نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

الواضع كان هو الله تعالى أو غيره لاحظ حين الوضع العلميّ هذه المناسبات ، وإنّ كلّ واحد من المعاني الاشتقاقيّة الكلّيّة حقيقتها ومصداقها منحصر في الذّات المقدّسة ، حيث إنّ المعبوديّة المطلقة والمفزعيّة لجميع الموجودات حتّى الجمادات لا يكون إلّا له تبارك وتعالى ، ولا يتصوّر لمشرك أن يدّعي هذه المرتبة من المعبوديّة والالوهيّة لما اتّخذه معبودا وإلها.

والحاصل : إنّ العبادة عبارة عن الخضوع التامّ ، والقول بأنّ الصّنم أو الكواكب أو غيرهما معبود لجميع الموجودات حتّى الجمادات غير متصور من ذي مسكة وشعور ، وأمّا الواجب تعالى فجميع ما سواه خاضع له ، فازع إليه ، ضارع لديه ، سائل منه.

وتوضيحه أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الوجود ملازم للشعور ، وكلّ ماله حظّ من الوجود ، له بمقدار حظّه حظّ من الشعور ، وكلّ ما كان حظّه من الوجود أكثر كان حظّه من الشعور أوفر ، ويشهد لذلك ما يشاهد من أثر الإدراك في كثير من النباتات فضلا عن الحيوانات.

وأقلّ مراتب الشعور أنّ الموجود يدرك أنّه معلول للعلّة ، وموجود بالغير ، وإدراك هذه الجهة مقتض لنهاية الخضوع لعلّته وموجده ، والآيات والروايات توافقنا على أنّ للجمادات تسبيحا وخوفا وتضرّعا إلى الله ، بل لها معرفة وطاعة للنبيّ والوليّ.

فعلى هذا ، فجميع الموجودات متوجهون إلى خالقهم ، خاضعون له ، سائلون فيضه ودوامه ، خائفون من انقطاعه ، فهو المعبود المطلق ، والمفزع لجميع الموجودات ، والمألوه لجميع المخلوقات عند الشدائد والحاجات ، وهو المحجوب عن إدراك الممكنات ، المستور عن العقول بحقيقة الذّات وكنه الصّفات.

ويؤيد ما ذكرنا من حمل الرّوايات أنّه لولاه يلزم استعمال المشترك اللفظي في أكثر من معنى ، أو إرادة بيان أنّ لمستعمل لفظ الجلالة أن يريد منه كلّ واحد من المعاني المختلفة ، والأوّل محال ، والثاني بعيد غايته.

وفي رواية ( التوحيد ) المتقدّم صدرها في تفسير ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ قال عليه‌السلام : « الذي يرحم ببسط الرزق علينا ، الرّحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا ، خفّف علينا الدّين ، وجعله سهلا خفيفا ، وهو يرحمنا بتمييزنا عن أعاديه » (١) .

وفي رواية اخرى : « الرّحمن بجميع خلقه ، والرّحيم بالمؤمنين خاصّة » (٢) .

أقول : لا ريب أنّ هذين الاسمين المباركين بحسب اللغة صفتان مشبّهتان من الرّحم : وهو التعطّف

__________________

(١) التوحيد : ٢٣٢ / ٥ ، وفيه : بتميزنا من أعدائه.

(٢) الكافي ١ : ٨٩ / ١.

١٨١

إلى الغير بالإحسان إليه ، ودفع المضارّ عنه ، الناشيء عن مبدأ في الذّات ، كان هو الرّقّة أو الحكمة ، والظاهر أنّه لا وجه لتخصيصه برقّة القلب حتّى يكون معناه الحقيقيّ مختصّا بالمخلوقين ، ويكون إطلاقهما على الله مجازا.

ولعلّه لدلالة ( الرحمن ) بهيئته على المبالغة والشدّة دلّ على الرّحمة العامّة الشاملة لجميع الموجودات من الخلق والرّزق وسائر الإنعامات ، فجميع الموجودات في جميع العوالم من الملك والملكوت والبرزخ والآخرة ، وجودها وبقاؤها بشمول الرّحمة الرّحمانيّة.

وأمّا ( الرّحيم ) فلعلّه لعدم دلالته على المبالغة والشدّة ، اختصّ بالرّحمة الخاصّة بالمؤمنين من الهداية إلى الحقّ والتوفيق للإيمان والأعمال الصالحة وحسن العاقبة والجنّة والنعم الاخرويّة الدائمة ، ولتقدّم الرّحمة العامّة على الرّحمة الخاصّة قدّم اسم الرّحمن على الرّحيم ، وإن اقتضت إفادة الشدّة تأخّره عنه لتأخّر مرتبة الشدّة عن الضّعف.

في نكتة الاقتصار في البسملة بذكر الأسامي الثلاثة

ولعلّ وجه الاقتصار في المقام على ذكر الأسامي الثلاثة المباركات جامعيّتها لجميع الخيرات والبركات ، حيث إنّ اسم الجلالة مبدأ فيض الخلق والإيجاد ، واسم الرّحمن مبدأ فيض الترتيبيّة والنعم الدنيويّة ، واسم الرّحيم مبدأ فيض الهداية والتوفيق وسائر التّفضّلات الاخرويّة على المؤمنين.

قيل : إنّ الله تعالى ثلاثة آلاف اسم ، ألف منها عرفها الملائكة لا غير ، وألف منها عرفها الأنبياء لا غير ، وثلاثمائة في التّوراة ، وثلاثمائة في الإنجيل ، وثلاثمائة في الزّبور ، وتسعة وتسعون في القرآن ، وواحد استأثر الله به نفسه ، ومعنى هذه الثلاثة آلاف منطوية في هذه الأسماء الثلاثة ، فمن علمها وقالها فكأنّما ذكر الله تعالى بكلّ أسمائه (١) .

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضيلة هذه الآية المباركة ، أنّه قال : « ليلة اسري بي إلى السّماء عرض عليّ جميع الجنان ، فرأيت فيها أربعة أنهار : نهرا من ماء ، ونهرا من لبن ، ونهرا من خمر ، ونهرا من عسل. فقلت : يا جبرئيل ، من أين تجيىء هذه الأنهار وإلى أين تذهب ؟ قال : تذهب إلى حوض الكوثر ، ولا أدري من أين تجيىء ، فادع الله تعالى ليعلّمك ، أو يريك. فدعا ربّه ، فجاء ملك فسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال : يا محمد ، غّمض عينيك. قال : فغمّضت عيني ، ثمّ قال : افتح عينيك ، ففتحت فإذا أنا عند

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٩.

