نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-759-5
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

التوقّف في الثغور ، وربط الخيل للتهيّؤ للجهاد (١) . وفي بعضها الآخر : أنّ المراد الانتظار للصّلاة بعد الصّلاة (٢) . وثالث : أنّه لقاء الإمام (٣) .

فليس التعارض بين الروايات المختلفة الواردة في تفسير آية من قبيل التعارض الذي يجب الرجوع فيه إلى المرجّحات المنصوصة أو غير المنصوصة ، وعند فقدها يلتزم بالتوّقف أو التّخيير ، فإنّ الجمع الدلاليّ ممكن فيها ، ومقدّم على المرجّحات السّنديّة.

وكذا الروايات المختلفة الواردة في شأن نزول الآيات ، فإنّها محمولة على تقارن الوقائع ، وإنّ جميعها كان سببا للنزول ، أو على أنّ النزول كان متكرّرا ، فإنّه ممكن ، بل واقع ، أو على أنّها نزلت عند أوّل واقعة ، ثمّ وقعت وقائع اخرى كلّ واحد منها مناسب لمضمون الآية ، فقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنده فتوهّم الرّاوي نزولها فيه.

نعم ، يكون اختلاف الروايات في كيفيّة القراءة من التّعارض الذي ليس فيه جمع دلاليّ بناء على ما هو الحقّ المحقّق من بطلان القول بتعدّد القراءات التي نزل بها جبرئيل ، وفساد القول بأنّ القراءات السّبع متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإنّ الحقّ أنّ القرآن نزل على حرف واحد من عند إله واحد ، كما نطقت به بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام (٤) ، ولكن لا يمكن إثبات كيفيّة القراءة بخبر الواحد ، كما لا يمكن إثبات الآية به ، نعم يترتّب عليه على تقدير استجماعه شرائط الحجّيّة الحكم الشرعيّ الذي يكون لمؤدّاه ، إن لم تكن القراءة المشهورة متواترة ، وإلّا فلا بدّ من طرح تلك الروايات والقراءة ، والعمل بالقراءة المشهورة ، وعند ذلك لا فائدة في تلك الأخبار خصوصا مع قولهم صلوات الله عليهم « إقرأ كما يقرأ النّاس » (٥) .

فلا يجوز قراءة السور بالقراءات غير المشهورة في صلاة الفريضة ، ولو كانت مرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام بسند صحيح معتبر.

__________________

(١) الكشاف ١ : ٤٦٠ ، تفسير روح البيان ٢ : ١٥٧.

(٢) تفسير الطبري ٤ : ١٤٨ ، مجمع البيان ٢ : ٩١٨ ، تفسير القرطبي ٤ : ٣٢٣ ، تفسير روح البيان ٢ : ١٥٧.

(٣) راجع : الكافي ٢ : ٦٦ / ٣ ، غيبة النعماني : ١٩٩ / ١٣ ، تفسير القمي ١ : ١٢٩ ، مختصر بصائر الدرجات : ٨.

(٤) راجع : الكافي ٢ : ٤٦١ / ١٢ و١٣ ، تفسير الصافي ١ : ٥٣.

(٥) راجع : الكافي ٢ : ٤٦٢ / ٢٣.

١٢١

الطرفة الخامسة والعشرون

 في عدم حجّية الأمارات الدّالّة على تفسير الآيات

غير المرتبطة بالأحكام الشرعية العملية

لا شبهة في عدم حجّيّة الأمارات الشرعيّة في مورد ليس له بنفسه أو بتوسّط اللوازم العقليّة أو العاديّة حكم شرعيّ عمليّ ، حيث إنّ الحجّيّة إمّا عبارة عن حكم شرعيّ تكليفيّ طريقيّ بترتيب الأحكام العمليّة الواقعيّة على مؤدّى الأمارة الدّالّة عليها أو على وجود موضوعها عند جهل المكلّف بها أو بموضوعها ، أو حكم وضعيّ وجعل إنشائيّ ممّن له الحكم.

والجعل يكون منشأ لاعتبار عقلائي يستتبع الآثار العقليّة من تنجيز الأحكام الشرعيّه الواقعيّة التي تكون مؤدّاها أو العقلائيّة كذلك ولو بالوسائط العقليّة أو العاديّة عند الإصابة والعذر عند الخطأ والموافقة والتجرّي عند المخالفة ، فلا يتصوّر تحقّق مفهوم الحجّيّة وجعلها إلّا لأمارة كان مؤدّاها حكما عمليا ، أو موضوعا (١) ذا حكم ولو بواسطة امور غير شرعيّة ، فلا معنى لحجّيّة الأخبار غير العمليّة الواردة في بيان شأن نزول الآيات أو تفسيرها أو بطونها وتأويلها إذا لم يترتّب عليها حكم شرعيّ ولم يكن لها دخل في فهم الآيات الدّالّة على الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة ، ولا يجوز ترتيب أثر العلم على تلك الأمارات المجعولة.

ولو كان العلم مأخوذا فيها على جهة الكشف والطريقيّة ، فعلى المكلّف أن يرتّب على الأمارات آثار المعلوم ، لا آثار العلم ، فعلى هذا لا يجوز الإخبار بتحقّق مؤدّاها لأنّ جواز الإخبار بالواقع من آثار العلم به لا من آثار نفسه ، فإنّ دليل الحجّيّة لا يفي بإثبات آثار العلم للأمارة ، وإنّما يثبت لها أثر الكشف عن الواقع الذي للعلم ، إلّا أن يقوم دليل غير دليل الحجّيّة على جواز ترتيب أثر العلم على الأمارة.

فعلى هذا لا يجوز الارتماس في الماء للصائم ، ولا يجوز الإخبار بأنّ الارتماس مبطل للصّوم في حكم الله الواقعي ، لأنّه كذب على الله وعلى رسوله إذا كان الكذب هو الإخبار بشيء لا يعلم به.

نعم ، له أن يقول : رأيي ، أو رأي مقلّدي عدم جواز الارتماس حال الصّوم ، أو يقول : مقتضى الأخبار كذا ، إلّا أن يقال : إنّ أقوى دليل حجّيّة الروايات هو بناء العقلاء وسيرتهم على العمل بالخبر الموثوق

__________________

(١) في النسخة : حكم عمليّ أو موضوع.

١٢٢

به ، وكما أنّ سيرتهم قائمة على جواز العمل ، كذلك قائمة على جواز الإخبار بالواقع الذي يكون مؤدّاه.

فإذا أخبر أحد بشأن نزول آية ، أو تفسيرها ، أو تأويلها ، أو بحكم من أحكام الله الواقعية ، ثمّ سئل عن مدرك إخباره ، فأجاب بأنّه ورد خبر معتبر به ، لا يلام عند العقلاء على إخباره ، مع عدم علمه به ، وتؤيّده الرواية في جواز الشّهادة على الملك الواقعيّ بالاستصحاب واليد (١) .

