نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٩

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٩

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٧

العوام وسفهاء الأحلام ، لأن صحة ما ذكره تتوقف على إثبات امتناع استحقاق الأمير عليه‌السلام للتصرف ، و ( الدهلوي ) لم يذكر لهذه الدعوى دليلا بل اكتفى بدعوى امتناع اجتماع التصرفين في زمان واحد.

قوله :

« بل إن كلا منهما مستلزم للآخر ».

أقول : إذا كان بين محبة الأمير ومحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلازم ، كما اعترف ( الدهلوي ) فقد ثبت أن من فقد محبة الأمير عليه‌السلام فقد فقد محبة النبي. فظهر ـ ولله الحمد ـ حقيقة حال معاوية الذي كان يعادي أمير المؤمنين عليه‌السلام كما نص عليه الأمير نفسه كما في ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ) وغيره ، وكذلك ظهر حال أشياع معاوية وأتباعه ، وحال عائشة بنت أبي بكر وطلحة والزبير ومن وافقهم وتابعهم ، وحال سعد بن أبي وقاص وأمثاله الذين قعدوا عن نصرته.

قوله :

« أما في اجتماع التصرفين فالمحاذير كثيرة ».

أقول : من العجب دعواه كثرة المحذورات وعدم ذكره محذورا واحدا منها ، ومن الواضح أن الدعوى المجرّدة عن الدليل يكفي الجواب عنها بمجرّد المنع.

والواقع والحقيقة أنه لا يلزم أيّ محذور من اجتماع التصرفين ، قال في ( إحقاق الحق ) بعد بيان ثبوت إمامة الأمير عليه‌السلام في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يقال : كيف يمكن التزام ذلك مع امتناع اجتماع أوامر الخليفة مع أوامر المستخلف بحسب العرف والعادة؟ لأنا نقول : الامتناع ممنوع ، وذلك لأنه إن أراد أنه يمتنع اجتماعهما لاختلاف مقتضى أوامرها فبطلانه فيما نحن فيه ظاهر ، لأن ذلك الاختلاف إنما يحصل إذا حكموا بموجب اشتهائهم ، كالحكّام الجائرة وبالاجتهاد الذي لا يخلو عن الخطأ ، وليس الحال في النبي ووصيّه المعصوم كذلك ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما ينطق عن الوحي ، وأمير المؤمنين عليه بالسلام باب مدينة علمه وعيبة سره فلا اختلاف. وإن أراد أنه يمتنع اجتماعهما بمعنى أنه لا يتصوّر في كلّ حكم صدور الأمر منهما

٢٦١

معا. فهذا غير لازم في تحقق الخلافة ، بل يكفي في ذلك كون الخليفة بحيث لو لم يبادر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى إنفاذ الحكم الخاص لكان له أن يبادر إلى إنفاذه. ولا امتناع في ذلك عقلا ولا عرفا ».

قوله :

« فإن قيدناه بما يدل على إمامته في المآل دون الحال فمرحبا بالوفاق ، لأن أهل السنة قائلون بذلك في حين إمامته ».

وجوه إبطال تقييد ولاية الأمير بزمان ما بعد عثمان

أقول : إنّ هذا تأويل سخيف لهذا الحديث الشريف ، ولقد كان الأحرى ب ( الدّهلوي ) أن لا يتفوّه به ، لأنه لا يناسب المقام العلمي الذي يدّعيه لنفسه ، ويحاول أتباعه وأنصاره إثباته له ، ...

إن هذا التأويل باطل لوجوه عديدة نذكرها فيما يلي ، لئلا يغتّر بهذا الكلام الفاسد أحد فيما بعد ، فيحسبه تحقيقا علميّا في هذا المقام :

١ ـ لا نصّ على خلافة الثلاثة

إن هذا الكلام من ( الدهلوي ) اعتراف بكون حديث الغدير نصّا في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ( غير أنه يدعي تقييده بالمآل دون الحال ) وهذا يكفي لهدم بنيان خلافة الثلاثة من أسّه وأساسه ، فيكون الأمير عليه‌السلام الخليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا خليفة غيره ، وذلك لأنّه عليه‌السلام خليفة منصوص عليه من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ثبت بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة عدم صدور نص منه في خلافة الثلاثة ، بل إن هذا المعنى من الأمور المسلّم بها لدى الفريقين ، وقد صرح بذلك ونصّ عليه أعلام أهل السنة ، ويوضّحه النظر في أخبار سقيفة بني ساعدة وقصة الشورى وغير ذلك ، وحتى أن ( الدهلوي ) نفسه من المعترفين بعدم صدور النص في خلافة الثلاثة ، كما تجد

٢٦٢

كلامه في أول الباب السابع من ( التحفة ).

فنقول للدهلوي : لقد اعترفت بوجود النص على خلافة علي وبعدم وجوده بالنسبة إلى خلافة الثلاثة ، فكيف تصح خلافة أولئك؟ وكيف يجوز تقدّم غير المنصوص عليه على المنصوص عليه؟

وإذا بطلت خلافة القوم وتقدّمهم عليه بطل تقييدك الامامة والخلافة بما ذكرت ...

٢ ـ عموم « من كنت مولاه » للثلاثة

إن لفظة « من » في الحديث الشريف حيث يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولاه فعلي مولاه » من ألفاظ العموم كما تقرّر في علم الأصول ، ومن هنا استند ( الدهلوي ) نفسه إلى هذه القاعدة المقرّرة في علم الأصول ، في مقام الاستدلال على خلافة أبي بكر بقوله تعالى : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) كما لا يخفى على من راجعه.

