نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

الحاصل من محرّكه.

وبالجملة لا شبهة أنّه يكفي في كون الفعل اختياريا تحقّق إرادة واحدة متعلّقة به ، معلولة لداع موجود بالأسباب الاتّفاقية ، ولا يحتاج إلى إرادات طوليّة.

وممّا يوضح ما ذكرنا أنّ أفعال الله عزوجل اختيارية بالضّرورة من العقل ، وليس إلّا لكونها صادرة عن إرادته التي هي عين علمه بالصّلاح التّامّ ، وهذا العلم هو عين ذاته ، ليس موجودا بعلم آخر متعلّق بصلاح ذلك العلم.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لا يخرج الفعل إذا كان الدّاعي إليه باقتضاء الذّات ، أو بايجاد الغير ، أو بإفاضة الله ، عن كونه اختياريا ، ولا يكون فاعله بالإرادة مجبورا ، لبداهة التضادّ بين كون الفاعل مريدا وكونه مجبورا ، إذ من الواضح قبح السّؤال عمّن أخبر أنّه فعل فعلا بإرادته : أكنت مجبورا أم مختارا فيه ؟ ولوضوح أنّه ليس الفارق بين حركة المختار والمرتعش إلّا أنّ المرتعش لا تكون حركته بالإرادة ، بخلاف المختار فإنّها بالإرادة والدّاعي.

في أنّ ختم القلب وصدور الكفر والمعاصي بخذلان الله وإرادته التكوينية لا ينافي صحة العقوبة عقلا عليها

وليس تعريف الفعل الاختياري وحقيقته عند الوجدان إلّا أنّه لو شاء فعل ، ولو لم يشأ لم يفعل ، وليس في تعريفه وحقيقته أنّه لو شاء شاء ، ولا شبهة أنّه إذا كان شخص بهذه الصفة صحّ تكليفه وعقوبته.

ثمّ لا مجال للإشكال على صحّة العقوبة بأنّه مع حصول الختم في القلب واستناد الكفر والعصيان إلى الإرادة المستندة إلى الدّاعي غير الاختياري يكون العقاب عليهما عقابا على ما لا بالاختيار ، وهو ظلم وقبيح.

إذ بعد ثبوت كون الكفر والعصيان بالإرادة ، وتأثير قدرة الكافر والعاصي في كفره وعصيانه ، يحكم العقل بحسن العقوبة والذّمّ عليهما ، إذ لا مدخل لغير الالتفات إلى عنوان الفعل ووجه كونه قبيحا وصدوره عن الإرادة في استحقاق العقوبة وحسنها ، وقد تحقّق أنّ العقل هو الحاكم بالاستقلال في الحسن والقبح في المقام.

وبعبارة اخرى أنّ حسن العقوبة والمثوبة ليس إلّا ملاءمتها لمذاق العقل ، والعقل يجد الملائمة بين العقوبة وصدور القبيح إذا كان منتهيا إلى مبدأ الإرادة ولو لم تكن الإرادة بالإرادة ، ولا اعتراض عليه ، ولا يسئل عمّا يحكم وهم يسألون ، والظلم هو العقوبة التي لا يحكم العقل بحسنها ، ولا يجد لها

٢٠١

موضعا.

فظهر من جميع ذلك أن كلّ فعل صدر من العبد بقوّة جوارحه وإرادته المنقدحة في ذهنه يكون فعله اختياريا (١) وتحسن عقوبته عليه ، إذا كان عنوانه الذي يكون به قبيحا ملتفتا إليه ، وإن كان مبادئ إرادته بإيجاد الله ومشيئته ، بل هو سبحانه وتعالى علّة علل جميع الأفعال الاختياريّة ، حيث إن وجود جميع الموجودات من الجواهر والأعراض والغرضيّات من الفعل والانفعال والوضع والإضافات والكيفيّات وغير ذلك في جميع العوالم ، لا بدّ أن تكون بالإرادة التكوينيّة الإلهيّة لأنّه السلطان المطلق والمالك الحقّ ، وجميع عوالم الوجود مملكته ، وناصية كلّ شيء بيده ، ليس لغيره من مخلوقاته تصرّف وسلطان في ملكه وسلطانه ، فلا يتحرّك متحرّك ولا يسكن ساكن ولا يؤثّر مؤثّر ولا يتصرّف متصرّف إلّا بأمره وإذنه. ولا يمكن أن يوجد أحد ما لم يرد الله وجوده ، أو يعدم ما لم يرد الله عدمه ، أو يتحرّك أو يسكن إذا لم يرد الله حركته أو سكونه.

فعلى هذا يكون إيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع ومعصية العاصي منتهيا إلى مشيئته وأمره ، كما قال تعالى : ﴿وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(٢) .

في دفع توهّم الفخر الرازي لزوم الجبر إذا كانت الأفعال معلولة للارادة والإرادة معلولة للدّواعي والدواعي معلولة للارادة التكوينية الالهية وقد غلط من توهّم أنّ الفعل إذا كان بالإرادة والإرادة بتأثير الدّاعي والدّاعي بإيجاد الله لزم الجبر ، لما ذكرنا من أنّ الجبر حمل الغير على فعل لا يريده ، لا إيجاد علل إرادته ، وأنّ الإرادة والجبر ضدّان لا يجتمعان في فعل واحد ، فإذا كان فعل مرادا امتنع أن يكون مجبورا عليه.

وأمّا نفس الإرادة فحيث إنّها ليست إراديّة ، لا يعقل أن يضاف إليها الجبر بأنّ يقال : إنّ المريد كان مجبورا في إرادته ، فإذا زيّن أحد معصيته في نظر أحد بحيث صار تزيينه لها داعيا ، وعلة لارادتها لا يعدّ المزيّن فاعلا لها ولا مجبرا عليها ، بل يعدّ سببا ، والفاعل المريد مباشرا للمعصية ، مستحقّا للذّمّ عليها بسبب إرادته واختياره.

إن قيل : لا ريب أنّ السبب في صدور فعل القبيح من الغير وتحريكه إليه بإيجاد الداعي له ، قبيح كمباشرته ، فكيف يجوز نسبة وجود الدّاعي إلى الكفر والمعاصي وتسبيب أسبابه إلى الله الحكيم ، مع

__________________

(١) في النسخة : الاختياري.

(٢) يونس : ١٠ / ١٠٠.

٢٠٢

امتناع صدور القبيح منه سبحانه ؟

قلنا : هو كذلك إذا لم يكن في صدور الفعل القبيح من الغير أو في إيجاد مقتضيات صدوره جهة حسن وصلاح بالنسبة إلى السبب ، غالبة على جهة القبح والمفسدة في الفعل. وأمّا إذا كان في الفعل أو وجود الدّاعي إليه في نفس الغير جهة حسن وصلاح غالبة بالنسبة إلى السبب المحرّك ، فليس قبيحا ، بل هو في غاية الحسن بالنسبة إليه ، وإن كان في نهاية القبح بالنسبة إلى المباشر ، إذ من الواضح أنّه يختلف الفعل الواحد صلاحا وفسادا باختلاف الأشخاص ، وحسنا وقبحا باختلاف الجهات.

وحينئذ نقول : مضافا إلى أنّ إفاضة الوجود الذي هو بالبديهة من العقل والعقلاء خير محض على الممكنات القابلة والذوات المستعدّة [ و] جود وإحسان وتعلية من حضيض النّقص إلى الكمال ، وهما من الحسن بمكان ، كما أنّ منع الفيض من الله قبيح ومحال.