والحاصل : أنّ في الحجج العقلائيّة من خبر الثقة وظواهر الألفاظ وغيرها سيرتين منهم ، إحداهما : على جواز العمل بمؤدّاها على أنّه الواقع. وثانيتهما : على جواز الإخبار بالواقع الذي تكون أمارة عليه.

الطرفة السادسة والعشرون

في دفع توهّم التناقض والتعارض

بين الآيات الكريمة

قد توهّم الجاهلون التناقض في جملة من آيات الكتاب العزيز ، والتعارض بين كثير منها ، مع بداهة أنّ كلامه تعالى منزّه عن ذلك ، قال تعالى : ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً(٢) وقد تعرّض جمع من العلماء لذكر الآيات الموهمة لذلك ، ولبيان وجه الجمع بينها ودفع التوهّم فيها.

روي عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل إلى ابن عبّاس رضى الله عنه فقال : رأيت أشياء تختلف عليّ من القرآن. فقال ابن عبّاس : ما هو أشكّ ؟ ! قال : ليس بشكّ ، ولكنّه اختلاف ، قال : هات ما اختلف عليك من ذلك.

قال : أسمع الله يقول : ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ(٣) وقال : ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً(٤) فقد كتموا. وأسمعه يقول : ﴿فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ(٥) ثمّ قال : ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ*(٦) . وقال : ﴿أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...﴾ حتّى بلغ ﴿طائِعِينَ(٧) ثمّ قال في الآية الاخرى : ﴿أَمِ السَّماءُ بَناها(٨) ثم قال : ﴿وَالْأَرْضَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٣٦ - باب ١٧.

(٢) النساء : ٤ / ٨٢. (٣) الأنعام : ٦ / ٢٣.

(٤) النساء : ٤ / ٤٢.

(٥) المؤمنون : ٢٣ / ١٠١.

(٦) الصافات : ٣٧ / ٢٧ ، الطور : ٥٢ / ٢٥.

(٧) فصلت : ٤١ / ٩ - ١١.

(٨) النازعات : ٧٩ / ٢٧.

١٢٣

بَعْدَ ذلِكَ دَحاها(١) . وأسمعه يقول : ﴿كانَ اللهُ(٢) ما شأنه يقول : و﴿كانَ اللهُ(٣) .

فقال ابن عبّاس رضى الله عنه : أمّا قوله : ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فإنّهم لمّا رأوا يوم القيامة أنّ الله يغفر لأهل الإسلام ، ويغفر الذنوب ، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولا يغفر شركا ، جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم ، فقالوا : ﴿وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فختم الله على افواههم وتكلّمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا.

وأمّا قوله : ﴿فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ﴾ فإنّه إذا نفخ فى الصّور فصعق من فى السّماوات ومن فى الأرض إلّا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، ثمّ نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتسألون.

وأمّا قوله : ﴿خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ فإن الأرض خلقت قبل السماء ، وكانت السماء دخانا فسوّاهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض.

وأمّا قوله : ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها﴾ يقول : جعل فيها جبلا ، وجعل فيها نهرا ، وجعل فيها شجرا ، وجعل فيها بحورا.

وأمّا قوله : ﴿كانَ اللهُ﴾ فإنّ الله كان ولم يزل كذلك وهو كذلك عزيز حكيم عليم قدير لم يزل كذلك

أقول : الظاهر أنّ المراد من الجواب الآخر أنّ الزّمان ليس بداخل في مفهوم الفعل وضعا ، أو يكون داخلا ، ولكن صار منسلخا من الزّمان هنا بالقرينة القطعيّة.

ثمّ قال : فما اختلف عليك من القرآن فهو يشبه (٤) ما ذكرت لك. وإنّ الله لم ينزل شيئا إلّا وقد أصاب به الّذي أراد ، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون (٥) .

وعن [ ابن ] أبي مليكه قال : سأل رجل ابن عبّاس رضى الله عنه عن ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ(٦) وقوله تعالى : ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(٧) فقال ابن عبّاس : هما يومان ذكرهما الله في كتابة ، الله أعلم بهما (٨) .

__________________

(١) النازعات : ٧٩ / ٣٠.

(٢ و٣) . آل عمران : ٣ / ١٧٩.

(٤) في النسخة : يشبهها.

(٥) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٨٨.

(٦) السجدة : ٣٢ / ٥.

(٧) المعارج : ٧٠ / ٤.

(٨) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٣.

١٢٤

وزاد في رواية اخرى : ما أدري ما هما وأكره أن أقول فيهما ما لا أعلم (١) .

قال ابن [ أبي ] مليكة : فضربت البعير حتّى دخلت على سعيد بن المسيّب ، فسئل عن ذلك ، فلم يدر ما يقول : فقلت له : ألا أخبرك بما حضرت من ابن عبّاس ؟ فاخبرته ، فقال ابن المسيّب للسائل : هذا ابن عبّاس قد اتّقى أن يقول فيهما وهو أعلم منّي (٢) .

وفي رواية اخرى عن ابن عبّاس : إنّ يوم الألف هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه ، ويوم الألف في سورة الحجّ هو أحد الأيّام السّتّة التي خلق الله فيها السماوات ، ويوم الخميس ألفا هو يوم القيامة (٣) .

وعن عكرمة ، عنه رضى الله عنه أنّ رجلا قال له : حدّثني ما هؤلاء الآيات ﴿فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ و﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ وقال : ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ(٣) فقال : يوم القيامة حساب خمسين ألف سنة ، وخلق السماوات والأرض في ستّة أيّام ، كلّ يوم يكون ألف سنة. و﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ قال : ذلك مقدار السّير (٤) ، انتهى (٥) .

وقال بعض : إنّ المراد من اليوم في جميع الآيات يوم القيامة ، وأنّ الاختلاف باعتبار اختلاف حال المؤمن والكافر (٦) .

وقيل : إنّ المراد من ألف سنة سنين الآخرة ، ومن خمسين ألف سنة سنين الدنيا (٧) .

ونقل : أنّه سأل رجل بعض العلماء عن قوله : ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ(٨) فأخبر الله أنّه لا يقسم به ، ثم أقسم به في قوله : ﴿وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ(٩) . فقال : أيّما أحبّ إليك ، اجيبك ثمّ أقطعك ، أو أقطعك ثمّ اجيبك ؟ فقال : بل اقطعني ثمّ أجبني.

فقال : اعلم أنّ هذا القرآن نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحضرة رجال وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا ، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلّقوا به وأسرعوا بالرّدّ عليه ، ولكنّ القوم علموا وجهلت ولم ينكروا ما أنكرت.

ثمّ قال له : إنّ العرب قد تدخل ( لا ) في أثناء كلامها وتلغي معناها ، وأنشد فيه أبياتا (١٠).

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٣.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٣.

(٣) الحج : ٢٢ / ٤٧. (٤) في الإتقان : المسير.

(٥) الاتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٣.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٤.

(٧) مجمع البيان ٧ : ١٤٢.

(٨) البلد : ٩٠ / ١. (٩) التين : ٩٥ / ٣.

(١٠) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٩.

