نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٩

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٩

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٧

قوله :

« ولو سلّمنا كون المراد من صدر الحديث هو الأولى بالتصرف ، فإنه لا وجه لحمل المولى على الأولى بالتصرف كذلك ، لأنه إنما صدّر الحديث بتلك العبارة لينبّه السّامعين ، كي يتلقوا الكلام بكل توجّه وإصغاء ... ».

أقول :

الحديث الذي أخرجه الطبراني بلفظ صحيح يشتمل كغيره على ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل جملة « ألست أولى ... » جملا فيها الإقرار بالوحدانية والرسالة والبعث والمعاد والجنة والنار قائلا : « أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا عبده ورسوله ... » ثم إنه قال : يا أيّها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا مولاه يعني عليا ». وكلّ ذلك صريح في أن الغرض من تقديمه أولويّة نفسه بالمؤمنين من أنفسهم هو حمل ( المولى ) على ( الأولى ). وليس الغرض ما ذكره ( الدهلوي ) ، إذ لو كان الغرض ما ذكره لكان قوله : « ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا عبده ورسوله » فقط وافيا بهذا الغرض.

قوله :

« وأمّا أخذ لفظة واحدة من الحديث وجعلها فقط مورد العلاقة والربط بعبارة الصدر فمن كمال السّفاهة ، بل يكفي الارتباط الموجود بين جميع الكلام مع هذه العبارة ».

أقول :

لقد عرفت المناسبة التامة والعلاقة الكاملة بين جملتي « ألست أولى بالمؤمنين ... » و« من كنت مولاه ... » وأن سبط ابن الجوزي وشهاب الدين أحمد وصاحب ( مرافض الروافض ) قد صرّحوا بذلك ، وجعلوا الجملة السابقة قرينة على المراد في الجملة اللاّحقة ، ولكنّ ( الدهلوي ) يسفّه هؤلاء وغيرهم كما هو صريح عبارته.

بل لقد صرّح بما ذكرنا من المناسبة بعض المشاهير من أئمة الحديث وشرّاحه كالطيّبي حيث قال بشرح حديث الغدير : « قوله : إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. يعني به قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أطلق فلم يعرف بأيّ

٢٨١

شيء هو أولى بهم من أنفسهم ، ثم قيّد بقوله : ( وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) ليؤذن بأنهنّ بمنزلة الأمهات ، ويؤيّده قراءة ابن مسعود رضي‌الله‌عنه ، النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم. وقال مجاهد : كلّ نبي فهو أبو أمته ، ولذلك صار المؤمنون إخوة. فإذن وقع التشبيه في قوله : من كنت مولاه فعلي مولاه في كونه كالأب ، فيجب على الأمة احترامه وتوقيره وبرّه ، وعليه رضي‌الله‌عنه أن يشفق عليهم ويرأف بهم رأفة الوالد على الأولاد ، ولذا هنّأه عمر بقوله : يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (١).

قوله :

« والأغرب من ذلك استدلال بعض مدقّقيهم على عدم إرادة المحبة ... ».

أقول :

إن الذي يقوله المدقّقون من أهل الحق هو أنه لمّا كان وجوب مودّة أمير المؤمنين عليه‌السلام سواء بالخصوص أو في ضمن العموم أمرا ثابتا بالآيات والأحاديث الكثيرة ، ومشتهرا بين جميع الناس من الخواصّ والعوام ، ولم يكن هذا الأمر ـ وهو وجوب المودّة ـ عند أهل السنة مختصا به وحده ، بل كان يشاركه فيه سائر الصحابة أيضا كان هذا الاهتمام بهذا الأمر ـ الثابت لدى الجميع والمشترك فيه جميع الأصحاب كما عليه الجماعة ـ أمرا غير معقول.

بل إنه بناء على مذهب أهل السنة القائلين بأفضلية الشيخين بل الثلاثة من علي عليه‌السلام يكون مودة الثلاثة ـ لا سيّما الشيخين ـ آكد وألزم وأهمّ من محبّة علي عليه‌السلام ، فترك الأهم وإيثار غير الأهم مع هذا الاهتمام البالغ يستحيل صدوره ووقعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فبالنظر إلى جميع ما ذكر مع الالتفات إلى ذاك الاهتمام البالغ الذي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغ الأمر يوم غدير خم ، مع تلك الأحوال والمقارنات والخصوصيّات ، التي من أهمها قرب وفاة النبي يعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بصدد تبليغ أمر مهمّ يختص بعلي عليه‌السلام وحده ، ولا يشاركه

__________________

(١) الكاشف ـ شرح المشكاة ـ مخطوط.

٢٨٢

فيه أحد من القوم ، ولا يكون ذلك الأمر إلاّ الخلافة والامامة.

