الإمامة وأهل البيت عليهم السلام النظرية والإستدلال

السيد محمد باقر الحكيم

الإمامة وأهل البيت عليهم السلام النظرية والإستدلال

المؤلف:

السيد محمد باقر الحكيم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المركز الإسلامي المعاصر للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة الناشر :

الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ...

الإمامة كضرورة دينية مفهوم متجذّر لدى المسلمين عامة ، ولذا انبسط نورها على جميع نواحي الحياة ، والتي تتجلّى إداريا ـ فيما عرف في عصرنا الحاضر ـ بالسلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وإن كانت الإمامة بنظر الإمامية لا يسعها ثوب السلطات الثلاث المذكورة ؛ لأنّ ما أولاه الباري تعالى الإمام أوسع دائرة منها.

ولذا ، أضحت محاولات طمس هذا المعلم طمسا للإسلام ، إذ قوامه الإمامة ، وانتفاء الإمامة انتفاؤه.

كما أن محالة إعطائها وإلباسها جانب الغنوصيّة والغيبية والمثالية والتأويل المتكلّف ، ووصم الإمامية بالسير وراء هذه الأفكار محاولة أقل ما نقول فيها أنها تفتقر إلى الدقة والموضوعية.

وهذا الكتاب الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ يسير بك سيرا قرآنيا تتلمس فيه هذه الحقيقة ببيان واضح ، يفهمه المثقف والدارس ، وتسفر الحقيقة فيه لذي عينين ...

كما أنّ المنهجية والتبويب وفرز الأدلة وجعلها ضمن دوائر معينة جعل الانتقال

٥

بين رياضه وجنانه سهلا سلسا ، ومشفوعا بأريج ربما ألزمك البقاء في فصل من فصوله على الرغم من أن عينيك مشدودتان للروضة الأخرى ، فكلّه زهور متعددة الألوان والروائح.

ولعلّك لا تجد هذا التبويب للأدلة بهذه الطريقة في غيره ، وهذا كلّه يرجع إلى الجهد الذي تنكّب عناءه شهيد المحراب آية الله السيد محمد باقر الحكيم ـ تغمّده الله بواسع رحمته ـ وقد فاجأنا وأذهلنا نبأ استشهاده مع فتية أبرار ، ونحن نضع اللمسات الأخيرة لهذا الكتاب.

والحق نقول : لقد كنت في الذروة علما وعملا ، نسبا وحسبا ، وتوّجت بتاج الشهادة فازددت عند الله تعالى درجة ، وعند خلقه تألّقا ونورا ..

سيدي أيها الباقر ...

يا من خار بدمه في ميلاد باقر العلم المحمدي ..

منهم (صلوات الله عليهم) استمديت علمك وزكاتك ..

وإليهم عدت مختلطا دمك بمداك ..

فهنيئا لك حيث توفّى أجر الصابرين ..

ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم ..

قم المقدسة

٣ رجب / ١٤٢٤ ه

٦

تقديم

الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، والصلاة والسلام على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا بقية الله في أرضه (عج) ، والسلام على شهداء الإسلام في كل مكان منذ الصدر الأوّل للإسلام وحتى شهداء هذا العصر.

المناسبة

في البداية أتقدم بالتعازي الحارة ، لمناسبة ذكرى شهادة سيدنا ومولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، حيث صادفت هذه الذكرى يوم أمس (١).

ونحن وإن كنا ننتمي إلى الإسلام وإلى النبي وأهل بيته الكرام بصورة عامة ، ولكننا ننتمي ـ في الوقت نفسه ـ إلى هذا الإمام الهمام الذي كان له دور عظيم في حياتنا وحياة المسلمين عموما ، فإن الإمام الصادق عليه‌السلام واتته ظروف خاصة مكنته من القيام بعمل عظيم سواء على مستوى العالم الإسلامي ، أو على مستوى بناء الجماعة الصالحة المتمثلة بأتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، حيث كان الإمام الصادق عليه‌السلام الإمام الثالث من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين طال بهم عهد الإمامة نسبيا ، وكان أطول أئمة أهل البيت عليهم‌السلام عمرا ، باستثناء سيدنا ومولانا الإمام الحجة (عج) ، وتمكن الإمام الصادق عليه‌السلام باعتبار هذه الخصوصيات من ناحية ،