فنقول : هل نسي ( الدهلوي ) أو تناسى وجود هذه اللفظة الدالة على العموم في حديث الغدير ، أو أنه يدّعي دلالتها على العموم في تلك الآية ، لأنه يريد الاستدلال بها على خلافة أبي بكر ، وعدم دلالتها عليه في هذا الحديث ، لأنه يدل على إمامة علي عليه‌السلام؟

نعم في حديث الغدير توجد لفظة « من » الدالة على العموم الشامل للثلاثة ، فسيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام مولى الثلاثة قطعا ، وقد عرفت دلالة حديث الغدير على الامامة ، فعلي عليه‌السلام مولى الثلاثة قطعا وإمامهم ، فهم ليسوا بخلفاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تقيّد خلافة علي عليه‌السلام بزمان ما بعد ثالثهم.

٣ ـ بطلانه من كلام بعض أكابر علمائهم

ولقد اعترف بعض أكابر علماء السنّة ببطلان التأويل المذكور وصرّح بالحق

٢٦٣

الحقيق بالقبول ، وقال بأن كلمة « من » عامة ، فتكون ولاية علي عليه‌السلام عامة كولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيجب أن يكون علي هو الولي لأبي بكر دون العكس ، وإليك نصّ كلام الملاّ يعقوب اللاّهوري في ( شرح تهذيب الكلام ) فإنه قال :

[ ولما تواتر من قوله صلّى الله عليه وسلّم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ].

بيان التمسّك بالحديث الأول : إنه صلّى الله عليه وسلّم جمع الناس يوم غدير خم ـ وغدير خم موضع بين مكة والمدينة بالجحفة ، وذلك اليوم كان بعد رجوعه عن حجة الوداع ـ ثم صعد النبي خطيبا مخاطبا معاشر المسلمين : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى. قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.

وهذا الحديث أورده علي رضي‌الله‌عنه يوم الشورى عند ما حاول ذكر فضائله ، ولم ينكره أحد. ولفظ ( المولى ) جاء بمعنى المعتق الأعلى والأسفل والحليف والجار وابن العم والناصر والأولى بالتصرف ، وصدر الحديث يدل على أن المراد هو الأخير ، إذ لا احتمال لغير الناصر والأولى بالتصرف هاهنا. والأول منتف لعدم اختصاصه ببعض دون بعض ، بل يعم المؤمنين كلّهم ، قال الله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ).

وبيان التمسّك بالثاني : إن لفظ المنزلة اسم جنس ، وبالاضافة صار عاما بقرينة الاستثناء كما إذا عرف باللام ، فبقي شاملا لغير المستثنى وهو النبوة ، ومن ملة ما يدخل تحت ذلك اللفظ الرياسة والامامة.

وإلى الأول يشير قوله : [ لأن المراد المتصرف في الأمر ] إذ لا صحة لكون عل معتقا وابن عم مثلا لجميع المخاطبين [ ولا فائدة لغيره ] ككونه جارا أو حليفا ، لأنه ليس في بيانه فائدة ، أو ناصرا الشمول النصرة جميع المؤمنين.

وإلى الثاني يشير قوله : [ ومنزلة هارون عامة أخرجت منه النبوة فتعيّنت الخلافة ].

٢٦٤

[ وردّ بأنه لا تواتر ] فيما ادّعى الخصم فيه التواتر بل هو خبر الواحد [ ولا حصر في علي ]. يعني : إن غاية ما لزم من الحديث ثبوت استحقاق علي رضي‌الله‌عنه للامامة ، وثبوتها في المآل ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمة الثلاثة.

وهذا الجواب من المصنّف ، وتوضيحه : إنه لم يثبت له الولاية حالا بل مالا ، فلعلّه بعد الأئمة الثلاثة ، وفائدة التنصيص لاستحقاقه الامامة الإلزام على البغاة والخوارج.

أقول : يرد عليه أنه كما كانت ولاية النبي عامة كما يدل عليه كلمة ( من ) الموصولة فكذا ولاية علي ، فيجب أن يكون علي هو الولي لأبي بكر دون العكس ».

هذا ، والعجب من التفتازاني الذي يعدّ من أكابر أئمة العربيّة كيف يتشبّث بهذا التأويل الفاسد ، ويغفل عمّا ينّبه عليه الملاّ اللاهوري ، ويتنّبه إليه كلّ ناظر في الحديث بأدنى تأمل؟!

ترجمة ملاّ يعقوب

والملاّ يعقوب من مشاهير علماء أهل السّنة ، وقد وصفه ( الدهلوي ) نفسه في البحث حول حديث الثقلين بكونه من علماء أهل السنّة ونقل كلامه معتمدا عليه.

كما أثنى عليه محمد صالح المؤرخ في كتابه ( عمل صالح ).