١٨٢

شجرة ورأيت قبّة من درّة بيضاء ، ولها باب من ذهب أحمر وقفل ، لو أنّ جميع ما في الدنيا من الجن والإنس وضعوا على تلك القبّة لكانوا مثل طائر جالس على جبل ، فرأيت هذه الأنهار الأربعة تخرج من تحت القبّة.

فلمّا أردت أن أرجع قال لي ذلك الملك : لم لا تدخل القبّة ؟ قلت : كيف أدخل وعلى بابها قفل لا مفتاح له عندي. قال : مفتاحه ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ فلمّا دنوت من القفل وقلت : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ انفتح القفل ، فدخلت في القبّة ، فرأيت هذه الأنهار تجري من أربعة أركان القبّة ، ورأيت مكتوبا على أربعة أركان القبّة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ ورأيت نهر الماء يخرج من ميم بسم الله ، ورأيت نهر اللّبن يخرج من هاء الله ، ونهر الخمر يخرج من ميم الرّحمن ، ونهر العسل يخرج من ميم الرّحيم ، فعلمت أنّ أصل هذه الأنهار الأربعة من البسملة.

فقال الله عزوجل : يا محمّد ، من ذكرني بهذه الأسماء من امّتك بقلب خالص من رياء ، وقال ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ سقيته من هذه الأنهار » (١) .

في بيان فضيلة البسملة

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل ، عن ميكائيل ، عن إسرافيل عليهم‌السلام : قال الله تعالى : « يا إسراقيل ، بعزّتي وجلالي ، وجودي وكرمي ، من قرأ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ متصلة بفاتحة الكتاب مرّة واحدة ، فاشهدوا عليّ أنّي قد غفرت له ، وقبلت منه الحسنات ، وتجاوزت له عن السيئات ، ولا احرق لسانه بالنّار ، واجيره من عذاب القبر وعذاب النّار وعذاب يوم القيامة ، والفزع الأكبر » (٢) .

نقل عن عارف أنّه كتب ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ وأوصى أن يجعل في كفنه ، فقيل له في ذلك ، فقال : أقول يوم القيامة : إلهي ، أنزلت كتابا وجعلت عنوانه ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ فعاملني بعنوان كتابك (٣) .

ففي البسملة مثار صفات الحبّ والحياء والرّجاء والخوف التي هي اصول التّقوى والعبوديّة ، ولا ينفكّ العابد من أحد هذه الأحوال.

وقيل : إنّ البسملة تسعة عشر حرفا ، والزبانية تسعة عشر ، فالمرجوّ من الله أن يدفع بليّتها بهذه الحروف التسعة عشر (٤) .

روي أنّه لا يردّ دعاء أوّله ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ الخبر (٥) .

__________________

(١ و٢) . تفسير روح البيان ١ : ٩.

(٣) تفسير الرازي ١ : ١٧٢.

(٤) تفسير الرازي ١ : ١٧٢ « نحوه » .

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٩.

١٨٣
١٨٤

في تفسير فاتحة الكتاب

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)

ثمّ شرع في الكتاب بقوله : ﴿الْحَمْدُ﴾ والثّناء الجميل - بجنسه أو بجميع أفراده ، وتمام مراتبه وأنواعه من القوليّ والقلبيّ ، والحاليّ والأفعاليّ - خاصّ وملك ﴿لِلَّهِ﴾ لا شريك له فيه ، لاختصاصه بحسن الفعال من جميع الجهات ، ليس فيها شائبة القبح والنّقص ، فالقوليّ منه : هو إظهاره باللسان ، والقلبيّ : هو استشعار القلب به ، والحاليّ : هو الرّضا بجميع ما يصدر منه تعالى ، والأفعاليّ : هو القيام بطاعته وعبادته عن محبّة وشوق ونشاط.

وأيضا في تخصيص الحمد به تعالى إشعار بأنّ حسن أفعال من سواه راجع إليه تعالى ، وحمد غيره على فعله يكون حمده ، بل لا يجوز حمد غيره إلّا بإذنه لأنّه هو مستحقّه ومالكه ، ثمّ لا يمكن لأحد حقّ حمده لعدم إمكان إحصاء نعمائه والإحاطة بحقيقة حسن أفعاله ، ولذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة المعراج ، لمّا أمره الله بالثّناء عليه : « لا احصي ثناء عليك » (١) .

في بيان فضيلة حمده تعالى

وفي افتتاحه تعالى كتابه المجيد بالبسملة والتحميد إشعار بأنّه لا ينبغي الشروع في أمر إلّا بعد البسملة والحمد.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حدّثني عن الله عزوجل أنّه قال : كلّ ذي بال لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر » (٢) .

وفي رواية : « كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع » (٣) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ١١.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٥ / ٧.

(٣) كنز العمال ١ : ٥٥٨ / ٢٥٠٩.

١٨٥

وعن تفسير الإمام عليه‌السلام : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنّه سئل عن تفسيره ، فقال : « هو أنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتّفصيل لأنّه أكثر من أن تحصى أو تعرف ، فقال [ لهم ] : قولوا : الحمد لله على ما أنعم به علينا » (١) .

وعدم ذكر ما يحمد عليه في الآية ، لعدم الاحتياج في المقام ، ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله : ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ للإشعار بعلّة استحقاقه الحمد واختصاصه به ، وهو كونه مربّي جميع الكائنات والموجودات.

وفي ( العيون ) و( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « يعني مالك الجماعات من كلّ مخلوق وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون ، يقلّب الحيوانات في قدرته ، ويغذوها من رزقه ، ويحوطها بكنفه ، ويدبّر كلا منها بمصلحته ، ويمسك الجمادات بقدرته ، [ و] يمسك ما اتّصل منها من التهافت ، والمتهافت من التّلاصق والسّماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ، والأرض أن تنخسف إلّا بأمره » (٢) .

قيل : إنّ الرّبّ هنا بمعنى المالك. وقيل : إنّ المراد بالعالمين عالم الملك ، وعالم الإنس وعالم الجنّ ، وعالم الأفلاك ، وعالم النّبات ، وعالم الحيوان ، وقد اختلفت الأخبار في عدد العوالم.

في ذكر عدد العوالم

عن الصّدوق في ( الخصال ) أنّه روي عن الباقر عليه‌السلام أنّه ذكر في قوله تعالى : ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ(٣) : « إنّ الله قد خلق ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، ونحن في آخر العوالم وآخر الآدميّين » (٤) .

نقل عن الهيئة الجديدة التي أسّسها أهل الإفرنج أنّ كلّ كوكب من الكواكب السّيّارة ، غير القمر والشمس ، أرض كأرضنا تدور حول الشمس ، والشمس كالمركز لها ، وزادوا على السيّارات المعروفة سيّارتين كبيرتين تسمّى إحداهما أورانوس والاخرى نبتون.

