الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

هو المعلوم من اهتمام المسلمين بحفظه في الصدور والزبر ومدارسته من الصدر الأول إلى يومنا هذا ، حيث لا يتهيأ لأحد مع ذلك تضييعه بالتحريف.

كما أطال الكلام فيه السيد المرتضى قدس‌سره وغيره وهو المناسب للواقع الخارجي ، حيث لم ينقل ـ ولو شاذا ـ ما يصلح أن يكون قرآنا في أسلوبه وبيانه. وما تضمنته روايات الفريقين المستدل بها على التحريف مما يقطع بعدم كونه قرآنا لهبوط مستواه وضعف بيانه وركة أسلوبه. ومن ثم كان المعروف بين الطائفة إنكار التحريف. فلو فرض صحة النصوص الدالة عليه وتعذر حملها على معنى آخر كانت من المشكل الذي يرد علمه لهم عليهم‌السلام.

على أن ما تقدم من النصوص الصريحة في جواز العمل بالقرآن بل لزومه والسيرة بذلك شاهدان بعدم كون التحريف ـ لو فرض وقوعه ـ مانعا من ذلك إما لعدم وقوعه في آيات الأحكام ، أو لكونه في كلام مستقل لا دخل له بالظهورات الواصلة أو لغير ذلك ، كما نبه له غير واحد.

ومنها : أن العلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز وغيرها على ظواهر الكتاب مانع من الرجوع إليها. وفيه : أن ذلك إنما يمنع من العمل بالظواهر قبل الفحص عما ينافيها ، لا مطلقا ، لانحلال العلم الإجمالي المذكور بالعثور بعد الفحص على مقدار المعلوم بالإجمال ، ولا يعتنى باحتمال وجود الزائد ، لأصالة حجية الظهور ، كما هو الحال في ظواهر الأخبار أيضا ، على ما يذكر في مسألة وجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام وفي شرائط الرجوع للأصول العملية وغيرها. ولنكتف بما ذكرنا ، لظهور وهن الوجوه الأخر ، أو رجوعها لما سبق.

٨١

الفصل الثالث

في حجية قول اللغويين

من جملة مقدمات الظهور الكلامي تشخيص المعنى الموضوع له في مفرداته ، حيث يكون هو المعنى الظاهر بحسب الأصل ما لم تكن هناك قرينة صارفة عنه ، ولذا اشتهر أن الأصل هو الحقيقة. ولا كلام مع القطع بالمعنى الموضوع له للتبادر أو غيره من علامات الحقيقة التي تقدم الكلام فيها في مقدمة مباحث الألفاظ ، وإنما الكلام في حجية قول اللغويين في ذلك مع عدم حصول القطع منه ، فقد ذهب جماعة إلى ذلك ، واستدل عليه بوجوه ..

الأول : إجماع العلماء على الرجوع لهم والاستشهاد بكلامهم لمعرفة المراد من الكلام ، من غير تناكر منهم لذلك. ويشكل بإمكان كون رجوعهم لهم لتحصيل العلم والاطمئنان بمعنى اللفظ أو المراد منه في الاستعمال الخاص ولو بضميمة قرائن داخلية أو خارجية ، ولا طريق لإحراز كون رجوعهم لهم للبناء على حجية قولهم تعبدا بنحو يتحصل منه إجماع تعبدي حجة على ذلك.

الثاني : أنه مقتضى سيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة في كل فن ، ومنه المقام.

وفيه : أولا : أنه لم يتضح خبرتهم بتعيين المعاني الموضوع لها ، لأن ذلك وإن كان ظاهرهم بدوا ، إلا أن النظر في كلامهم مانع من الوثوق بخبرتهم في ذلك ، لكثرة المعاني التي يذكرونها للفظ الواحد بنحو يوثق بعدم وضعه لكل منها استقلالا بنحو الاشتراك اللفظي ، ويقرب كون مستندهم في ذلك مجرد الاستعمال ، من دون تفريق منهم بين مفهوم اللفظ الوضعي وخصوصيات

٨٢

الاستعمال المختلفة الخارجة عنه.

ولا سيما مع ما هو المعلوم من تسامحهم في تحديد المعنى وبنائهم على الإشارة إجمالا ، حتى اشتهر أن تعاريفهم لفظية ، حيث لا مجال معه للرجوع لهم لمعرفة المعنى بحدوده التفصيلية الذي هو المهم غالبا ، وأما معرفته إجمالا فلا أثر لحجية قولهم فيها ، لتيسر القطع به غالبا ولو بعد الرجوع لهم وملاحظة مورد الاستعمال الذي هو مورد الابتلاء.

وثانيا : أنه لا وثوق بتقيدهم في إحراز الاستعمال الذي هو مقدمة لتحديد المعنى بالوجه المعتبر من علم أو علمي ، بل من القريب أو المعلوم تسامحهم في ذلك وكثرة تعويلهم على المراسيل والمجاهيل ومن لا يعتد بنقلهم شرعا ، بل عرفا. ومن الظاهر عدم دخولهم مع ذلك في كبرى الرجوع لأهل الخبرة بنظر العقلاء.