١٢٥

وعن بعض العلماء : في المقام كلام ملخّصه : أنّ للاختلاف أسباب.

أحدها : وقوع المخبر به على أحوال (١) مختلفة وتطويرات شتّى ، كقوله في خلق آدم مرّة ﴿مِنْ تُرابٍ(٢) ومرّة ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(٣) ومرّة ﴿مِنْ طِينٍ لازِبٍ(٤) ومرّة ﴿مِنْ صَلْصالٍ(٥) فهذه ألفاظ مختلفة ، ومعانيها في أحوال مختلفة ، إلّا أنّ كلّها يرجع إلى أصل واحد وهو التراب.

وكقوله تعالى : ﴿فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ*(٦) في موضع و﴿تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ*(٧) في موضع ، والجانّ : الصّغير من الحيّات ، والثعبان : الكبير منها ، وذلك الاختلاف بلحاظ أنّ خلقها خلق الثعبان العظيم ، وحركتها وخفّتها كحركة (٨) الجّانّ وخفّته.

وثانيها : اختلاف الموضع (٩) ، كقوله : ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ(١٠) وقوله : ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(١١) مع قوله : ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ(١٢) . وذلك بلحاظ اختلاف الأماكن ، لأنّ في القيامة مواقف كثيرة ، ففي موضع يسئلون ، وفي آخر لا يسئلون.

وقيل : إنّ السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ ، والمنفيّ سؤال المعذرة وبيان الحجّة.

وقيل : إنّ السؤال الأوّل عن التوحيد وتصديق الرّسل. والسّؤال الثاني عمّا يستلزمه الإقرار بالنبوّات من شرائع الدّين وفروعه.

وكقوله تعالى : ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً(١٣) مع قوله : ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ(١٤) فمن الاولى يفهم إمكان العدل ، وممن الثانية عدم إمكانه ، فالاولى في توفية الحقوق ، والثانية في الميل القلبيّ ، وليس في قدرة الإنسان.

أقول : وقريب من هذا الوجه مرويّ عن الصادق عليه‌السلام (١٥) .

قال : وكقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ(١٦) مع قوله : ﴿أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها(١٧) فالاولى في الأمر التشريعيّ ، والثانية في الأمر التكّوينيّ ، بمعنى القضاء والتقدير.

__________________

(١) في الاتقان : أنواع. (٢) آل عمران : ٣ / ٥٩.

(٣) الحجر : ١٥ / ٢٨. (٤) الصافات : ٣٧ / ١١.

(٥) الرحمن : ٥٥ / ١٤.

(٦) الأعراف : ٧ / ١٠٧ ، الشعراء : ٢٦ / ٣٢.

(٧) النمل : ٢٧ / ١٠ ، القصص : ٢٨ / ٣١.

(٨) في الإتقان : كاهتزاز. (٩) في الاتقان : الموضوع.

(١٠) الصافات : ٣٧ / ٢٤.

(١١) الأعراف : ٧ / ٦. (١٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣٩.

(١٣) النساء : ٤ / ٣. (١٤) النساء : ٤ / ١٢٩.

(١٥) راجع : تفسير القمي ١ : ١٥٥ ، تفسير العياشي ١ : ٤٤٨ / ١١٣٠.

(١٦) الأعراف : ٧ / ٢٨.

(١٧) الإسراء : ١٧ / ١٦.

١٢٦

وثالثها : الاختلاف في جهتي الفعل ، كقوله تعالى : ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى(١) اضيف القتل إليهم والرّمي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على جهة المباشرة ، ونفاه (٢) عنهم وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتبار الأسباب (٣) .

ورابعها : الاختلاف في الحقيقة والمجاز ، كقوله : ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكارى﴾ أي من الأهوال مجازا ، وقوله : ﴿وَما هُمْ بِسُكارى(٤) أي من المسكر حقيقة.

امسها : اختلاف الوجه والاعتبار ، كقوله تعالى : ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(٥) مع قوله تعالى : ﴿خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ(٦) فالأول باعتبار زوال المانع ، والثاني باعتبار الخوف.

وكقوله : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ(٧) مع قوله : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ(٨) فيظنّ أنّ الوجل خلاف الطمأنينة ، وجوابه أنّ الطمأنينة بانشراح الصّدر بمعرفة الله ، والوجل من خوف الزّيغ والذّهاب عن الهدى (٩) .

أقول : وكقوله تعالى : ﴿فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا(١٠) مع قوله : ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(١١) فإنّ النسيان في الاولى بمعنى ترك إثابتهم وعدم الأمر لهم بخير ، وفي الثانية بمعنى عدم الذكر.

وكقوله تعالى : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ(١٢) مع قوله : ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ(١٣) فإنّ النّظر في الأوّل النظر إلى ثوابه ، أو إلى ربّهم كيف يثيبهم.

وكقوله تعالى : ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ(١٤) وكقوله : ﴿إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ(١٥) وقوله : ﴿فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا(١٦) مع قوله : ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ(١٧) [ فإنّما يعني بقوله ﴿لَمَحْجُوبُونَ﴾ أي عن ثواب ربّهم يوم القيامة ] وإن الذّهاب في قوله تعالى : ﴿إِنِّي ذاهِبٌ﴾ بمعنى التوجّه والعبادة ، وإتيان الله بمعنى إرسال العذاب ، وكذلك إتيانه بنيانهم [ في قوله

__________________

(١) الأنفال : ٨ / ١٧. (٢) في النسخة : ويفنا.

(٣) في الاتقان : باعتبار التأثير.

(٤) الحج : ٢٢ / ٢. (٥) سورة ق : ٥٠ / ٢٢.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٥ ، والآية من سورة الشورى : ٤٢ / ٤٥.

(٧) الرعد : ١٣ / ٢٨. (٨) الأنفال : ٨ / ٢.

(٩) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٩٦.

(١٠) الأعراف : ٧ / ٥١. (١١) مريم : ١٩ / ٦٤.

(١٢) القيامة : ٧٥ / ٢٢ و٢٣. (١٣) الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(١٤) المطففين : ٨٣ / ١٥. (١٥) الصافات : ٣٧ / ٩٩.

(١٦) الحشر : ٥٩ / ٢.

(١٧) الحديد : ٥٧ / ٤.

١٢٧

تعالى : ﴿فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ(١)] بمعنى إرسال العذاب عليهم.

وكقوله : ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا(٢) مع قوله : ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(٣) وقد يسمّى الانسان سميعا وبصيرا ، فإنّما عنى بالاولى : هل تعلم أحدا اسمه الله غير الله ؟

وكقوله : ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً(٤) مع قوله : ﴿قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ(٥) فالاولى في موطن من مواطن القيامة ، والثانية في موطن آخر.

روي : أوّلا يفرّ بعضهم من بعض ولا يتكلّمون ، وفي موطن آخر يستنطقون فيه ، فيقولون : ﴿وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فيختم على أفواههم وتستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم ، ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم ، فيقولون لجلودهم : ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا(٦) إلى آخر الآية.

وببالي أنّ جميع ما ذكرت مرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في رواية طويلة (٧) .