ونقل أنّهم وجدوا سيارات صغارا كثيرة يمتنع إدراكها إلّا بالآلات المعدّة لهذا الشأن ، واعتقدوا [ أن ] لكلّ واحد من السيّارات الأوّل ثمانية أقمار وأقلّ إلى واحد ، تدور تلك الأقمار على تلك

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٠ / ١١.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨٢ / ٣٠ ، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري : ٣٠ / ١١ ، تفسير الصافي ١ : ٧١.

(٣) سورة ق : ٥٠ / ١٥.

(٤) الخصال : ٦٥٢ / ٥٤.

١٨٦

الأراضي ، كما أنّ لأرضنا هذه قمرا يخصّها ، وأنّ لكلّ كوكب من الكواكب الثابتة شمسا كشمسنا هذه في فضاء غير متناه مع اختلافها في القرب من شمسنا والبعد منها ، وكلّما كان أبعد كان جرمه في أبصارنا أصغر ، فاستظهروا من ذلك أنّ لكلّ كوكب منها أراضي كالأراضي التي لشمسنا هذه ، وحينئذ تكون الأراضي خارجة عن حدّ الإحصاء ، والله تعالى ربّ جميعها.

فظهر أنّ معنى هذه الكلمة وحقيقتها شامل لجميع الموجودات ، محيط بها ، معط لكمالها ، ولكون مرتبة هذا الاسم المبارك تحت مرتبة اسم الجلالة ، لكونه مظهر الآثار الالوهيّة ، قرنه به في الآية وأخّره عنه في الذكر ، ولدلالته على أنّ كلّ خير منه تعالى ، ودفع كلّ شرّ إليه ، كان فيه غاية التأثير في تهييج حبّ العارفين ، وتحريك رجاء الرّاجين ، ولهذا السرّ كان ثناؤه تعالى في الأدعية بهذا الاسم المبارك أكثر من ثنائه بسائر الأسماء ، ومن عرفه بالرّبوبيّة وعرف نفسه بالمربوبيّة المطلقة من كلّ وجه واعتبار ، عرف ما يناسب شأنه من الذلّة والاستكانة ، وقام بوظائفه من الطاعة والعبادة.

ثمّ لمّا كان مجال توهّم القاصرين أن يكون تربيته للممكنات كتربية الأجرام الفلكيّة والمؤثّرات الكونيّة بغير إرادة واختيار وحكمة ولحاظ صلاح ، أشار بتوصيف ذاته المقدّسة بقوله : ﴿الرَّحْمنِ﴾ إلى أنّ تربيته العامّة بمبدأ صفة الرّحمانيّة. وبقوله : ﴿الرَّحِيمِ﴾ إلى أنّ تربيته الخاصّة للنفوس القابلة وتكميلها بمبدأ صفة الرّحيميّة ، ومن الواضح أنّ هاتين الصفتين ملازمتان للعلم والاختيار والارادة والحكمة.

وقيل : إنّ نكتة تكرار هذين الاسمين هي كمال مدخليّتهما في استحقاق الحمد ، أو شدّة الاهتمام ببسط رجاء العباد إلى رحمته.

وفي حديث معراج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عالم الملكوت : « ثمّ قال له : احمدني. قال : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ،﴾ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : [ في نفسه ] شكرا ، فقال الله تعالى يا محمّد ، قطعت حمدي فسمّ باسمي ، فمن أجل ذلك جعل في الحمد ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ مرّتين » (١) .

أقول : لعلّ وجه كون الشكر قاطعا للحمد أنّ في الشكر التوجّه إلى النّعم ، وهو ملازم للتوجّه إلى النّفس ، وليس في الحمد إلّا التوجّه إلى مقام الالوهيّة والرّبوبيّة ، فلزم تكرار اسم الحقّ سبحانه ، وحصر التوجّه فيه ، وإفناء ملاحظة النّفس.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٨٥ / ١.

١٨٧

ثمّ وصف ذاته المقدّسة بقوله : ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ لتكميل النفوس بعد إيقاظها بالرّجاء بإنعاشها بالخوف بتنبيهها بالسّلطنة المطلقة في يوم الحساب والجزاء ، وأنّه الحاكم فيه ليس لغيره فيه حكم وسلطان كما كان لغيره في الدنيا بظاهر الأنظار.

عن ( تفسير الامام عليه‌السلام ) : « يعني القادر على إقامته ، والقاضي فيه بالحقّ والدّين والحساب » (١) .

وقيل : إنّ في هذه الآية إشعار بأنّ الحمد علّة نيل الرّحمة في الدّنيا والآخرة ، ويؤيده ما روي من أنّ آدم لمّا نفخ فيه الرّوح عطس ، فقال : الحمد لله ، واجيب : يرحمك ربّك ، ولذلك خلقتك (٢) .

فدلّت الآيات الثلاث على أنّه سبحانه منبع الخلق ومبدأ الايجاد ، وبفيضه وإرادته تربية الكائنات ، وتكميل الموجودات ، وأنّ رجوع جميع الخلق إلى حكمه وأمره وسلطانه في الآخرة. فإذا تذكّر العبد هذه الصّفات ، وتأمّل في أنّ وجوده وتربيته وبقاءه وتعيّشه في الدّنيا به تعالى ، وارتقاءه من حضيض الحيوانيّة إلى أعلى مدارج القرب وكمال الانسانيّة بلطفه سبحانه ، وتفكّر في أنّ مرجعه ومعاده في الآخرة إلى حكمه تعالى وسلطانه ، علم أنّ من كان إحسانه إليه في زمان بعده عنه واحتباسه في عالم الطبيعة وانغماره في ظلمات الجهل والغفلة بمقدار لا يمكن عدّة ولا يدرك حدّه ، لا يمكن منع فيضه ولطفه وإحسانه وإنعامه حين وروده عليه ووفوده لديه.

فعند ذلك تتكامل معرفته ، وتحيط بالقلب محبّته ، فيرتفع حجاب غفلته ، وتتنوّر عين بصيرته ، وتتجلّى أنوار جمال مليكه في ضميره ، ويرى نفسه شاخصة بحضرته ، فيعترف بالاخلاص في عبوديّته ، ويقول : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ولك خاصة نخضع وننقاد ونتذلّل.

عن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : « قال الله تعالى : قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم : إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا ، نطيعك مخلصين موحّدين ، مع التذلّل والخضوع ، بلا رياء ولا سمعة » (٣) .

وعن ابن عبّاس : أنّ جبرئيل قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل يا محمّد : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي إيّاك نامل ونرجو لا غيرك (٤) .