__________________

(١) الثلاثاء ٢٤ / شوال / ١٤٢٠ ه‍ ق ، وقد اعتاد سماحته قدس‌سره ، أن يلقي أحاديثه في ليلة الخميس من كل أسبوع في ملتقاه الثقافي السياسي في مدينة قم المقدسة ، وقد صادف شروعه في إلقاء محاضراته عن الإمامة مع هذه المناسبة العزيزة.

٧

والظروف السياسية والاجتماعية والثقافية المحيطة به من ناحية أخرى ، وهي ضعف الدولة الأموية ، وبداية تأسيس الدولة العباسية ، وانفتاحها على الشعوب الإسلامية ، وانتهاء دور الصحابة ، وبداية تأسيس المدارس الفقهية والكلامية من أن يديم حركة الأئمة عليهم‌السلام في الدفاع عن الإسلام ، والقيام بواجبات الإمامة تجاه الأمة الإسلامية ، وبصورة خاصة تأسيس وبناء الحوزات والمدارس العلمية ، وتوسيع نشاطها في العالم الاسلامي ، حتى أصبح الإمام الصادق عليه‌السلام عنوانا لها أيضا والاستاذ الذي تربّت عليه المدارس الإسلامية الأخرى ، وأخذ منه مختلف علماء الإسلام وعلى مختلف مذاهبهم.

والحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام حديث واسع ، ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى شهادته ـ وقد تناولنا جانبا منه في مناسبات سابقة ـ ولذلك أحاول أن أبدأ بموضوع مهم بمناسبة هذه الذكرى ، يرتبط بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذا الموضوع هو دور (أهل البيت في الحياة الإسلامية) بصورة عامة ، وكان ولا زال أمنية في نفسي أن أوفق لتناول هذا البحث بصورة واسعة نسبيا ، ولكن ـ كما تقول القاعدة المعروفة ـ : «ما لا يدرك كله لا يترك كله» و «لا يترك الميسور بالمعسور» ، وأحاول أن أتناول الحديث عنه بصورة عامة ومحدودة.

الإمامة وأهل البيت عليهم‌السلام

أهل البيت عليهم‌السلام ـ كما نعرف ـ كان دورهم الأساس هو (الإمامة) وامتداد الرسالة الإلهية الخاتمة التي كان من ميزاتها تجسيد التكامل في وحدة النبوة والإمامة ، وكان وجودهم تعبيرا عن هذه الرسالة وامتدادها في خط الإمامة (١) ،

__________________

(١) يطلق عنوان أهل البيت ـ أحيانا ـ على ما يشمل النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الكرام عليهم‌السلام ، كما سوف نعرف ذلك إن شاء الله.

٨

هذا هو العنوان العام في دور أهل البيت عليهم‌السلام.

ولكن هذا العنوان العام قد يعتريه شيء من الغموض ، مما نحتاج فيه إلى هذا البحث ، وهذا الغموض ناشئ من أن المتبادر إلى الأذهان دائما في الثقافة الإسلامية العامة الرسمية من (الإمامة) أنها : عبارة عن (الخلافة) ، بمعنى ولاية الأمر ، وقيادة التجربة الإسلامية السياسية والحكم الإسلامي ، ومن ثم فقد يأتي هذا السؤال : إذا كانت (الامامة) هي عبارة عن (الخلافة) والولاية والحكم ، فأهل البيت عليهم‌السلام لم يمارسوا دور الولاية والحكم ـ كما نعرف ـ باستثناء فترات محدودة وقصيرة جدا في التاريخ الإسلامي ، وهي فترة أمير المؤمنين عليه‌السلام وخلافة الإمام الحسن عليه‌السلام وهي مدة قصيرة جدا ، وإن كنا ننتظر في المستقبل ـ أيضا ـ الولاية والخلافة المطلقة لهم التي يقوم بأعبائها إمامنا وسيدنا الحجة بن الحسن (عج).