إنّ لكلّ ماله حظ من الوجود سواء كان من الجواهر والأعراض كالخطرات القلبيّة ، والصّور الخياليّة ، والوجودات العلميّة ، وحركات الجوارح وغيرها ، حتّى حركة الطّرف ، ومشي النّملة ، وحركة ورق الشجر ، وانتقال الرّمل والحجر ، وغير ذلك ، صلاحا في نظام العالم ، لأنّ جميع العوالم كالشّخص الواحد ، وأجزاؤها كأعضائه ، يتوقف صلاحها بصلاح جميع أجزائها ، وصلاح كلّ جزء يتوقّف على صلاح بقيّة أجزائها ، فجميع أجزاء العالم مرتبطات بعضها ببعض ، والإرادة التكوينيّة علمه تعالى بحسن الإيجاد وصلاح الموجودات ، وبهذه الإرادة توجد جميع الموجودات من المؤثر والأثر ، والصادر والمصدر ، والفاعل والفعل ، والدواعي ومقتضياتها ، وتتّسق امور الموجودات ويتمّ نظامها.

في بيان حقيقة الارادة التكوينية والتشريعية والفرق بينهما وعدم تنافيهما فإذا كانت الأفعال الإراديّة من الماهيّات القابلة لفيض الوجود ، ممّا يتوقّف به حسن النظام ، متعلّق بإيجادها ، والإرادة التكوينيّة بتوسّط عللها الطوليّة من الإرادة ومباديها ، مثلا إذا أراد الله أن يصل مقدار من المال من زيد بإرادته إلى عمرو ، يذكّر زيدا سوء حال عمرو وفقره ، ويحدث الدّاعي إلى الإعطاء في قلب زيد ، ويسهّل عليه إعطاءه ، فيقوم زيد بالإرادة ، ويذهب بالمال إلى باب عمرو فيعطيه ، فيكون هذا الإعطاء من الله تعالى بالتّسبيب ، ومن زيد بقدرته وإرادته ومباشرته. وكذا إذا أراد الله أن يأكل أحد طعاما ، يوجد فيه الاشتهاء ، ويخلق الطّعام ، ويمكّنه من أكله ، ويرفع الموانع عنه ، ويسلّطه عليه فيأكله المشتهي بإرادته

٢٠٣

وقدرته وميله وشهوته ، بلا قسر ولا قهر ولا جبر ، مع أنّه قد يكون أكل ذلك الطعام قبيحا بالنسبة إلى الآكل لكونه غصبا ، وإيجاده بالمقدّمات الإرادية حسنا من الله تعالى لكونه مرتبطا بالنظام الأتمّ.

ثمّ اعلم أنّ من العناوين القابلة للوجود المرتبطة بالنظام ، عنوان الطاعة والعبوديّة ، وعنوان الطّغيان والمعصية ، حيث كان الغرض من إيجاد الموجودات معرفته تعالى بأسمائه الحسنى ، وصفاته الجماليّة والجلاليّة ، فلو لم توجد الطّاعة والعبوديّة ، لم تظهر صفة لطفه ورحمته ورأفته ، ولو لم يوجد عنوان الطغيان والكفر ، لم تظهر صفة قهّاريته ، ولو لم يوجد عنوان المعصية لم تظهر صفة عفوه وغفوريّته ، فعلى هذا تتعلّق الإرادة التكوينيّة بإيجادها بتوسّط إيجاد أسبابها ومقدّماتها.

ومن الواضح أنّ من جملة مقدّماتها جعل الأحكام التّكليفيّة والوضعيّة ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، والوعد بالثواب ، والوعيد بالعقاب ، فتنشأ الأحكام طبقا للإرادات التشريعيّة التي هي عين العلم بحسن بعض الأفعال وصلاحه بالنسبة إلى المكلّف ، وقبح بعضها وفساده ، بالإضافة إليه على اختلاف مراتبهما من الحسن والقبح الملزمين وغير الملزمين ، وعلى اختلاف درجات الصلاح والفساد من المهمّ وغيره ، فبالإنشاء البعثيّ والزّجريّ الناشئ من تلك الإرادة التشريعيّة يحدث الوجوب والاستحباب ، والحرمة والكراهة.

فظهر من ذلك الفرق بين الإرادة التكوينيّة والتّشريعيّة ، وأنّ الاولى : هي العلم بحسن الإيجاد ، وارتباط الموجود بصلاح النّظام الأتمّ. وأنّ الثانية : هي العلم بحسن صدور الفعل من فاعله وقبحه ، وصلاحه أو فساده بالنسبة إليه ، وأنّه لا تنافي بين قبح صدوره من مباشره وحسن التسبّب إليه من سببه ، وإنّه لا تنافي بين كونه اختياريّا بالنسبة إلى المباشرة واستحقاقه الثواب أو العقاب عليه ، وبين انتهاء وجوده بعلله الطوليّة إلى إرادة الله ، وإنّه لا تنافي بين كون إيجاده وصدوره متعلّقا بالإرادة التشريعيّة ، وتركه متعلّقا للإرادة التكوينيّة ، لما ذكرنا من أنّ الإرادة التشريعيّة في طول الإرادة التكوينيّة ، ومن مبادئ إنفاذها ، حيث إنّه لو لم تكن الإرادة التشريعيّة ، لم توجد الطّاعة والمعصية اللّتان تكونان متعلّقتين للإرادة التكوينيّة.

في وجه الحاجة إلى ارسال الرسل وإنزال الكتب وأنّ الأحكام التكليفية ألطاف من الله تعالى

واتّضح أيضا وجه الحاجة إلى إرسال الرّسل وإنزال الكتب وإظهار المعجزات وفوائدها.

ثمّ لمّا كانت الأحكام التكليفيّة مقربات إلى المحسّنات العقليّة ، ومبعّدات عن

٢٠٤

قبائحها ، لكونها دواعي الى إتيان ما يأمر به العقل لحسنه أو صلاحه ، وإلى ترك ما ينهى عنه العقل لقبحه وفساده ، كانت جميعها ألطافا من الله ، والتوفيق للقيام بها رحمة وعطوفة منه (١) ؛ لأنّ العمل بها مؤثّر في كمال النّفس ، ونورانيّة القلب ، والطّهارة من الأخلاق الرّذيلة السّيئة ، والتّحلّي بالملكات الجميلة الحسنة ، ويكون الانسان بها كاملا في الجهات الانسانيّة ، ومظهرا للصفات الإلهيّه ، وهذا الكمال والمظهرية هو حقيقة القرب إلى ساحة الربوبية ، والفوز بالمقصد الأعلى من التمحض في العبوديّة ، والاستغراق في بحار الأنوار ، والإرتقاء إلى درجة لا ترقى إليها العقول والأفكار.

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تعذيب الكفّار بالطبع والخذلان ، هدّدهم بقوله ﴿وَلَهُمْ﴾ خاصّة في الآخرة أو في الدّنيا والآخرة ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ لا يدرك شدّته وعظمته إلّا الله ، أمّا في الدنيا فبالآلام الواردة عليهم من الأخلاق السيّئة والذّلة والمسكنة والطّرد والشّرد والقتل وسائر البليّات ، وأمّا في الآخرة فبنار سجّرها القهّار بغضبه ، لا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم ساعة وهم فيها خالدون.