الطرفة السّابعة والعشرون

في أفضلية الكتاب العزيز

على سائر الكتب السماوية

لا يداني الكتاب العزيز شىء من الأشياء وكتاب من الكتب في الفضيلة والشرف ، فإنّ فضله على سائر الكتب كفضل الله على سائر خلقه ، حيث إنّه كلامه الناطق ، ونوره السّاطع ، مضافا إلى أنّ فضيلة الكتاب بفضيلة ما اشتمل عليه من العلم ، والكتاب المجيد مشتمل على أفضل العلوم ، من علم المبدأ والمعاد والمعارف الإلهيّة ، وبيان حقائق الامور والحكم الكامنة في الأشياء والأحكام الشرعيّة والآداب الدّينيّة.

عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه : خير الحديث كتاب الله (٨) .

__________________

(١) النحل : ١٦ / ٢٦. (٢) مريم : ١٩ / ٦٥.

(٣) الشورى : ٤٢ / ١١.

(٤) النبأ : ٧٨ / ٣٨.

(٥) الأنعام : ٦ / ٢٣.

(٦) فصلت : ٤١ / ٢١.

(٧) الرواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل أجاب فيه عليه‌السلام الزنديق الذي ادّعى التناقض في بعض آي القرآن الكريم بجواب مفصّل يزيل الوهم والشكّ ، رواه الشيخ الصدوق في التوحيد : ٢٥٤ / ٥ والطبرسي في الاحتجاج : ٢٤٠ ، وعنهما العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٩٣ : ٩٨ / ١ و: ١٢٧ / ٢ والظاهر أنّ المصنف أورد طرفا منها بالمعنى لا باللفظ ، يشهد له قوله ( وببالي ) .

(٨) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٢٢.

١٢٨

وعن ابن عمر ، مرفوعا : القرآن أحبّ إلى الله من السّماوات والأرض ومن فيهنّ (١) .

وعن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذا القرآن هو النّور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والدرجة العليا ، والشّفاء الأشفى والفضيلة الكبرى ، والسّعادة العظمى ، من استضاء به نوّره الله ، ومن عقد به اموره عصمه الله ، ومن تمسّك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق احكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على ما سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضلّه الله ، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوّله الذي ينتهي إليه أدّاه الله إلى جنّات النّعيم والعيش السليم » (٢) .

عن الحارث الأعور ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه - في رواية - قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أتاني جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمّد ستكون في امّتك فتنة. قلت : فما المخرج منها ؟ فقال : كتاب الله ، فيه بيان ما قبلكم من خبر ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من وليه (٣) من جبّار فعمل بغيره قصمة الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصّراط المستقيم ، لا تزيغه الأهوية ، ولا تلبسه الألسنة ، ولا يخلق على الرّدّ ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء ، هو الذي لم تلبث (٤) الجنّ أن قالوا : ﴿إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ(٥) .

من قال به صدق ، ومن عمل به اجر ، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم ، هو الكتاب العزيز الّذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(٦) .

ومن طرق العامّة ، عن الحارث ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ما يقرب منه (٧) .

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ، إذا هم بشخص قد أقبل ، لم ير قطّ أحسن صورة منه ، فإذا نظر إليه المؤمنون - وهو القرآن - قالوا : هذا منّا ، هذا أحسن شيء رأيناه. فإذا انتهى إليهم جازهم ، ثمّ ينظر إليه الشّهداء حتّى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم ، فيقولون : هذا القرآن ،

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٢٠ ، كنز العمال ١ : ٥٢٨ / ٢٣٦٣.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٤٩ / ٢٩٧.

(٣) في النسخة : ولاه.

(٤) في العياشي والبحار : لم تكنه.

(٥) الجن : ٧٢ / ١ و٢.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٧٥ / ٢ ، بحار الأنوار ٩٢ : ٢٤ / ٢٥ ، والآية من سورة فصلت : ٤١ / ٤٢.

(٧) سنن الدارمي ٢ : ٤٣٥ ، سنن الترمذي ٥ : ١٧٢ / ٢٩٠٦.

١٢٩

فيجوزهم كلّهم ، حتّى إذا انتهى إلى المرسلين ، فيقولون : هذا القرآن ، فيجوزهم ثمّ ينتهي حتّى يقف عن يمين العرش ، فيقول الجبّار : وعزّتي وجلالي ، وارتفاع مكاني لاكرمنّ اليوم من أكرمك ، ولأهيننّ من أهانك » (١) .

أقول : قد وردت أخبار كثيرة في تمثّل القرآن يوم القيامة بأحسن صورة (٢) .

وقال بعض المحقّقين : إنّ للقرآن وجودا كتبيّا بين الدّفّتين ، ووجودا لفظيّا للقارئ منّا ومن المعصومين عليهم‌السلام ، بل يمكن أن يقال : من الملائكة كجبرئيل عليه‌السلام ، ووجودا علميّا في لوح النّفس مكتسبا من المرتبتين الاوليين ، ووجودا علميّا من إلقاء الرّوح الذي من عالم الأمر إيّاه في القلب بأمر الله سبحانه ، كما لعلّه يرشد إليه قوله تعالى : ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(٣) أو من انتقاش الألفاظ الغيبيّة في لوح القلب عند مواجهته لها ومقابلته إيّاها ، ولعلّه يؤمى إليه قوله تعالى : ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ(٤) ، ووجودا عينيا كتبيّا في لوح غيبيّ هو المبدأ لهذه النّقوش الواقعة في لوح القلب ، وبه يصير القلب مصحفا لوجه أوراقه ، وتلك النّقوش كتابته ، ولعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى : ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(٥) ووجودا لفظيّا عينيّا هو كلام الله سبحانه الذي أوجده وأسمعه من شاء من عباده من الملك والنبيّ ، ولعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى : ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ(٦) ووجودا إجماليّا قبل التفصيل ، ولعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى : ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ(٧) .

وهو الأصل ، والباقي تنزّلاته ومراتبه وشؤونه ، كأصل الشجرة بالنّسبة إلى ساقها واغصانها ، ولعلّ إلى هذه المقامات الإشارة بإطلاق الإنزال والتّنزيل على القرآن في مواضع كثيرة.

ثمّ إنّ لنا صعودا أيضا ، فإنّ القرآن اللفظيّ الصادر منّا ، يتمثّل بمثال ويتشكّل بصورة جوهري في عالم أرفع من هذا العالم على ما تحقّق وثبت في محلّه بالآيات والأخبار الكثيرة الواردة في الموارد الكثيرة ، المعتضدة بالاستبصارات العقليّة وغيرها من أنّ الأعمال الحسنة والسيّئة تتجسّم وتتمثّل وتبقى في عالم البرزخ مع الميّت ، وقراءة القرآن منها بل من اولى أفرادها بهذا الحكم ، وكتابة القرآن أيضا عمل يتجسّم كذلك ، فيتحقّق في القرآن قوسان : قوس نزول ينتهي إلى وجوده اللّفظيّ والكتبيّ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٤٠ / ١٤.