ولكن باستثناء ذلك ، فإن هذه القرون العديدة التي مضت في تاريخ الإسلام وهي حوالي أربعة عشر قرنا من الزمن ، وما يمكن أن نفترض من قرون أخرى تأتي حتى يظهر سيدنا الإمام الحجة (عج) ، ويتولى فيها أهل البيت عليهم‌السلام هذا الدور المطلق للولاية ، لم يستلم أهل البيت (الخلافة) إلا في مدة محدودة ، فهل أن ذلك كان تعطيلا لدورهم في الحياة الإسلامية طيلة هذه المدة الطويلة ، حتى يظهر أمرهم في المستقبل؟! أو أن الإمامة لها معنى أوسع ، وكذلك دور أهل البيت عليهم‌السلام هو أوسع وأشمل من قضية تولي الحكم وإدارته ، وأن تولي إدارة الحكم هو أحد الأبعاد المهمة في دورهم عليهم‌السلام الواسع في حياة الإسلام والمسلمين؟ هذا هو السؤال الذي يمكن لجوابه أن يشرح هذا العنوان.

ونحن نحاول في هذا البحث أن نبين الأبعاد والأدوار الواقعية المتعددة لأهل البيت عليهم‌السلام في الحياة الإسلامية العامة ، ومن خلال حركة التاريخ الإسلامي ، مضافا إلى دور الخلافة وقيادة التجربة الإسلامية وولاية الأمر.

٩

وهنا يحسن بنا أن نشير إلى أن هذا الموضوع هو من الأبحاث التي يمكن أن يكتب الباحثون فيها موسوعة كاملة ، يمكن أن نسميها ب (موسوعة أهل البيت عليهم‌السلام) ، ولديّ أمل ـ كما ذكرت ـ أن أكتب ذلك في المستقبل ـ إذا أذن الله بذلك ـ إلا أن هذا البحث الفعلي الخاص المختصر ، إنّما هو في إطار التخطيط النظري له وبيان الآفاق والإثارات والخلاصة له ، والأمل المستقبلي أن أكتب فيه عدة كتب ، قد يشتمل كل منها على عدة أجزاء ، لبيان هذه الأدوار. وأحد النماذج الخارجية لهذه الكتب ، هو كتاب (دور أهل البيت عليهم‌السلام في بناء الجماعة الصالحة) الذي يعبر عن دور واحد من هذه الأدوار ، وقد وضعت ـ حتى الآن ـ الإطار النظري والتخطيطي لإنجازها ، كما أشرت إلى بعض موضوعاتها في هوامش الكتاب المذكور ، ولكن لا أعرف هل أن الوقت يساعدني على ذلك ، ولا سيما مع ظروفي الخاصة؟! وهل أن الأجل ـ الذي أنتظره دائما ـ يسمح لنا بذلك كي أتمكن أن أقوم بهذه المهمة أو لا؟

وقد طرح عليّ بعض الأخوة الأعزاء من وسطين مختلفين ـ من وسط الحوزة العلمية ، ومن وسط الجامعة ـ أن أقوم بشرح أفكار هذا المخطط على مستوى الفهرست والمنهج العام لهذه الموسوعة ، من خلال مجموعة من المحاضرات ، لتشكل الإطار العام لهذا البحث ، وإذا هيأ الله تعالى لنا الفرصة لكتابته تفصيلا ، فنعما هو ، وإلا فقد يوجد في كثير من الأعزاء ، من كتّاب وباحثين وعلماء ، من تتهيأ له هذه الفرصة ، إذا رأى في هذا البحث فائدة ومنفعة ، وإني أعتقد أن فيه فائدة ومنفعة كبيرة جدا ، ولا سيما في عصرنا الحاضر ، الذي أصبح فيه مذهب أهل البيت عليهم‌السلام من الرموز البارزة التي يتطلع لها المسلمون وينظرون إليه بعين الأمل من ناحية ، والبشرية جمعاء من ناحية أخرى ، ولا سيما بعد وجود هذه المسيرة الإسلامية العظيمة المعطاء ، مسيرة الشهداء والتضحيات ، وقيام الدولة الإسلامية

