تراثنا ـ العددان [ 115 و 116 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 115 و 116 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٤٧٨

قال : فما بال فاطمة سألتها البيّنة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده ، ولم تسأل المسلمين البيّنة على ما ادّعوه شهوداً كما سألتني على ما ادّعيت عليهم ؟

فسكت أبو بكر ، فقال عمر : يا عليّ ! دعنا من كلامك ، فإنّا لا نقوى على حجّتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلاّ فهو فيء للمسلمين ، لا حقّ لك ولا لفاطمة فيه.

قال عليٌّ : يا أبا بكر ! تقرأ كتاب الله ؟

قال : نعم.

قال : أخبرني عن قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فينا نزلت أو في غيرنا ؟

قال : بل فيكم.

قال : فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) بفاحشة ، ما

كنت صانعاً بها ؟

قال : كنتُ أقيم عليها الحدّ كما أقيمه على نساء المسلمين.

قال : إذن كنت عند الله من الكافرين.

قال : ولِمَ ؟

قال : لأنّك رددتَ شهادة الله لها بالطهارة ، وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدكاً قد قبضَتْها في حياته ،

١٢١

ثمّ قبلت شهادة أعرابيٍّ بائل على عقبيه(١) عليها ، وأخذت منها فدكاً وزعمت أنّه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : (البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه) ، فرددتَ قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) : (البينة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعي عليه).

قال : فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض وقالوا : صدق والله عليّ بن أبي طالب...»(٢).

إنّ دعاة «لا حكم إلاّ لله» و«حسبنا كتاب الله» و«بيننا وبينكم كتاب الله» كانوا يريدون أن يستغلّوا القرآن الذي هو حمّال ذو وجوه لضرب العترة ، والقول بأنّهم أخطؤوا في مواقفهم وضلّوا عن السبيل ـ والعياذ بالله ـ.

وكذا اطروحتهم في جمع القرآن ، فإنها قد جاءت في السياق نفسه

__________________

(١) إشارة إلى مالك بن أوس بن الحدثان النضري الذي لم تكن له صحبة ، ومع ذلك روى أكثر من رواية عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وقد اتّهمه ابن خراش بوضع حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة» انظر تاريخ البخاري ٧ / ٣٠٥ / الترجمة ١٢٩٦ ، قال : وقال بعضهم له صحبة ولم يصحّ ، والجرح والتعديل ٨ / ٢٠٣ / الترجمة ٨٩٦ ، قال : ولا يصحّ له صحبة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والثقات لابن حبّان ٥ / ١٣٨٢ / الترجمة ٥٣٠٨ ، قال : ومن زعم أنّ له صحبة فقد وهم ، وذكره ابن سعد في طبقة من أدرك النبيّ (صلى الله عليه وآله) ورآه ولم يحفظ عنه ، طبقات ابن سعد ٥ : ٥٦ ، الكامل في الضعفاء ٤ / ٣٢١ / الترجمة ١١٥٥ ، عن ابن خراش حديث لا نورّث ما تركناه صدقة باطل ، وانظر لسان الميزان ٣ / ٤٤٤ / الترجمة ١٧٣٢ ، ميزان الاعتدال ٤ / ٣٣٠ / الترجمة ٥٠١٤.

(٢) الاحتجاج ١ / ١٢١ ، ١٢٣ ، تفسير القمّي ٢ / ١٥٥ ـ ١٥٧.

١٢٢

لكن بمرونة وتقعيد قواعد باطله.

هذا ونحن في القسم الثاني من هذا البحث ـ وعند مناقشتنا لروايات التحريف ـ سندرس ملابسات هكذا أُمور أكثر ممّا مضى وسيقف المطالع على جذورها ، وكيف دخلت تلك الروايات في كتب الحديث.

ولا يخفى عليك بأنّ ما قلناه عن منهج الخلفاء في جمع القرآن لم يضرّ بأصل القرآن الكريم ، ولم يضرّ بأهل البيت عليهم‌السلام الذين هم عدل الكتاب العزيز أيضاً ؛ لأنّ الإمام وبصائب رأيه كان يؤكّد على القرآن الموجود ولا يرتضي التشكيك فيه ، وإن كان يُخطِّىءُ تصرّفات مخالفيه ـ من الخلفاء ـ في فهمهم لمسائل الشريعة وقراءتهم للقرآن قراءة خاطئة.