وترجم له شاه نوازخان في كتابه ( مرآة آفتاب نما ) وأثنى عليه ووصفه بالأوصاف الحميدة ، ثم نقل عن المولوي رزق الله الملقّب بحافظ عالم خان أنّه ذكر الملاّ يعقوب في الطبقة التاسعة من كتابه ( الأفق المبين في أحوال المقربين ) قائلا :

« والمولى الأعز قدوة العلماء وأسوة الصلحاء مولانا محمد يعقوب البنباني رحمة الله عليه. وهو من أكابر المشايخ ، كان عالما وعارفا ، جمع بين المعقول والمنقول ، وحوى بين الفروع والأصول ، كان أوحد العلماء في وقته وكان يعتقد في التصوف طريق صاحب كتاب عوارف المعارف وصاحب كتاب كشف المحجوب وتحرير

٢٦٥

طريق كتاب فصوص الحكم. وليّ التدريس بالمدرسة الشاهجانية ، وانتفع به كثير من طلبة العلم ، وكان ثقة وحجة ديّنا ، وشفيقا على الطلبة غاية الشفقة. وله تصانيف كثيرة ، من أشهرها كتاب الخير الجاري في شرح البخاري ، وكتاب المسلم في شرح صحيح الامام أبي الحسين مسلم قدس‌سره ، وكتاب المصفى في شرح الموطإ ، وشرح تهذيب الكلام ، وشرح الحسامي في أصول الفقه وشرح شرعة الإسلام ، وكتاب أساس العلوم في علم الصرف ، وحاشية الرضي ، وله باع طويل في علم الحديث ، ورأيته في درسه كان يعرّض بتعريضات على الفاضل السيالكوتي رحمه‌الله هكذا يقول بعض الناس فاندفع ما قيل مرارا. وله أيضا حاشية على شرح العضدي والبيضاوي ، وكان وفاته في شاه جهان آباد ، وحول داره قبره مشهور يزار ويتبرّك به. رحمه‌الله رحمة واسعة ونفعنا به منفعة كاملة ».

وله ترجمة في نزهة الخواطر ٥ / ٤٣٩ قال : « الشيخ العالم المحدث أبو يوسف يعقوب البنباني اللاهورى أحد الرجال المشهورين في الفقه والحديث والفنون الحكمية ، ولد ونشأ بلاهور ، وقرأ العلم على استاذة عصره ، وبرع في كثير من العلوم والفنون ...

مات سنة ١٠٩٨ ».

٤ ـ قول عمر لعلي : أصبحت مولاي ...

إن هذا التأويل العليل ينافي قول عمر بن الخطاب لسيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم غدير خم « هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » رواه احمد في الفضائل على ما نقله سبط ابن الجوزي.

وهل يجوز للدهلوي أن يكذّب إمامه عمر بن الخطاب بهذا التأويل الفاسد؟

ولقد أرسل الفخر الرازي قول عمر هذا إرسال المسلّم حيث قال في ( نهاية العقول ) بجواب حديث الغدير : « ثم إن سلّمنا دلالة الحديث من الوجه الذي ذكرتموه على الامامة. ولكن فيه ما يمنع من دلالته وهو من وجهين ».

٢٦٦

ـ فقال بعد بيان الأول ـ :

« والثاني : إن عمر قال له : أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، مع أنهم لم يصبح إماما لهم ، فعلمنا أنه ليس المراد من المولى الامامة. لا يقال : إنه لمّا حصل الاستحقاق في الحال للتصرّف في ثاني الحال حسنت التهنية لأجل الاستحقاق الحاضر. لأنا نقول : إنا لا نحتج بحسن التهنية بل نحتج بأن قوله أصبحت مولاي يقتضي حصول فائدة المولى في ذلك الصباح ، مع أنّ الامامة غير حاصلة في ذلك الصباح ، فعلمنا أنّ المراد من المولى غير الامامة ، ولا يمكن حمل المولى على المستحق للامامة ، لأن المولى وإن كان حقيقة في الامامة لكنه غير حقيقة في المستحق للامامة بالاتفاق. فحمل اللفظ على هذا المعنى يكون على خلاف الأصل ».

٥ ـ كلام جبرئيل في يوم الغدير برواية عمر

روى السيد علي الهمداني : « عن عمر بن الخطاب قال : نصب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا علما. فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه واخذل من خذله وانصر من نصره ، اللهم أنت شهيدي عليهم ، قال : وكان في جنبي شاب حسن الوجه طيب الريح. فقال : يا عمر ، لقد عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عقدا لا يحلّه إلاّ منافق ، فاحذر أن تحلّه. قال عمر : فقلت يا رسول الله إنك حيث قلت في علي كان في جنبي شاب حسن الوجه طيّب الريح قال كذا وكذا ، فقال : يا عمر إنه ليس من ولد آدم لكنه جبرئيل أراد أن يؤكّد عليكم ما قلته في علي » (١).

ومن هذه الرواية يظهر عموم « من » في « من كنت مولاه فعلي مولاه » لعمر ابن الخطاب ـ وللأول والثالث أيضا بالإجماع المركّب ـ من تأكيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبرئيل عليه‌السلام.

__________________

(١) المودة في القربى. انظر ينابيع المودة ٢٤٩.

٢٦٧

فهذا التأويل محاولة لإخراج الثلاثة من تحت هذا العام تحكما وزورا ...