١٠

في هذا البلد الكريم إيران (بلد أهل البيت) على يد علماء الإسلام والعالم الرباني الإمام الخميني قدس‌سره ، بحيث أصبح اسم أهل البيت عليهم‌السلام ومدرستهم والقواعد العلمية لهذه المدرسة المتمثلة بالحوزات العلمية رمزا من رموز هذا العصر ، ومعلما من معالمه ، كل ذلك بسبب هذا التحول الكبير الذي تحقق في الأوضاع الاجتماعية والسياسية لهذه المدرسة ولهذا الخط الشريف.

ولا أريد في هذا الحديث أن أدعي أنني سوف آتي بشيء جديد مهم في المضمون والمحتوى ، فقد يكون الكثير من المضامين والموضوعات التي سوف نتناولها بالبحث ، من الموضوعات التي تناولها الباحثون في كتبهم وأبحاثهم ، على أني لا أعلم ذلك لأني ـ بسبب ضيق الوقت ـ لم أوفق حتى الآن إلى مراجعة البحوث ذات العلاقة بهذا الموضوع إلا بشكل محدود جدا ، ومن ذلك بعض بحوث الشهيد الصدر ، أو ما تبقى لدي من مخزون في الذاكرة للمصادر الأصلية (القرآن الكريم والحديث الشريف) ، ولكن الجديد فيه هو تنظيم هذه الأبحاث وترتيبها ومنهجيتها وتكميلها وتطويرها في بعض الموارد والإشارة إلى بعض الآفاق ، للحديث أو الاستنتاج منه أو الإثارة حوله ، وهذا شيء مهم مما نحتاجه في هذه المرحلة.

تقسيم البحث

ونبدأ هذا البحث أولا : بتمهيد يتركب من خطين رئيسين ، لا بد من الحديث فيهما قبل الشروع في أصل الموضوع :

أولا : الحديث عن النظرية الإسلامية في موقع أهل البيت عليهم‌السلام في الرسالة الإسلامية : (الإمامة).

وهذا الموضوع من الموضوعات المهمة التي لا بد أن نتناولها قبل الدخول في

١١

هذا البحث ، حيث نشير فيه إلى مفهوم (الإمامة) ، ثمّ إلى أبعاد النظرية الإسلامية فيها.

ثانيا : تشخيص الأهداف والأدوار العامة لأهل البيت على المستوى النظري مع الإشارة إلى أدلة هذه الأهداف والأدوار ، ومنها الكتاب الكريم والسنة الشريفة التي وردتنا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن أهل البيت عليهم‌السلام.

نظرية الإمامة

وفيما يتعلق بالأمر الأول وهو بيان (النظرية) ، يلاحظ بأن الرسالات الإلهية السابقة كانت تعتمد في إدامتها واستمرارها وبقائها على مجموعة من الأنبياء الذين يأتون بعد كل نبي من الأنبياء أولي العزم ، يتحملون مسئولية هذه الرسالة على مستوى الإدامة والتطبيق والتفسير ، ولكن الرسالة الخاتمة التي هي أعظم هذه الرسالات وأفضلها ، وأراد الله لها الاستمرار والبقاء إلى آخر الحياة البشرية ، يلاحظ فيها أنها رسالة لا يوجد فيها نبي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما نص عليه القرآن من قوله تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ...) (١) ، وكذلك ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى المسلمين من قوله لعليّ عليه‌السلام : «... أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي» (٢).

إذن ، فهذه الرسالة ـ من ناحية ـ هي أعظم الرسالات الإلهية ، وأريد لها الاستمرار والدوام أكثر مما أريد للرسالات الإلهية الأخرى ، ومن ناحية أخرى

__________________

(١) الأحزاب : ٤٠.