(٢) راجع الكافي ٢ : ٤٣٩ / ١١.

(٣) الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ و١٩٤.

(٤) العنكبوت : ٢٩ / ٤٩.

(٥) الواقعة : ٥٦ / ٧٧ - ٧٩.

(٦) الزمر : ٣٩ / ٢٣.

(٧) هود : ١١ / ١.

١٣٠

الواقع في هذه النشأة ، وقوس صعود واقع في عالم البرزخ ، كما هو الحال في حقيقة الإنسان.

ثمّ إنّ حقيقة القرآن ليست مقصورة على عالم الألفاظ والنّقوش الواقعة في عالم الملك والملكوت ، بل مداليل الكلمات القرآنيّة أولى بالدخول في حقيقة القرآن منها ، ولها وجود في عالمها ، فهي أيضا يصحّ أن تعدّ مقاما آخر له ، ومراتبه المعنويّة تنتهي إلى حقيقة الاسم الالهي الذي هو المبدأ للقرآن ، ويشبه أن يكون هو حقيقة اسم الهادي والنّور الذي ربّما أطلق اسمه على القرآن في مواضع.

ثمّ إنّ عالم القيامة الكبرى لمّا كان يوم الجمع بين العوالم ، ويوم إبلاء السّرائر ، وإظهار المكنونات ، وإبراز الامور الغيبيّة بصور حسّيّة مطابقة لها حتّى تتوافق النّشآت والعوالم لينبئهم بما عملوا ، ولتبلى كلّ نفس ما كسبت ، ويحصد كلّ زارع ما زرع ، والزرع تابع للبذر ، لزمه أن (١) ينزّل القرآن من عالم الغيب إلى ظاهر عالم القيامة مصورا بصورة حسنة حتّى يوافق حسنه المعنويّ ، لأنّه أحسن ما يكون ، وله بهاء وجمال ونور حسّيّ ، كما أنّ هذه الصّفات اليوم في عالم الغيب على وجه غيبيّ ، فإنّ الدنيا بمنزلة الامّ للآخرة.

ثمّ إنّه لا بدّ وأن يمرّ على صفوف المؤمنين كما يمرّ على قلوبهم ونفوسهم في دار الدنيا ليطابق الظاهر الباطن ، والقالب الروح ، والصورة المعنى ، مبتدئا المرور من الأدنى إلى الأعلى ، لأنّه سالك في الاستكمال متوجّه إلى ربّ العزّة ، فيلزمه الكون مع النّازل قبل الكون مع الكامل ، وأن يكون مع كلّ صنف منهم بصورة ذلك الصّنف ، لأنّه عند كلّ منهم واقع في مرتبتهم بزيادة بهاء وجمال ونور ، لعدم مخالطته بما يضادّ هذه الصّفات من ظلمة وكدورة ، ولأنّهم لا يدركون منه إلّا المقدار الذي كان لهم في الدنيا ، ومنه الشأن المتعلّق بصفتهم ومقامهم وحالهم ، كما أنّ كلّا منهم حال قراءته للقرآن يشاهد المعنى الموافق لمقامه من الظاهر والباطن وباطن الباطن.

وإن كان الكامل مشتملا على الناقص فلا بدّ وأن يظنّ كلّ صنف منهم أنّه منهم كما كانوا يظنّون في الدنيا أنّه بيان طريقتهم وصفة حالهم ، وأن يعرفه كلّ منهم بنعته وصفته عند المواجهة ، كما كان يعرف ذلك المقدار في دار الدّنيا من القرآن ومعانية ، إذ القدر الظاهر منه في كلّ مقام يساوي ذلك المقام.

ولو لم يعرف أهل الصّنف ذلك القدر الظاهر ، لم يكونوا من أهل ذلك المقام ، إلى أن ينتهي إلى

__________________

(١) في النسخة : مصوّرة.

١٣١

ربّ العزّة إلى آخر قوسه الصّعوديّ ، فيسجد صورة كما سجد بالخضوع المطلق والفناء معنى ، وقد كان مصير القرآن إليه سبحانه في النّشأة الاولى.

الطرفة الثامنة والعشرون

 في أفضلية تعلّم القرآن وتعليمه

 على سائر الأعمال والعبادات

قد ظهر ممّا ذكر في فضل القرآن أنّ تعليمه وتعلّمه من أفضل الأعمال مضافا إلى روايات كثيرة دالّة على فضلهما وكثرة الثّواب عليهما.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تعلّموا القرآن - إلى أن قال : - ويكسى أبواه خلّتين إن كانا مؤمنين ، ثمّ يقال لهما : هذا لما علّمتماه القرآن » (١) .

وفي حديث أبي ذرّ : لأن تغدو فتتعلّم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلّي مائة ركعة (٢).

وعن أبي هريرة : ما من رجل يعلّم ولده القرآن إلّا توّج يوم القيامة بتاج في الجنّة (٣) .

وفي رواية عن عثمان : إنّ أفضلكم من تعلّم القرآن وعمل به (٤) .

وفي رواية عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من تعلّم منه حرفا ظاهرا كتب الله له عشر حسنات ، ومحا عنه عشر سيّئات ، ورفع له عشر درجات » .

قال : « لا أقول بكلّ آية ، ولكن بكلّ حرف باء أو ياء أو شبههما » (٥) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : من تعلّم كتاب الله ثمّ اتّبع ما فيه ، هداه الله به من الضّلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب (٦) .

وعن سعد الخفّاف ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « تعلّموا القرآن ، فإنّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق - إلى أن قال : - حتّى ينتهي إلى ربّ العزّة فيخرّ تحت العرش فيناديه تبارك وتعالى : يا حجّتي في الأرض ، وكلامي الصادق النّاطق ، ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفّع [ فيرفع رأسه ، فيقول الله تبارك وتعالى ] : كيف رأيت عبادي ؟ فيقول : يا ربّ منهم من صانني وحافظ عليّ ولم

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٤١ / ٣.

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٢٤.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٢٣.

(٤) الإتقان في علوم القرآن : ٤ : ١٢٣ ، وفيه : القرآن وعلّمه.

(٥) الكافي ٢ : ٤٤٨ / ٦.

(٦) الاتقان في علوم القرآن ٤ : ١٢٤.

١٣٢

يضيّع شيئا ، ومنهم من ضيّعني واستخفّ بي (١) وكذّب بي ، وأنا حجّتك على جميع خلقك. فيقول الله عزوجل : وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لاثيبنّ اليوم عليك أحسن الثّواب ، ولاعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب » الخبر (٢) .

قيل : إنّ سجدة القرآن كناية عن فنائه في الله ، ورفع رأسه كناية عن بقائه به بعد فنائه فيه ، وكما أنّه كان في الدّنيا مقرّبا للعباد إلى الله ، وسببا لشمول رحمته لهم ودفع عذابه عنهم في الدنيا ، يكون شفيعا لهم إلى الله ووسيلة وسائلا لثوابه العظيم عليهم ، ودفع عذابه عنهم في الآخرة.