٦ ـ أحاديث عدم موافقة النبي لاستخلاف الشيخين

إن هذا التأويل يبتنى على رضا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستخلاف الشيخين والثالث ، لكن الأحاديث التي يرويها ثقاة أهل السنة أنفسهم صريحة في عدم موافقته مع ذلك ، وإليك بعضها :

روى بدر الدين محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي بعد ذكر اجتماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الجن وحضور ابن مسعود هناك : « وقد ورد ما يدل على أن ابن مسعود حضر ليلة أخرى بمكة غير ليلة الحجون فقال أبو نعيم :

حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا علي بن الحسين بن أبي بردة البجلي ، حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي عن حرب بن صبيح حدثنا سعيد بن مسلم عن أبي مرة الصنعاني عن أبي عبد الله الجدلي عن عبد الله ابن مسعود قال : استتبعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن ، فانطلقت حتى بلغنا أعلى مكة ، فخط عليّ خطا وقال : لا تبرح ، ثم انصاع في الجبال ، فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤس الجبال حتى حالوا بيني وبينه ، فاخترطت السيف وقلت : لأضربنّ حتى استنقذ رسول الله ، ثم ذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك قال : فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر ، فجاء النبي وأنا قائم فقال : ما زلت على حالك؟ قلت : لو مكثت شهرا ما برحت حتى تأتيني ، ثم أخبرته بما أردت أن أصنع ، فقال : لو خرجت ما التقيت أنا وأنت إلى يوم القيامة ، ثم شبك أصابعه في أصابعي وقال : إني وعدت أن تؤمن بي الجن والأنس ، فأما الانس فقد آمنت بي ، وأما الجن فقد رأيت وما أظن أجلي إلاّ وقد اقترب. قلت : يا رسول الله ألا تستخلف أبا بكر؟ فأعرض عني ، فرأيت أنه لم يوافقه. قلت : يا رسول الله ألا تستخلف عمر؟ فأعرض عني ، فرأيت أنه لم يوافقه. قلت : يا رسول الله ألا تستخلف عليا؟ قال : ذاك والذي لا إله غيره لو بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنة

٢٦٨

أكتعين » (١).

ورواه باختلاف يسير أحمد بن حنبل ـ الذي قال سبط ابن الجوزي : وأحمد مقلّد في الباب ، متى روى حديثا وجب المصير إلى روايته ، لأنه إمام زمانه وعالم أوانه ، والمبرز في علم النقل على أقرانه ، والفارس الذي لا يجاري في ميدانه ـ فقد قال الشبلي المذكور : « قد روى الامام أحمد عن عبد الرزاق عن أبيه عن مينا عن عبد الله بن مسعود قال : كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة وفد الجن فتنفس ، فقلت : مالك يا رسول الله؟ قال : نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود قلت : استخلف ، قال : ومن؟ قلت أبو بكر. قال : فسكت ، ثم مضى ساعة ثم تنفس ، قلت : ما شأنك بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال : نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود. قلت : استخلف ، قال : من؟ قلت عمر ، فسكت ، ثم مضى ساعة ثم تنفس ، قلت : ما شأنك؟ قال : نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود. قلت : فاستخلف ، قال : من؟ قلت : علي. قال : أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلون الجنة أكتعين » (٢).

آكام المرجان ومؤلفه

والشبلي مؤلف كتاب ( آكام المرجان في أحكام الجان ) من كبار علماء أهل السنة الأعيان ، ومن فقهائهم ومحدّثيهم المشهورين ، قال الذهبي : « محمد بن عبد الله الفقيه العالم المحدث بدر الدين أبو البقاء الشبلي السابقي الدمشقي الحنفي ، من نبهاء الطلبة وفضلاء الشباب ، سمع الكثير وعني بالرواية وقرأ على الشيوخ وسمع في صغره من أبي بكر بن عبد الدائم وعيسى المطعم. ألّف كتابا في الأوائل. مولده سنة ٧١٢. كتب عني » (٣).

وفي هامشه بخط الميرزا محمد بن معتمد خان : « وكانت وفاة الشبلي هذا في

__________________

(١) آكام المرجان في أحكام الجان : ٥٢.

(٢) المصدر : ٤٨.

(٣) المعجم المختص : ١٢٨.

٢٦٩

سنة ٧٦٩. أرخها السخاوي في ذيل دول الإسلام ».

وذكر في ( كشف الظنون ) كتاب ( آكام المرجان ) بقوله : « آكام المرجان في أحكام الجن للقاضي بدر الدين محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي المتوفى سنة ٧٦٩. أوله : الحمد لله خالق الانس والجن. رتبه على مائة وأربعين بابا في أخبار الجن وأحوالهم » (١).

وقد اعتمد على الكتاب المذكور السيوطي في ( تحفة الجلساء برؤية الله للنسا ) والعزيزي في ( السراج المنير في شرح الجامع الصغير ).

والحديث المذكور الذي أخرجه أحمد وأبو نعيم رواه الموفق بن أحمد المعروف بأخطب خوارزم بقوله : « أنبأني الامام الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار والامام الأجل نجم الدين أبو منصور محمد بن الحسين بن محمد البغدادي ، قالا أنبأني الشريف الامام الأجل نور الهدى أبو طالب الحسين بن محمد بن علي الزينبي ، عن الامام محمد بن أحمد بن علي بن حسين بن شاذان ، حدثنا سهل بن أحمد عن علي بن عبد الله عن الديري إسحاق بن إبراهيم ، قال حدثني عبد الرزاق ابن همام عن أبيه عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ وقد أصحر فتنفس الصعداء ـ فقلت يا رسول الله مالك تنفس؟ قال : يا ابن مسعود نعيت إليّ نفسي. قلت : استخلف يا رسول الله. قال : من؟ قلت : أبا بكر. فسكت ، ثم تنفس ، فقلت : مالي أراك تنفس يا رسول الله؟ قال : نعيت إليّ نفسي ، قلت : استخلف يا رسول الله ، قال : من؟ قلت : عمر بن الخطاب فسكت. ثم تنفس ، فقلت مالي أراك تنفس يا رسول الله؟ قال : نعيت إليّ نفسي. فقلت : استخلف يا رسول الله ، قال : من؟ قلت : علي بن أبي طالب. قال : أوّه ولن تفعلوا إذا أبدا ، والله لئن فعلتموه ليدخلنّكم الجنة وإن خالفتموه ليحبطنّ أعمالكم » (٢).