ولو أنّ ملكا من الملوك كان في سفر فتوقّف عن السير في وسط الطريق فجأة ، وأمر من كان معه ـ وهم ألوف ـ بالوقوف في مكان ليس فيه أبسط وسائل الراحة مع حرارة الجو ، ثم أمر بأن يصنع له من أقتاب الإبل منبر ، فصعد المنبر وعرّف من معه بقرب وفاته ، وذكّرهم بأولويّته بالتصرّف في أنفسهم ، ثم أثبت لأحد أقاربه مقاما كان قد أثبته قبل ذلك له مرارا وسمعه القوم منه تكرارا ، وكان ذلك الشأن والمقام غير مختص بهذا الشخص ، بل كان جلّ الحاضرين أو كلّهم يشاركونه فيه ، بل كان بعضهم أجلّ شأنا ... كان هذا العمل من هذا الملك في غاية الغرابة وبعيدا عن الحكمة والصواب والسياسة كلّ البعد ... لا سيّما لو كان في أقربائه أو أصحابه من هو أليق وأولى بالاهتمام في إثبات ذلك المقام له.

قوله :

« ولم يعلم هؤلاء بأنّ الدلالة على محبّة شخص بدليل عام أمر ، وإيجاب محبته بدليل خاص أمر آخر ... ».

أقول :

من العجب أن يغفل ( الدهلوي ) عن أن إيجاب المودّة لأمير المؤمنين عليه‌السلام بالخصوص ، مع كونه عند أهل السنة أقل شأنا من الشيخين بل من عثمان ابن عفان ، لا يستحق هذا الحدّ من الاهتمام بحيث يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بالوقوف في مكان شديد الحرّ ، وأن يصنعوا له منبرا من أقتاب الإبل ، فيرقى المنبر ويطلب عليا فيعمّمه بيده ويأخذه بعضده فيبين وجوب مودّته بعد ذكر قرب وفاته ورحيله ... فلو كان الغرض من ذلك كلّه ما ذكروا للزم اللغو والعبث ، ونحن نعوذ بالله من نسبة العبث إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بل إن تركه إيجاب مودّة الثلاثة والتأكيد عليه ، والاهتمام بشأن علي المفضول عند أهل السنّة أمر لا يعقل نسبته إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مذهب أهل السنّة.

فمع التأمّل في هذه الجهات يظهر صحة استدلال المدققين من أهل الحق ،

٢٨٣

واستهزاء ( الدهلوي ) بما ذكروه إمّا غفلة لقصور فهم ، وإمّا تغافل عن عناد.

قوله :

« فالمراد من الحديث إيجاب محبّة علي بشخصه وإن تقدم ما يدلّ على وجوب محبّته ضمن عموم المؤمنين ».

أقول :

من هذا الكلام يثبت أن مودة أمير المؤمنين عليه‌السلام مثل مودة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه قد بلغت مودته في الأهمية والعظمة مرتبة لا تكفي معها مودته عليه‌السلام من باب المودة في عموم المؤمنين ، بل إن مثله كمثل من آمن بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضمن الايمان بجميع أنبياء الله ورسله ، فإنه حينئذ لا يعتبر مؤمنا ومسلما.

إذن ، تجب مودة علي عليه‌السلام بالخصوص كما يجب الايمان بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخصوص ، فمودّة علي كالإيمان بمحمد عليهما وآلهما الصّلاة والسّلام في الوجوب والمرتبة ، ومن كانت مودته بهذه المثابة كان أفضل ممن لم يكن كذلك قطعا ، وإذا ثبتت أفضليّته ثبت تعيّنه للامامة والخلافة ، لاستلزام الأفضلية للإمامة والخلافة بالأدلة القاطعة التي اضطر والد ( الدهلوي ) إلى الاعتراف بها في كتابه ( إزالة الخفا ).

وقد أذعن الكابلي في ( الصواقع ) بأنّ « من أمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأله أن يهديه إلى حبه فهو أفضل الناس وأنه حقيق بالزعامة الكبرى » وهذا نصّ كلامه : « الرابع والخمسون : إشاعة ما يروون من الموضوعات : إن الله تعالى ، أمر نبّيه سيّد الرسل أن يسأله أن يهديه إلى حب علي كما يجيء إن شاء الله تعالى ، فينخدع الخدوع ويوقن أنّ من أمر الله سيّد رسله أن يسأله أن يهديه إلى حبّه فهو أفضل الناس وأنه حقيق بالزعامة الكبرى ، وأن الخلفاء غصبوا حقه ، فيضل عن سواء السبيل ضلالا بعيدا ، ولا يدري أنه من كذباتهم ومفترياتهم الواضحة ، كيف؟ وهو ناص على أن عليا أفضل من خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجمعين ، وهو باطل » (١).

__________________

(١) الصواقع الموبقة ، الباب الرابع والخمسون.

٢٨٤

فإذا كان ما ذكره نصا في أنه أفضل الناس كان إيجاب المودّة ـ مع هذا الاهتمام العظيم على الثلاثة وغيرهم ، حتى قال ثانيهم مهنئا إيّاه « أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن » وقاله أوّلهم أيضا كما في ( الصواعق ) وغيره دليلا على الأفضلية بالأولوية القطعية.

قوله :

« وعلى تقدير وحدة المضمون في الآية والحديث ، فأيّ قبح فيه؟ إن شأن النبي هو التأكيد على مضامين الآيات والتذكير بها ».

أقول :

ذكر ( الدهلوي ) في باب المكايد من ( التحفة ) أن التأكيد دليل قطعي وبرهان يقيني على وقوع التغافل والتساهل ، ومن هنا حكم بوضع أخبار نسب روايتها إلى أهل الحق ، من دون أن يذكر رواتها والكتب المخرجة فيها ولو بالإجمال فضلا عن نقل العبارة.

