وقد نطق الكتاب العزيز بهذه الحجّة في مواضع :

منها : في سورة الحجّ قال تعالى : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ إلى قوله : ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً﴾ إلى قوله : ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(١) .

ومنها : قوله في الواقعة : ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ(٢) إلى غير ذلك من الآيات.

ثمّ تفكّر في قدرة الله في خلق الأشجار والزروع كما نبّه الله عليه بقوله : ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ(٣) حيث إنّ للأشجار نواة ، وللزروع حبوبا ، ولكلّ من النواة والحبوب أقسام وأشكال ، منها مطوّل مشقوق كنواة التّمر وحبّ الحنطة والشّعير ، ومنها غير مشقوق كالأرزّ ، ومنها مثلّث ، ومنها مربّع ، ومنها مدوّر إلى غير ذلك من الأشكال.

فإذا وقع الحبّ في الأرض واستولت عليه الرطوبة ، مع أنّ مقتضى الطبيعة أن يتعفّن ويفسد ، ومع ذلك يحفظه الله ويربّيه بين المفسدات ، ثمّ إذا ازدادت الرطوبة يظهر في رأس الحبّ الطويل ثقب تخرج منه ورقة طويلة كزرع الحنطة والشّعير وأمثالهما ، وأمّا الحبّ غير الطّويل فينفلق فلقتين فيخرج منه ورقتان ، وأمّا النّواة فمع ما فيها من الصّلابة التي يعجز عن فلقها أغلب النّاس فتنفلق بإذن الله ، فيخرج منها شجران : أحدهما صاعد إلى السّماء ، له أوراق وغصون وثمار ، لكلّ جزء منه لون وطعم وطبيعة ، مغاير لسائر الأجزاء ، ؤ الشجر الآخر هابط غائص في أعماق الأرض ، مع اتّحاد طبيعة النّواة وعنصرها الماء والهواء والتراب.

ثمّ انظر كيف أودعت القدرة في تينك الشجرتين الأجزاء الناريّة التي تباين ما استقرّت فيه من جميع الجهات ، فإنّ الشجرتين هابطتان كثيفتات رطبتان باردتان ظلمانيّتان ، والنار صاعدة لطيفة

__________________

(١) الحج : ٢٢ / ٥ - ٧.

(٢) الواقعة : ٥٦ / ٥ - ٧.

(٣) الواقعة : ٥٦ / ٥٨ و٥٩.

٢٣٠

يابسة حارّة نورانيّة ، وإليه أشار سبحانه بقوله : ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ(١) .

والحاصل : أنّ من أذعن بإمكان الإعادة ذاتا ووقوعا ، وأيقن بقدرة الله التّامّة ، لا يبقى له ريب وإشكال ، وإنّما اكتفى سبحانه وتعالى في مقام الاستدلال على الإمكان بالمقدّمة الأخيرة ، وهي كمال سعة قدرته وشمول حكمته الظاهران في خلق السّماوات والأرض ، وإرسال الرّياح ، وإنشاء السّحاب ، وإنزال الأمطار ، وخلق الأشجار وجعلها بيوت النّار ، وإخراج الثّمار ، وخلق النّطف وغير ذلك.

ولم يتعرّض للمقدّمة الاولى لعدم ريب لمنكر الحشر فيها ، نعم أضاف إليه سبحانه الاستدلال بوقوع نظائر الحشر في الدّنيا ، كإحياء الأرض بعد موتها بإنزال الأمطار ، وإحياء القتيل من بني إسرائيل بضربه بجزء من البقرة ، وإحياء الالوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت ، وجمع الأعضاء المتفرّقة من الطيور الأربعة وإحيائها لإبراهيم ، وإحياء النبيّ الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فقال : أنّى يحيى هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه ، وإحياء حماره إلى غير ذلك.