وفي ( وسيلة المتعبدين للملاّ عمر ) : « عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول

__________________

(١) كشف الظنون ١ / ١٤١.

(٢) المناقب للخوارزمي : ٦٤.

٢٧٠

الله ليلة الجن فتنفس ، فقلت يا رسول الله ما شأنك؟ قال : نعيت إليّ نفسي. قلت : فاستخلف. قال : من؟ قلت : أبا بكر ، قال : فسكت ساعة ثم تنفس فقلت : ما شأنك يا رسول الله ، قال : نعيت إليّ نفسي ، قلت : استخلف قال : من؟ قلت : عمر ، فسكت حتى ذهب ساعة ثم تنفّس. فقلت : ما شأنك؟ قال : نعيت إليّ نفسي. فقلت : استخلف ، قال : من؟ قلت : علي بن أبي طالب. قال : أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلنّ الجنة أجمعون » (١).

وقال شهاب الدين أحمد : « عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه يحكي عن ليلة الجن ... ثم شبّك صلّى الله عليه وسلّم أصابعه في أصابعي وقال : اني وعدت أن يؤمن بي الجن والانس ، فأما الانس فقد آمنت ، وأما الجن فقد رأيت ، وما أظن أجلي إلاّ قد اقترب ، قلت : يا رسول الله ألا تستخلف أبا بكر؟ فأعرض عني ، فرأيت أنه لم يوافقه. قلت : يا رسول الله ألا تستخلف عمر؟ فأعرض عني ، فرأيت أنّه لم يوافقه. قلت : يا رسول الله ألا تستخلف عليا؟ قال صلّى الله عليه وسلّم : ذاك والذي لا إله غيره لو بايعتموه أدخلكم الجنة أجمعين أكتعين. رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة » (٢).

وقال عبد القادر بن محمد الطبري (٣) : « وفي دلائل النبوة عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : استتبعني النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة ، فانطلقت معه حتى بلغت أعلى مكة ، فخطّ عليّ خطة فقال : لا تبرح ، ثم انصاع في الجبال فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤس الجبال حتى حالوا بيني وبينه ، فاخترطت السيف وقلت : لأضربنّ حتى استنقذ رسول الله. ثم ذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك. قال : فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر ، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا قائم فقال : ما زلت على حالك؟ قلت : لو كنت شهرا ما برحت حتى تأتيني ثم أخبرته بما أردت أن أصنع فقال : لو خرجت ما التقيت أنا ولا أنت إلى يوم

__________________

(١) وسيلة المتعبدين ١ / ٢٢١.

(٢) توضيح الدلائل ـ مخطوط.

(٣) ترجمته في خلاصة الأثر ٢ / ٤٥٧.

٢٧١

القيامة. ثم شبك أصابعه في أصابعي وقال : إني وعدت أن يؤمن بي الجن والانس ، فأما الانس فقد آمنت بي ، وأما الجن فقد رأيت وما أظن أجلي إلاّ وقد اقترب. فقلت : يا رسول الله ألا تستخلف أبا بكر؟ فاعرض عني فرأيت أنه لم يوافقه. قلت : يا رسول الله ألا تستخلف عمر؟ فأعرض عني فرأيت أنه لم يوافقه. قلت : يا رسول الله ألا تستخلف عليا؟ قال : ذلك والذي لا إله غيره لو بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنة أكتعين.

وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه أيضا قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة وفد الجنة ، فتنفس ، فقلت : مالك يا رسول الله؟ قال : نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود. فقلت : استخلف. قال : من؟ قلت : أبا بكر ، فسكت ثم مضى ساعة ثم تنفس ، فقلت : ما شأنك بأبي أنت وأمي؟ قال : نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود. قلت : فاستخلف. قال : من؟ قلت : عمر ، ثم مضى ساعة ثم تنفّس فقلت : ما شأنك؟ قال : نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود. قلت : فاستخلف ، قال : من؟ قلت : علي بن أبي طالب. قال : أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلنّ الجنة أجمعين أكتعين.

وبالجملة فعلي بن أبي طالب هو الصديق الأكبر ، وخليفة رسول الله الأطهر ، فعن أبي رافع رضي‌الله‌عنه أنه قال : أتيت أبا ذر أودّعه فقال : إنه ستكون فتنة ولا أراكم إلاّ أنكم ستدركون كونها ، فعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الأعظم ، تفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، وأنت أخي ووزيري وخليفتي في أهلي ، وخير من أخلف من بعدي ، تقضي ديني وتنجز عدتي » (١).

قوله :

« ووجه تخصيص المرتضى بذلك علمه صلّى الله عليه وسلّم عن طريق

__________________

(١) حسن السريرة في حسن السيرة ـ مخطوط.

٢٧٢

الوحي بوقوع البغي والفساد في زمان المرتضى ، وأن بعض الناس سينكرون إمامته ».

أقول :

وهذا الوجه الذي ذكره مخدوش بوجوه :

الاول : إن البغي والفساد وإنكار الامامة لم يكن في زمن سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام خاصة ، بل قد وقع ذلك كلّه في زمن الأول وبلغ أقصى الشدة في زمن الثالث كما هو معلوم ، بل لقد استنكر طلحة وجماعة من الصحابة على أبي بكر استخلافه عمر بن الخطاب أيضا ، أللهم إلاّ أن يقول ( الدهلوي ) بعدم كون هذه الوقائع بغيا وفسادا ، وهذا عين المرام.