وللإمام عليٍّ بن أبي طالب كلامان جميلان جاء أحدهما بعد سماعه أمر الحكمين ، والآخر بيّن فيه أحكام الدين كاشفاً ماوقع فيه الخوارج من شبهة ، أذكرهما كنصّين دالّين من عدم اعتقاد الإمام عليّ عليه‌السلام بتحريف كتاب الله الموجود بيد الناس اليوم ؛ لأنّه لو كان يقول بتحريف ذلك الكتاب لما قال بهذه الأقوال ، خصوصاً وأنّه قالها بعد مقتل عثمان بن عفّان ، ونشره المصاحف في الأمصار.

* فقال عليه‌السلام بعد سماعه أمر الحكمين :

«إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا القُرآنَ ، هذا القُرْآنُ إنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ ، لا يَنْطِقُ بِلِسَان ، وَلابُدَّ لَه مِنْ تَرْجُمَان ، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ. وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إلَى أنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا القُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ

١٢٣

عَنْ كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ : «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ» فَرَدُّهُ إِلى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتابِهِ ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ ، فَإِذا حُكِمَ بِالصِّدْقِ في كِتَابِ اللهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ ، وَإِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلاَهُمْ بِهَا»(١).

* وقال عليه‌السلام وهو يكشف للخوارج شبهتهم وينقض حكم الحكمين : «فإِنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنّي أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ ، فَلِمَ تُضَلِّلَونُ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله) بِضَلاَلي ، وَتَأْخُذُونَهُمُ بِخَطَئي ، وَتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبي ! سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَواضِعَ الْبُرْءِ وَالسُّقْمِ ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله) رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ ، وَقَتلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ ، وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ ، ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْءِ ، وَنَكَحَا الْمُسْلِماتِ ، فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَقَامَ حَقَّ اللهِ فِيهمْ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الإسْلاَمِ ، وَلَمْ يُخْرِجْ أسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ ، ثُمَّ أنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ ، وَمَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ ! وَسَيَهْلِكُ فِيّ صِنْفَانِ : مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلى غَيْرِ الْحَقِّ ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطُ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ ، وَخَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالاً النَّمَطُ الاَْوْسَطُ فَالْزَمُوهُ ، وَالْزَمُوا السَّوَادَ الأَعْظَم فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ! فَإنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطانِ ، كَمَا أنَّ الشَّاذَّ مِنَ

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٥ ح ١٢٥ من كلام له عليه‌السلام في التحكيم.

١٢٤

الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ ، أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الشِّعَارِ فَآقْتُلُوهُ ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ ، فَإنَّمَا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا آلْقُرْآنُ ، وَيمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ ، وَإِحْيَاؤُهُ الاِجْتِمَاعُ عَلَيْهِ ، وَإِمَاتَتُهُ آلاِفْتِرَاقُ عَنْهُ. فَإنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ ، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا»(١).

بهذا فقد عرفنا أنّ ما قالوه عن أبي بكر من أنّه أوّل من جمع القرآن قول باطل لا يتفّق مع الحقائق العلمية والرؤية التاريخية ، كما أنّ (المصحف الإمام) المتداول بين المسلمين لم يكن مصحف أبي بكر ، ولا مصحف عمر ، ولا حتّى مصحف عثمان ، بل هو المصحف المتواتر بين المسلمين والذي كان يقرأ به المسلمون في آناء الليل وأطراف النهار وهو الموجود خلف فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله) والذي جمعه أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وهو المقروء سوره في صلاتهم.

ولا أنكر إمكان اختلاف مصحف الإمام عليّ عليه‌السلام مع المصحف الموجود في الترتيب والقراءة من زيادة ونقصان في الحركات والأبنية والحروف ، أو تقديم وتأخير(٢) في بعض الأحيان ، لأنّ الاختلاف في ترتيب مصاحف الصحابة شيء يقرّه الجميع ، وهو لا يعني بطلان الكتاب العزيز أو وقوع

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٨ ح ١٢٧ من كلام له عليه‌السلام للخوارج.