ثمّ اعلم أنّه تبارك وتعالى أكثر في كتابة العزيز من الاستدلال على التّوحيد والنبوّة وإمكان المعاد ، لوضوح عدم إمكان التعبّد فيها ، ووضوح حكم العقل بها بالبراهين التّي أقامها سبحانة ، وإنّما اكتفى في وقوع المعاد بصرف الدعوى لكفاية إمكانه وثبوت النبوّة وإخبار الله ورسوله بوقوعه في ثبوته ، واليقين به ، فإنّ اليقين بصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في إخباره بوقوعه مستلزم لليقين به ، مع أنّ العقل حاكم بوجوب وقوعه لوجوه :

[١] منها : أنّ حكمة خلق الإنسان الذي خلق له غيره من عالم الأجسام لا يتمّ إلّا بالمعاد ، بل لو لا المعاد لكان خلقه وخلق العالم عبثا لا يليق صدوره من الحكيم تعالى شأنه.

أمّا قولنا : إنّ غير الإنسان من الموجودات الجسمانيّة خلق له ، فلأنّ موجودات عالم الأجسام بل جميع العوالم مرتبطات بعضها ببعض كأعضاء شخص واحد ، وجميعها محصّلات لغرض واحد ومقدّمات لنتيجة واحدة ، كشجرة غرست لتحصيل ثمرتها.

ومن الواضح أنّ النتيجة متأخّرة عن المقدّمات ، والثّمرة متأخّرة وجودا عن الشجرة ، لأنّ العلّة

__________________

(١) الواقعة : ٥٦ / ٧١ - ٧٢.

٢٣١

الغائيّة وإن كانت بوجودها العلمي بتقدمة على معلولها ولكن بوجودها الخارجيّ متأخّرة عنه.

فعلى هذا ، لمّا علمنا أنّ وجود السّماوات بما فيها من الكواكب والأرض وما فيها من الجبال والبحار ، سابق على وجود الإنسان ، علمنا أنّ جميعها مقدّمات لوجوده ومخلوقات له ، وأمّا النّباتات وسائر الحيوانات فلمّا رأينا أنّ الإنسان قاهر على جميعها ، منتفع بأغلبها ، أكمل من كلّها ، علمنا أنّه علّة غائيّة لجميعها ، لأنّ الأشرف الأكمل لا يمكن أن يكون مقدّمة للأخسّ الأنقص ، ولا يعقل أن يكون الأخسّ علّة غائيّة لوجود الأشرف ، فثبت أنّ غير الإنسان من الموجودات الجسمانيّة مخلوق له ، وهو علّة غائية لإيجاد غيره.

وأمّا قولنا : إنّه لو لا المعاد لكان خلق الإنسان عبثا ، فلأنّه لا بدّ أن يكون لخلق الإنسان الذي هو اعجوبة الكون ، وآية عالم الملك والملكوت من غرض مهمّ لائق بالحكيم ، وصلاح ملزم في نظر العقل السليم ، ولا يمكن أن يكون الغرض والمصلحة في خلقه هو التعيّش في هذا العالم مدّة قليلة ، والتمتّع بأمتعتها الخسيسة الرّذيلة ، مع شوبها بالآلام الكثيرة والأسقام الوفيرة ، والبلايا والمنايا ، والهموم والغموم ، والمضارّ والمشاقّ ، أضعاف ما يصيب من اللّذّة والتمتّع ، ثمّ يكون موت وانعدام ، لبداهة عدم صلاحيّته لأن يكون غرضا للحكيم في هذا الخلق القويم الذي أمر ملائكتة بالسجود له (١) الذي هو أعلى مراتب التّعظيم.

فإذن لا يتصوّر غرض آخر في خلقه إلّا تحصيله الكمالات النفسانيّة ، واكتسابه الملكات الجميلة الروحانيّة وارتقاؤه إلى درجات القرب والعبوديّة بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة ، ولا يتمّ إلّا بجعل التكاليف والأحكام المولويّة وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فلو لم يكن عالم آخر يجزى ويثاب فيه المطيع ، ويجزى ويعاقب فيه العاصي ، لزم كونهما متساويين ، وعدم المزيّة في البين ، بل كون العاصي أحسن حالا من المطيع لتلذّذه بالمشتهيات النفسانيّة واستفادته بالأمتعة الدنيويّة أزيد من المؤمن المطيع ، لكونه مدّة عمره في تعب الطّاعة ومشقّة الزهد والرياضة.