في أنّ وجه صحّة تعذيب العصاة وإثابة المطيعين هو الاستحقاق العقلي وحسنهما في حكمه.

ثمّ لا يخفى أنّ علّة تعذيب الكفّار والعصاة لا تكون إلّا استحقاقهم الذي يحكم به العقل عند عصيان العبيد مواليهم الذين تجب طاعتهم ، فإذا تحقق الاستحقاق يجب على الحكيم العمل بمقتضاه ، إذ الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، وإعطاء الشّيء ما يستحقّه.

إن قيل : لا شبهة في أنّ العفو عن عقوبة من يستحقّها حسن في حكم العقل ، فيجب على الله بمقتضى حكمته وكرمه.

قلنا : قد تكون المعصية من القبح بمرتبة لا يحسن العفو عن عقوبتها ، ويكون العفو عنها مخالفا للحكمة ، حيث إنّه كما يعتبر في الإحسان قابليّة المحلّ ، كذلك يعتبر في العفو ، مثلا إذا رأى كريم أجنبيا مع زوجته أو بعض محارمه ونواميسه كامّه وبنته قبح العفو عنه ، إذ العفو في المقام كاشف عن عدم الغيرة. ولذا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا بقتل جريح القبطيّ بمجرّد سماع رميه بمراودة مارية عن نفسها ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « كان أبي إبراهيم غيورا ، وأنا أغير منه » (٢) .

ولنوضح المقام ببيان مقدّمة ، وهي أنّ فعل القبيح عند العقل والعقلاء مقتض لاستحقاق اللّوم ، والعصيان من العبد مقتض لاستحقاق العقوبة من المولى ، والمراد من الاستحقاق حسن اللّوم

__________________

(١) كذا ، والمصدر من عطف : عطفا وعطوفا.

(٢) مكارم الأخلاق : ٢٣٩.

٢٠٥

والعقوبة في الموضعين ، وحقيقة الحسن والقبح هي الموافقة لمذاق العقل والمنافرة له ، ولا شبهة أنّ لكلّ منهما مراتب في الشّدّة والضّعف باعتبار قوّة منشأهما وضعفه ، فقد يكون الحسن في فعل بمرتبة لا يزاحمه حسن آخر إذا دار الأمر بينهما ، ولا قبيح إذا استلزمه فيحسن ارتكابة ، وإن لزم منه وجود قبيح آخر أو فوت حسن آخر ، وقد تساوي جهة حسنة جهة حسن ضدّه الذي لا يجامعه في الوجود ، أو جهة قبح لازمه ، فتخيّر الفاعل بين الضدّين في الأوّل وبين النّقيضين من الفعل والتّرك في الثاني ، وقد تترجّح إحدى الجهتين على الاخرى رجحانا غير لازم الرّعاية ، فتكون رعايتها أحسن وأفضل.

إذا تمهّد ذلك نقول : لا شبهة في أنّ المعصية منشأ لانتزاع حسن اللّوم والعقوبة من حيث إنّها كاشفة عن خبث النفس وسوء السّريرة ، ثمّ إنّه قد يتدارك بالتّوبة أو بطاعة مقبولة فينتفي بوجود أحدهما منشأ انتزاع حسن العقوبة.

وبعبارة اخرى التّوبة أو الطاعة المقبولة في حكم العقل مزاحمان لمقتضى الاستحقاق ومزيلان له ، ومع عدمهما قد يكون حسن العفو مساويا لحسن العقوبة ، وقد يترجّح عليه برجحان غير ملزم فيما لم يكن مقتضى العقوبة في غاية القوّة ، مثلا الكفر والشرك يكونان في اقتضاء العقوبة بدرجة يخرجان صاحبهما عن قابليّة العفو ، حيث إنّهما يورثان ظلمة محيطة بالقلب ، بحيث لا تبقى فيه شائبة النور ، ويخرج عن مسانحة عالم الأنوار ، ويصير مناسبا لعالم الظلمات ، ويكون كالشّجر اليابس لا يليق إلّا للإحراق بالنّار ، وكالشّيطان لا ينبغي إلّا أن يكون قرينا للشّياطين في دار البوار ، وليس إسكانه في الجنان إلّا كإسكان الكلب الأجرب العقور على سرير السّلطان.

في بيان أنّ العفو عن الكافر خلاف الحكمة ووضع الشيء في غير موضعه

والحاصل : إنّ العفو عنه ، والرّحمة عليه ، والإحسان إليه ، خلاف الحكمة ، ومن قبيل وضع الشّيء في غير موضعه ، وقد ورد في الدعاء المأثور : « وأيقنت أنّك أنت أرحم الرّاحمين في موضع العفو والرّحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النّكال والنّقمة » (١) .

فإنّ من الواضح أنّ الشّقاوة ملازمة للبعد والهلاك ، وإنّما الوعد بالعذاب في الحقيقة إخبار بوجود الملاك.

__________________

(١) إقبال الأعمال : ٥٨.

٢٠٦

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ

 اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر المتّقين ومدحهم بالصفات الحسنة ووعدهم بالهدى والفلاح ، وذكر الكفّار وذمّهم بالأخلاق السيّئة وتوعيدهم بالعذاب العظيم ، شرع في بيان حال القسم الثالث من النّاس ، وهم المنافقون الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، بقوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ بلسانه ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ والحال أنّهم كاذبون فيما يقولون ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ولا معدودين في زمرتهم لعدم دخول الإيمان في قلوبهم.

عن القمّي رحمه‌الله : أنّها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإسلام ، وكانوا إذا رأوا الكفّار قالوا : إنّا معكم. وإذا لقوا المؤمنين قالوا : نحن مؤمنون (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الحكم بن عتيبة ممّن قال الله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ فليشرّق الحكم وليغرّب ، أما والله لا يصيب العلم إلّا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه‌السلام » (٢) .

وعن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : عن موسى بن جعفر صلوات الله عليهما - في رواية طويلة ذكر فيها قضيّة يوم الغدير ، ونصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام للخلافة ، وأمره الصّحابة ببيعته بإمرة المؤمنين - إلى أن قال : ثمّ إنّ قوما من متمرّدي جبابرتهم تواطؤوا بينهم إن كانت لمحمّد كائنة لندفعنّ هذا الأمر عن عليّ ، ولا يتركونه [ له ] ، فعرف الله ذلك في قلوبهم. وكانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون له : لقد أقمت عليّا أحبّ خلق الله إلى الله وإليك وإلينا ، كفيتنا به مؤنة الظّلمة والجبابرة ، وسياستنا (٣) .

وعلم الله في (٤) قلوبهم خلاف ذلك ومواطأة (٥) بعضهم لبعض أنّهم على العداوة مقيمون ، ولدفع الأمر عن مؤثره (٦) مؤثرون ، فأخبر الله تعالى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم ، فقال : يا محمّد ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ﴾ الذي أمرك بنصب عليّ إماما وسائسا لامّتك ومدبّرا ﴿وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ بذلك ولكنّهم مواطئون على هلاكك وهلاكه » (٧) الخبر.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٤.

(٢) الكافي ١ : ٣٢٩ / ٤.

(٣) في المصدر : والجائرين في سياستنا.

(٤) في المصدر : من.

(٥) في المصدر : ومن مواطأة.

(٦) في المصدر : مستحقه.