عن الشيخ ، بإسناده : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه » (٣) .

وعن عقبة بن عمّار ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يعذّب الله قلبا وعى القرآن » (٤) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم ، إنّ هذا القرآن حبل الله ، وهو النّور المبين » (٥) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إذا قال المعلّم للصبيّ : قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبيّ : بسم الله الرحمن الرحيم ، كتب الله براءة للصبيّ ، وبراءة لوالدية وبراءة للمعلّم من النّار » (٦) .

وعن ( المجمع ) : عن معاذ ، قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ما من رجل علّم ولده القرآن إلّا توّج الله أبويه يوم القيامة بتاج الملك ، وكسيا حلّتين لم ير النّاس مثلهما » (٧) .

وفي ( نهج البلاغة ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في خطبة له : « وتعلّموا القرآن [ فإنّه أحسن الحديث وتفّهوا فيه ] فإنّه ربيع القلوب » (٨) .

وعن عليّ بن ابراهيم : عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتّى يتعلّم القرآن ، أو أن يكون في تعليمه » (٩) .

والظاهر من جميع هذه الرّوايات تعلّم عبارات آياته وكيفيّة قراءته ، إلّا أنّه يحتمل شمول كثير منها تفاسيرها وبطونها ، وجميع العلوم الراجعة إليها ، فإنّ تعلّم جميعها تعلّم القرآن ، وقد صرّح بعض أصحابنا بوجوب تعلّم القرآن وتعليمه كفاية ، وهو الحقّ ، لا أحتمل فيه خلافا بين المسلمين.

__________________

(١) في الكافي : واستخف بحقي.

(٢) الكافي ٢ : ٤٣٦ / ١ ، بحار الأنوار ٧ : ٣١٩ / ١٦.

(٣) أمالي الطوسي : ٣٥٧ / ٧٣٩ ، بحار الأنوار ٩٢ : ١٨٦ / ٢.

(٤) أمالي الطوسي : ٦ / ٧.

(٥) مجمع البيان ١ : ٨٥ ، كنز العمال ١ : ٥٢٦ / ٢٣٥٦.

(٦) مجمع البيان ١ : ٩٠.

(٧) مجمع البيان ١ : ٧٥.

(٨) نهج البلاغة : ١٦٤ الخطبة ١١٠.

(٩) الكافي ٢ : ٤٤٤ / ٣ ، عدة الداعي : ٢٨٧ / ٧.

١٣٣

الطرفة التاسعة والعشرون

 في أنّ حفظ القرآن من أهمّ العبادات

حفظ القرآن من أهمّ العبادات ، وأوكد المستحبّات ، في ( الوسائل ) : عن عقبة بن عمّار ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يعذّب الله قلبا وعى القرآن » (١) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قرأ القرآن حتّى يستظهره ويحفظه ، أدخله الله الجنة ، وشفّعه في عشرة من أهل بيته ، كلّهم قد وجبت لهم النّار » (٢) .

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن ، اختلط بلحمه ودمه ، وجعله الله مع السّفرة الكرام البررة ، وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة » (٣) .

أقول : لا يبعد أن يكون المراد من اختلاط القرآن باللّحم والدّم حفطه ، كما قال عليه‌السلام في رواية اخرى : « حافظ القرآن العامل به مع السّفرة الكرام البررة » (٤) .

ويحتمل أن يكون المراد حفظ ألفاظه مع حفظ معانيه ، والإيمان به ، والعمل بموجبه ، والتخلّق بما فيه من الأخلاق الإلهيّة والآداب الشرعيّة ، فيكون أهل القرآن ، كما في رواية الكلينيّ ، بسنده عن السّكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدمييّن ما خلا النّبييّن والمرسلين ، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم ، فإنّ لهم من الله العزيز الجبّار لمكانا [ عليّا ] » (٥) .

وما رواه الطّبرسيّ : عن النبيّ قال : « أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته » (٦) .

وفي حديث عقبه بن عامر ، عن النبيّ : « لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النّار » .

قال أبو عبيد (٧) : أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن (٨) .

وفي حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من قرأ القرآن واستظهره فأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، أدخله الله الجنّة ، وشفّعه في عشرة من أهل بيته ، كلّهم قد وجبت لهم النّار » (٩) .

أقول : الظاهر أنّ المراد من قوله : فاستظهره حفظه وجعله في ظهر قلبه ، كما أنّ الظاهر من حمل

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦ / ٧. (٢) مجمع البيان : ١ : ٨٥.

(٣) الكافي ٢ : ٤٤١ / ٤.

(٤) الكافي ٢ : ٤٤١ / ٢.

(٥) الكافي ٢ : ٤٤١ / ١.

(٦) مجمع البيان ١ : ٨٤.

(٧) في النسخة : أبو عبيدة ، وهو أبو عبيد القاسم بن سلّام الهروي المتوفّى سنة ٢٢٤ ه‍ .

(٨) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٢١.

(٩) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ١٢٣.

١٣٤

القرآن ذلك.

عن الصّدوق ، بإسناده : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « أشراف امّتي حملة القرآن وأصحاب اللّيل » (١) .

والظاهر أنّ المراد بأصحاب اللّيل الذين يسهرون اللّيل بتلاوة القرآن والقيام بالعبادة.

وعن ( تفسير الإمام عليه‌السلام ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « حملة القرآن المخصوصون برحمة الله ، الملبسون نور الله ، المعلّمون كلام الله ، المقرّبون عند الله ، من والاهم فقد والى الله ، ومن عاداهم فقد عادى الله » الخبر (٢) .

أقول : لمّا كان حفظ القرآن عن معرفة وإيمان مورثا لنورانيّة القلب وانشراح الصدّور وانبساط الرّوح وتهذيب النّفس ، كان أجره مسانخا له في القيامة من كون الحافظ مغمورا في نور الله ، مخصوصا برحمة الله ، موسوما بكلام الله ، مقرّبا عند الله.

ثمّ لا شبهة أنّ حفظه بمشقّة وكلفة أعظم أجرا من حفظه بسهولة ، لعموم قوله : « إنّ أفضل الأعمال أحمزها » (٣) ولخصوص ما روي عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقّة منه ، وقلّة حفظ ، له أجران » (٤) .

ومن الأسف أنّ هذه العبادة الفاضلة صارت متروكة في زماننا هذا بعد شيوعها في الأزمنة السابقة ، بحيث كان غير الحافظ له موهونا بين المسلمين على ما قيل.

الطرفة الثلاثون

في ثواب تلاوة القرآن العظيم

لتلاوة الكتاب الكريم ثواب عظيم وفضل جسيم.

عن الصادق عليه‌السلام في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام قال : « وعليك بتلاوة القرآن على كلّ حال » (٥) .

وعنه عليه‌السلام في حديث : « ومن قرأ نظرا في غير صلاة (٦) كتب الله له بكلّ حرف حسنة ومحا عنه سيّئة ، ورفع له درجة - إلى أن قال : - ومن قرأ حرفا وهو جالس في صلاة ، كتب الله له به خمسين حسنة ومحا عنه خمسين سيّئة ، ورفع له خمسين درجة. ومن قرأ وهو قائم في صلاته ، كتب الله له مائة

__________________

(١) الخصال : ٧ / ٢١.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٣ / ١.