فثبت أنّه لا بدّ من عالم آخر يجد المطيع فيه ثواب طاعته ، والعاصي تبعات معصيته ، قال تعالى : ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(٢) .

[٢] ومنها : أنّه لا شبهة أنّ الإنسان خلق مدنيّا بالطبع ، بمعنى أنّه لا يمكن لكلّ فرد منه التعيّش إلّا

__________________

(١) في النسخة : بسجوده.

(٢) النجم : ٥٣ / ٣١.

٢٣٢

بالاجتماع مع غيره والاستعانة بسائر بني نوعه لكثرة حوائجه وعدم إمكان قيام كلّ واحد بجميعها ، ثمّ أنّه من البديهي أنّ طباع بني آدم باقتضاء الجهة الحيوانيّة مجبولة على الظلم والعدوان ، ولذا نرى الغالب منهم بين ظالم ومظلوم ، وشاتم ومشتوم ، وقاتل ومقتول ، وغارّ ومغرور ، وحاصر ومحصور ، وكثيرا ما لا يقدر المظلوم في هذه الدنيا على الانتصار من ظالمه ، ويبقى الظلم في هذا العالم بلا مكافاة ومجازاة ، ومقتضى العدل والحكمة انتصاره تعالى من الظالم للمظلوم ، فلو لم يكن عالم آخر يؤخذ الظالم فيه بظلمه ، ويجزى المظلوم على صبره وكظمه ، لزم خلاف العدل وعدم قيامه تعالى في عباده بالقسط ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

[٣] ومنها : أنّ من الواجب في النّظام الأتمّ بعث الرسل وجعل التكاليف على العباد ، لأنّهما من اللطف الواجب على الله تعالى ، ومن الواضح أنّه لو لا جعل المجازاة على موافقة التكاليف ومخالفتها ، والوعد بالثواب والوعيد بالعقاب على طاعتها وعصيانها ، لكان البعث والتكليف لغوا ، لعدم إمكان اتّباع الامم رسلهم ، وتحمّل النّاس مشقّة الطّاعة والتزامهم بالقوانين الإلهيّة ، لعدم الداعي في النفوس إلّا الخوف والطمع ، فلا بدّ في الحكمة والنظام الأتمّ من جعل الثّواب والعقاب على الطاعة والمعصية ، إمّا في هذا العالم ، أو في عالم آخر ، ولمّا لم يكن في الدنيا ، فلا بدّ من الحشر في عالم آخر حتّى ينال فيه المستحقّ ما استحقّه من الجزاء ، ولذا لم يبعث رسول إلّا وأخبر بالحشر والنّشر بعد الموت ، والثواب والعقاب في عالم الآخرة.

في إثبات وجوب كون المعاد جسمانيا بالأدلة العقلية

ثمّ اعلم أنّ هذه الوجوه وإن كانت لا تفي بإثبات أزيد من المعاد في الجملة ، والمتيقّن منه المعاد الرّوحاني ، ولذا قال جمع بأنّه لا طريق للعقل إلى الجسمانيّ منه ، بل طريق إثباته منحصر بالنقل ، إلّا أنّ الحقّ أنّه أيضا ممّا يحكم به العقل لوجوه :

[١] منها : أنّه لا شبهة أنّ حدّ استحقاق الثّواب والعقاب لا بدّ أن يكون في حكم العقل على حدّ حسن العمل وقبحه ، ولا ريب أنّ منشأهما قد يكون في نفس العمل مع قطع النّظر عن الجهات الخارجيّة الطارئة ، كحسن العدل والإحسان ، وقبح الظلم والعدوان ، وقد يكون بالنّظر إلى الجهة الخارجيّة الطارئة ، وقد يكون للجهتين معا كصيرورة عمل قبيح متعلّقا لنهي المولى ، لبداهة أنّ حقّ المولى على العبد إطاعة أوامره ونواهيه ، فإذا خالف حكمه كان ظالما عليه.