وإنّ كلامه في هذه المكيدة ( وهي المكيدة السادسة والأربعون ) ـ الذي ذكره تبعا للكابلي وزاد عليه أشياء أخرى من عنده ـ صريح في أن تأكيد أمر بالنسبة إلى شخص دليل على عدم حصول ذلك الأمر لذلك الشخص ، وقصور الشخص وإهماله وتغافله عن الأمر المطلوب منه.

وعلى ضوء هذا الكلام يثبت أن الصحابة الحاضرين في حجة الوداع المخاطبين بحديث الغدير ـ وفيهم الثلاثة فمن دونهم ـ لم يكونوا واجدين لمحبة علي عليه‌السلام ومودّته حتى ذلك الحين ( الأمر الذي يكشف عنه تكرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمر بمحبة علي وولايته بخطبته في يوم الغدير ، الدال على وجوب محبته في أقل تقدير ) وأنهم كانوا مهملين لهذا الأمر البالغ الأهمية.

ولو أن ( الدهلوي ) التفت إلى ما يستلزمه كلامه في هذا المقام ، ولا سيما مع النظر الى ما ذكره في باب المكايد ، لما تفوّه به قطعاً.

قوله :

« لا سيما متى رأى تهاونا من المكلّفين في العمل بموجب القرآن. قال تعالى : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) ».

٢٨٥

أقول :

ظاهر هذا الكلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجد من صحابته تهاونا في الالتزام والعمل بما حكم وأوجب عليهم من قبل الله تعالى ، في حق سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام في وجوب محبته ولزوم مودته ... فهذا ظاهر الكلام ( الدهلوي ) في هذا المقام.

وحينئذ يبطل جميع كلمات ( الدهلوي ) واستدلالاته في مقام تنزيه الصحابة عن المخالفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في باب الخلافة والإمامة ، ورفع شأنهم عن المطاعن المتوجهة إليهم ، وصدور الفضائح والقبائح منهم ... لأن هؤلاء الصحابة إذا كانوا متساهلين ومتهاونين في مجرد مودة علي أمير المؤمنين فلا غرابة في تهاونهم وتساهلهم تجاه أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإرشاداته في باب الامامة والخلافة ، التي هي أعظم شأنا وأكبر مقاما من مجرد المودة والمحبة.

قوله :

« وما من شيء دلت عليه آية من القرآن إلاّ وأكّدت عليه الآيات الأخرى ثم الأحاديث على لسان النبي ، حتى تتم النعمة والحجة ».

أقول :

فيه أولا : منع هذه الكلية ، ووجه المنع ظاهر على من قرأ القرآن.

وثانيا : إن من العجيب تأكيد ( الدهلوي ) في هذا المقام على حسن التكرار وإثباته الفائدة له باهتمام عظيم ، ثم غفلته أو تغافله في باب المطاعن ، عما ذكره هنا فإنه يبذل هناك قصارى جهده لإثبات أن لا فائدة في التأكيد ، وعلى هذا الأساس يبرّر منع عمر بن الخطاب عن كتابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّته في الساعات الأخيرة من حياته قائلا : إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندنا كتاب الله ، حسبنا كتاب الله.

فما هذا التهافت والتناقض في كلمات ( الدهلوي )؟ أفهل من الصحيح أن يقرر أمرا في مقام ويؤكّد عليه ثم ينكره في مقام آخر ويصرّ على إنكاره ونفيه؟! لقد أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب في وصيته أمرا أو أمورا

٢٨٦

ذكرها للأمة في خلال حياته الكريمة لغرض التأكيد ، فإذا كان للتأكيد هذه الفوائد التي ذكرها ( الدهلوي ) هنا فلما ذا يدافع عن منع عمر بن الخطاب عن تأكيد النبي لمّا أراد التأكيد عليه بكتابة الوصية؟

لكن لا ريب في جناية عمر على الأمة في ذلك اليوم ، وشناعة كلامه في ذلك الموقف ، وأما توجيهات ( الدهلوي ) لصنيع عمر فباطلة ، بل إن كلامه هنا يتضمن وجوها توضّح فساد تلك التوجيهات :

( الأول ) : إنه يقول بأن عمل النبي وشأنه هو التأكيد على ما جاء في القرآن والتذكير به ... فيكون عمر الذي حال دون كتابة النبي وصيّته قد منع النبي من القيام بأمر واجب عليه ، ويكون ( الدهلوي ) الذي برر عمل عمر شريكا مع عمر في صنيعه.

( الثاني ) : إنه يقول بأن التأكيد يفيد الإلزام بالحجة وإتمام النعمة ... فيكون المانع من كتابة الوصية قد منع من الإلزام بالحجة وإتمام النعمة ، ويكون ( الدهلوي ) الذي أيده في صنيعه شريكا معه في هذه الجريمة ... هذا من جهة.

ومن جهة أخرى : إنه لو دار الأمر بين الاعتقاد بإمامة المانع من الإلزام بالحجة وإتمام النعمة ، والاعتقاد بإمامة من كان نصبه يوم الغدير سببا لإكمال الدين وإتمام النعمة ، فإنه لا يستريب عاقل في أن الثاني أولى بها من الأول ...