(٢) فيقتلون بفتح ياء المضارعة مع بناء للفاعل في إحدى الكلمتين وبظمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى.

١٢٥

التحريف فيه.

فقد قال القيسي (ت ٤٣٧ هـ) في كتابه الإبانة عن معاني القراءات عن سبب جمع عثمان للقرآن في مصحف واحد :

«إنّ الصحابة كانوا يختلفون في قراءاتهم بألفاظ مختلفة في السمع لا في المعنى ، وفي السمع والمعنى(١) ، مخالفة للخطّ وغير مخالفة بزيادة ونقص(٢) ، وتقديم وتأخير ، واختلاف حركات وأبنية ، واختلاف حروف ، ووضع حروف في موضع أحرف أخرى»(٣).

وقال الأُستاذ عزّة دروزة :... ثانياً أنّ هناك روايات كثيرة عن وجود اختلاف في ترتيب مصاحف بعض الصحابة وعن كلمات زائدة ، كتبت في بعض المصاحف ولم تكتب في المصحف المتداول ، وعن آيات كانت تقرأ ولم تكتب كذلك هي هذا المصحف ، ممّا يفيد أنّ النبيّ توفّي ولم يكن القرآن قد جمع ورتّب أيضاً :

١ ـ فمن الروايات التي أوردها السيوطي نقلا عن كتب علماء القرآن والمصاحف : أنّه كان لكلّ من أبيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود ـ وهما صحابيّان وعالمان في القرآن ـ مصحف ، وأنّ ترتيب سُوَر كلٍّ منهما مغاير

__________________

(١) كقراءة (يسيركم وينشركم) أو قراءة (لمستم أو لامستم).

(٢) مثل : (وما خلق الذكر والأنثى) أو (والذكر والأنثى) بنقص لفظ (ما خلق).

(٣) مثل : طلح منضود وطلع منضود ، الإبانة عن معاني القراءات للقيسي : ٥٠ كما في نصوص في علوم القرآن ٣ / ٢٠٨.

١٢٦

لترتيب الآخر من جهة ومغاير لترتيب سُوَر المصحف العثماني المتداول من جهة أخرى ، وأنّ في أحدهما زيادة وفي أحدهما نقصاً ، وأنّ المصحفين ظلاّ موجودين يقرآن إلى ما بعد عثمان بمدّة طويلة.

وقد نقل السيوطي كلاًّ من الترتيبين عن كتاب المصاحف لابن أشتة ، وفي مصحف أبي سورتان صغيرتان زائدتان عن سُوَر المصحف ، واحدة اسمها سورة الحفد وهذا نصّها : «اللهمّ إيّاك نعبد. ولك نصلّي ونسجد. إليك نسعى ونحفد ونخشى عذابك. ونرجو رحمتك. إنّ عذابك بالكفّار ملحق». والثانية اسمها سورة الخلع وهذا نصّها : «اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك».

وقد أخرج الطبرانى بسند صحيح عن أبي إسحاق على ما ذكره السيوطي : أنّ أمية بن خالد أمّ الناس فى خراسان ، فقرأ بسورتي الحفد والخلع. وهذا كان بعد عثمان بمدّة طويلة.

وممّا أورده السيوطي أنّ سورتي الفيل وقريش في مصحف أبي سورة واحدة ، وأنّ سورتي الضحى والإنشراح في مصاحف بعض الصحابة سورة واحدة كذلك.

أمّا مصحف ابن مسعود فليس فيه على ما رواه أولئك الرواة سور الفاتحة والمعوّذتين ، ومن المرويّ كذلك أنّه كان يحكّ المعوّذتين ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله.

١٢٧

وأخذ يورد الروايات الواحدة تلو الأخرى حتّى أوصلها إلى رقم ٢١(١).