وفي رواية عاميّة عن الصادق عليه‌السلام : « يعني لا نريد منك غيرك ، ولا نعبدك بالعوض والبدل كما

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه‌السلام : ٣٨ / ١٤ ، تفسير الصافي ١ : ٧١.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ١٤ « نحوه » .

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٩ / ١٥ ، تفسير الصافي ١ : ٧١.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ١٧.

١٨٨

يعبدك الجاهلون بك المغيّبيون عنك » (١) .

أقول : الظاهر أنّ المراد من قوله : « لا نريد منك غيرك » ، أنّه لا نريد بعبادتك نيل مطلوب من نعم الدنيا أو ثواب الآخرة ، ولا دفع مكروه صوريّ أو معنوي ، دنيويّ أو اخرويّ ، بل نريد بها أداء حقك حيث إنّك مستحقّ لها بوجوب الذّات وكمال الصّفات والنّعم السابغات ، وهذه هي العبادة الحقيقيّة ، وغيرها من سائر الغايات المنظورة هي عبادة غيره ، والتعبير بصيغة مع الغير لإدراج عبادته في عبادة الحفظة أو حاضري صلاة الجماعة أو سائر العبّاد الموحّدين المخلصين ، استحقارا لعبادة نفسه وإشعارا بأنّ عبادته غير قابلة بأن تذكر أو ينظر إليها إلّا بتبع عبادة المخلصين.

ثمّ لمّا كان العبد مخلوقا من الضّعف ، فلا قوّة له على العمل إلّا بحوله تعالى ، ولا حول له إلّا بعونه ، ولا يرجى منه خير إلّا بتسديده وتوفيقه ، وكان في إسناد العبادة إلى نفسه إيهام العجب بقدرته واستقلاله في فعله وعمله ، أمر بأن يسأل الإعانة من الله عليها ، بقوله : ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ على طاعتك وعبادتك والعمل بمرضاتك ، وعلى دفع شرور أعدائك وردّ مكائدهم ، وتخصيص الاستعانة به نتيجة التوحيد ومعرفة ربوبيّته تعالى ومربوبيّة نفسه ، حيث إنّ فيه إشارة إلى أنّه القادر المطلق ، وأنّ قدرة غيره منتهية إليه ، وأنّه الكافي لجميع ما سواه ، ولا كافي غيره ، وفي إدخال استعانته في ضمن استعانة الموحّدين استيجاب ببركتهم.

ثمّ لمّا كان أهمّ المقاصد وأعظمها هو الهداية إلى عبادات موصلة إلى رضوانه ، محصّلة للسّعادات الأبديّة من قربه وجنانه ، خصّ طلب الإعانة بها ، فكأنّه قال تعالى : كيف اعينك فيقول : ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ودلّنا على النّهج الحقّ القويم.

في ذكر معنى الصراط والجمع بين الأخبار

عن ( تفسير الإمام ) : عن الصادق صلوات الله عليه : « يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك ، والمبلغ إلى جنّتك ، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب ، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك » (٢) .

وعن ( المعاني ) عنه عليه‌السلام : « هي الطّريق إلى معرفة الله ، وهما صرطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، فأمّا الصّراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطّاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ٧٢.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٤ / ٢٠ ، تفسير الصافي ١ : ٧٢.

١٨٩

الصّراط - الذي هو جسر جهنّم - في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصّراط في الآخرة فتردى في نار جهنّم » (١) .

وفي رواية أخرى : « نحن (٢) الصّراط المستقيم » (٣) .

وفي أخرى : « الصّراط المستقيم : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعرفته » (٤) الخبر.

أقول : لعلّ وجه الجمع ، أنّ حقيقة الصّراط والطريق المؤدّي إلى رضوان الله هي الشريعة المقرّرة المركّبة من العقائد الحقّة ، والمعارف الإلهيّة ، والأعمال الصالحة ، والأخلاق المرضيّة ، والهداية إليها في هذا العالم لها أنحاء ، أظهرها وأجلاها بحسب العادة هو الهداية إليها بوسيلة هاد من جنس بني آدم وهو النبيّ والإمام ، بل الهداية إليهما هي الهداية إليها ، إذ لو كان للشّريعة المطهّرة صورة مجسّمة لكانت هي الانسان الكامل ، وهو الإمام والحجّة ، إذ هم المبيّنون بكلامهم وأخلاقهم وأعمالهم حقيقة الدّين والشرع المتين بهداية العبد إلى الدّين [ و] تعريفه إيّاهم ، فمن كان بهم أعرف كان إلى الصّراط أهدى ، فمعرفتهم عين معرفة الصّراط ، والمقتدي بهم مارّ عليه في الدنيا والآخرة ومنته إلى رضوان الله ، واصل إلى الجنّة ونعيم دار القرار ، والمتخلّف عنهم زال عن الصّراط ، وهاو في النّار ، ومن الواضح أنّ هذه الهداية من أظهر شؤون الرّبوبيّة ، وأجلى آثار صفة الرّحيميّة.

ثمّ اعلم أنّ الهداية الحقيقية إليهم لست بالاطّلاع على الأدلّة الدالّة على إمامتهم ووجوب اتّباعهم وطاعتهم ، بل تكون بالنّور الّذي يقذفه الله في القلب بحيث يؤثّر في ملازمتهم والاقتداء بهم وبتقوية القوّة العاقلة بحدّ يورث قطع التعلّقات الجسمانيّة ، وقمع الشّهوات النفسانيّة ، والاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال ومطالعة أنوار الجلال.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره ، فمن أصابه ذلك النّور فقد اهتدى ، ومن أخطأه فقد ضلّ » (٥) . والظاهر أنّ المراد من الظلمة ظلمة الجهل ، ومن النّور نور العلم والعقل.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ في الآية دلالة ظاهرة على نفي الجبر والتفويض ، وإثبات الأمر بين الأمرين ،

__________________

(١) معاني الأخبار : ٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٧٢.

(٢) في النسخة : عن.

(٣) معاني الأخبار : ٣٥ / ٥ ، ينابيع المودة : ٤٧٧ ، تفسير الصافي ١ : ٧٣.

(٤) معاني الأخبار : ٣٢ / ٣.

(٥) تفسير روح البيان ١ : ٢٣.

١٩٠

حيث إنّ الظاهر من قوله : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أنّ الإرادة والعمل والقدرة من العبد ، ومن قوله : ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أنّ الإعانة بالهداية والتوفيق من الله.