ثمّ لا شبهة أنّه تتفاوت الجهات الأوّلية في منشئيّتها لانتزاع الحسن والقبح شدّة وضعفا ، لبداهة

٢٣٣

إقوائيّة منشأ قبح الزنا من منشأ قبح النظر والقبلة ، ومنشأ حسن العدل من منشأ حسن الإحسان ، وكذلك تتفاوت الجهات الخارجيّة الطارئة على العمل لوضوح تفاوت مراتب عظمة المولى ومقدار حقوقه ونعمه ، ودرجات تأكّد طلبه وأهميّة غرضه ، وتفاوت قبح معصيته وحسن طاعته بذلك التفاوت ، فإنّ في ارتكاب مخالفة المولى هتك حرمته والجرأة عليه وتضييع حقّ مولويّته وكفران نعمته ، وفي طاعته تعظيمه وحقظ حدوده وأداء حقّه وشكر نعمته ، فكلّما ازداد المولى عظمة ونعمة ازداد عصيانه قبحا وطاعته حسنا.

إذا تمهّد ذلك نقول : لا شبهة أنّ عظمته سبحانه وتعالى بلا نهاية ، ونعمته غير معدودة ، فلا بدّ أن يكون شدّة قبح مخالفته وحسن طاعته وكذا استحقاق العبد العقوبة على الأولى والمثوبة على الثانية غير متناهيين ، ثمّ لمّا كان الثّواب والعقاب غير المتناهيين شدّة وكيفيّة غير ممكن الوجود ، فلا بدّ من أن يكون الواقع محدودا وإن كان الاستحقاق فوقه.

ولا شبهة أنّ العذاب الجسمانيّ زائدا على الآلام الروحانية ممكن الوجود فلا بدّ من الحكم باستحقاقه ، وكذلك الثّواب ، فإذا ثبت الاستحقاق فلا بدّ أن تكسى الروح كسوة الجسد ليصير قابلا لذوق العذاب الأشدّ.

إن قيل : إعادة الجسم واجبة إذا كان العذاب الجسمانيّ واجبا ، وأمّا مع حسن العفو فلا.

قلنا : مصداق العفو عن العذاب الجسمانيّ لا يتحقّق إلّا مع إمكان العذاب وهو موقوف على وجود الجسم.

إنّ قيل : سلّمنا وجوب إيجاد جسم تتعلّق به الرّوح لإمكان العذاب الجسمانيّ أو العفو عنه ، إلّا أنّه لا نسلّم وجوب إعادة الجسم الذي كان الروح متعلّقا به في الدنيا.

قلنا : لا بدّ من القول بوجود مرجّح في الخلق الأوّل لعروض الصورة المخصوصة على مادّتها الخاصّة ، ولحلول الروح الخاصّ في الجسد المخصوص لئلا يلزم التّرجيح بلا مرجّح ، وليس إلّا التناسب والسنخيّة بين العارض والحال ، وبين المعروض والمحلّ المخصوصين وعدمهما مع غيرهما ، وهذا المرّجع والمقتضي موجود في الخلق الثاني ، وعلى هذا لا يمكن تعلّق الروح المخصوص إلّا بذلك الجسد الذي كان متعلّقا به ، فيجب إعادته.

[٢] ومنها : أنّه لا شبهة في أنّ مقتضى لزوم سنخيّة الروح مع جسده الخاصّ به ، لزوم تعلّق الرّوح

٢٣٤

الخبيث بالجسد المخلوق من الطّينة الخبيثة ، وحينئذ لا بدّ من تأثير كلّ منهما بعلاقة المجاورة في ازدياد خباثة الآخر ، فإذا كانا شريكين في التلذّذ بالمشتهيات والخباثة ودخيلين في ازديادها ، لا بدّ في حكم العقل من اشتراكهما في لوازم الخباثة والمعصية وهي العذاب في الآخرة ، وأن يعاد الجسد لا زدياد عذاب الروح.