ويؤيّده ما قالوه من وجود خصائص لمصحف عثمان ، وأنّه كتب بشكل يتّفق مع جميع القراءات ، ومعنى كلامهم هو وجود قراءات أخرى للصحابة غير قراءة المصحف المتداول اليوم ، وهي لأمثال أُبي بن كعب وابن مسعود وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

كما أنّهم قالوا بأنّ المصاحف لم تنقّط في عهد عثمان للحفاظ على اختلاف مصاحف الصحابة حتّى جاء الحجّاج بن يوسف ، فهو أوّل من نقّط القرآن بأمر عبدالملك بن مروان ، ولهذا الكلام تفصيل قد نتعرّض له في القسم الثاني من دراستنا هذه ، عند مناقشتنا لروايات التحريف عند الفريقين إن شاء الله تعالى.

وللبحث صلة...

__________________

(١) نصوص في علوم القرآن ٣ / ٤٢٩ ـ ٤٣٣ عن كتاب القرآن المجيد لعزة دروزة.

١٢٨

النظرية الحديثية

في المدرسة الإمامية

(١)

السـيّد زهير طالب الأعرجي

بسم الله الرحمن الرحیم

توطئة

يعتبر الحديث الشريف ـ روايةً ودرايةً ، سنداً ومتناً ، نقلاً وضبطاً ـ ثاني مصادر التشريع في الإسلام ، وقد صان الله سبحانه وتعالى الحديث الشريف كما صان القرآن الكريم ، فالقرآن الكريم كلام الخالق عزّ وجلّ مصون بين الدفّتين كما وعد تعالى : (إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُوْنَ) (١) ، بينما صان اللهُ تعالى السنّة الشريفة ـ قولاً وفعلاً وتقريراً ـ عن طريق أئمّة أهل بيت النبوة عليهم‌السلام ، كما أشار الإمام الحسن عليه‌السلام إلى ذلك قائلاً : «إنّ العلم فينا ، ونحن أهله ، وهو عندنا مجموعٌ كلّه بحذافيره»(٢).

فكان العلمُ فيهم مصاناً من التحريف والتزوير ، وهم أهله وأمناؤه. ولا يمكن أن يفهم الإسلام كدين سماوي إلاّ بإطار الصيانة الإلهية للقرآن الكريم والسنّة الشريفة.

__________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) الاحتجاج : ١٥٥.

١٢٩

الفصل الأوّل

الحديث الشريف بين المشافهة والكتابة

لاشكّ أنّ للحديث الشريف مكانة سامية في الإسلام ، فالحديث الشريف هو ثاني مصادر الاعتقاد والتشريع الإسلامي بعد القرآن المجيد ، وإذا كان القرآن يعرض المعارف الإلهية والأحكام الشرعية فإنّ السنّة المطهّرة تفصّلها وتوضّح مبهماتها ، وقد أمر القرآن الكريم بالأخذ بالسنّة الشريفة ، فقال : (... وَمَا آتَاكُمُ الرّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١).

طرق نقل الحديث :

وكان للحديث الشريف أن يُنقل من جيل إلى آخر ، فكان هناك طريقان لنقل الحديث وهما : ١ ـ المشافهة ، ٢ ـ الكتابة ، والطريقان يشتركان في وحدة الموضوع وهو نقل الحديث الشريف عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام.

إذن ، نبحث هنا الحديث الشريف : أ ـ من الناحية التأريخية. ب ـ

__________________

(١) الحشر : ٧.

١٣٠

من ناحية (علم الدراية).

أ ـ الحديث الشريف من الناحية التأريخية :

ويشمل : ١ ـ المشافهة ، ٢ ـ الكتابة.

١ ـ المشافهة :

وهي انتقال الروايات شفهياً من شخص إلى آخر في زمن النصّ. أو بتعبير آخر : نقل الرواية عن المعصوم عليه‌السلام دون كتابة ، فالكلمات وما يتبعها من معان تنتقل عن طريق أفواه المتكلّمين لتستقرّ في أذهان المخاطَبين ، مثلاً عندما يحفظ أبو ذر رضي‌الله‌عنه حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فإنّما يحفظه عن طريق الإصغاء والنقل ، وتلك هي : المشافهة.

حيث كان العرف الثقافي في زمن النصّ هو المشافهة ، فكان المسلمون يسألون النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وكان يجيبهم شفاهاً ، والقرآن الكريم يتنزّل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكانوا يحفظونه عن ظهر قلب ، وكذلك أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله). وكانت قابلية الناس على الحفظ قوية إلى درجة أنّهم كانوا يحفظون قصائد الشعر الطويلة قبل الإسلام ، ويحفظون القرآن الكريم والسنّة الشريفة بعد الإسلام.