(٧) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١١٢ / ٥٨. وفيه : ولكنّهم يتواطؤون على إهلاكك وإهلاكه.

٢٠٧

أقول : الظاهر - بالنّظر إلى الرّوايات - أنّ شأن نزول الآية جماعة المنافقين الذين كانوا من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّها جارية على سائر المنافقين في سائر الأزمنة إلى يوم القيامة ، وفيها دلالة على أنّه لا ينبغي الوثوق بإيمان كلّ من كان داخلا في الصّحابة وعمله وقوله حسنا في الظاهر ، كما هو مبنى مذهب العامّة ، وفيها إشعار أيضا بأنّ أهمّ أركان الإيمان هو الإيمان بالمبدأ والمعاد.

ثمّ قرعهم الله بقوله : ﴿يُخادِعُونَ اللهَ﴾ بمعاملتهم مع رسوله معاملة المخادع ، ولكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله خليفة الله ومظهر صفاته وعينه الناظرة ويده الباسطة واذنه الواعية نزّل مخادعته منزلة مخادعة الله.

عن ابن بابويه : عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه « [ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ] سئل : فيما النّجاة غدا ؟ فقال : إنّما النّجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم ، فإنّه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان ، ونفسه يخدع لو يشعر. فقيل له : وكيف يخادع الله ؟ فقال : يعمل بما أمره الله عزوجل به ثم يريد به غيره ، فاتّقوا الله واجتنبوا الرياء فإنّه شرك بالله عزوجل ، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر » (١) الخبر.

وفيه دلالة على أنّ مخادعة الله لا تختصّ بالمنافق المعروف ، بل تعمّ كلّ من يظهر شأنا ومقاما من الدّين وهو ليس بواجد له ، وكلّ من يظهر حقّا لا يوافق ظاهره باطنه ﴿وَ﴾ يخادعون ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لأنّ ضرر مخادعتهم راجع إلى أنفسهم لا إلى المؤمنين ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ أنّهم بخديعتهم ونفاقهم يضرّون على أنفسهم ، بل يحسبون أنّهم يجلبون النّفع ، أو لا يشعرون أنّه لا يمكنهم الخديعة بالنّسبة إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، فإنّ الخدعة فعل ما هو مضرّ على الغير مع إخفاء ضرّه وإظهار صلاحه ، والله مطّلع على خفايا امورهم ، وكفر باطنهم ، وهو يطلع نبيّه والمؤمنين ، ويأمرهم بلعنهم ، فيكون الأمر بخلاف ما تخيّلوا ، حيث إنّ نفاقهم مضر عليهم مع خفاء ضرره عنهم ، وفي سلب الحواسّ الحيوانية عنهم دلالة على انحطاطهم عن مرتبة البهائم.

﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)

 وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ

الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٦٧٧ / ٩٢١.

٢٠٨

ثم كأنّه يقال : ما سبب نفاقهم مع وضوح الحقّ ؟ فقال تعالى : ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ عظيم من الحسد والكبر وحبّ الجاه والعناد للحقّ ، فأورث فساد أوراحهم وهلاكهم الأبديّ ، وأين هذا المرض من الأمراض الجسمانيّة التي غاية شدّتها أن تنتهي إلى الموت وفساد الجسد !

وفي الحديث : « القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وإيمان ، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك ، وإن أدركه على إيمانه نجا ، وقلب منكوس وهو قلب المشرك ، وقلب مطبوع وهو قلب المنافق ، وقلب أزهر أجرد وهو قلب المؤمن ، فيه كهيئة السّراج ، إن أعطاه الله شكر ، وإن ابتلاه صبر » (١) الخبر.

﴿فَزادَهُمُ اللهُ﴾ بسبب ظهور الآيات ، وتوافر المعجزات ، وزيادة حشمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوّة الإسلام ﴿مَرَضاً﴾ وحسدا زائدا على حسدهم ، وبغضا وعنادا أشدّ من بغضهم وعنادهم السّابق ، فإنّ الأمراض القلبية تتزايد ، والصفات الذّميمة تشتدّ إذا لم تعالج عند الأطبّاء الروحانيين وهم الأنبياء والأولياء.

ثمّ هدّدهم الله بقوله : ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ بالغ ألمه غايته ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ في قولهم : آمنّا بالله وباليوم الآخر ، أو قولهم : إنّا على البيعة والعهد مقيمون.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان غاية خبثهم وقساوتهم ببيان عدم قبولهم النّصح ، بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ نصحا ووعظا ، والظاهر أنّ القائل بعض المؤمنين المطّلعين على فساد نيّتهم وإفسادهم ﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

قيل : كان فسادهم فيها أنّهم كانوا يمايلون الكفّار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم ، وإغرائهم عليهم ، وذلك ممّا يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.

وقيل : هو مداراتهم الكفّار ومخالطته إيّاهم ، حيث يوهم ذلك مع تظاهرهم بالإيمان ، ضعف أمر النبيّ وأصحابه ، فيصير سببا لطمع الكفّار فيهم فتهيج الفتن والحروب بينهم.

وقيل : كانوا يدعون في السّرّ إلى تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويلقون الشّبه في قلوب المؤمنين.

وعن ابن عبّاس : أنّ المراد بالإفساد إظهار معصية الله (٢) . فإنّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسّك الخلق بها زال العدوان ولزم كلّ شأنه ، فحقنت الدّماء ، وضبطت الأموال ، وحفظت الفروج ، فكان ذلك صلاح الأرض وأهلها ، أمّا إذا أهملت الشريعة وأقدم كلّ أحد على ما يهواه ، اشتعلت نوائر

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٠٩ / ٢.

(٢) تفسير الرازي ٢ : ٦٦.

٢٠٩

الفتن من كلّ جانب ، وحدثت المفاسد.

وعن العالم موسى بن جعفر عليه‌السلام : « أنّه إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير : لا تفسدوا في الأرض بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين فتشوّشوا عليهم دينهم وتحيّروهم في دينهم ومذاهبهم » (١) . الخبر.

أقول : الظاهر إرادة جميع أنحاء الفساد للإطلاق ، وعدم ما يدلّ على إرادة فساد خاصّ ، بل الظاهر من حالهم أنّهم كانوا لا يتركون شيئا ممّا يوجب الفساد في الدّين وأمر نبوّة خاتم النبيّين ، وكذا في أمر خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام عند قدرتهم عليه ، وتيسّره لهم.

ومع ذلك ﴿قالُوا﴾ جوابا للناصحين من المؤمنين ، وردّا عليهم : لسنا مفسدين ، بل ﴿إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ بين المشركين والمسلمين بالمداراة معهم ، أو المراد أنّهم قالوا لمن كان على طريقتهم وعقيدتهم من الكفر : إنّ نقاقنا وإلقاء الفتنة بين المشركين والمسلمين وإلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين محض الصلاح والإصلاح ، حيث إنّا بتلك الأعمال نحفظ ديننا من اليهوديّة والوثنيّة ، ودماءنا وأعراضنا وأموالنا بإظهار الإسلام.

وعن موسى بن جعفر عليه‌السلام : « قالوا - يعني الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام - إنّما نحن مصلحون لأنّا لا نعتقد دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا غير دين محمّد ، ونحن في الدّين متحيّرون ، فنحن نرضي في الظاهر محمّدا بإظهار قبول دينه وشريعته ، ونقضي في الباطن على شهواتنا ، فنتمتع ونترفّه ونعتق أنفسنا من دين محمّد ونكفّها من طاعة عليّ لكيلا نذلّ في الدنيا » (٢) الخبر.