ثمّ أنّه لمّا كان لإظهار فائدة المطلوب والمسؤول وتذكّر مضارّ فواته تأثير عظيم في شدّة حرص الطالب على الطلب ، وتهييج رحمة المطلوب منه في الإعطاء والإجابة ، وصف الصّراط وبيّنه بقوله : ﴿صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وطريقة جماعة خصصتهم بكمال اللطف وتمام الفضل عليهم من العصمة عن الخطأ والزّلل ، والمعرفة بحقائق الامور واليقين بالمبدأ والمعاد لنورانيّة طينتهم ، وقوّة عقولهم ، وانشراح صدورهم ، وهم النّبيّون ، ثمّ الأوصياء ، ثمّ الأولياء.

ثمّ وصف المهديّين المنعم عليهم بقوله : ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ بسبب خبث طينتهم وفساد عقائدهم وأعمالهم ، للتّعريض على أنّ الجاحدين للحقّ المعاندين له من اليهود والنّصّاب وأضرابهم في غضب الله ، وبقوله : ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ وهم الذين أعرضوا عن الحقّ لتقصيرهم وجهلهم من غير عناد كالنّصارى الّذين قال الله فيهم : ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى(١) وكالشاكّين الذين لم يجهدوا في تحصيل معرفة الحقّ للتّعريض على أنهم في ضلال.

عن الصادق ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال : « لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : قال الله عزوجل : قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي ، فنصفها لي ونصفها لعبدي [ ولعبدي ] ما سأل ، فإذا قال العبد ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله جلّ جلاله : بدأ عبدي باسمي ، وحقّ عليّ أن اتمّم له اموره ، وابارك له في أحواله.

وإذا قال : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ قال جلّ جلاله : حمدني عبدي ، وعلم أنّ النّعم التي له من عندي ، وأنّ البلايا التي اندفعت (٢) عنه فبتطوّلي ، اشهدكم أنّي اضيف له إلى نعم الدّنيا نعم الآخرة ، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

وإذا قال : ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله جلّ جلاله : شهد لي بأنّي الرّحمن الرّحيم ، اشهدكم لاوفّرنّ من نعمتي (٣) حظّه ، ولاجزلنّ من عطائي نصيبه.

فإذا قال : ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال الله تعالى : اشهدكم كما اعترف بأنّي أنا الملك يوم الدّين ،

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٨٢.

(٢) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : دفعت.

(٣) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : رحمتي.

١٩١

لاسهّلنّ يوم الحساب حسابه ، ولا قبلنّ حسناته ، ولأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فإذا قال العبد : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ قال الله عزوجل : صدق عبدي ، إيّاي يعبد ، اشهدكم لاثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال : ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال الله تعالى : بي استعان ، وإليّ التجأ ، اشهدكم لاعيننّه على أمره ، ولاغيثنّه في شدائده ، ولآخذنّ بيده يوم نوائبه. فإذا قال : ﴿اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ إلى آخر السورة ، قال الله جلّ جلاله : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، فقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل ، وآمنته ممّا منه وجل » (١) .

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إبليس رنّ رنينا لمّا بعث الله نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله على حين فترة من الرسل ، وحين نزلت أمّ الكتاب » (٢) .

قيل : إنّها أوّل سورة نزلت بمكّة ، وسورة البقرة أوّل سورة نزلت في المدينة وهي :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٠٠ / ٥٩ ، تفسير الصافي ١ : ٧٥.

(٢) الخصال : ٢٦٣ / ١٤١.

١٩٢

في تفسير سورة البقرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ

وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قد مرّ تفسيره في أوّل الفاتحة ، وتفسير :

﴿الم﴾ في طرفة بيان أظهر مصاديق المتشابهات (١) .

ثمّ إنّ وجه النّظم بين هذه السورة وسورة الفاتحة ، أنّ في تلك السورة سؤال الهداية ، وفي هذه السورة إجابته بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ القرآن المجيد هو ﴿الْكِتابُ﴾ المعهود الذي بشّر الأنبياء به اممهم ، ووعدك الله يا محمّد أنّه منزله عليك.

عن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : « يعني القرآن الذي افتتح ب ﴿الم﴾ هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى ومن بعده من الأنبياء ، وأخبروا بني إسرائيل أنّي سانزله عليك يا محمّد كتابا عربيّا ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(٢) الخبر.

﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ ولا مجال لشكّ يعتريه ، إنّه منزل من الله تعالى لظهور آيات الصّدق فيه ، فالشّاكّ فيه كالشّاكّ في ضوء الشّمس إذا كانت في رائعة (٣) النّهار ، ويكون الشّكّ في قلبه لا في الكتاب.

روي عن الصادق عليه‌السلام : « كتاب عليّ لا ريب فيه » (٤) فإنّ صدره الشّريف مرآة اللّوح المحفوظ.

ثمّ وصف الله الكتاب بأنّه ﴿هُدىً﴾ ودليل إلى الرّشاد ، وبيان من الضّلالة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ وهم المحترزون (٥) عن العقائد الفاسدة والأعمال القبيحة العقليّة ، الطالبون (٦) لمدارج التقوى.

__________________

(١) راجع : الطرفة (١٨) .

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٢ / ٣٢ ، والآية من سورة فصلت : ٤١ / ٤٢.

(٣) في النسخة : رابعة.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٠٨ / ١٠٥.

(٥) في النسخة : المحترزين.

(٦) في النسخة : الطالبين.

١٩٣

عن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : « الذين يتّقون الموبقات ويتّقون تسليط السّفه على أنفسهم ، حتّى إذا علموا ما يجب عليهم عمله ، عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم » (١) .

وعنه عليه‌السلام أيضا ، قال : ﴿« هُدىً﴾ بيان وشفاء للمتّقين من شيعة محمّد وعليّ عليهما وآلهما السّلام أنّهم اتّقوا أنواع الكفر فتركوها ، واتّقوا الذنوب الموبقات فرفضوها ، واتّقوا إظهار أسرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكتموها ، واتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها ، وفيهم نشروها » (٢) .

في بيان مراتب الهداية

أقول : هذا التفسير موافق لما قيل من أنّ المراد بالمتّقين الكاملون في التّقوى ، فإنّهم المنتفعون به حقّ الانتفاع ويتوصّلون به إلى أعلى درجاته الذي يتلو مرتبة العصمة ، فلا يرد عليه أنّ هداية الكاملين في التّقوى تحصيل الحاصل ، وتوضيح الدّفع أنّ الهداية لها مراتب ثلاثة : هداية عامّة ، وهي الهداية إلى الإسلام لجميع النّاس ، وهداية خاصّة لأهل الايمان إلى مرتبة التّقوى ، وهداية أخصّ للكاملين في الإيمان والتّقوى إلى مقام المقرّبين.