(٣) النهاية ١ : ٤٤٠ ، وأحمزها : أي أقواها وأشدها.

(٤) الكافي ٢ : ٤٤٣ / ١.

(٥) الكافي ٨ : ٧٩ / ٣٣.

(٦) في الكافي : من غير صوت.

١٣٥

حسنة ومحا عنه مائة سيئة ، ورفع له مائة درجة. ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة ، مؤخّرة أو معجّلة » .

قال : قلت : جعلت فداك ، ختمه كلّه ؟ قال : ختمه كلّه (١) .

وعنه عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية ، قال : « يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل ، شاحب اللون ، فيقول له : أنا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك ، وأجففت ريقك ، وأسبلت دمعك (٢) - إلى أن قال : - فأبشر فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه ، ويعطى الأمان بيمينه ، والخلد في الجنان بيساره ، ويكسى حلّتين ، ثمّ يقال له : إقرأ وارق ، فكلّما قرأ آية صعد درجة » الخبر (٣) .

وعن الكلينيّ رحمه‌الله بسنده : عن حفص ، قال : سمعت موسى بن جعفر عليهما‌السلام يقول في حديث : « إنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن. يقال له : اقرأ وارق ، فيقرأ ثمّ يرقى » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « عليكم بتلاوة القرآن ، فإنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن ، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن : إقرأ وارق ، فكلّما قرأ آية رقى درجة » (٥) إلى غير ذلك.

ولعلّ السّرّ في ذلك أنّ في كلّ آية علما ونورا ومعرفة وهداية ودعوة إلى الله ، فبالتمسّك بكلّ منها ، والمعرفة بها ، والتخلّق بموجبها ، والعمل بها ، يحصل للعبد درجة في كمال النّفس والقرب إلى الله ، وبالتمسّك بجميعها نهاية الكمال ومنتهى القرب إليه سبحانه ، ولمّا كانت درجات الجنّة على حسب مراتب كمال العبد وقربه ، ومطابقا لها ، بل هي معانيها وأرواحها ، والآثار المترتّبة عليها ، كانت درجات الجنّة بعدد الآيات.

عن الزهريّ ، قال : قلت لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام : أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : « الحالّ المرتحل » .

قلت : وما الحالّ المرتحل ؟ قال : « فتح القرآن وختمه ، كلّما جاء بأوّله ارتحل بآخره » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « من قرأ مائة آية يصلّي بها في ليلة ، كتب الله له بها قنوت ليلة. ومن قرأ مائتي آية في غير صلاة [ لم يحاجّه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية في يوم وليلة في صلاة النهار و] اللّيل ، كتب الله له في اللوح [ المحفوظ ] قنطارا من الحسنات ، والقنطار ألف ومائتا اوقيّة ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٤٨ / ٦.

(٢) في الكافي : وأسلت دمعتك.

(٣) الكافي ٢ : ٤٤١ / ٣.

(٤) الكافي ٢ : ٤٤٣ / ١٠.

(٥) أمالي الصدوق : ٤٤٠ / ٥٨٦.

(٦) الكافي ٢ : ٤٤٢ / ٧.

١٣٦

والاوقيّة أعظم من جبل احد » (١) .

وعن عليّ بن بابويه ، بسنده ، عن أنس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية لم يحاجه القرآن » (٢) .

وعن ( المجمع ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفضل العبادة قراءة القرآن » (٣) .

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه صلوات الله عليهم - في رواية - : « ومن قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وتفقّها في الدّين ، كان له من الثواب مثل ما اعطي (٤) الملائكة والأنبياء والمرسلون » (٥) .

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام - في حديث - قال : « ما من عبد من شيعتنا يتلو القرآن في صلاته قائما ، إلّا وله بكلّ حرف مائة حسنة ، ولا قرأ في صلاته جالسا ، إلّا وله بكلّ حرف خمسون حسنة ، ولا في غير صلاة إلّا وله بكلّ حرف عشر [ حسنات ] » (٦) . إلى غير ذلك من الرّوايات.

ولعلّ اختلاف مراتب الثّواب باختلاف مراتب الإيمان والمعرفة والتّدبر ، ففي مرتبة يكون ثواب كلّ حرف حسنة ، وفي مرتبة عشر حسنات ، هذا مضافا إلى أنّ لذّة تلاوة كتاب الله للمؤمن العارف المتدبّر أعلى وأتمّ من كلّ لذّة ، فإنّه يرى نفسه حاضرا في مجلس القرب ، فيخاطبه ربّه ومليكه ويشافهه بأحسن كلام ، وألطف بيان ، ثمّ إنّ لكلّ سورة من السّور ثوابا خاصّا وفضيلة مخصوصة ، سنذكره إن شاء الله بعد إتمام تفسير كلّ منها.

الطرفة الحادية والثلاثون

 في آداب تلاوة الكتاب الكريم

آداب تلاوة الكتاب العزيز كثيرة :

أحدها : أن يكون التّالي متطهّرا حال التّلاوة ، عن ابن فهد رحمه‌الله قال : قال عليه‌السلام : « لقارئ القرآن بكل حرف يقرأه في الصّلاه قائما مائه حسنة ، وقاعدا خمسون [ حسنة ] ، ومتطهّرا في غير الصّلاة خمس وعشرون حسنة وغير متطهّر عشر حسنات » الخبر (٧) .

ولعلّ السرّ أنّ المتطهّر أقرب إلى الاستفاضة بأنوار القرآن من المحدث ، كما أنّ طاهر القلب أقبل

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٥٥ / ٩.

(٢) معاني الأخبار : ٤١٠ / ٩٦.

(٣) مجمع البيان ١ : ٨٤.

(٤) في عقاب الأعمال : مثل جميع ما يعطى.

(٥) عقاب الأعمال : ٢٩٣.

(٦) الكافي ٨ : ٢١٤ / ٢٦٠.

(٧) عدة الداعي : ٢٨٧ / ٨.

١٣٧

لفيوضاته.

ثانيها : أن لا يكون عريانا ، لما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه نهى عن قراءة القرآن عريانا (١) .

ثالثها : الاستعاذة قبلها ، عن ( تفسير العيّاشيّ ) عن الحلبيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن التّعوّذ من الشّيطان عند كلّ سورة يفتتحها ؟ قال : « نعم ، فتعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم » (٢) .

أقول : مقتضى إطلاق قوله تعالى : ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ(٣) استحبابه قبل تلاوة آية أو بعض آية.

رابعها : التّسمية قبل التّلاوة ، عن الصادق عليه‌السلام : « أغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة ، وافتحوا أبواب الطّاعة بالتّسمية » (٤) .

خامسها : التلاوة في المصحف ، وإن كان التّالي حافظا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من قرأ القرآن في المصحف [ نظرا ] متّع ببصره ، وخفّف على والديه وإن كانا كافرين » (٥) .