قال المحقّق الحلّي (ت ٦٧٦ هـ) : «الألفاظُ التي تُعلم نسبة الخبر بها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو أحد الأئمّة عليهم‌السلام أربع مراتب : الأولى : أن يقول : (أسمعني رسول الله صلّى الله عليه وآله) ، أو (شافهني) ، أو (حدّثني) ، ويلي ذلك في القوّة أن يقول : (قال رسول الله صلّى الله عليه وآله) ، أو

١٣١

(سمعتُ منه) ، أو (حدّث) ، ويلي ذلك أن يقول : (أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله) ، ويليه أن يقول : (رويتُ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله)» (١).

خصوصيّات المشافهة :

ولا شكّ أنّ نقل الحديث عن طريق المشافهة له خصوصيّات تفتقدها الكتابة ، ومنها :

١ ـ تجسيد ناقل الرواية لتعابير المعصوم عليه‌السلام ، فإذا كانت الرواية تعكس حالة الغضب أو الألم للمرويّ عنه مثلاً ، كان الناقل شفهيّاً للرواية أقرب إلى تجسيد حالة المرارة. وإذا كانت الرواية تعكس أمراً وجوبيّاً فيه تشديد ، كان الناقل شفهيّاً للرواية أقرب إلى تجسيد حالة التأكيد والجزم. وإذا كانت الرواية تعكس حالة الزجر والتوبيخ ، كان الناقل شفهياً للرواية أقرب إلى تجسيد تلك الحالة ، وهكذا.

٢ ـ إنّ مفردات الرواية المكتوبة ـ أحياناً ـ لا تُظهر الحالة الحقيقية للمعاني ، خصوصاً عندما تُفْتَقَد حركات الكلمات التي تشخص المعاني. مثل : (أسند) ، فمرّة يقرأ بصيغة المعلوم وأخرى بصيغة المجهول. وحالة الطهارة بعد القُرئ بالنسبة للمرأة ، فمرّة يُقرأ (يطهُرْن) وأخرى (يطّهّرنّ) ، وأنت أعلم بالفرق بين المعنيين وآثاره. بينما يقوم الراوي عن طريق المشافهة بذكر الكلمة بصورتها الصحيحة التي سمعها.

إلاّ أنّ الإقتصار على الثقافة الشفهية له آفات خطيرة ، منها :

__________________

(١) معارج الأصول : ١٥٢.

١٣٢

١ ـ النسيان. فالإنسان له قابلية محدودة على حفظ النصوص ، خصوصاً بعد تقادم الزمان ، وما يتبعه من ضعف للضبط والتذكّر.

٢ ـ سهولة الوضع وتغيير النصوص. فيزدهر الوضع والتدليس عندما تبقى النصوص بعيدة عن التدوين والتوثيق.

٣ ـ موت المحفوظ بموت الحافظ.

ولذلك كانت الكتابة أحفظ في نقل السنّة الشريفة من المشافهة.

٢ ـ الكتابة :

وهي تدوين السنّة الشريفة زمن النصّ. والقوم وإن ذمّوا تدوين السنّة لسبب ما ، إلاّ أنّ الكتابة وأداتها (القلم) من أعظم النعم الإلهية على الإنسان ، وبه أقسم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : (ن. وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُوْنَ) (١). ووصف تعالى نفسه : بـ (... الّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم) (٢).

ومن مقتضى ذلك أن أدّب اللهُ عباده بالكتابة في الأمور المهمّة أو الخطيرة ، فقال : (وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوْهُ صَغِيْراً أَوْ كَبِيْرَاً إلى أَجَلِهِ ، ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ ، وَأَدْنَى ألاّ تَرْتَابُوا) (٣).

فإذا كانت الكتابة في العقود والديون والوصايا أقرب إلى الشهادة

__________________

(١) القلم : ١.