(٢) بحار الأنوار ٢١ : ٢٠٨ / ١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٠٩ و ١٣٣ و ٣٣٧ ، صحيح البخاري ٣ : ٥٨ / ٣٥٠٣ ، راجع كتاب المراجعات : ٢٦٤ / ٢٨ ، وقد ذكر فيه مصادر علماء المسلمين.

١٢

فهل نجد أن هذه الرسالة لم توضع لها ضمانات للاستمرار والبقاء ، كما وضعت ضمانات للرسالات السابقة التي جاء بها الأنبياء أولو العزم ، حيث كانوا يقومون بمهمة إدامة زخم تلك الرسالة ومتابعة الإشراف على تطبيقها ودعوة الناس إليها؟ ، أو أنّ الله تعالى وضع ضمانة من نوع آخر؟ ، لأن عمر الرسول ـ بصورة عادية ـ يبقى محدودا بالنسبة إلى عمر الرسالة نفسها ، ولا يستمر عمره ـ عادة ـ باستمرار الرسالة نفسها ، ولذلك كان الله تعالى يرسل الأنبياء التابعين من أجل أن يديموا حركة الرسالة ومسيرتها.

هذا السؤال هو الذي يفرض الحديث عن وجود الإمامة ، وموقع ودور أئمة أهل البيت عليهم‌السلام منها ، وأنّ الله تعالى شاء أن يكون استمرار الرسالة الخاتمة عن طريق (الامامة) ، وأن تكون هذه الإمامة في أهل البيت سلام الله عليهم.

وهذا الموضوع وإن كان يحتاج إلى بحث وشرح واسع ، ولكن سوف أشير إليه في حدود الإثارة وبعض خطوطه العامة فيما يأتي من البحث ـ إن شاء الله تعالى ـ حيث نحاول معالجة ثلاثة أسئلة رئيسية حوله :

الأول : ما هي ضرورة وجود الإمامة في الرسالة الخاتمة.

الثاني : لما ذا كان استمرار الإمامة في الرسالة الخاتمة في خصوص أهل البيت عليهم‌السلام؟ ولم يوضع هذا الدوام بصيغة أوسع وأشمل من هذه الأسرة الشريفة وهم (أهل البيت) ، ووضعت الإمامة والاختصاص في خصوص (آل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله).

الثالث : لما ذا اختصت الإمامة بخصوص الأئمة الاثني عشر المعروفين من أهل البيت عليهم‌السلام.

وجواب كل واحد من هذه الأسئلة يحتاج فيه إلى بيان بعدين :

أحدهما : تفسير هذه الظاهرة ، لأن الظواهر الإلهية والإسلامية بصورة عامة

١٣

ليست ظواهر اعتباطية ، أو مجرد قضايا تعبدية ، وإنّما هي ظواهر لا بدّ أن تكون وراءها حكمة ومصالح تفسر هذه الظواهر ، وهو بعد من البحث ذو طابع جديد نسبيا.

والبعد الآخر : هو الاستدلال بالطرق العلمية المتبعة على ثبوت هذه الظاهرة في الإسلام واختصاصها بأهل البيت عليهم‌السلام ، وهو بحث تناوله علماؤنا في مختلف العصور ، عند ما كانوا يتناولون عقيدة الإمامة.

وهذا التصور النظري لها ـ الخاص للاستمرار ـ من الامتيازات التي اختصت بها مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام على المدارس الأخرى ، لأن المدارس الأخرى تدعي أن الرسالة الإسلامية كان استمرارها بطريق آخر وهو الدعوة والدولة ، ولم يكن مختصا بأهل البيت عليهم‌السلام أيضا.

وهنا نحتاج ـ أيضا ـ من الناحية النظرية أن نتبين هذا الموقع الخاص لأهل البيت عليهم‌السلام في قضية استمرار وإدامة هذه الرسالة.

فأولا : نحتاج بالنسبة إلى النظرية أن نتبين دور الإمامة وضرورتها في الرسالة الخاتمة من أجل ملء هذا الفراغ الرسالي ، ببيان خصوصيات ما يملأ فراغ ضرورة استمرار الرسالة ، حيث أريد لهذه الرسالة الخاتمة أن تكون رسالة أبدية تنتهي بعمر البشرية.