عن الصادق عليه‌السلام : « المتّقون شيعتنا » (٣) .

أقول : لأنّهم عليهم‌السلام اصول شجرة التّقوى ، والدّعاة إليه ، وشيعتهم فروع تلك الشجرة ، والمجيبون للدّعوة.

ثمّ عرّفهم الله بأنّهم ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ويصدّقون بما لا تدركه الحواسّ الظاهرة من التّوحيد والبعث والحساب وجزاء الأعمال وقيام القائم المنتظر.

عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهم - في حديث - قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « طوبى للصّابرين في غيبته ، طوبى للمقيمين على محبّته (٤) ، اولئك من وصفهم الله في كتابه ، فقال : ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ(٥) الخبر.

في بيان اختلاف مراتب اليقين واختلاف الأعمال باختلافها ثمّ اعلم أنّ الايمان الظاهريّ هو الإقرار باللسان ، والحقيقيّ منه هو الاعتقاد القلبيّ واليقين الذي لا يشوبه قلق واضطراب وشكّ ، فإنّه مقابل الرّيب الذي هو الاضطراب في القلب ، ولا ريب أنّ للمتّقين مراتب كثيرة ضعفا وشدّة ، وأعلى مراتبه ما لو كشف

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٢ / ٣٢.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧ / ٣٣.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٠٨ / ١٠٥.

(٤) في كفاية الأثر : للمتقين على محجتهم.

(٥) كفاية الأثر : ٦٠ ، بحار الأنوار ٥٢ : ١٤٣ / ٦٠.

١٩٤

الغطاء عن الموقن ما ازداد يقينا.

ولا شبهة أنّ العمل يختلف باختلاف مراتب اليقين ، حيث إنّه نور ساطع في القلب ، سار شعاعه إلى الجوارح ، فبحسب انبثاث شعاعه ينفذ روح الايمان في الأعضاء وتتقوّى وتتحرّك للقيام بوظائفه ، فبنفوذ نور الإيمان وروجه في كلّ جارحة يظهر أثره فيه ، فأثر إيمان القلب المعرفة والانقياد والخضوع ، وأثر إيمان الدّماغ التفكّر والتدبّر في آيات الله ودلائل المبدأ والمعاد ، وأثر إيمان العين الغضّ عن المحرّمات ، والنّظر إلى الآيات ، وأثره في سائر الجوارح أداء كلّ جارحة وظيفتها.

نعم ، بعض الأعمال يشترك فيه جميع الجوارح كالصلاة ، ولذا سمّاها الله بالإيمان في قوله : ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ(١) وأراد به الصّلاة ، ولذا خصّها بالذكر بعد الإيمان بقوله : ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ ويتمرّنون لأدائها وحفظ أوقاتها وتعديل أركانها ورعاية فرائضها وسننها وآدابها.

ويمكن أن تكون الصلاة لكونها أهمّ الفرائض البدنيّة كناية عن جميع فرائضها في مقابل الفرائض الماليّة ، أو تكون كناية عن جميع الأعمال التي يرجع صلاحها إلى عاملها من غير تعدّ إلى غيره ، ويكون قوله تعالى : ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ ومتّعناهم به في الدنيا ﴿يُنْفِقُونَ﴾ ويبذلون ، كناية عن جميع الفرائض الماليّة ، أو جميع الأعمال التي فيها صلاح الغير من بذل المال ، وتعليم العلم ، وإعانة الغير بالقوى البدنيّة والجاه ، وغير ذلك ممّا يحتاج إليه غيره وينتفع به.

عن الصادق عليه‌السلام : « وممّا علّمناهم يبثّون » (٢) .

وفي رواية : « وممّا علّمناهم من القرآن يتلون » (٣) .

والظاهر أنّ المراد أنّهم يتلونه لغيرهم حتّى يتعلّموا ، وقد جمعت الآيتان جميع الوظائف القلبيّة والجوارحيّة والماليّة ، فإنّ كلّها من لوازم التّقوى.

قيل : إنّ هذه الآية نزلت في مؤمني العرب (٤) .

﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٤٣.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٢٢.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٠.

(٤) تفسير روح البيان ١ : ٤٠.

١٩٥

ثمّ بالغ في توصيفهم ومدحهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ ويصدّقون تصديقا حقيقيّا لسانيّا وجنانيّا ﴿بِما أُنْزِلَ﴾ من السّماء متدرّجا ﴿إِلَيْكَ﴾ من القرآن وجميع أحكام شريعتك ، أنّه كلام الله ، ودينه المرضيّ عنده ، وهذا الإيمان مستلزم للايمان بالرّسالة ﴿وَما أُنْزِلَ﴾ من الكتب على سائر الأنبياء ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ أنّ جميعها كانت حجّة من الله على اممهم وإن نسخت.

ولعلّ ذكر الإيمان بالكتب بعد الإيمان بالغيب ، لتنزيله منزلة الإيمان بالمحسوس لوفور دلائل صدقها وحقّانيّتها ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾ والمعاد لجزاء الأعمال ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ لا يدخل في قلوبهم شكّ ولا ريب.

قيل : نزلت في مؤمني أهل الكتاب (١) ، وتخصيص اليقين بالآخرة بالذكر مع كونه داخلا في الإيمان بالغيب لكمال مدخليّته في تكميل النفس واستقامة العمل ، فإنّ ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها.

في أن المغرورين عشرة

قيل : عشرة من المغرورين : من أيقن أنّ الله خالقه ولا يعبده ، ومن أيقن أنّ الله رازقه ولا يطمئنّ به ، ومن أيقن أنّ الدنيا زائلة ويعتمد عليها ، ومن أيقن أنّ الورثة أعداؤه ويجمع لهم ، ومن أيقن أنّ الموت آت ولا يستعدّ له ، ومن أيقن أنّ القبر منزله ولا يعمّره ، ومن أيقن أنّ الدّيّان يحاسبه ولا يصحّح حجّته ، ومن أيقن أنّ الصّراط ممرّه ولا يخفّف ثقله ، ومن أيقن أنّ النّار دار الفجّار ولا يهرب منها ، ومن أيقن أنّ الجنّة دار الأبرار ولا يعمل لها (٢) .

قال بعض : إنّ اليقين بالآخرة داع إلى قصر الأمل ، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد ، والزهد يورث الحكمة ، والحكمة تورث النّظر في العواقب (٣) .

وفي الآية تعريض على أهل الكتاب حيث إنّهم يثبتون أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، وإنّ قولهم به ليس عن إيقان ، وإنّ اليقين ما عليه المتّقون من المؤمنين بخاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويبالي فإنّ في رواية : « ما قسّم بين العباد شيء أقلّ من اليقين » (٤) .