(٢) العلق : ٤ ـ ٥.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

١٣٣

بالمشهود ، والإطمئنان بالوقائع وعدم الارتياب ، فإنّ سنّة النبيّ(صلى الله عليه وآله) أولى أن تُكتب حتّى ترتفع كلّ وجوه الارتياب والظنّ ، ويُحفظ الدين ويُحتاط عليه من عاديات الزمن.

دليل جواز كتابة الأحاديث النبوية :

ومن الطبيعي فإنّ العقل والشرع يجيزان تدوين السنّة الشريفة زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو من بعده ، وهنا لابدّ من استعراض بعضاً من الروايات والشواهد التي تضعنا في مشهد الكتابة وجوازها ، بل وجوبها أحياناً ، ومن ذلك الروايات التالية :

١ ـ أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن تُكتَب خطبته الشريفة عند فتح مكّة ، حين طلب رجل من أهل اليمن ـ (أبو شاه) ـ أن يكتبوا له الخطبة ، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله) : «اكتبوا لأبي شاه»(١).

٢ ـ روى أبو رافع بن خديج ، قال : «قلتُ : يا رسول الله ، إنّا نسمعُ منك أشياء ، أفنكتبها؟ قال : اكتبوا ولا حرج»(٢).

٣ ـ عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : «كنتُ أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأريد حفظه ، فنهتني قريش ، وقالوا : تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ ورسول الله(صلى الله عليه وآله) بشر يتكلّم في الرضا والغضب!! قال : أمسكتُ ، فذكرتُ ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال : اكتب ، فوالذي نفسي

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ٤٠ ـ ٤١.

(٢) تقييد العلم :

١٣٤

بيده ما خرج منه إلاّ حقّ. وأشار بيده إلى فيه»(١).

٤ ـ عبد الله بن عمرو بن العاص سأل النبيّ(صلى الله عليه وآله) : «يا رسول الله ، إنّا نسمع منك أشياءً لا نحفظها ، أفنكتبها؟ قال : بلى ، فاكتبوها»(٢).

٥ ـ عن أبي هريرة : «ما كان أحد أكثر حديثاً منّي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنّه كان يكتب ولم أكن أكتب»(٣).

٦ ـ عن أبي هريرة أيضاً قال : «كان رجلٌ من الأنصار يجلس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيسمع من النبيّ(صلى الله عليه وآله) الحديث ، فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقال : يا رسول الله ، إنّي لأسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : (استعن بيمينك) وأشار بيده إلى الخطّ»(٤).

٧ ـ أخرج القندوزي الحنفي (ت ١٢٧٠ هـ) عن (فرائد السمطين) للجويني الشافعي (ت ٧٣٠ هـ) بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن جدِّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : يا علىّ ، اكتب ما أُملي عليك.

قلتُ : يا رسول الله ، أتخاف عَلىَّ النسيان؟ قال : لا ، وقد دعوتُ اللهَ عزّ وجلّ أن يُحفِّظك ولا يُنَسِّيك ، ولكن اكتب لشركائك.

قلتُ : ومن شركائي يا نبىّ الله؟

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ١٦٢.

(٢) تقييد العلم : ٧٤.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٣٦ باب كتابة العلم.

(٤) سنن الترمذي ٥ / ٣٩ رقم ٢٦٦٦.

١٣٥

قال : الأئمّة من ولدك...»(١).

ومفهوم الرواية أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم يكن يخش النسيان على علىّ عليه‌السلام ، بل كان يخشى على أمّته أن تترك أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام والعلم المودع فيهم ، وتذهب بها المذاهب ، فكتابة عليٍّ عليه‌السلام شهادة على صدق واقع النبوّة ، وتوثيق لصحّة المنبع وثرائه.

مصاديق الكتابة الحديثية :

وكان من أوائل من اهتمّ بحديث النبيِّ(صلى الله عليه وآله) بعد أمير المؤمنين أصحاب عليٍّ عليه‌السلام الذين يُطلق عليهم أحياناً بالأركان الأربعة. وهؤلاء خالفوا القوم في مسألة الخلافة ، ولم يأخذوا برخصة التقية ، بل تمسّكوا بولاية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ظاهراً وباطناً ، سرّاً وجهراً. واتّفقت الأخبار على سلمان الفارسي(٢) ، والمقداد بن الأسود(٣) ، وجُندَب بن جُنادة (كنايته أبو ذر) (٤). واختلف في الرابع : عمّار بن ياسر(٥) ، أو حُذيفة بن اليمان العبسي(٦).