وثانيا : نحتاج أن نتبين اختصاص أهل البيت عليهم‌السلام بهذا الدور دون غيرهم من الناس ، وتفسير هذا الاختصاص ، وهل أنه هو مجرد اصطفاء غيبي دون وجود تفسير له علاقة بحركة البشرية والحياة الاجتماعية ، أو أن هذا الاصطفاء له علاقة بهذه الحياة البشرية ومن ثمّ وجود الارتباط بين الأمر الأول والثاني.

وثالثا : نحتاج أن نتبين اختصاص أهل البيت عليهم‌السلام بخصوص هذا العدد المحدود ، وهو الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام.

١٤

هذا كله في ما يتعلق بموضوع أصل النظرية وهو الأمر الأول ، وسوف نتناول ذلك كله في مدخل وفصول ثلاثة على المستوى النظري.

أما المدخل : فهو في بيان مفهوم (الإمامة).

الفصل الأول : في ضرورة (الإمامة) وموقعها في الرسالة الإسلامية.

الفصل الثاني : في اختصاص (الإمامة) بخصوص (أهل البيت عليهم‌السلام).

الفصل الثالث : في اختصاص أهل البيت بالأئمة الاثني عشر من أهل البيت.

الأهداف والأدوار

أما فيما يتعلق بالأمر الثاني وهو الأهداف والأدوار العامة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وهي أمور تلقي الضوء على محتوى نظرية (الإمامة) في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك بعد أن نعرف أن لأهل البيت عليهم‌السلام هذا الموقع الخاص.

وفي هذا البحث سوف نلاحظ أن هناك سبعة أهداف وأدوار رئيسية وأساسية ، يمكن أن نستنبطها من مختلف الأدلة وبالخصوص حديث أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك عند الرجوع إلى أحاديثهم عليهم‌السلام ، وعن دورهم في حياة المسلمين ، وهذا البحث سوف نشرحه من خلال تسمية الأدوار ، وبيان النصوص ذات العلاقة بتشخيص هذه الأدوار أو حقيقتها :

الدور الأول : حفظ الحياة الانسانية ، لما ورد في شأن الإمامة وأهل البيت عليهم‌السلام بأنهم أمان لأهل الارض ، وأنّ الأرض بدون الإمامة والحجة تسوخ بأهلها.

الدور الثاني : قيادة التجربة والحكم الإسلامي وولاية الأمر.

الدور الثالث : المرجعية الدينية والفكرية للمسلمين.

الدور الرابع : المحافظة على وجود الشريعة الإسلامية فاعلة ومؤثرة في حياة الناس ، وكذلك بقاء أصل الرسالة محفوظا ومنزها عن التحريف والتزوير.

١٥

الدور الخامس : المحافظة على وجود الأمة الإسلامية ووحدتها وحيويتها.

الدور السادس : بناء الجماعة الصالحة للقيام بدور المساعد والبديل لأهل البيت عليهم‌السلام عند الغيبة ، ولذلك فإن موضوع بناء الجماعة الصالحة يكون أحد الأدوار والأهداف التي استهدفها أهل البيت عليهم‌السلام في الحياة الإسلامية.

الدور السابع : تجسيد القدوة والأسوة في السلوك الإسلامي الراقي ، وإيجاد المثال الخارجي للتكامل الإنساني الذي يمثل الهدف لوجود الإنسان.

وقد يستحق كل واحد من هذه الأدوار بحثا أو كتابا مستقلا ، ولكننا في هذا الاستعراض سوف نحاول التلخيص والاقتصار على القضايا الرئيسية مع الإشارة إلى أدلتها وذكر العناوين التي يمكن أن تكون مجالا للبحث التفصيلي والتنبيه إلى بعض المصادر التي تناولت هذه الأبحاث التفصيلية.