والثاني : إن حاصل هذا الوجه ـ مع الالتفات إلى عدم تنصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلافة الثلاثة كما اعترف بذلك ( الدهلوي ) أيضا ـ هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص على خلافة أمير المؤمنين ، لعلمه بوقوع البغي والفساد في زمن خلافته وترك ما كان عليه من التنصيص على خلافة الثلاثة المتقدّمين عليه ، مع وقوع البغي والفساد في زمنهم كذلك ، ولا ريب في علمه بذلك أيضا ... وحينئذ يرد على هذا الوجه ما زعم ( الدهلوي ) وروده على أهل الحق في استدلالهم بحديث الغدير ، من لزوم نسبة التقصير والمساهلة في أمر تبليغ الأحكام والأوامر الإلهية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من جهة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك التنصيص على الثلاثة وخص أمير المؤمنين عليه‌السلام ، مع أن الوجه الذي ذكره لهذا التخصيص موجود بالنسبة إلى أولئك المتقدّمين أيضا.

والثالث : إنه إذا كان ما ذكره هو الوجه في التنصيص على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّ عائشة وطلحة والزبير ومعاوية وأتباعهم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه‌السلام وأفسدوا عليه الأمر وأنكروا إمامته خارجون عن دين الإسلام ، وهذا ما يبطل مذهب أهل السنة ويهدم أساس اعتقاداتهم ، فلا مناص

٢٧٣

( للدهلوي ) من رفع اليد عن هذا الوجه الذي ذكره أو الالتزام بما يترتب عليه.

(٧) التشكيك في دلالة صدر الحديث

قوله :

« ومن الطريف أن بعض علمائهم تمسك لإثبات أن المراد من المولى هو الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الحديث ، وهو قوله : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ».

أقول :

كأنّ ( الدهلوي ) يزعم أن الاستدلال بصدر الحديث يختص بالامامية ، فيشكك في دلالته على الأولويّة بالتصرف غير مبال بصرف الكلام الإلهي عن مدلوله الحقيقي ، إلا أنك قد عرفت سابقا تمسّك سبط ابن الجوزي والسيد شهاب الدين أحمد بصدر الحديث.

والجدير بالذكر هنا أن ( الدهلوي ) يناقش في دلالة صدر الحديث على مطلوب أهل الحق ، ولا ينكر ثبوته وصدوره من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... خلافا للفخر الرازي وبعض مقلّديه الذين حملتهم العصبية العمياء إلى المناقشة في صدوره.

قوله :

« فيعود الاشكال بأنهم متى سمعوا لفظ ( الأولى ) حملوه على ( الاولى بالتصرف ) ».

أقول : إن هذه الجملة من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأخوذة ـ باعتراف ( الدهلوي ) ـ من قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وقد نصّ أئمة التفسير وجهابذة المحققين على أن المراد في هذه الآية هو الأولوية في جميع الأمور ، فيكون هذا المعنى هو المراد في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكور ، وإذا ثبتت الأولوية في جميع الأمور ثبتت الأولوية بالتصرف بالبداهة.

٢٧٤

وهو المطلوب.

قوله :

« فما الدليل على هذا الحمل في هذا المورد؟ ».

أقول :

لا بدّ من حمل هذا اللفظ على ( الأولى بالتصرف ) بالضرورة ، لأن ( الأولى ) محمول حسب تصريحات أئمة القوم على العموم ، أي : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم في جميع الأمور ، كما نصّ على ذلك أئمة التفسير في تفسير ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وذكروا دلالة الآية المباركة على لزوم نفوذ أوامره في حق المؤمنين ووجوب إطاعتهم له على كلّ حال ، وحينئذ يثبت لأمير المؤمنين عليه‌السلام كلّما ثبت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآية المباركة ، بنص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وهذا هو معنى الامامة والخلافة.

قوله :

« بل المراد هنا أيضا هو : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة ».

أقول :

ما الدليل على هذا التقييد؟ أليس هو من التفسير بالرأي المنهي عنه بالإجماع؟ وبالجملة ، فهو يخالف تصريحات كبار أئمة التفسير من علماء طائفته ، فلا عبرة بما ذكر ولا يصغى إليه.

قوله :

« بل إن ( الأولى ) هاهنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة ، يعني ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم ».

أقول :

ما أسرع ذهول ( الدهلوي ) وشدة غفلته عما ذكره آنفا!! أما قال في مقام تخطئة مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) بأنه إذا جاز ذلك لزم جواز أن يقال ( فلان مولى منك ) بدل ( فلان أولى منك ) قال : وهو باطل

٢٧٥

بالإجماع؟!

فكيف يفسر ( ألست أولى بالمؤمنين ... ) بقوله : ( ألست أحب إلى المؤمنين ... ) مع أنه إذا كان ( الأولى ) بمعنى ( الأحب ) لزم جواز أن يقال ( أولى إليكم ) كما يقال ( أحب إليكم )؟!

والواقع أن تفسير ( الأولى ) ب ( الأحب ) بالاضافة إلى أنه يناقض كلامه السابق مردود بأنه غير مناسب للمقام وغير منسبق إلى الأذهان.

قوله :

« حتى يحصل التلائم بين أجزاء الكلام والتناسق بين جمله ».