فأبو ذر الغفاري له كتاب (الخطبة) ذكر فيه الأحداث التي حصلت بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله). ولسلمان كتاب (حديث الجاثليق) كما سيأتي في الفصل

__________________

(١) فرائد السمطين ٢ / ٢٥٩ ، باب ٥٠ ح ٥٢٧. ينابيع المودة ١ / ٧٣ ح ٨ باب ٣.

(٢) رجال الشيخ الطوسي : ٦٥ ، رقم ٥٨٦.

(٣) رجال الشيخ الطوسي : ٨١ ، رقم ٧٩٧.

(٤) رجال الشيخ الطوسي : ٥٩ ، رقم ٤٩٦.

(٥) رجال الشيخ الطوسي : ٧٠ ، رقم ٦٣٩.

(٦) رجال الشيخ الطوسي : ٦٠ ، رقم ٥١١.

١٣٦

الثالث.

والباقون وإن لم يُعهَد منهم كتاب بعينه إلاّ أنّ اهتمامهم بولاية عليٍّ عليه‌السلام وتمسّكهم بها يدلّ على صدقهم وإيمانهم ، وصدق ما نقلوه دون خوف.

وإذا نظرنا إلى الحقائق بطبيعتها التكوينية وسياقها التأريخي لاحظنا أنّ سنّة النبيّ(صلى الله عليه وآله) الصحيحة قد كُتبت وحُفظت عند أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

وقد ورد عن الإمام الحسن عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ العلمَ فينا ، ونحن أهله ، وهو عندنا مجموعٌ كلّه بحذافيره ، وإنّه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلاّ وهو عندنا مكتوبٌ ، بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وخطِّ عليّ عليه‌السلام بيده»(١).

ولم تقتصر الكتابة على سيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بل تعدّتها إلى سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام وشذرات من عبادته عليه‌السلام ، وكان ذلك مكتوباً في كتاب عليّ عليه‌السلام. فعن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن حفص بن البختري ، عن سلمة بيّاع السابري ، جميعاً ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان عليّ بن الحسين إذا أخذ كتابَ عليٍّ عليه‌السلام فنظر فيه قال : من يطيق هذا؟»(٢). وإذا كان الإمام السجّاد عليه‌السلام وهو المعروف بطول السجود والعبادة والدعاء يتساءل من يطيق تلك العبادة ، فما بالك بمن هو أدنى منهم عليهم‌السلام.

والإمام عليّ الهادي عليه‌السلام أيضاً يُشير إلى ذلك ، كما في رواية أبي دعامة قال : «أتيت عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى عائداً في علّته التي كانت

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي : ١٥٥. بحار الأنوار ٤٤ / ١٠٠.

(٢) الكافي ، الروضة ٨ / ١٦٣ ، رقم ١٧٢.

١٣٧

وفاته منها في هذه السنة ، فلمّا هممتُ بالانصراف قال لي : يا أبا دعامة قد وجب حقّك ، أفلا أحدّثك بحديث تُسَرُّ به.

فقلتُ له : ما أحوجني إلى ذلك يابن رسول الله.

قال عليه‌السلام : حدّثني أبي موسى بن جعفر ، قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد ، قال : حدّثني أبي ـ محمّد بن عليّ ، قال : حدّثني أبي عليّ بن الحسين ، قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ ، قال : حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : أُكتبْ يا عليّ.

فقلتُ : ما أكتبْ؟

قال(صلى الله عليه وآله) : أُكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. الإيمان ما وقرته القلوب ، وصدّقته الأعمال. الإسلام ما جرى به اللسان ، وحلّت به المناكح.

قال أبو دعامة : فقلتُ : يابن رسول الله ، ما أدري والله أيّهما أحسن ، الحديثُ أم الإسناد؟

فقال عليه‌السلام : إنّها لصحيفةٌ بخطِّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بإملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، نتوارثها صاغراً عن كابر»(١).