( الثالث ) : إنه يقول ـ كما سيأتي ـ بأن من لا حظ القرآن والحديث لا يقول مثل هذا الكلام الفارغ ، وهذا الكلام صريح في أن إنكار حسن التأكيد كلام فارغ مخالف للكتاب والسنة ، فمن كلام نفسه تظهر قيم كلماته في الدفاع عن من حال دون كتابة النبي وصيته!! ...

( الرابع ) : إنه يقول ـ كما سيأتي ـ بأن إنكار حسن التأكيد يستلزم لغوية تأكيدات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أبواب الصيام والصلاة والزكاة وتلاوة القرآن.

فثبت أن منع الوصية وتأييد هذا المنع يستلزم الاعتقاد بلغوية تأكيدات النبي في الأبواب والأحكام المذكورة وغيرها ...

٢٨٧

قوله :

« وإن من نظر في القرآن والحديث لا يتفوه بمثل هذا الكلام الفارغ ... ».

أقول :

إن من لاحظ الكتاب والسنة لا يتفوه بهذا الكلام الفارغ ، فينفي دلالة حديث الغدير على الامامة والخلافة لعلي عليه‌السلام ، بالرغم من نزول قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) في واقعة غدير خم ، وبالرغم من تصريح حسان بن ثابت بإمامة علي عليه‌السلام في أشعاره نقلا عن لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالرغم من تصريح الامام عليه‌السلام نفسه بثبوت إمامته وخلافته في يوم الغدير ...

إن من لاحظ الكتاب والسنة لا يتجاسر على نفي دلالة حديث الغدير على الامامة بالرغم من كلّ هذه الأدلة وغيرها ... ومن هنا ترى بعض علماء أهل السنة الذين وقفوا على حقيقة الأمر يعترفون ببطلان إنكار دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإن حاولوا اللّجوء إلى تأويل مدلول الحديث ، وحملوه على إرادة الامامة والخلافة بعد عثمان بن عفان. وقد عرفت فساد هذا الحمل وبطلانه.

قوله :

« ويكون التنصيص على إمامة الأمير ـ كما يدّعيه الشيعة ـ مرة بعد أخرى والتأكيد عليه لغوا باطلا. معاذ الله من ذلك ».

أقول : وهذا التوهم مخدوش بوجوه :

الأول : إنه وإن كان أمر الإمامة مبيّنا مرارا ـ لكن الذي كان يوم غدير خم كان أمرا جديدا ، فقد وقع في هذا اليوم الاستخلاف العلني الرسمي بحضور الآلاف المؤلّفة من الأمة ، وأخذ البيعة منهم ، مع قرب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورحلته عن الدنيا إلى الرفيق الأعلى.

الثاني : إن أهل السنة يزعمون تقدم الثلاثة على أمير المؤمنين عليه‌السلام

٢٨٨

في لزوم المحبة ووجوب المودة ، وإن محبة علي عليه‌السلام تأتي في المرتبة الرابعة ، فهذا من جهة.

ومن جهة أخرى : لا ريب في تأخّر عمر بن الخطاب عن أبي بكر رتبة ومقاما ، بل لقد وصل تأخّر عمر عنه حدّا بحيث كان يودّ أن لو كان شعرة في صدر أبي بكر ، فقد روي : « عن عمر قال : وددت أني شعرة في صدر أبي بكر. مسدد عن عمر » (١).

بل « عن الحسن قال قال عمر : وددت أني من الجنة حيث أرى أبا بكر. ش » (٢).

بل « عن ضبة بن محصن الغنوي قال : قلت لعمر بن الخطاب : أنت خير من أبي بكر. فبكى وقال : والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر عمر ، هل لك أن أحدّثك بليلته ويومه؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين. قال : أمّا ليلته فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هاربا من أهل مكة خرج ليلا ، فتبعه أبو بكر ، فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره. فقال له رسول الله. صلّى الله عليه وسلّم : ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فعلك. فقال : يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك ، واذكر الطلب فأكون خلفك ، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك ، لا آمن عليك. فمشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه ، فلمّا رآه أبو بكر قد حفيت رجلاه حمله على كاهله يشتد به حتى أتى به فم الغار فأنزله. ثم قال :

والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله ، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا ، فحمله فأدخله ، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي ، فخشي أبو بكر أن يخرج منهنّ شيء يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فألقمه قدمه ، فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي ، وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول له : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته طمأنينة لأبي بكر. فهذه ليلته.

__________________

(١) كنز العمال ١٤ / ١٣٨.

(٢) كنز العمال ١٤ / ١٣٧.

٢٨٩

وأمّا يومه ، فلمّا توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وارتدت العرب فقال بعضهم : لا نصلّى ولا نزكّي ، فأتيته ولا آلوه نصحا ، فقلت : يا خليفة رسول الله تألّف الناس وأرفق بهم. فقال : جبار في الجاهلية خوار في الإسلام! فبما ذا أتألّفهم؟ أبشعر مفتعل أو سحر مفترى؟ قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم وارتفع الوحي ، فو الله لو منعوني عقالا مما كانوا يعطون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقاتلتهم عليه. فقاتلنا معه وكان والله رشيد الأمر. فهذا يومه. الدينوري في المجالسة ، وأبو الحسن بن بشران في فوائده ، ق في الدلائل ، واللالكائي في السنه. كر » (١).