أقول :

إن نظم هذا الكلام وتناسق أجزائه وجمله يكون في صورة إرادة معنى الامامة والأمارة منه كما عرفت من المباحث السابقة ، وإلاّ يلزم أن ننسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحسان بن ثابت ، وقيس بن سعد بن عبادة وكبار علماء أهل السنة ، الذي فسّروا الحديث بالامامة والخلافة ، إخراج كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن النظم والتنسيق إلى الركاكة والاختلاط ، ولا نجد مسلما يتجاسر على هذه النسبة إلاّ ( الدهلوي ).

وأما كلمات علماء أهل السنة الذين فسّروا حديث الغدير بإرادة الخلافة فقد تقدّمت نصوصها ، ونكتفي هنا بذكر كلمة شهاب الدين الدولت آبادي حيث قال : « واحتجوا بخبر المولى. وتمام الحديث ذكرناه في الجلوة الخامسة من الهداية التاسعة. قال أهل السنة يحمل في وقت خلافته ».

فإنّ هذه العبارة ظاهرة في أن أهل السنة يرون دلالة حديث الغدير في الامامة والخلافة ، ثم إنهم يحملونها على الخلافة في وقت خلافته ، أي في المرتبة الرابعة بعد عثمان ، وقد ذكرنا عدم الدليل على هذا التقييد بل بطلانه بوجوه عديدة ، فكلمات ( الدهلوي ) في صرف دلالته على الامامة والخلافة باطلة على كلّ حال.

قوله : « ويكون حاصل معنى هذه الخطبة : يا أيها المسلمون عليكم أن

٢٧٦

تجعلوني أحب إلى أنفسكم من أنفسكم ، وإن من يحبني يحب عليا ، اللهم أحب من أحبه وأبغض من أبغضه ».

أقول :

من الغريب جدا فرار ( الدهلوي ) عن بيان المعنى الذي يزعمه للفظة ( المولى ) في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من كنت مولاه فعلي مولاه » بعد نفيه دلالته على ( الأولى ) مكابرة وعنادا للحق وأهله ... ففي كلماته السابقة اكتفى بالقول بأن ( الولاية ) هي بمعنى ( المحبّة ) ساكتا عن المعنى المراد من ( المولى ) أهو ( المحب )؟ أو ( المحبوب )؟ وهنا يكتفي ببيان حاصل معنى الخطبة حسب زعمه!!.

إن جعل ( الدهلوي ) لفظة ( المولى ) بمعنى ( المحب ) فواضح أنه ليس معنى « من كنت مولاه فعلي مولاه » ما ذكره من أن من أحبني فقد أحب عليا ، بل يكون المعنى بالعكس ، وهو أنه يجب على أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يحب الآخرين.

وإن جعل ( المولى ) بمعنى ( المحبوب ) فلا بدّ أولا من أن يثبت مجيء ( المولى ) بهذا المعنى من كلمات أئمة اللغويين ، بحيث لا يرد عليه ما زعموا وروده على كونه بمعنى ( الأولى ) ، ثم يدّعي كون حاصل معنى الخطبة ما ذكره.

قوله : « وكل عاقل يصدّق بصحة هذا الكلام وحسن انتظامه ».

أقول :

نعم ينبغي للعاقل أن يتأمل في مدى تعصب ( الدهلوي ) وعناده للحق ، فهو يدعي بطلان ما يذكره أهل الحق بالاستناد إلى الأدلة القويمة والبراهين القاطعة ، ثم يدعي إفادة « من كنت مولاه فعلي مولاه » معنى لا سبيل إلى إثباته إن جعل ( المولى ) فيه بمعنى ( المحبوب ) ، لعدم مساعدة اللغة ، وان جعله بمعنى ( المحبوب ) فهو يفيد عكس ما ذكره ، فمن أين يثبت هذا الذي ذكره؟!

على أنك قد عرفت رواية السيد علي الهمداني الحديث بلفظ : « ألست أولى بكم من أنفسكم آمركم وأنهاكم ليس لكم عليّ أمر ولا نهي؟ » فإنه صريح في أن المراد من ( المولى ) هو ( الأولى ) بالمؤمنين من أنفسهم بالتصرف والأمر والنهي.

٢٧٧

قوله : « وإن قول النبي : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم مأخوذ من الآية القرآنية ، ومن هنا جعل هذا المعنى من المسلّمات لدى أهل الإسلام ، وفرّع عليه الحكم اللاحق له ».

أقول :

إنّا نحمد الله ونشكره على إلجائه ( الدهلوي ) على الاعتراف بهذا الأمر الذي يقوله أهل الحق ويثبت على ضوئه مطلوبهم ، فإن هذه الفقرة لمّا كانت مأخوذة من الآية المباركة ، وقد عرفت دلالتها على الأولوية بالتصرف في عامة الأمور حسب تصريحات جهابذة المحققين من أهل السنة ، تكون قرينة على أن المراد من « من كنت مولاه فعلي مولاه » نفس ذلك المعنى ، وهو الأولوية بالتصرف في جميع أمور المؤمنين عامة.

فاعترافه المذكور ينتهي إلى الاستدلال المطلوب لأهل الحق. ولله الحمد. قوله : « ولقد وقع هذا اللفظ في القرآن في موقع لا يصح أن يكون معناه الأولى بالتصرف أصلا ... ».