فردّ الله عليهم بقوله : ﴿أَلا﴾ تنبّهوا أيّها المؤمنون ﴿إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ في الأرض ، لا مفسد أفسد منهم ، لأنّ عملهم عين الفساد ومحضه ، حيث إنّه تشييد للباطل ، وتضعيف للحقّ ، وإثارة للفتن ، وسبب لكثرة الحروب وإراقة الدّماء ، مع غلبة المسلمين.

أو المراد « أنّهم مفسدون امور أنفسهم بما يفعلون ، حيث إنّ الله تعالى يعرّف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نفاقهم ، فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم أيضا ، ولا يثق بهم أعداء المؤمنين لأنّهم يظنّون أنّهم ينافقونهم أيضا

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١١٨ / ٦١.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١١٨ / ٦١.

٢١٠

كما ينافقون أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا ترتفع لهم عندهم منزلة ، ولا يحلّون عندهم بمحلّ الثقة » (١) هكذا مرويّ عن المعصوم.

ثمّ استدرك الله تعالى ، بقوله ﴿وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أنّهم مفسدون ، للإيذان بأنّ تمحّضهم في الإفساد من المحسوسات ، لكن لا حسّ لهم حتّى يدركوه ، أو المراد أنّهم لا يشعرون بعدم انتفاعهم بالنفاق ، بل يتضرّرون به أشدّ الضّرر ، أو المراد أنّهم لا يشعرون أنّ صلاح أمرهم في العاجل والآجل في الإيمان والتّسليم والوفاء ببيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

قيل : في الآية إشعار بشرف المؤمنين ، حيث تولّى الله عنهم جواب المنافقين (٢) .

﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ

 السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى

 شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ

 فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ

تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)

ثمّ أكّد الله بيان خصلتهم السّيئة بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ من طرف المؤمنين ، بطريق الأمر بالمعروف عقيب نهيهم عن المنكر ، إتماما للنّصح وإكمالا للإرشاد : ﴿آمِنُوا﴾ بالله واليوم الآخر ونبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به إيمانا حقيقيّا لا يشوبه شكّ ولا نفاق ﴿كَما آمَنَ النَّاسُ﴾ المخلصون من أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، كسلمان وأبي ذرّ والمقداد وأضرابهم ﴿قالُوا﴾ لأصحابهم المطّلعين على سرّهم ، الموافقين لهم في كفرهم ، إنكارا وتعجيبا : ﴿أَ نُؤْمِنُ﴾ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه ﴿كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ الذين هم لضعف عقولهم رفضوا دين آبائهم ، وأعرضوا عن أرحامهم وأقربائهم ، وتركوا جاههم وثروتهم ، ورضوا بالذّلّة والمسكنة لأنفسهم ، واتّبعوا هذا الرجل الضّعيف ، وعن قريب يتهاجم عليهم العرب ويقتلونهم عن آخرهم ، فينقطع خبرهم ، وينمحي أثرهم.

فردّ الله عليهم بقوله : ﴿أَلا﴾ تنبّهوا أيّها المؤمنون ﴿إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ﴾ القاصرون عن معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه مؤيّد منصور ، وأنّ دينه يقوى ويدوم مرّ اللّيالي والدهور ، وأنّه نبيّ الرّحمة ، وأنّ الذين

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ١ : ٥٨.

٢١١

اتّبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، وأنّه يضرب على من خالفه الذّلّ والهوان ، وأنّه باب الله الجاري من أوّل الخلق إلى آخر الزمان ، وذلك واضح لمن علم تاريخ الأنبياء السابقة ، والأمم السالفة ﴿وَلكِنْ﴾ هؤلاء الجهلة ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أحوال الأنبياء وتأييداتهم الغيبيّة الربّانية ولا يطّلعون على تواريخ الامم الماضية.

أو المراد أنّهم لا يعلمون أنّهم السّفهاء ، ولا يحيطون بما هم عليه من داء الجهل ، وأنّ المؤمنين بإيمانهم وإخلاصهم يبعدون عن السّفه والجهالة راغبين (١) في العلم وطلب الحقّ.

ثمّ أوضح الله تعالى كيفيّة نفاقهم ، بقوله : ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصادفوهم ﴿قالُوا﴾ لهم بأفواههم كذبا ﴿آمَنَّا﴾ بما آمنتم به ﴿وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ﴾ واجتمعوا في الخلوة مع سائر المنافقين المغوين لهم ﴿قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ في الدّين وتكذيب محمّد ومخادعة المؤمنين ﴿إِنَّما نَحْنُ﴾ بتصديق النبيّ وإظهار الإسلام ﴿مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ بالمؤمنين ، ساخرون منهم ، من غير أن يخطر ببالنا الإيمان ، وإنّما نظهر موافقتهم لنأمن من شرّهم ، ونطّلع على سرّهم وننكح بناتهم ، ونشاركهم في غنائمهم وصدقاتهم.

من طريق العامّة : عن ابن عبّاس : أنّ عبد الله بن ابي وأصحابه خرجوا ، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : انظروا كيف أردّ (٢) ابن عمّ رسول الله ، ثمّ قال : يابن عمّ رسول الله ، وسيّد بني هاشم خلا (٣) رسول الله.

فقال عليّ كرّم الله وجهه : يا عبد الله ، اتّق الله ولا تنافق ، فإنّ المنافق شرّ خلق الله تعالى.

فقال : يا أبا الحسن ، والله إنّ إيماننا كإيمانكم ، ثمّ تفرّقوا ، فقال عبد الله بن ابيّ لأصحابه : كيف رأيتم ما فعلت ؟ فأثنوا عليه خيرا. فأنزل الله على رسوله ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ..﴾ الآية (٤) .

قال موفّق بن أحمد راوي الرّواية : فدلّت الآية على إيمان عليّ كرّم الله وجهه ظاهرا وباطنا ، وعلى قطعه موالاة المنافقين ، وإظهار عداوتهم (٥) .

وعن ابن شهر آشوب : عن الباقر عليه‌السلام : « أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام أظهروا الإيمان والرّضا بذلك ، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين ﴿قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما

__________________

(١) في النسخة : راغبون.

(٢) في المناقب : أرادّ.

(٣) في المناقب : ختن.

(٤) مناقب الخوارزمي : ١٩٦.

(٥) مناقب الخوارزمي : ١٩٦.

٢١٢

نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ(١) .

وعن تفسير الهذيل ، ومقاتل : عن محمّد بن الحنفيّة - في خبر طويل - ﴿إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ بعليّ بن أبي طالب فقال الله تعالى شأنه : ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يعني يجازيهم في الآخرة جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) .

وقيل : إنّ المراد أن الله يعامل معهم في الدنيا والآخرة معاملة المستهزئ ، أمّا في الدنيا فبأن جعل لهم أحكام الاسلام في الظاهر ، فيحسبون أنّ لهم عند الله كرامة ، وهم في غاية الهوان لكفرهم.