[٣] ومنها : أنّه بعد ما عرفت أنّ الوعد بالثواب والعقاب من متمّمات حكمة التكاليف ، ومن الواجبات في النّظام الأتمّ ، لا بدّ من القول بوجوب الوعد بالثواب والعقاب الجسمانيّين ، لقصور فهم عموم النّاس عن درك الرّوحانيّين منهما ، فوجب على الله إعادة الجسم حتّى يمكن إنجاز الوعد ، أو يصحّ العفو.

﴿إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا

مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ

 يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ

 فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ

 ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ

 جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ

 عَلِيمٌ (٢٩)

ثمّ اعلم أنّه لمّا ضرب الله الأمثال العديدة للمنافقين في الآيات السّابقة ، تعرّض لدفع شبهات الكفّار في ضربه الأمثال في القرآن.

روي أنّه لمّا ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه ، وضرب للمشركين المثل بهما ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله (١) ، وكأنّهم اعترضوا على الكتاب المجيد باشتماله على هذه الأمثال الّتي لا تليق بعظمة الرّبوبيّة لتوهّمهم أنّ هذه الحيوانات الدّنيّة الصغيرة لا تناسب أن يذكرها العظيم المتعال

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٨٥.

٢٣٥

في كلامه.

وقيل : إنّهم قالوا : أما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت ؟ ! فردّ الله عليهم بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ﴾ في نهاية عظمته وكبريائه ﴿لا يَسْتَحْيِي﴾ ولا يرى على ذاته المقدّسة عيبا من ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما﴾ من الأمثال ، وأيّ مثل كان ، كان الممثّل به ﴿بَعُوضَةً﴾ قيل : هي أصغر من البق ، وفيها من ظهور قدرة الله ما لا يكون في الفيل ؛ لأنّها مع صغر حجمها لها جميع أعضاء الفيل مع زيادة جناحيها ، وخرطومها مع كونه مجوّفا وفي غاية الصغر يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته كما يغوص إصبع الرّجل في الخبيص ، وذلك لما ركّب الله في رأس خرطومها من السّمّ.

وقيل : إنّها تحيا ما جاعت ، وتموت إذا شبعت (١) .

﴿فَما فَوْقَها﴾ وما هو الأكبر منها كالذّباب والعنكبوت وغيرهما ، فإنّ المنظور من التّمثيل توضيح المقصود وكشف المستور بالنّظير المحسوس ، ولا ينظر إلى حقارة الممثّل به وجلالته وصغره وكبره ، ولا إلى دناءته وشرفه ، بل ينظر إلى مطابقة المثل للممثّل له ، وهو حاصل في أمثال القرآن على النّحو الأتمّ الأكمل.

وقيل : إنّ كلمة ( فوق ) من الأضداد ، تطلق على الأعلى والأدنى وعلى هذا يحتمل أن يكون ( ما فوقها ) بمعنى : ما دونها ، وما هو أصغر منها.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ﴿فَيَعْلَمُونَ﴾ بسبب سلامة عقولهم ، وبصيرة قلوبهم ، وطهارة نفوسهم من الحسد والعناد وحبّ الدنيا حين يسمعون المثل ﴿أَنَّهُ الْحَقُ﴾ الثابت ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لا مجال لإنكاره والاعتراض عليه ، لكونه في غاية الحسن والبلاغة ، وكشفه عن العلوم والحكم الكثيرة ، ونظير هذه الأمثال جاء في الكتب السّماويّة كالانجيل وغيره.