أقول :

إن كلام ( الدهلوي ) هذا من أقوى الشواهد على متابعته للكابلي في خرافاته التي سطرها في كتابه ، فلم يراجع كتب الحديث والتفسير ، ولم يلاحظ كلمات أئمة طائفته في تفسير الآية المباركة هذه ، وكان أكبر همّه وأكثر سعيه مصروفا إلى الردّ على استدلالات أهل الحق ، مع التعسف والمكابرة وإنكار الحقائق الراهنة.

وإنا نقول هذا وننّبه عليه حتى لا يغتّر الناظرون في كتابه ، من أوليائه ومقلّديه وغيرهم بما تفوّه به وسطرته يده تبعا لهواه ، بل يجب عليهم التفحّص والتوقّف والدقة والتأمل ، ثم الأخذ بما يقتضيه الإنصاف وتساعده الأدلة والبراهين.

وبعد ، فقد عرفت من كلمات أئمة القوم وأكابر المفسرين كالواحدي ، والبغوي ، والزمخشري ، والبيضاوي ، والنسفي ، والخوئي ، والنيسابوري ، والشربيني : أن المراد من الأولوية في الآية المباركة ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أولوية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمؤمنين في جميع الأمور ، وفي

٢٧٨

وجوب الطاعة ونفوذ الحكم ولزوم الانقياد والاتباع ...

وكما أنّ ( الدهلوي ) غفل أو تغافل عما قاله المفسّرون في تفسير الآية ، كذلك غفل أو تغافل عما قاله المحدّثون وشرّاح الحديث : كالعراقي ، والعيني ، والقسطلاني ، والمناوي ، والعزيزي ...

فنعوذ بالله من شرور أنفسنا وغفلاتها وحصائد ألسنتنا وهفواتها.

قوله :

« فإنّ سوق هذا الكلام هو لنفي نسبة المتبنى الى المتبني ، ولبيان النهي من أن يقال لزيد بن حارثة : زيد بن محمد ... ».

أقول :

إن سوق هذا الكلام هو لتخديع العوام ، وهو من التفسير بالرأي الوارد فيه الوعيد الشديد من النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فقد عرفت أن هذه الآية ـ حسب الرواية التي رواها البغوي والبيضاوي ـ واردة في شأن من لم يمتثل أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجهاد ، إلاّ أن يأذن لهم آباؤهم وأمهاتهم ...

فليس شأن نزول الآية ما ذكره ( الدهلوي ).

ولو سلّمنا ارتباط هذه الآية بما تقدم عليها ، فإنه ليس المراد ما اخترعه ( الدهلوي ) من المعنى ، بل إنه حينئذ لدفع أمر مقدر ، ومحمول على المعنى الذي تعتقده الشيعة الامامية ، كما عرفت من تقرير أحمد بن خليل ونظام الدين النيسابوري.

قوله :

« ولا دخل للأولى بالتصرف في المقصود في هذا المقام. فكذلك الأمر في الحديث ، والمراد في الآية هو المراد فيه ».

أقول :

هذا الكلام مخدوش بوجوه :

الأول : إنه ليس هذا الكلام إلاّ معاندة ومكابرة ، فأيّ مناسبة وارتباط أقوى وأوضح من هذا الكلام ، وهو أن يثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأولوية لنفسه بالتصرف في أمور المؤمنين من أنفسهم ثم يقول : فمن كنت مولاه

٢٧٩

ـ أي أولى بالتصرف في أموره من نفسه ـ فعلي مولاه أي أولى بالتصرف في أموره منه؟ إن هذا الكلام في غاية المتانة والانتظام ، وإلاّ فلا يوجد في العالم كلام متناسقة ألفاظه ومترابطة جمله أبدا.

الثاني : لقد نصّ حسام الدين السهارنبوري على كون صدر الحديث قرينة على إرادة معنى ( الأولى ) من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ». فمن العجب أن يقلّد ( الدهلوي ) هذا الرجل في مواضع ، وينتحل خرافاته في بعض الأبحاث ، ثم يدعي في هذا الموضع خلاف ما نص عليه السهارنبوري ، وكأنه أشدّ منه تعصبا واكثر عنادا للحق وأهله!!

الثالث : لقد عرفت سابقا أن سبط ابن الجوزي يستند إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ... » في حمل ( المولى ) على ( الأولى ) في قوله : « من كنت مولاه فعلي مولاه ».

الرابع : لقد عرفت سابقا أن السيد شهاب الدين أحمد صاحب ( توضيح الدلائل ) نقل عن بعض العلماء أنه جعل قوله : « ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين » قرينة على إرادة معنى ( السيد ) من ( المولى ) ثم وافقه على ذلك.

الخامس : لقد أثبتنا سابقا لزوم حمل ( المولى ) في « من كنت مولاه فعلي مولاه »

على المعنى المراد من « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » بنص حديث صحيح أخرجه الحاكم في ( المستدرك ) فلاحظ.

السادس : لقد جاء في بعض طرق حديث الغدير لفظ « من كنت مولاه أولى به من نفسه » بدل « من كنت مولاه » ، فقد قال البدخشاني في ( مفتاح النجا ) : « وللطبراني برواية أخرى عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم بلفظ : من كنت أولى به من نفسه فعلي وليّه ».

وذكر سبط ابن الجوزي والسيد شهاب الدين أحمد عن أبي الفرج يحيى بن سعيد الثقفي في ( مرج البحرين ) أنه روى حديث الغدير بلفظ « من كنت وليه وأولى به من نفسه فعلي وليه ».

فظهر أن المراد من هذا القول نفس المراد من « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » فلا يرتكب الفصل والتفريق إلاّ من يستنكف عن الايمان والتصديق والله ولي التوفيق.

٢٨٠