وأمّا في الآخرة : فقد روي عن محمّد بن الحنفيّة ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله الخلق بالجواز على الصّراط ، فيجوز المؤمنون إلى الجنّة ، ويسقط المنافقون في جهنّم [ فيقول الله : يا مالك استهزئ بالمنافقين في جهنم ] فيفتح مالك بابا من جهنّم إلى الجنّة ، ويناديهم : معاشر المنافقين ، هاهنا هاهنا ، اصعدوا إلى الجنّة فيسبح المنافقون في بحار (٣) جهنّم سبعين خريفا حتّى إذا بلغوا إلى باب الجنّة وهمّوا بالخروج أغلقه دونهم ، وفتح له بابا من الجنّة من موضع آخر ، فيناديهم : اخرجوا إلى الجنّة ، فيسبحون مثل الأوّل ، فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم ويفتح من موضع آخر ، وهكذا أبد الآبدين (٤) .

وفي حديث : يؤمر بنفر من النّاس يوم القيامة إلى الجنّة ، حتّى إذا دنوا منها واستنشقوا رائحتها ، ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعدّ الله تعالى لأهلها نودوا أن انصرفوا (٥) عنها لا نصيب لكم فيها. فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الأوّلون والآخرون بمثلها ، فيقولون : يا ربّنا ، لو أدخلتنا النّار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك ! فيقول : ذلك أردت بكم ، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم ، فإذا لقيتم النّاس لقيتموهم مخبتين (٦) ، تراؤن النّاس ، وتظهرون خلاف ما انطوت قلوبكم عليه ، هبتم الدنيا ولم تهابوني ، وأجللتم النّاس ولم تجلّوني ، وتركتم للنّاس ولم تتركوا لي ، فاليوم اذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم.

قيل : في الآية إشعار بكرامة المؤمن على الله ، حيث تدلّ على أنّه سبحانه يستهزئ بمن استهزأ

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ١٤٥ / ٣٣٧.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٩٤.

(٣) في المناقب : في نار.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٩٤ ، بحار الأنوار ٨ : ٣٠١ / ٥٦.

(٥) في النسخة : اصرفوا.

(٦) أي خاشعين متواضعين.

٢١٣

بالمؤمن ، كأنّه ينوب عن المؤمن في الاستهزاء بالمستهزئ به ، ويجازيهم بالهوان والخيبة في الدنيا ، وبتعذيب يضحك به المؤمن في الآخرة.

ثمّ أكّد الله تعالى تهديدهم ، بقوله : ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ ويزيدهم ويقوّيهم ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ وبتجاوزهم عن الحدّ في العناد والإصرار على الكفر والعصيان ، وإنّما إمداده تعالى لهم يكون بالإمهال والخذلان في الدنيا بسبب منع الألطاف عنهم ، حتّى يتزايد في المدّة الطويلة من أعمارهم الرّين والظلمة في قلوبهم ، فيستحقّون زيادة العذاب والنّكال في الآخرة.

ولذا فسّر القمي رحمه‌الله : المدّ ، بالدّعة ، حيث قال : أي يدعهم (١) ، حال كونهم في مدّة تعيّشهم في الدنيا ﴿يَعْمَهُونَ﴾ ويتردّدون في الضّلالة عمي القلوب ، حيارى ، لا يدرون أين يتوجّهون ، وفي أيّ طريق يسلكون ، إذ لا يمكنهم الجمع بين الإسلام والكفر ، وصحبة الأبرار والفجّار ، فهم ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ(٢) بل هذا حال كلّ من أراد الجمع بين الدنيا والآخرة مع أنّهما ضرّتان.

ثمّ بيّن الله تعالى غاية سفاهتهم ، وضعف عقولهم ، بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المنافقون المتميّزون عن سائر النّاس بأقبح الصفات ، البعيدون من رحمة الله ، هم ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ وبادلوا ﴿الضَّلالَةَ بِالْهُدى﴾ واختاروا لأنفسهم الكفر بعوض الإيمان ، والباطل بعوض الحقّ الذي جاءهم من قبل الله ، وكأنّهم تملّكوه ثمّ رفعوا اليد عنه ، وأخذوا الكفر بدله فكأنّهم عاوضوه به ، فأيّ صفقة أخسر من هذه؟

ثمّ كأنّه يقال : فما يكون حال المشترين ؟ فيقال : إذا اشتروا ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ بل خسرت خسرانا مبينا ، حيث فاتهم نعيم الأبد ، ولازمهم العذاب المخلّد ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى طريق النّجاة وما كانوا عالمين بصلاح المعاملة ، ولذا ابتلوا بغاية الخسارة حيث إنّ المقصود من التجارة سلامة رأس المال مع حصول الرّبح ، وهم لجهلهم وغباوتهم أتلفوا رأس المال من الفطرة السّليمة والعقل المستقيم ، والعمر الطويل في متجر الدنيا وسوقها المعدّ لتحصيل الرّبح الدائم والثّواب العظيم ، بهذا المتاع الذي أعطاهم الله إيّاه.

عن العالم عليه‌السلام : « وما كانوا مهتدين إلى الحقّ والصواب » (٣) .

وعن القمّي رحمه‌الله في تفسير الضّلالة والهدى ، قال : الضّلالة هاهنا : الحيرة ، والهدى : البيان. فاختاروا

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٤.

(٢) النساء : ٤ / ١٤٣.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٢٦.

٢١٤

الحيرة والضّلالة على الهدى والبيان (١) .

﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ

وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ

 مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ

 الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ

 أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ

 بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان حقيقة حال المنافقين ، عقّبها بضرب مثل لها ، زيادة في التّوضيح والتّقرير - حيث إنّ التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل ، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبيّ حقائق الامور. قيل : إنّ أمثال القرآن العزيز من أعظم علومه ، والنّاس في غفلة عنه - فقال : ﴿مَثَلُهُمْ﴾ وحالهم العجيبة ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً﴾ مثل حال من طلب إيقادها وارتفاع لهبها حتّى ينتفع بضوئها وسائر منافعها ﴿فَلَمَّا﴾ توقّدت و﴿أَضاءَتْ﴾ تلك النّار الموقدة أطراف المستوقد و﴿ما حَوْلَهُ﴾ من الأشياء خمدت وذهب نورها وضياؤها بريح أو مطر ، فحرم المستوقد من نفعها ، وبقي عليه التعب.

وهذا الجواب المقدّر للمّا يعلم من بيان حال المشبّه ، وهم المنافقون في قوله تعالى : ﴿ذَهَبَ اللهُ﴾ وأخذ ﴿بِنُورِهِمْ﴾ وهو الإسلام الصّوري الظاهري بتفضيحهم على لسان رسوله أو بإمامتهم ، فحرموا من منافعه في الدنيا من شركتهم في الغنائم والصّدقات والمناكحة وسائر أحكام الاسلام ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ الله ، وطرحهم ﴿فِي ظُلُماتٍ﴾ متراكمة شديدة غاية الشدّة ، من ظلمة الكفر والطغيان والحسد والعصيان ، كما أنّهم في الآخرة في ظلمة القيامة ، وظلمة الغيّ ، وظلمة سخط الله ، فلا يبقى لهم من النّور في الدّارين شيء أبدا.

فإذن حالهم أنّهم ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ طريق الحقّ وشيئا من آياته ، ولا يرون سبيل الخلاص من ضرر المسلمين في الدنيا ، كما أنّهم لا يجدون المناص من أهوال القيامة وعذابها في الآخرة.