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله وعاندوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وجحدوا كتابه ﴿فَيَقُولُونَ﴾ عند سماع المثل ، استحقارا له ، لقصور عقولهم ، وقلّة أفهامهم ، وعمى قلوبهم ، وفساد أخلاقهم : ﴿ما ذا﴾ وأيّ شيء ﴿أَرادَ اللهُ بِهذا﴾ المثل من حيث كونه ﴿مَثَلاً﴾ فإن كان له نفع فضرّه يساوي نفعه ، لأنّه سبحانه ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾ من النّاس لجهلهم بموقعيّة الأمثال ﴿وَ﴾ إن كان ﴿يَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ لاعتقادهم كمال حسنه وكثرة فوائده ، فردّ الله عليهم بقوله : ﴿وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ﴾ الخارجين عن حدود

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٨٥.

٢٣٦

العقل وشؤون الانسانيّة وطريق الحقّ والصواب.

ثمّ كأنّه قيل : من الفاسقون ؟ فعرّفهم أوّلا بفساد العقائد بقوله : ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ ويخالفون ﴿عَهْدَ اللهِ﴾ الذي أخذ منهم على توحيده ورسالة رسوله وولاية عليّ والمعصومين من ذرّيّته عليهم‌السلام ، ووجوب طاعتهم ، ومحبّة المؤمنين ومودّتهم في عالم الذّرّ ، بقوله : ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ(١) وفي هذا العالم بإقامة الحجج القاطعة والبراهين السّاطعة الّتي هي في حكم العهد ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ وإحكامه ، وإتقانه.

ثمّ ذمّهم ثانيا بالإساءة إلى الأقارب بقوله : ﴿وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ من الأرحام والقرابات النّسبيّة الجسمانيّة بترك تعاهدهم ومنع حقوقهم ، ومن القرابات الرّوحانيّة وهم الأنبياء والأوصياء الذين هم آباء اممهم وأشياعهم لتوليدهم روح الإيمان في قلوبهم ، ولكون طينتهم من سحالة (٢) طينتهم الطيّبة ، والمؤمنون الذين هم إخوة حقيقة في الدنيا والآخرة ، لكونهم بجهة إيمانهم أولاد آب واحد وهو نبيّهم ، وفي تربية مربّ واحد هو الإمام والوصيّ ، وكون جميعهم مخلوقين من أصل واحد وطينة واحدة ، ولذا جعل الله بينهم حقوق الإخوة.

في الحديث : « إذا أظهر النّاس العلم وضيّعوا العمل به ، وتحابّوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب ، وتقاطعوا الأرحام ، لعنهم الله عند ذلك فأصمّهم وأعمى أبصارهم » (٣) .

ثمّ ذمّهم ثالثا بفساد الأعمال بقوله : ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بقبض الحقوق ، وتشييد الكفر ، وتضعيف الإسلام ، والصّدّ عن سبيل الحقّ ، وإلقاء الشبه في قلوب المؤمنين ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات الذميمة ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ في تجارتهم ، المغبونون في معاملتهم ، كأنّه لغاية خسارتهم لا يكون خاسر سواهم ، حيث إنّهم حرموا الجنّات والنّعيم الأبد ، ولزمهم النّيران والعذاب المخلّد.

ثمّ لمّا حكى الله تعالى مقالة الكفّار وتهكّمهم بالقرآن ، وشدّة كفرهم ، ونهاية طغيانهم وعصيانهم ، وجّه الخطاب إليهم بالتوبيخ والتقريع بقوله : ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾ وبوحدانيّته ، ﴿وَ﴾ الحال أنّكم ﴿كُنْتُمْ أَمْواتاً﴾ لا حياة لكم ، ونطفا في أصلاب آبائكم وأرحام امّهاتكم ﴿فَأَحْياكُمْ﴾ بخلق الأرواح ونفخها في أجسادكم بلا مزاج ، فبدأ الله بتذكيرهم ما هو الأصل لجميع النعم ، وهو نعمة الحياة ، لأنّه

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ١٧٢.

(٢) السّحالة : برادة الشيء أو ما يسقط منه أو قشره.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٨٨.

٢٣٧

كلّما عظمت نعمة المولى على العبد عظمت معصيته إيّاه.