المواقف

وإلى جانب هذين الأمرين أو الخطين من البحث (النظرية والأدوار) يوجد بحث ثالث ـ أيضا ـ مهم ، وهو استعراض (المواقف) والإنجازات المهمة الرئيسية التي اختص أو تميز بها كل واحد من الأئمة الاثني عشر إلى جانب المساهمة في الأدوار المشتركة وتحقيق الأهداف العامة ، حيث يمكن تقسيم البحث في هذا الموضوع على عدد الأئمة أنفسهم ، وبيان الأدوار من خلال المواقف الخاصة لهم والتي كان لها بطبيعة الحال أثر مهم في الوقت نفسه في تحقيق الأهداف العامة المشتركة.

وبعد هذا العرض نأتي إلى معالجة الأسئلة التي أثرناها في الأمر الأول (النظرية).

١٦

القسم الأول

نظرية الإمامة

المدخل : مفهوم الإمامة

الفصل الأول : ضرورة الإمامة

الفصل الثاني : الإمامة في أهل البيت عليهم‌السلام

الفصل الثالث : الإمامة الاثنا عشر

١٧
١٨

المدخل

مفهوم الإمامة

أشرنا في التقديم إلى أنّ مفهوم الإمامة في الثقافة الإسلامية العامة الرسمية المعروفة يتبادر منه الولاية والحكم ، ويمثل هذا المفهوم تصورا تحريفيا لمفهوم الإمامة ، إذا أردنا أن نرجع فيه إلى المصادر الإسلامية الأصيلة ، كالقرآن الكريم والسنة النبوية.

ولعل السبب في هذا التحريف لهذا المفهوم هو فرض الأمر الواقع في التاريخ الإسلامي ، وجعله مبررا لاستنباط هذا المفهوم وتحريفه ، حيث إن مدرسة تبرير الأمر الواقع فرضت نفسها على الكثير من المفاهيم والتلقي والاستنباط للنصوص الإسلامية ، وما يعبر عنه بالاجتهاد في مقابل النص ، أو التفسير بالرأي ، وذلك بتحميل النص العناصر الذاتية والميول الخاصة أو الظروف السياسية والاجتماعية وتفسيره بها ، بحيث يتحول الأمر الواقع والسلوك الخاص لهذه الجماعة ، وتلك حقيقة يقاس ويفهم بها النص الإسلامي بدل أن يؤخذ النص الإسلامي بصورة موضوعية ، ويفهم من خلال مداليل الكلام لغة ، أو من خلال القرائن الحالية والمقالية التي أحاطت به ، ويصبح بذلك ـ مع الأسف ـ السلوك الاجتماعي للإنسان مفسرا وموجها للنص الإسلامي ، بدل أن يكون النص الإسلامي هاديا وموجها للسلوك الاجتماعي.

وقبل الاستغراق بذلك يحسن بنا الرجوع إلى النصوص القرآنية التي تعتبر أفضل مصدر لفهم مدلول (الإمامة) ، ثم نستعين بالنصوص النبوية في هذا الفهم ،

١٩

لنخرج بذلك بمفهوم صحيح عن (الإمامة).

ولعل أفضل نص يمكن أن نتعرف من خلاله على مفهوم الإمامة هو الآية الكريمة التي تحدثت عن جعل الإمامة لإبراهيم عليه‌السلام ، والذي تؤيده مجموعة نصوص قرآنية أخرى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

حيث يمكن أن نفهم من هذا النص عدة أبعاد لمفهوم الإمامة :

الأول : أنّ الإمامة هي هداية الناس إلى الله تعالى من خلال تقدمهم في المسيرة الربانية عمليا.

وهذا ما يدل عليه مفهوم الإمامة لغة ، وتؤكده مجموعة من الآيات الكريمة التي تحدثت عن الإمامة ، وقرنت الإمامة بالهدى ، منها قوله تعالى في معرض حديثه عن قصص إبراهيم عليه‌السلام وولده : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٢).

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٣).

وكذلك ما ورد في سورة الأنعام في معرض الحديث عن الأنبياء منذ نوح عليه‌السلام إلى عيسى عليه‌السلام : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٤).

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) الأنبياء : ٧٣.

(٣) السجدة : ٢٤.

(٤) الأنعام : ٨٩ ـ ٩٠.

٢٠