وفي ( كنز العمال ) أيضا « عن محمد بن سيرين قال : ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضّلوا عمر على أبي بكر ، فبلغ ذلك عمر فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى فطن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يديّ وساعة خلفي؟ فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك وأذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال : يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال : نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون مثلة إلاّ أن تكون بي دونك. فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول حتى أستبرئ لك الغار. فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرأ الحجر ، فدخل واستبرأ ثم قال : انزل يا رسول الله. فنزل. قال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. ك‍ ق في الدلائل » (٢).

وأيضا : فمن المعلوم أن مرتبة عثمان بن عفان أدنى بمراتب كثيرة من مرتبة عمر بن الخطاب ، فبناء على كون عثمان أفضل من علي عليه‌السلام ـ معاذ الله من ذلك ـ تكون مرتبة علي أدنى من مرتبة أبي بكر بمراتب لا تعدّ ولا تحصى ، فيكون لزوم محبّته أقل من لزوم محبة أبي بكر بمراتب لا تعدّ ولا تحصى ، وحينئذ

__________________

(١) كنز العمال ١٤ / ١٣٥.

(٢) المصدر ١٤ / ١٣٤.

٢٩٠

فإنّ صرف هذا الاهتمام البالغ في بيان وجوب المودة المفضولة بهذه الكيفية ، وترك الاهتمام بالمودة الفاضلة ، غريب في غاية الغرابة. لكنّ هذا الاستغراب لا يكون في صورة تكرير النص أبدا.

ومن الأمور الغريبة أن ( الدهلوي ) صرّح في جواب الاستدلال بآية التطهير ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) بأن إرادة الباري عز وجل إذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم‌السلام وتطهيرهم دليل على عصمة أهل البيت ، وقال : بأن دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإذهاب الرجس في حق أم سلمة تحصيل للحاصل.

وقد غفل ( الدهلوي ) عن أن الأمة الإسلامية تكرر سورة الفاتحة في كلّ ليل ونهار عشرة مرات في الأقل ، وقد جهل أو تجاهل عن أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع حصول الهداية له ـ وهدايته هو للآلاف المؤلّفة ـ إلى الصراط المستقيم يطلب من الله سبحانه الهداية إلى الصراط المستقيم في كلّ ليل ونهار خمس مرّات في الأقل!! وهل يقول ( الدهلوي ) أن الهداية لم تحصل له مع هذا الطلب؟ أو أن طلبه كان عبثا وتحصيلا للحاصل؟ ونعوذ بالله من كل ذلك؟

وأيضا ، فقد جعل في باب المكايد سؤال سيدنا إبراهيم عليه‌السلام في ليلة المعراج أن يكون من شيعة علي عليه‌السلام ، مع كونه من شيعته منذ نبوّته من قبيل تحصيل الحاصل ، ليتمكّن من تكذيب رواية السؤال المذكور من هذا الطريق ... فعلى هذا يمتنع حمل حديث الغدير على إيجاب المودة ، لأنّ الحمل على إيجاب المودّة الثابت في المقامات العديدة الكثيرة من قبل يستلزم تحصيل الحاصل المحال.

الثالث : إنه يظهر من الأحاديث العديدة المذكورة بعضها سابقا والتي سنذكر بعضا آخر منها إن شاء الله تنصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام مرارا عديدة ، وهذه الأحاديث أخرجها كبار أساطين أهل السنة ، فرواية تكرير النص على إمامة علي عليه‌السلام وتأكيده لا تختص بالشيعة كما لا يخفى على من راجعها.

٢٩١

(٨) دعوى أن سبب الخطبة وقوع بعضهم في علي ، وجعل ذلك قرينة

على إرادة المحبة

قوله : « وإن سبب هذه الخطبة ـ كما روى المؤرخون وأهل السير ـ يدل بصراحة على أن الغرض إفادة محبة الأمير.

وذلك : إن جماعة من الأصحاب الذين كانوا معه في اليمن مثل بريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير ، جعلوا يشكون لدى رجوعهم من الأمير عند النبي صلّى الله عليه وسلّم شكايات لا مورد لها ، فلما رأى رسول الله شيوع تلك الأقاويل من الناس ، وأنه إن منع بعضهم عن ذلك حمل على شدّة علاقته بالأمير ولم يفد في ارتداعهم ، لهذا خطب خطبة عامة وافتتح كلامه بنص من القرآن قائلا : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. يعني : إنه كلما أقوله لكم ناشئ من شفقتي عليكم ورأفتي بكم ، وليس الغرض الحماية عن أحد ، وليس ناشئا عن فرط المحبة له.

وقد روى محمد بن إسحاق وغيره من أهل السير هذه القصة بالتفصيل ».