في بيان الملازمة بين الإيمان بالمبدأ والإيمان بالمعاد

ثمّ لا يذهب عليك أنّ اليقين بالمعاد مستلزم لليقين بالمبدأ ، كما أنّ اليقين بالمبدأ مستلزم لليقين بالمعاد ، لأنّ اليقين بالصانع يلازم اليقين بحكمته ، والحكمة مقتضية لأن يكون بعد هذا العالم عالم آخر يثاب فيه المؤمن ، ويعاقب فيه العاصي ، وإلّا يلزم

__________________

(١) تفسير روح البيان ١ : ٤٠.

(٢) تفسير روح البيان ١ : ٤٢.

(٣) تفسير روح البيان ١ : ٤٢.

(٤) الكافي ٢ : ٤٣ / ٦.

١٩٦

العبث في الخلق ، قال الله عزوجل : ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ(١) ، وقال : ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(٢) إلى غير ذلك.

ثم بيّن سبحانه ثمرة تقواهم وصفاتهم الكريمة ، بقوله ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بهذه الصفات الكريمة مختصّون بالركوب ﴿عَلى﴾ طريق ﴿هُدىً﴾ كامل ، وبيان (٣) مقام المقرّبين بتفضّل كائن ﴿مِنْ﴾ قبل ﴿رَبِّهِمْ﴾ حيث إنّه أرشدهم إلى الحقّ ، ووفّقهم للطّاعة ، وأعانهم على تحصيل مرضاته ﴿وَأُولئِكَ﴾ الكاملون في المكارم ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ المختصّون بالنّجاة والنّجاح ، الفائزون بالبغية والدّرجات.

وإنّما أشار إليهم بما يشار إلى البعيد ، للإشعار بعلوّ منزلتهم ورفعة مقامهم ، وبعدهم عن غيرهم في الأخلاق.

في معنى الفلاح

وفي رواية ، في ترجمة الأذان : « فأمّا قوله : حيّ على الفلاح ، فإنّه يقول : أقبلوا إلى بقاء لا فناء معه ، ونجاة لا هلاك معها ، وتعالوا إلى حياة لا ممات معها ، وإلى نعيم لا نفاد له ، وإلى ملك لا زوال معه ، وإلى سرور لا حزن معه ، وإلى انس لا وحشة معه ، وإلى نور لا ظلمة معه ، وإلى سعة لا ضيق فيها ، وإلى بهجة لا انقطاع لها ، وإلى غنى لا فاقة معه ، وإلى صحّة لا سقم معها ، وإلى عزّ لا ذلّ معه ، وإلى قوّة لا ضعف معها ، وإلى كرامة يالها من كرامة ، وعجّلوا إلى سرور الدنيا والعقبى ، ونجاة الآخرة والاولى.

وفي المرّة الثانية : حيّ على الفلاح ، فإنّه يقول : سابقوا إلى ما دعوتكم إليه ، وإلى جزيل الكرامة ، وعظيم المنّة ، وسنيّ النعمة ، والفوز العظيم ، ونعيم الأبد في جوار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقعد صدق عند مليك مقتدر » (٤) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ

عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)

__________________

(١) المؤمنون : ٢٣ / ١١٥.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٧.

(٣) كذا ، وتقرأ أيضا : وتبيان.

(٤) معاني الأخبار : ٤٠ / ١ ، التوحيد : ٢٤٠ / ١.

١٩٧

ثمّ أنّه لما كان من دأب الله تعالى في الكتاب العزيز أنّه كلّما ذكر المؤمنين والمتّقين بخير ذكر الكافرين والفاسقين بسوء ، وكلّما وعد المؤمنين بالثواب والرحمة أوعد الكفّار بالعذاب والنّقمة ، أردف هنا ذكر المتّقين وتوصيفهم بأحسن صفاتهم ، ووعدهم بالفلاح والنّجاح بذكر الكفّار الجاحدين للحقّ ، المصرّين على الكفر ، وتوبيخهم بأخبث أخلاقهم ، وتوعيدهم بالعذاب والنّكال ، بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما من رؤساء الضلال الذين كانوا في ذلك العصر مصرّين على التمرّد واللّجاج والعناد للحقّ.

ويحتمل أن يكون المراد من الموصول كلّ من صمّم على الكفر تصميما لا يرعوي بعده ، دون غيرهم من الذين لم يبلغوا ذلك الحال ، بقرينة قوله تعالى : ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ ولا يتفاوت حالهم ﴿أَ أَنْذَرْتَهُمْ﴾ وخوّفتهم من عذاب الله ودعوتهم إلى الإيمان ووعظتهم ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فإنّ قلوبهم في أعلى مرتبة القساوة ، خارجة عن قابلية التأثّر ، ولذا سبق في علم الله أنّهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بك وبكتابك ، فلا تتعب نفسك في دعوتهم ، ولا تطمع في إيمانهم حيث إنّه ﴿خَتَمَ اللهُ﴾ وطبع ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ فلا يدخل فيها شيء من المواعظ ، ولا ينفذ فيها نور الهداية كما كانوا يقولون : ﴿قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ(١) .

﴿وَ﴾ ختم ﴿عَلى سَمْعِهِمْ﴾ لا يدخل فيه كلمات الوعد والوعيد والإنذار والتّهديد كما كانوا يقولون : ﴿وَفِي آذانِنا وَقْرٌ(٢)﴿وَعَلى أَبْصارِهِمْ﴾ كأنّه ﴿غِشاوَةٌ﴾ وغطاء لا يخرج منها نور يرون به آيات الحقّ.

روي عن الرّضا عليه‌السلام أنّه سئل عن قول الله عزوجل : ﴿خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ قال : « الختم هو الطبع على قلوب الكفّار ، عقوبة على كفرهم ، كما قال الله عزوجل : ﴿طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً(٣) .

وعن العسكري عليه‌السلام : في تفسير ﴿خَتَمَ اللهُ﴾ أنّه قال : « وسمها بسمة يعرفها من شاء من ملائكته وأوليائه إذا نظروا إليها ، بأنّهم الذين لا يؤمنون » (٤) .

__________________

(١) فصلت : ٤١ / ٥.

(٢) فصلت : ٤١ / ٥.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٣ / ١٦ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١٥٥.

(٤) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٩٨ / ٥٣.

١٩٨

ولعلّ المراد من الختم والسمة الظلمة المحيطة بقلوبهم بسبب تماديهم في الكفر وإصرارهم على العصيان ، يراها كلّ من له بصيرة نافذة ، وإسناده إلى الله لكونها بخذلانه إيّاهم ، وهو من أشدّ العقوبات ، فإذا انتهى حال قلوبهم إلى أعلى مرتبة القساوة والظلمة فلا يمكن إيمانهم إلّا بالقسر والإلجاء المنافيين للتّكليف ، وفي تنكير الغشاوة إشعار بأنّها ليست من الغشاوات العاديّة.