ويحتمل أن يكون قوله : ﴿ذَهَبَ اللهُ﴾ وما بعده جوابا للمّا ، وإفراد ضمير ﴿حَوْلَهُ﴾ العائد إلى

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٤.

٢١٥

المستوقد باعتبار لفظه ، وجمع سائر الضمّائر الراجعة إليه باعتبار معناه ، حيث إنّه جنس صادق على كثيرين.

عن ابن بابويه رحمه‌الله : بإسناده ، عن إبراهيم بن أبي محمود ، قال : سألت أبا الحسن الرّضا عليه‌السلام عن قول الله تعالى : ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ فقال : « إنّ الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال ، منعهم المعاونة واللّطف ، وخلّى بينهم وبين اختيارهم » (١) .

أقول : لعلّ المراد أنّ الترك بمعنى العدم لا ينسب إلى الله تعالى ، فهو هنا بمعنى الكفّ والمنع الذي هو فعل وجوديّ قابل لأن يتّصف الله به.

ثمّ بالغ سبحانه في تبيين غاية ضلالة المنافقين ، بقوله : ﴿صُمٌ﴾ منسدّو المسامع ، لا يسمعون المواعظ وآيات القرآن وبراهين الحقّ ﴿بُكْمٌ﴾ خرس الألسن ، لا ينطقون بالحق ، ولا يقرّون به ﴿عُمْيٌ﴾ فاقدو الأبصار ، لا ينظرون إلى المعجزات والعبر التي تؤدّيهم إلى الهداية ، ولا بصيرة لهم حتّى يميّزوا الحقّ من الباطل ، ولذا يحشرون في الآخرة عميا [ وبكما وصمّا ] كما قال تعالى : ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا(٢) .

﴿فَهُمْ﴾ لاتّصافهم بهذه الصّفات ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ ولا ينصرفون من طريق الضّلالة إلى سبيل الهداية ، مع كونهم بحسب الخلقة والفطرة قادرين على الرّجوع ، ولكن لمّا ضيّعوا فطرتهم وأفسدوا عقولهم صار في حقّهم ممتنعا بالاختيار في الدنيا ، وإن كانوا لا محالة يرجعون إليه في الآخرة ولا ينفعهم.

قال بعض العارفين : العجب كلّ العجب ممّن يهرب ممّا لا انفكاك عنه ، وهو مولاه الذي منّ عليه بكلّ خير وأولاه ، ويطلب ما لا بقاء له معه ، وهو ما يوافق النفس من شهوته وهواه (٣) ، ويعرض عن الآخرة وهي الدّار الباقية.

ثمّ بالغ سبحانه وتعالى في توضيح حال المنافقين وشدّة إعراضهم عن الحقّ بضرب مثل آخر أبلغ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٤.

(٢) في النسخة : يحشرون في الآخرة أعمى كما قال تعالى : ونحشرهم يوم القيامة أعمى ، والآية من سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٦٨.

٢١٦

بقوله : ﴿أَوْ﴾ مثل حال المنافقين بعد نزول القرآن الذي به حياة القلوب وتنوّر الأبصار ﴿كَصَيِّبٍ﴾ قيل : إنّ المراد مثل حال ذي صيّب وصاحب مطر شديد ، نافع للحيوانات ونبات الأرض ، بل جميع الموجودات الجسمانيّة ، نازل ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ وهو السّقف المطلّ ، أو جهة العلوّ ، وذكر هذا القيد بناء على إرادة السّماء المعروفة ، لعلّه للإشعار بأنّ أصل جميع الأمطار نازل منها ، كما في كثير من الأخبار خلافا لمن يقول بأنّها تتكوّن من الأبخرة (١) ، وأمّا بناء على إرادة جهة العلوّ فلعلّه لإظهار إحاطته بجميع الأرض ، سهلها وجبلها حال كونه مستقرّا ، ﴿فِيهِ ظُلُماتٌ﴾ ثلاث : ظلمة السّحاب ، وظلمة الشدّة والتّكاثف ، وظلمة اللّيل ، ﴿وَ﴾ فيه ﴿رَعْدٌ وَبَرْقٌ .

ثمّ كأنّه يقال : ما يكون عمل أصحاب الصّيّب في هذه الحال ؟ فيقال : إنّهم ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ﴾ جميعها ويدخلونها ﴿فِي آذانِهِمْ﴾ من شدّة الدّهشة والوحشة ، ولا يكتفون بجعل الأنامل ، كما هو المعتاد والممكن ، وفيه غاية المبالغة في حرصهم على سدّ مسامعهم خوفا ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾ قيل : هي رعود هائلة تنقضّ منها شعلة نار محرقة ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ وتحرّزا من الهلاك بسبب انشقاق قلوبهم ، وطلبا للسّلامة منه ﴿وَاللهُ﴾ العظيم القادر العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء ﴿مُحِيطٌ﴾ ومحدق بقدرته وعلمه ﴿بِالْكافِرِينَ﴾ المنافقين وغيرهم ، عالم بأسرارهم ، قادر على عقوبتهم.

ثمّ كأنّه قيل : كيف يكون حال أصحاب المطر حين لمعان البرق ؟ فقال تعالى ﴿يَكادُ﴾ ويقرب ﴿الْبَرْقُ﴾ اللامع من السّحاب ﴿يَخْطَفُ﴾ ويستلب بسبب شدّة ضوئه ﴿أَبْصارَهُمْ﴾ ونور ناظرهم.

ثمّ كأنّه قيل : فما يكون عملهم في هذا الحال ؟ فقال تعالى : ﴿كُلَّما أَضاءَ﴾ البرق ﴿لَهُمْ﴾ في تلك الظلمات ، وأنار طريقهم ومسلكهم ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾ وخطوا خطوات يسيرة. قيل : عبّر عن سيرهم بالمشي دون السّعي والعدو اللذين فوق المشي للإشعار بشدّة دهشتهم ، بحيث لا يقدرون عليها ﴿وَإِذا﴾ خفي البرق و﴿أَظْلَمَ﴾ الطريق ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وصار مسلكهم مظلما ﴿قامُوا﴾ ووقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة ، متحيّرين مترصّدين لحظة اخرى ، عسى أن يتيسّر لهم الوصول إلى المقصد ، أو الالتجاء إلى ملجأ عاصم لهم ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ وأراد ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ﴾ فيبقوا في تلك الأهوال والشدائد مأخوذا عنهم أسباب التخلّص ، إذ المبدأ للخلاص هو الإدراك ،

__________________

(١) قوله تعالى : ( مِنَ السَّماءِ ) إشارة إلى جهة نزول المطر ، أي يأتي من جهة السماء ، وليس فيه إشارة إلى أن السماء مبدأ تكوّنه ، بل الثابت علميا أن مبدأ تكون المطر من الأبخرة.

٢١٧

والعمدة في أسبابه هو السمع والبصر ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ ممكن قابل لتعلّق الإرادة بوجوده ﴿قَدِيرٌ﴾ بذاته لا يحتاج إلى معاونة غيره ، ولا يزاحمه شيء في أمره.