ثمّ ذكّرهم زوال هذه النعمة التي صارت سببا لغرورهم بقوله : ﴿ثُمَ﴾ بعد مدّة طويلة من الإحياء وتعميركم في الدنيا ﴿يُمِيتُكُمْ ثُمَ﴾ بعد مدّة من الإماتة التي فيها تجهّزون وتقبرون ﴿يُحْيِيكُمْ﴾ في القبور للسؤال ولتنعّم المطيع ولتعذيب العاصي ﴿ثُمَ﴾ بعد الإماتة في القبر ﴿إِلَيْهِ﴾ وإلى سلطانه وحكمه ﴿تُرْجَعُونَ﴾ وتحيون ثالثا للنشور.

وقيل : أي ترجعون إلى ما وعدكم من الثواب والعقاب على حسب أعمالكم ، لا إليه في مكان كما توهّمه المجسّمة.

إن قيل : كيف استدلّ عليهم بالاحياء والإماتة في القبر ، ثمّ بالاحياء في المحشر مع عدم علمهم بذلك ؟

قلنا : تمكّنهم من تحصيل العلم جعلهم بمنزلة العالمين.

ثمّ أردف سبحانه وتعالى نعمة الحياة بذكر سائر النعم الجسيمة التي خلق لهم في الأرض بقوله : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ﴾ بقدرته ورحمته ﴿ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ من الأشياء كي تنتفعوا بها في دنياكم ودينكم ، بأن تستدلّوا بها على خالقكم ، وتعتبروا بها وتتوصّلوا إلى رضوانه ، وتتّقوا عن نيرانه ، وتصلحوا بها أبدانكم ، وتتقوّوا بها على طاعة ربّكم ، وتقبروا فيها إلى يوم بعثكم ، وفيه دلالة على أنّ خلق عالم الاجسام لأجل الإنسان وتبيعه.

عن ابن عباس رضى الله عنه : أوّل ما خلق الله جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة ، فنظر اليها بالهيبة فذابت واضطربت ، ثمّ ثار منها دخان ، فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء ، فجعل الزبد أرضا والدخان سماء (١) .

﴿ثُمَّ اسْتَوى﴾ وتوجّه سبحانه وتعالى بالإرادة والايجاد ، وقصد قصدا سويّا لا يلويه عنه شيء ﴿إِلَى﴾ خلق ﴿السَّماءِ فَسَوَّاهُنَ﴾ وخلقهنّ معتدلات ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ طباقا ليس فيها خلل ولا فطور ولا اعوجاج.

عن سلمان : اسم الأولى رفيع (٢) وهي [ من ] زمردة خضراء ، واسم الثانية أرفلون وهي من فضة

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٩١.

(٢) في تفسير روح البيان : رقيع.

٢٣٨

بيضاء ، والثالثة قيدون (١) وهي من ياقوتة حمراء ، والرابعة ماعون وهي من درّة بيضاء ، والخامسة ديفاء (٢) وهي من ذهب أحمر ، والسادسة وفناء وهي من ياقوتة صفراء ، والسابعة عروباء وهي نور يتلألأ (٣) .

﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من حقائق الموجودات واستعداداتها ومنافعها ومصالحها الراجعة إلى العالم ﴿عَلِيمٌ﴾ محيط ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة.

وفي التذييل به دلالة على أنّ علّة خلق الأشياء على هذا النمط الأكمل ، علمه بكنهها ومصالحها ، كما أنّ هذا النّسق العجيب ، والترتيب الأنيق في الخلق دال على كمال علمه تعالى وحكمته.

في بيان أنّ خلق الأرض قبل السّماء

ثمّ اعلم أنّ المستفاد من هذه الآية وغيرها أن خلق الأرض وما فيها كان قبل خلق السّماوات ، ومقتضى قوله تعالى في ( النازعات ) : ﴿أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها﴾ إلى قوله : ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها(٤) أنّ خلق الأرض كان بعد خلق السّماء.