في بيان معنى الاختيار وحقيقته

إن قيل : على هذا كان تكليفهم بالايمان بعد الختم تكليفا بغير مقدور وهو محال.

قلنا : مع ذلك كونهم مكلّفين بالايمان قادرين عليه مختارين فيه ، من أوضح الواضحات ، وأبده البديهيّات.

وتوضيحه أنّ القدرة عبارة عن قوّة في الجوارح ، وخصوصيّات فيها ، لو أراد صاحبها عملا تمكّن بها من إيجاد ذلك العمل ، ولذا لا تضاف إلّا إلى الأفعال الجوارحيّة الإراديّة بالبداهة. فكلّ عمل يكون من مبادئ وجوده الإرادة ، يكون من مبادئ وجوده الإرادي القدرة ، وكلّ ما لا يكون من مبادئ وجوده الإرادة ، لا يكون مقدورا ، فالقدرة بوجودها العلمي أو الاحتمالي من شرائط تحقّق الإرادة ، وصدور الفعل عن الاختيار.

وعلى هذا لا تكون نفس الإرادة ومبادئها من العزم والجزم ممّا يضاف إليها القدرة ، لعدم كونها إراديّة ، لوضوح أنّ الإرادة لا توجد بأعمال الجوارح ، بل هي معلولة للدّاعي ، وهو علم الفاعل بصلاح الفعل ، وهذا يختلف باختلاف الأنظار الناشئ من اختلاف مراتب العقول والشّهوات ، ومن البديهيّ أنّه لا يعتبر في صحّة التّكليف أن يكون عقل المكلّف في أعلى مرتبة الكمال ، بحيث لا يصير مغلوبا للشّهوة أبدا ، فإنّ هذه مرتبة العصمة.

والحاصل : إنّ الدّاعي المؤثرّ في الإرادة تابع لقوّة العقل وضعفه ، والعلم بالصّلاح في المراد يكون بنظر الفاعل ، فالدّواعي الحسنة معلولة لقوّة العقل وطيب الطّينة وجودة النّظر وكمال البصيرة ، والدّواعي السيئة منبعثة من ضعف العقل وخبث الطّينة وغلبة الشّهوة وقصور النّظر وعدم البصيرة.

فاذا كان الطبع مجبولا على رذائل الأخلاق والصّفات ، والنّفس معيوبة ومغمورة في الظلمات ، والعقل ضعيفا مغلوبا للشّهوات ؛ فلا محالة يصير القلب مغلوبا لا يستقرّ فيه جواهر الحكم ، والبصر محجوبا لا يميز النور من الظّلم ، فعند ذلك يتيه من هذا حاله في وادي الجهل والغواية ، ولا يرجى منه الرّشد والهداية ، ولا ينقدح في قلبه إرادة الخير والصّلاح ، ولا يصدر منه خيرة الفوز والفلاح ، ويكون

١٩٩

أضلّ من الأنعام ، ويتأنّف من الانقياد للملك العلّام ، ويفتخر بعبادة الأصنام ، وتكون لذّته في الشرّ والفساد ، وشوقه إلى الظلم على العباد.

ومن الواضح أنّ جميع ذلك بقدرته وإرادته ، إذ القدرة كما قلنا ليست إلّا التمكّن من إيجاد ما أراد فعله أو ترك ما أراد تركه ، وتناسب جوارحه لصدروه من غير ضعف وقصور ، والإرادة هي انبعاث النّفس إلى إيجاد ما فيه صلاح بنظره ، وإن كان الانبعاث ناشئا من الدّواعي الشّهوانيّة وخبث الذّات والطّينة ، أو بإيجاد الله تلك الدّواعي في قلبه.

إن قيل : على هذا يلزم الجبر ، وينتفي الاختيار.

في أنّ تعلّق الإرادة التكوينية بأفعال العباد لا يستلزم الجبر ولا ينافي الاختيار

قلنا : لا شبهة أنّ الاختيار في اللّغة هو طلب الخير ، كالاكتساب والاختيار ، وإنّما اطلق على الإرادة بلحاظ أنّها معلولة من العلم بالخير والصّلاح في الفعل المراد ، ومؤثّرة في إيجاده ، إذ ليس وجودها الخارجيّ ومصداقها الحقيقي إلّا توجّه النّفس إلى فعل لاحظ الفاعل فيه خيره ، أو ترك شيء لاحظ في فعله شرّه ، فإذا وجد الفعل وكان الجزء الأخير من علّته تلك الإرادة فهو اختياريّ ، أي منسوب إلى الاختيار ومعلول له ، ولا معنى لاختياريّة الفعل غير كونه موجودا بالإرادة ، ولا يعتبر فيها أن تكون إرادته موجودة بإرادة اخرى ، بل يستحيل أن تكون الإرادة للتّالي إراديّة ، للزوم التسلسل ، وإن أمكن أحيانا وعلى حسب الاتّفاق كون بعض مباديها إراديا إلّا أنّه لا بدّ من انتهائه إلى ما لا يكون بالإرادة.

وبالجملة لا يعتبر في اختياريّة الفعل إلّا إرادة واحدة معلولة للعلم بالصّلاح في المراد ، وإن كان ذلك العلم حاصلا من غير المبادئ الاختياريّة أو بإرادة الغير ، فإنّ جميع التسبيبات يكون بإيجاد الدّاعي في ذهن المباشر. مثلا إذا أراد أحد تحريك غيره وبعثه إلى قتل نفس محترمة بالإرادة التكوينيّة ، لا بدّ له من إيجاد الدّاعي لمن يريد بعثه ، وهو يكون بوعده بما يشتاق إليه ، ويجعل بوعده الملازمة بين ذلك الفعل ونيل مطلوبه من مال أو جاه ، فإنّ الوعد في الحقيقة جعل الملازمة بين الموعود والموعود عليه ، فإذا علم من اشتاق إلى مال أو جاه بأنّه يكون في قتل النّفس الوصول إلى ذلك المال أو الجاه ، فعند ذلك يؤثّر ذلك العلم في تعلّق إرادته بالقتل ، فإذا انقدح في قلبه إرادته تحرّكت جوارحه نحو القتل ، ولكون فعله معلوما عنده بعنوانه وموجودا بإرادته وقدرته ، يستحقّ اللّوم والعقاب ، وإن لم يكن وجود الدّاعي المؤثر في إرادته بفعله وإرادته ، بل بفعل غيره والوعد

٢٠٠