إجماع فقهاء الشيعة على كتابة السنّة الشريفة :

أجمع فقهاء الشيعة على حتمية تدوين السنّة الشريفة امتثالاً لتعاليم أئمّتهم عليهم‌السلام ، فاصطبغت الثقافة الشيعية الموالية لأهل البيت عليهم‌السلام بصبغة التدوين وكتابة الأحاديث مباشرة في زمن المعصوم عليه‌السلام.

__________________

(١) مروج الذهب ٥ / ٨٢ ـ ٨٣ ، رقم ٣٠٧٩.

١٣٨

وإلى ذلك أشار الشهيد الأوّل (ت ٧٨٦ هـ) قائلاً : «مُحدثاتُ الأمور بعد عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) : أوَّلها الواجبُ كتدوين القرآن والسنّة ، إذا خيف عليهما التفلّت من الصدور ، فإنّ التبليغ للقرون الآتية واجبٌ إجماعاً ، وللآية ، ولا يتمّ إلاّ بالحفظ»(١).

بينما بيّن الشهيد الثاني (ت ٩٦٦ هـ) أهمّية التدوين في حفظ الدين ، فقال : إنّ «الكتابة من أجلّ المطالب الدينية ، وأكبر أسباب الملّة الحنيفية من الكتاب والسنّة ، وما يتبعهما من العلوم الشرعية ، وما يتوقّفان عليه من المعارف العقلية. وهي منقسمة في الأحكام حسب العلم المكتوب : فإنْ كان واجباً على الأعيان ، فهي كذلك ، حيث يتوقّفُ حفظه عليها ، وإنْ كان واجباً على الكفاية ، فهي كذلك ، وإنْ كان مستحبّاً ، فكتابته مستحبّةٌ»(٢).

وبالإجمال ، فإنّ حفظ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام للسنّة النبوية الشريفة منح فقهاء الشيعة زخماً عظيماً في التفاني من أجل حفظ الأحاديث الشريفة وصيانتها من التحريف والإضافات التي كانت شائعة في عصر حكم بني أمية وربّما حكّم بني العبّاس أيضاً.

وعندما تمّت كتابة الأحاديث الشريفة في كتب كبيرة وموسوعات حديثية برزت مشكلة جديدة ، وهي : كيف يمكن نقل العلم المدوّن فيها إلى الجيل الجديد من الطلبة؟ فكان السماع ، والقراءة ، والمكاتبة ، والمناولة.

__________________

(١) القواعد والفوائد ج ٢ / ١٤٥ قاعدة ٢٠٥.

(٢) منية المريد في آداب المفيد والمستفيد : ٣٣٩.

١٣٩

ب ـ الحديث الشريف من ناحية (علم الدراية) :

ويشمل : ١ ـ السماع والقراءة ، ٢ ـ المكاتبة ، ٣ ـ المناولة.

١ ـ السماع والقراءة :

وهي مرتّبة متأخّرة عن زمن النصّ ، وهي أقرب إلى نقل العلم الحديثي منه إلى نقل الحديث. فالسماع في علم الدراية هو : السماع من الشيخ من كتاب يقرأه على الأغلب ، وهو قسم من أنحاء تحمّل الحديث ؛ وهو «أرفع الطرق الواقعة في التحمّل عند جمهور المحدّثين ، لأنّ الشيخ أعرف بوجوه ضبط الحديث وتأديته ، ولأنّ السامع أربط جأشاً وأوعى قلباً ، وشغْل القلب وتوزّع الفكر إلى القارئ أسرع»(١).

وبلفظ آخر فإنّ «السماع من لفظ الشيخ سواء كان إملاءً أو تحديثاً من غير إملاء ، وسواء كان من حفظه أو من كتاب ، هو أعلا طرق التحمّل مرتبةً بينهم ، حتّى القراءة على الشيخ ، على المشهور...»(٢).

وجوه السماع :

والسماع يتحقّق بوجوه ، هي :

١ ـ قراءة الشيخ من كتاب مصحَّح على خصوص الراوي عنه ، بأن يكون هو المخاطَب الملقى إليه الكلام.

__________________

(١) الرعاية في علم الدراية : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٢) نهاية الدراية : ٤٤٥.

١٤٠