أقول :

إن هذا الكلام ساقط بوجوه عديدة :

١ ـ الاستدلال برواية ابن إسحاق في غير محله

إن الاستدلال برواية محمد بن إسحاق في مقابلة أهل الحق في غير محلّه ، لوضوح أن ابن إسحاق من أهل السنة لا من أهل الحق الامامية ، وقد عرفت مرارا من كلام ( الدهلوي ) نفسه وكلام والده وغيرهما أن من قواعد المناظرة في العلوم والمسائل الخلافية أن يستند الخصم في مقام المناظرة إلى روايات الطرف الآخر ، لا روايات علماء طائفته وكتب قومه ، فصنيع ( الدهلوي ) هذا خروج عن القواعد المقررة في علم المناظرة.

٢٩٢

٢ ـ ابن إسحاق مقدوح عند بعضهم

على أن محمد بن إسحاق لم يجمع أهل السنة وأبناء مذهبه على توثيقه وقبول رواياته ، فقد عرفت سابقا طعن جماعة من أعلام أهل السنة في محمد بن إسحاق وقدحهم له ، فبالاضافة إلى عدم جواز استناد ( الدهلوي ) إلى روايته لما ذكر في الوجه الأول ، فإنه رجل ضعيف غير قابل للاعتماد والاستناد عند جماعة من أهل السنة.

٣ ـ زعم الرازي عدم رواية ابن إسحاق لحديث الغدير

بل إنّ الفخر الرازي ذكر أن محمد بن إسحاق لم يرو حديث الغدير ، فقد تقدّم في الكتاب أنّ الرازي استند ـ بصدد الجواب عن حديث الغدير بزعمه ـ إلى عدم نقل الشيخين والواقدي وابن إسحاق لهذا الحديث ، جاعلا ذلك دليلا على القدح فيه ، فإذا لم يكن ابن إسحاق من رواة الحديث من أصله ، فقد بطل نسبة القول بأن سبب إيراد حديث الغدير هو شكاية بعض الأصحاب من علي إلى محمد بن إسحاق.

٤ ـ ليس في سيرة ابن هشام ما نسب الدهلوي إلى ابن إسحاق

هذا ، وفي سيرة ابن هشام التي هي خلاصة سيرة ابن إسحاق ما نصّه :

« موافاة علي رضي‌الله‌عنه في قفوله من اليمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحج.

قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي نجيح : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بعث عليا رضي‌الله‌عنه إلى نجران ، فلقيه بمكة وقد أحرم ، فدخل على فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجدها قد حلّت وتهيّأت ، فقال : مالك يا بنت رسول الله؟ قالت : أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن

٢٩٣

نحل بعمرة فحللنا. قال : ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : انطلق فطف بالبيت وحلّ كما حلّ أصحابك. قال : يا رسول الله إني قلت حين أحرمت : اللهم إني أهل بما أهل به نبيّك وعبدك ورسولك محمد. قال : فهل معك من هدي؟ قال : لا. أشركه صلّى الله عليه وسلّم في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، حتى فرغ من الحج ونحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما.

قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال : لما أقبل علي رضي‌الله‌عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكّة تعجّل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسى كلّ رجل من القوم حلّة من البز الذي كان مع علي رضي‌الله‌عنه ، فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل. قال : ويلك ما هذا؟ قال : كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس. قال : ويلك! انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال : فانتزاع الحلل من الناس ، فردّها في البز. قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم. قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجزة ، عن عمته زينب بنت كعب ـ وكانت عند أبي سعيد الخدري ـ عن أبي سعيد الخدري قال : اشتكى الناس عليا رضي‌الله‌عنه ، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس لا تشتكوا عليا فو الله لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله » (١).

هذه رواية ابن إسحاق ، فأين ما نسبه ( الدهلوي ) إليه؟

٥ ـ دلالة كلام الدهلوي على حمل الصحابة أوامر النبي على الأغراض النفسانية

إن مفاد كلام ( الدهلوي ) هذا هو أن الصحابة كانوا يحملون أوامر النبي

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٦٠٣.

٢٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونواهيه على الأغراض النفسانية ، ولا يعتقدون بكونها مطابقة للواقع والحق ، وأنها أحكام يجب إطاعتها والانقياد لها.

وإذا كان هذا حال الصحابة في قبال محبة أمير المؤمنين عليه‌السلام التي قال بوجوبها أهل السنة ، ودلّت عليها الأحاديث المتكثرة والآثار النبوية المؤكدة ، بل كان الايمان بوجوب مودة أمير المؤمنين عليه‌السلام على حدّ الايمان بوجوب مودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما نص عليه ( الدهلوي ) نفسه ... إذا كان هذا حالهم بالنسبة إلى هذا الأمر ، وأنهم يحملون أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به على الأغراض النفسانية والعلائق الشخصية ، فلما ذا يحاول أهل السنة إثبات الفضائل والمناقب لهكذا أناس ، ويقولون باستحالة وقوع الشنائع وصدور القبائح منهم؟! ولما ذا يصرّون على امتناع مخالفتهم لأوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللنصوص الصادرة منه ...