كذلك حال المنافقين ، حيث نزل عليهم القرآن ، وأشتدّ نور الآيات البيّنات في أنظارهم ، بحيث لم يبق لهم مجال للشكّ والرّيب ، وهو بشدّة حبّهم الدّنيا ، كلّما كان في الاقرار بالآيات وإظهار تبعيّتها نفع لهم من العزّة والشركة في الغنائم وسائر أحكام الإسلام النافعة لهم في دنياهم ، أقرّوا بها ، وأظهروا اتّباعها والانقياد لها. وإذا كان فيها ضرر عليهم من التكاليف الشاقّة ، كوجوب الجهاد ، والإنفاق في سبيل الله ، وخفض الجناح للمؤمنين وترك موادّة الأرحام والأقارب ، تركوا اتّباعها وأعرضوا عن موافقتها.

وحاصل الآيتين أنّه تعالى شبّه القرآن وما فيه من المعارف والحكم التي هي مدار الحياة الأبديّة بالصّيّب الذي هو سبب الحياة الأرضيّة ، وما عرض لهم بنزولها من الشّكوك والشبهات والغموم والأحزان وانكساف الحال بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرّعد والبرق ، وتصاممهم عمّا يقرع أسماعهم من الوعيد والتهديد بحال من يهوله الرّعد والبرق ، فيخاف صواعقه فيسدّ اذنه ، واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يحرزونه بمشيهم في مطرح ضوء البرق ، وتحيّرهم في أمرهم حين عنّ بهم معصية أو رأوا في التكاليف ما يشقّ عليهم أو يخالف هواهم بوقوفهم إذا أظلم عليهم.

في أن المنافق أسوء حالا من الكافر

وفي الاقتصار في ذمّ الكفّار وتهديدهم بآيتين ، والإكثار في ذمّ المنافقين وتهديدهم بثلاث عشرة آية ، إشعار بأنّ المنافق أسوء حالا من الكافر ، والاعتبار يساعده لكونهم أشدّ ضررا على الإسلام والمسلمين.

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)

 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ

مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)

ثمّ إنّه تعالى بعد ما بيّن أنّ القرآن العظيم هاد إلى الصّراط المستقيم ، وأنّ المتّقين هم المنتفعون به الموفّقون بسلوكه ، وأنّ الكفّار والمنافقين هم المنحرفون منه ، شرع بلطفه ورحمته في دعوة جميع

٢١٨

المكلّفين إلى السّلوك في طريق الهداية والقيام بوظائف العبوديّة.

ولمّا كان مهمّا في الغاية وشاقا على نفوس العامّة باشر بذاته المقدّسة مخاطبتهم بطريق المشافهة لتنجبر المشقّة بلذّة المخاطبة ، وترتفع بحلاوة النّداء مرارة الصّبر على التّعب والعناء ، وتتوجّه القلوب نحو التّلقّي والإصغاء ، فقال : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ وأطيعوا ﴿رَبَّكُمُ﴾ واخضعوا له.

وفي ذكر صفة الربوبيّة دلالة على أنّها مقتضية لنهاية العبوديّة ، وأنّ نعمه غير المتناهية موجبة لغاية الشكر ، ومؤثّرة في كمال المحبوبيّة ، ولذا عدّ بعد توصيف نفسه بها وإضافتها إليهم جملة من نعمه الفائقة ، أسبقها وأتمّها وأعلاها نعمة إيجاد العبد ، ولذا قدّمها في الذكر بقوله ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وقدّركم وأنعم عليكم نعمة الوجود التي هي أصل النّعم ، ومن الواضح أنّ هذه النعمة أعظم العلل الموجبة للعبادة الخالصة ، ولو مع قطع النظر عن كونها نعمة.

ثمّ أردفها بذكر نعمة خلق الاصول التي هي دون الاولى وفوق سائر النعم ، بقوله : ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من الآباء والامّهات ، حيث إنّ خلقهم من مقدّمات خلق المخاطبين ، مع أنّ النعمة على الآباء والأمّهات من موجبات الشكر على الأبناء والأولاد ، كما قال تعالى : ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ*(١) مع أنّ في ذكر هذا الوصف دلالة على تفرّده تعالى بخلق المخاطبين ، إذ لو لم يكن خالقا لاصولهم ، بل كان خالق اصولهم غيره ، لم تنحصر شؤون الخلق - وهي العبادة - به تعالى ، بل شاركه من هو خالق الاصول ، أو من كان له في خلقهم نصيب.

ويحتمل أن يكون المراد بالموصول جميع السابقين ، لكون خلقهم من مقدّمات وجود اللاحقين ، ولكونه في الدّلالة على كمال القدرة أتمّ.

ثمّ بيّن الله تعالى فائدة العبارة المأمور بها ، بقوله : ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ سخط الله وعذابه ، وتحترزون منه بسبب عبادته ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة بيانا لغرض خلق النّاس ، كما قال تعالى : ﴿ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(٢) .

عن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) في هذه الآية ، أنّه قال : « لها وجهان :

أحدهما : [ خلقكم ] وخلق الذين من قبلكم لعلّكم كلّكم تتّقون ، أي لتتّقوا ، كما قال الله عزوجل : ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

__________________

(١) النمل : ٢٧ / ١٩ ، الأحقاف : ٤٦ / ١٥.

(٢) الذاريات : ٥١ / ٥٦.

٢١٩

والوجه الآخر : اعبدوا الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتّقون ، أي اعبدوه لعلّكم تتّقون النّار ، و( لعلّ ) من الله واجب ، لأنّه أكرم من أن يعنيّ عبده بلا منفعة ، ويطمعه في فضله ثمّ يخيّبه ، ألا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل : اخدمني لعلّك تنتفع بي ، ولعلّي أنفعك. فيخدمه ثمّ يخيّبه ولا ينفعه ؟ فالله عزوجل أكرم في أفعاله ، وأبعد من القبيح في أعماله من عباده » .

في بيان أنّ كلمة لعلّ في كلام الله مستعملة في معناها الحقيقي

أقول : لا يبعد أن تكون كلمة لعلّ موضوعة للدلالة على صلاحيّة متعلّقة وشأنيّته ، لأن يرغب فيه ويترقّب وقوعه ، وعلى هذا يكون استعماله من الله حقيقة ، حيث إنّ الرّجاء الذي هو ملازم التّرديد والشّكّ ، يكون من اللوازم الغالبيّة (١) في النفوس البشريّة ، ثمّ فيه تنبيه على أنّ التقوى منتهى درجة الكمال ، وتخصيص الموجودين بالخطاب مع محبوبيّة التقوى من كلّ أحد إلى الأبد لأجل التغليب.

ثمّ بعد ذكر النعم الداخليّة من الخلق والتربيه ، ذكر مهمّات النعم الخارجيّة التي كلّ واحدة منها كافية في وجوب العبادة ، بقوله : ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً﴾ وبساطا.

عن ابن بابويه : عن العسكري ، عن آبائه ، عن السجّاد عليهم‌السلام في تفسير الآية : « جعلها ملائمة لطباعكم ، موافقة لأجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحمي والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النّتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصّلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ، ولكنّه عزوجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون ، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها ما ينقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.

ثمّ قال عزوجل : ﴿وَالسَّماءَ بِناءً﴾ وسقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم.

ثمّ قال تعالى : ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ يعني المطر ، ينزله من علا ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم ، ثمّ فرّقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلّا ، لتنشفه أرضوكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أراضيكم ، وأشجاركم وزروعكم وأثماركم.

ثمّ قال عزوجل : ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾ يعني ممّا يخرجه من الأرض رزقا لكم »(٢).

__________________

(١) كذا ، ولعلّه تصحيف الغالبة.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٧ / ٣٦.

٢٢٠