وعن إسحاق بن عمّار ، عنه عليه‌السلام قال : جعلت فداك ، إنّي أحفظ القرآن عن ظهر قلبي ، فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل ، أو أنظر في المصحف ؟

قال : فقال عليه‌السلام لي : « بل اقرأه وانظر في المصحف ، فهو أفضل ، أما علمت أنّ النّظر في المصحف عبادة » (٦) .

وعن أبي ذرّ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « النّظر إلى عليّ بن أبي طالب عبادة ، والنّظر إلى الوالدين برأفة ورحمة عبادة ، والنّظر في الصّحيفة - يعني صحيفة القرآن - عبادة ، والنّظر إلى الكعبة عبادة » (٧) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ليس شيء أشدّ على الشّيطان من القراءة في المصحف نظرا » (٨) .

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن الوالدين وإن كانا كافرين » (٩) .

ولعلّ السرّ في كون النّظر إليه عبادة ، أنّ النّظر إلى كتابته يورث نورانيّة في القلب ، بل النظر إلى جميع المقدّسات الإلهية وإلى وجه العالم والمؤمن ، له هذا الأثر ، كما أنّ النّظر إلى وجه الكفّار

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٢ : ٢١٦ / ١٩.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٢٣ / ٢٤٢٧.

(٣) النحل : ١٦ / ٩٨.

(٤) دعوات الراوندي : ٥٢ / ١٣٠.

(٥) ثواب الأعمال : ١٠٢. (٦) عدة الداعي : ٢٩٠.

(٧) أمالي الطوسي : ٤٥٤ / ١٠١٦.

(٨) أعلام الدين : ٣٦٨ / ٣٧.

(٩) الكافي ٢ : ٤٤٩ / ٤.

١٣٨

والعصاة ، وما هو مبغوض عند الله كالخمر والميسر والأصنام ، بل الزخارف الدّنيويّة ، يؤثر ظلمة في القلب ، وكدورة في النّفس ، كأنّه يقتبس الروح من هذه الخبائث خباثة وشقاوة ، كما يقتبس من الطيّبات والمقدّسات طيبا وقداسة وسعادة ، مع أنّ في النّظر الى المصحف زيادة توجّه القلب إليه ، وصرف النّفس عن شغلها بغيره.

سادسها : ترتيل القرآن وتلاوتة بمكث وبطاء بلا عجلة وسرعة ، عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً(١) قال : « قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : بيّنه تبيانا ولا تهذّه (٢) هذّ الشّعر ، ولا تنثره نثر الرّمل ، ولكن أفزعوا به قلوبكم القاسية ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السّورة » (٣) .

وعن ابن عبّاس ، في تفسير الآية : بيّنه تبيانا (٤) وأقرأه على هينتك (٥) ، ثلاث آيات ، وأربعا ، وخمسا (٦) .

وقيل : الترتيل هو أن يقرأه على نظمه وتواليه ، ولا يغيّر لفظا ولا يقدّم مؤخّرا (٧) .

سابعها : تحسين الصوت به ، عن الصادق عليه‌السلام في تفسير التّرتيل قال : « هو أن تتمكّث فيه ، وتحسّن به صوتك » (٨) .

وعنه عليه‌السلام قال : « قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكلّ شيء حلية ، وحلية القرآن الصّوت الحسن » (٩).

وعن الرضا عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حسّنوا القرآن بأصواتكم ، فإنّ الصّوت الحسن يزيد القرآن حسنا » (١٠) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أحسن النّاس صوتا بالقرآن ، وكان السّقّاؤن يمرّون فيقفون ببابه يسمعون قراءته » (١١) .

وعن أبي الحسن عليه‌السلام قال : ذكر الصّوت عنده ، فقال : « إنّ عليّ بن الحسين كان يقرأ ، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته » (١٢) .

ثمّ لا يذهب عليك أنّ حسن الصّوت مغاير للغناء الذي هو من الأصوات الملهية المطربة المعهودة عند العرف ، ويرجع في تمييزها إليهم ، وهو من الكبائر ، خصوصا في القرآن.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل

__________________

(١) المزمل : ٧٣ / ٤.

(٢) هذّه : قطعه سريعا ، وهذّ القرآن : أسرع في قراءته ، وهذّ قراءته : إذا أسرع فيها.

(٣) الكافي ٢ : ٤٤٩ / ١. (٤) في المجمع : بيانا. (٥) الهينة : السكينة.

( ٦ و٧ و٨ ) . مجمع البيان ١٠ : ٥٦٩.

(٩) الكافي ٢ : ٤٥٠ / ٩. (١٠) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٩ / ٣٢٢.

(١١) الكافي ٢ : ٤٥١ / ١١. (١٢) الكافي ٢ : ٤٥٠ / ٤.

١٣٩

الكبائر ، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنّوح والرّهبانية ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم » (١) .

ثامنها : القراءة بالحزن ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن » (٢) .

تاسعها : التلاوة : كأنّ التالي يخاطب إنسانا ، عن حفص : ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما‌السلام - إلى أن قال : - فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنسانا (٣) .

عاشرها : التّفكّر في معاني القرآن ، والاعتبار والاتّعاظ بما يقتضي الاعتبار والاتّعاظ والتأثّر.

عن ( الكافي ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى ، ومصابيح الدّجى ، فليجل جال بصره ، ويفتح للضّياء نظره ، فإنّ التّفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنّور » (٤) .

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ألا اخبركم من الفقيه حقّا - إلى أن قال : - ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم ، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر ، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه » (٥) .

حادي عشرها : ختم سورة شرع فيها ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لبلال رضى الله عنه : « إذا قرأت السورة فأنفدها » (٦) .

ثاني عشرها : عدم خلط بعض سورة ببعض سورة اخرى ، عن سعيد بن المسيّب : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ ببلال وهو يقرأ من هذه السّورة ومن هذه السورة ، فقال : « يا بلال ، مررت بك وأنت تقرأ من هذه السّورة ومن هذه السّورة » قال : أخلطت الطّيب بالطّيب. فقال : « إقرأ السورة على وجهها » - أو قال : « على نحوها » (٧) .

ثالث عشرها : أن يقرأ السورة من أوّلها مستقيما إلى آخرها ، لا من آخرها منكوسا إلى أوّلها.

عن ابن مسعود ، أنّه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا قال : ذاك منكوس القلب (٨) .

رابع عشرها : حفظ الآداب العرفية ، كترك الضّحك ، والعبث ، ومكالمة النّاس ، والنّظر إلى ما يلهيه.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٥٠ / ٣.

(٢) الكافي ٢ : ٤٤٩ / ٢.

(٣) الكافي ٢ : ٤٤٣ / ١٠.

(٤) الكافي ٢ : ٤٣٨ / ٥.

(٥) معاني الأخبار : ٢٢٦ / ١.

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٣٧٩.

(٧ و٨) . الإتقان في علوم القرآن ١ : ٣٧٨.

١٤٠