والواقع ، أن أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجبة الامتثال ، سواء كان المخاطب بها واحدا أو اثنين أو كل المسلمين ، وسواء صدر الأمر منه علانية أو في الخفاء ، ومن أعرض عن شيء من أوامره ونواهيه ولم يمتثل فقد كفر كائنا من كان ، وكيفما كان الحكم الصادر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن كلماته من حيث الشرع لا يختلف حكمها باختلاف الأحوال ، وهكذا كان حال الصحابة المؤمنين حقا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتقادهم به وبأقواله وأفعاله ، وأما المنافقون الذين كانوا حوله ، فكانوا يعرضون عن أحكامه وأقواله ، لعدم إيمانهم القلبي ، سواء كانت صادرة إليهم في ملأ من الناس أو خفية ، ويحملونها على الأغراض النفسانية مطلقا.

فظهر أن الفرق الذي ذكره ( الدهلوي ) من أنه لو خاطب الواحد والاثنين من الصحابة لحمل كلامه على العلاقة الشخصية ، وأما إذا خاطب القوم كلّهم حملوه على الواقع ، لا نصيب له من الواقع والحقيقة مطلقا.

٢٩٥

٦ ـ منع النبي خصوص بريدة من الوقوع في علي

لقد ذكر ( الدهلوي ) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمنع الشخص. الواحد الذي وقع في علي عليه‌السلام وتكلّم فيه عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلمه بأن ذلك لا يجدي ، بل يحمل على المحبة الشخصية له بالنسبة إلى علي عليه‌السلام ... لكن الموجود في روايات أهل السنة وأكابر محدثيهم أنه منع بريدة بالخصوص من ذلك قائلا له « لا تقع في علي فإنّه مني وأنا منه وهو وليّكم بعدي » كما في ( مسند أحمد بن حنبل (١) ) وفي ( انسان العيون ) : « يا بريدة لا تقع في علي فإن عليا مني وأنا منه ... » (٢).

وقال ابن حجر المكي : « وأيضا ، فسبب ذلك كما نقله الحافظ شمس الدين الجزري عن ابن إسحاق : إن عليا تكلّم فيه بعض من كان معه في اليمن ، فلما قضى صلّى الله عليه وسلّم حجه خطبها تنبيها على قدره وردّا على من تكلّم فيه كبريدة ، لما في البخاري أنه كان يبغضه ، وسبب ذلك ما صححه الذهبي أنه خرج معه إلى اليمن ، فرأى منه جفوة فنقصه للنبي صلّى الله عليه وسلّم ، فجعل يتغير وجهه ويقول : يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال : بلى يا رسول الله. قال : من كنت مولاه فعلي مولاه » (٣).

٧ ـ حديث الغدير كان بأمر من الله

لقد دلّت روايات وكلمات أكابر محدثي أهل السنة وأئمتهم أمثال : ابن أبي

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٣٥٦.

(٢) انسان العيون ٣ / ٣٣٨.

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٥.

٢٩٦

حاتم الرازي ، وأحمد الشيرازي ، وأبي بكر ابن مردويه ، وأبي إسحاق الثعلبي ، وأبي نعيم الاصبهاني ، وأبي الحسن الواحدي ، ومسعود السجستاني ، والقاضي عبد الله الحسكاني ، وابن عساكر الدمشقي ، والفخر الرازي ، وفريد الدين العطار ، ومحمد بن طلحة الشافعي ، وعبد الرزاق الرسعني ، ونظام الدين النيسابوري ، والسيد علي الهمداني ، والحسين الميبدي ، وابن الصباغ المالكي ، وبدر الدين العيني ، وجلال الدين السيوطي ، ومحمد محبوب العالم ، والحاج عبد الوهاب ، وجمال الدين المحدث الشيرازي ، والسيد شهاب أحمد ، والميرزا محمد ابن معتمد خان.

لقد دلّت كلمات هؤلاء ـ المؤيدة بالروايات الكثيرة الواردة من طريق أهل الحق ـ على أن سبب حديث الغدير لم يكن شكوى إنسان من علي عليه‌السلام ، بل كان ذلك بأمر من الله سبحانه ووحي أكيد نزل به جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يدلّ دلالة صريحة على أن مراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحديث الشريف هو النص على إمامة سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٨ ـ واقعة الغدير متأخرة عن قضية شكوى بريدة

وإن المستفاد من روايات أهل السنة : أن قضية شكوى بريدة عليا عليه‌السلام عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنعه إيّاه عن الوقوع والتكلّم في علي ، كانت قبل واقعة غدير خم التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولاه فعلي مولاه ». فهما قضيتان كما يدل على ذلك كلام نور الدين علي بن إبراهيم الحلبي في ( سيرته ) حيث قال في وجوه الجواب على الاستدلال بحديث الغدير :

« ثانيها ـ إن اسم المولى يطلق على عشرين معنى منها : السيد الذي ينبغي

٢٩٧

محبّته ويجتنب بغضه ، ويؤيد إرادة ذلك أن سبب إيراد ذلك : إن عليا تكلّم فيه بعض من كان معه باليمن من الصحابة ـ وهو بريدة ـ لما قدم هو ، وأتاه صلّى الله عليه وسلّم في تلك الحجة التي هي حجة الوداع جعل يشكو له صلّى الله عليه وسلّم منه ، لأنه حصل له منه جفوة ، فجعل يتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال : يا بريدة لا تقع في علي ، فإن عليا مني وأنا منه ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال : نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال ذلك لبريدة خاصة.