وقيل في الجمع بينها : إنّ ﴿ثُمَ﴾ في تلك الآيات ليس للترتيب ، بل إنّما هو على جهة تعديد النعم ، كما يقول الرجل لغيره : أ ليس قد أعطيتك النعم العظيمة ، ثمّ رفعت قدرك ، ثمّ دفعت الخصومة عنك ؟ ولعلّ بعض ما أخّر ذكره قد تقدّم (٥) .

وقيل : إنّ كلمة ﴿بَعْدَ﴾ في قوله : ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ﴾ بمعنى ( مع ) مثل كلمة ( بعد ) في قوله ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ(٦) .

وقيل : إنّها على أصلها ، وإنّ خلق الأرض كان قبل خلق السّماوات ، ودحوها بعده ، لما روي عن ابن عبّاس قال : خلق الله الأرض قبل السّماء ، فقدّر فيها أقواتها ولم يدحها ، ثمّ خلق السّماء ، ثمّ دحا الأرض من بعدها (٧) .

في اعتراض الفخر الرازي على قول ابن عبّاس وجوابه

وردّ هذا القول بوجهين :

الأوّل : أنّ الأرض جسم عظيم لا يمكن انفكاك خلقها عن التّدحية ، فإذا كانت التّدحية متأخّرة ، كان خلقها متأخّرا.

__________________

(١) في تفسير روح البيان : قيدوم.

(٢) في تفسير روح البيان : دبقاء.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٩١.

(٤) النازعات : ٧٩ / ٢٧ - ٣٠.

(٥) تفسير الرازي ٢ : ١٥٥.

(٦) القلم : ٦٨ / ١٣.

(٧) الدر المنثور ٨ : ٤١٢.

٢٣٩

وفيه : أنّ التّدحية تسوية سطحها لا توسّعها.

والثاني : أنّ آية ﴿خَلَقَ لَكُمْ﴾ دالّة على أنّ خلق ما في الأرض قبل خلق السّماء ، وخلق ما في الأرض لا بدّ أن يتكوّن بعد التّدحية (١) .

وفيه : أنّ خلق ما فيها من الجبال والمعادن والأشجار وغيرها ، وإن كان لا يستلزم تسطيح وجه الأرض ، إلّا أنّ الانتفاع بها متوقّف عليه ، والله العالم.

إن قيل : مقتضى الآية أنّ السماوات سبع ، وأهل الرّصد قائلون بها تسعة.

قلنا : إن صحّ قول الرّصديّين ، يحمل السبع على ما سوى العرش والكرسيّ.

﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ

 يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما

لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي

 بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ

 أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمة الحياة ونعمة خلق ما في الأرض ونعمة خلق السّماوات ، ذكر النعمة الرابعة وهي خلق آدم وتعظيمة إيّاه ، وتشريفه بالعلم على الملائكة ، وكلّها من النعم الجارية في ذريّته ، ويمكن أن يكون وجه النّظم أنّه لمّا ذكر الله تعالى في الآية السابقة علمه وإحاطته بكلّ شيء ، وكان في قضيّة خلق آدم شهادة على كمال علمه وإحاطته بحقائق الموجودات وحكمها قبل إيجادها ، شرع في بيانها بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ﴾ وتذكّر حين أوحى ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ جميعهم ، أو للّذين كانوا في الأرض بعد طرد بني الجانّ منها ﴿إِنِّي جاعِلٌ﴾ بالخلق أو النّصب ﴿فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ وبدلا منكم وممّن كان قبلكم فيها ، ورافعكم إلى السّماء ، هكذا قيل (٢) .

والأظهر أنّ المراد بالخليفة هو الحجّة على الخلق من الله ، إذ الجعل أظهر في النّصب من الخلق ، كما قال تعالى : ﴿إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً(٣) وقال مخاطبا لداود عليه‌السلام : ﴿إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي

__________________

(١) تفسير الرازي ٢ : ١٥٥.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٩٣.

(٣) البقرة : ٢ / ١٢٤.

٢٤٠