ثم لمّا وصل إلى غدير خم أحبّ أن يقول ذلك للصحابة عموما. أي فكما عليهم أن يحبوني فكذلك ينبغي أن يحبوا عليا » (١).

فظهر أن دعوى سببية شكوى بريدة من علي لحديث الغدير دعوى بلا دليل ، وتخرص غير قابل للتعويل.

٩ ـ على فرض الاتحاد فالدلالة محفوظة

وعلى فرض الاتحاد بين القضيتين ، وأن سبب الحديث الشريف هو تكلّم بريدة أو غيره في علي عليه‌السلام ، فمن أين يثبت ( الدهلوي ) إرادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحبة والمودة لا الامامة والخلافة؟ إن ما يقوله ( الدهلوي ) دعوى مجردة عن الدليل والبرهان ، فيكفي في الجواب عنه المنع المجرد كذلك ...

١٠ ـ بطلان كلام الدهلوي من قاضي القضاة عبد الجبار

على أن بطلان ما قاله ( الدهلوي ) من دلالة صدور هذا الحديث الشريف

__________________

(١) السيرة الحلبية ٣ / ٣٢٨.

٢٩٨

في مورد النهي عن التكلّم في علي على إرادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحبة والمودة ، دون الامامة والخلافة ثابت من صريح كلام قاضي القضاة عبد الجبار حيث قال بأن ذلك لو صح لم يمنع من التعلق بظاهر الحديث وما يقتضيه لفظه ... وإليك نص عبارته في الجواب عن حديث الغدير : « وقد قال شيخنا أبو الهذيل في هذا الخبر : إنه لو صحّ لكان المراد به الموالاة في الدين.

وذكر بعض أهل العلم حمله على أن قوما نقموا على علي بعض أموره ، فظهرت مقالاتهم له وقولهم فيه ، فأخبر صلّى الله عليه وسلّم بما يدل على منزلته وولايته دفعا لهم عمّا خاف فيه الفتنة.

وقال بعضهم في سبب ذلك : إنه وقع بين أمير المؤمنين وبين أسامة بن زيد كلام فقال له أمير المؤمنين : أتقول هذا لمولاك؟ فقال : لست مولاي وإنما مولاي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : من كنت مولاه فعلي مولاه.

يريد بذلك قطع ما كان من أسامة وبيان أنه بمنزلته في كونه مولى له.

وقال بعضهم مثل ذلك في زيد بن حارثة ، وأنكروا أن خبر الغدير بعد موته.

والمعتمد في معنى الخبر على ما قدمناه ، لأن كلّ ذلك لو صحّ ، وكان الخبر خارجا عليه فلم يمنع من التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه ، فيجب أن يكون الكلام في ذلك ، دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه في أن وجود الاستدلال بالخبر لا يتغيّر » (١).

ترجمة القاضي عبد الجبار

فهذا كلام القاضي عبد الجبار الذي طالما اقتفى القوم أثره في المناقشة مع

__________________

(١) المغني للقاضي عبد الجبار بن أحمد.

٢٩٩

الامامية ، وارتضوا أجوبته وشبهاته حول استدلالات أهل الحق ، في مباحث الامامة والكلام ، وقد أثنوا عليه بالغ الثناء في كتب التراجم :

قال أبو بكر ابن قاضي شهبة : « عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد ابن الخليل القاضي ، أبو الحسن الهمداني ، قاضي الري وأعمالها. وكان شافعي المذهب وهو مع ذلك شيخ الاعتزال ، وله المصنفات الكثيرة في طريقهم وفي أصول الفقه. قال ابن كثير في طبقاته : ومن أجلّ مصنفاته وأعظمها ( دلائل النبوة ) في مجلدين ، أبان فيه عن علم وبصيرة حميدة ، وقد طال عمره ورحل الناس إليه من الأقطار واستفادوا به. مات في ذي القعدة سنة ٤١٥ » (١).

وقال الأسنوي : « القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الأسترآبادي ، إمام المعتزلة ، كان مقلدا للشافعي في الفروع وعلى رأي المعتزلة في الأصول وله في ذلك التصانيف المشهورة ، تولّى قضاء القضاة بالري. ورد بغداد حاجّا وحدّث بها عن جماعة كثيرين. توفي في ذي القعدة سنة ٤١٥ ذكره ابن الصلاح » (٢).

وقال اليافعي : « القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار. من رؤس أئمة المعتزلة وشيوخهم صاحب التصانيف والخلاف العنيف » (٣).

١١ ـ دلالته على الامامة حتى إذا كان في جواب شكوى بريدة

ثم إن حديث الغدير يدل على الامامة حتى في صورة كونه جوابا على شكوى بريدة ، وذلك لأن شكوى بريدة من علي عليه‌السلام كانت عند رجوعه من سفره معه إلى اليمن ، فشكى عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اصطفاء

__________________

(١) طبقات الشافعية ١ / ١٨٣.

(٢) طبقات الشافعية للاسنوي ١ / ٣٥٤.

(٣) مرآة الجنان. حوادث سنة ٤١٥.

٣٠٠