وثالثا : أن الرجوع لأهل الخبرة يختص بمن لا يتيسر له نوعا الاجتهاد في موضع الحاجة للرجوع لهم ، والظاهر تيسر الاجتهاد نوعا للفقيه في تشخيص الظهور الذي هو المهم في المقام ، ولو بالرجوع لهم بضميمة القرائن والمناسبات الارتكازية ، ومعه لا يهم تحديد المعنى الحقيقي الموضوع له. بل قد يتيسر له تحديده بنحو يرى أنه أوصل منهم.

الثالث : أنه لو لم يرجع لقول اللغويين لزم انسداد باب العلم باللغة ، إذ الغالب انحصار معرفة أصل المعنى إجمالا أو خصوصياته تفصيلا بالرجوع لهم ، ومع انسداد باب العلم يتعين التنزل للظن الحاصل من قولهم.

وفيه ـ مضافا إلى أن مقتضاه حجية كل ظن بالمعنى وإن لم يستند لقول اللغويين ، وإلى ما سبق من عدم وضوح خبرة اللغويين بنحو يحصل الظن من قولهم ـ : أنه لا أثر لانسداد باب العلم باللغة إلا بلحاظ إفضائه إلى انسداد باب

٨٣

العلم في غالب الأحكام الشرعية ، وهو لا يلزم في المقام ، لقلة الأحكام المتعلقة بالمفاهيم المجملة التي لا يتسنى للفقيه تشخيص ظهور الأدلة المتعرضة لها بنفسه ولو بمعونة الرجوع لهم وملاحظة القرائن المتعلقة بالمقام ، ولا محذور مع ذلك من الرجوع فيها للأدلة الأخر والأصول الجارية في المسألة ، مع أن من جملة مقدمات الانسداد الملزمة بالتنزل للظن هو تعذر الرجوع إليها ، على ما يتضح في محله في آخر مباحث الحجج إن شاء الله تعالى.

تنبيهان

الأول : ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أنه بعد الفراغ عن عدم حجية قول اللغويين فلو حصل الوثوق بالمعنى من قولهم أوجب ظهور اللفظ فيه ، ومعه لا يكون الوثوق بالمراد مستندا لأمر خارجي غير معتبر ، بل يدخل المورد في كبرى حجية الظهور بالخصوص ، لأن الوثوق بالمعنى لو حصل قبل إلقاء الكلام لأوجب ظهور اللفظ فيه قطعا ، فكذا بعده ، لعدم معقولية الفرق.

وفيه : أن الوثوق بالمعنى ـ سواء حصل من قول اللغويين أم من غيره ـ لا يوجب العلم بالظهور ، بل الوثوق به ، سواء حصل قبل إلقاء الكلام أم بعده وحينئذ فحيث كان موضوع الحجية هو الظهور الواقعي ، فلا بد من إحرازه بعلم أو علمي ، ولا يكفي فيه مجرد الوثوق إذا لم يستند إلى حجة ، كما هو المفروض.

الثاني : ما تقدم من حجية قول اللغويين يجري بعضه في قول غيرهم من علماء الأدب ، كالنحويين والصرفيين والبيانيين ونحوهم ، فإن الظاهر عدم حجية قولهم ، إلا إذا أوجب القطع ، لعدم نهوض الإجماع ودليل الانسداد لعين ما تقدم. وأما الرجوع لهم بملاك الرجوع لأهل الخبرة فيجري فيه ما سبق من الوجهين الأخيرين للإشكال في الرجوع للغويين ، كما يظهر بالتأمل.

٨٤

الفصل الرابع

في حجية خبر الواحد

والمراد به هنا كل خبر لا يحصل العلم بمؤداه ـ لعدم تواتره وعدم احتفافه بالقرائن الموجبة لذلك ـ وإن كان المخبر به أكثر من واحد ، وإن كان ذلك خلاف مقتضى الجمود على العنوان.

هذا وربما ينسب لبعض الأخباريين ـ ولعله ظاهر الوسائل ـ أن الأخبار المدونة في الكتب المعروفة ـ كالكتب الأربعة ونحوها ـ قطعية الصدور ، فهي خارجة عن محل الكلام ، وحيث كان القطع من الأمور الوجدانية غير المنضبطة فلا مجال للاستدلال على هذا القول ولا على بطلانه.

وقد أطال في جملة من فوائد خاتمة الوسائل في سرد القرائن الموجبة لذلك.

والإنصاف أنها ـ على أهميتها ـ لا توجب العلم التفصيلي بصدور كل خبر من الأخبار المذكورة ، ولا سيما مع بعد زماننا عن زمان الصدور والتدوين واضطراب كثير من الأخبار ، فإن ذلك يفتح باب الشك ولا طريق لسده. نعم التأمل في القرائن المذكورة وغيرها يوجب العلم بصدور أكثر الأخبار بحيث لو لم يصدر بعضها فهو قليل جدا. لكنه لا يغني في خروج هذه الأخبار عن موضوع هذه المسألة.

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام في حجية خبر الواحد ـ بالمعنى المتقدم ـ بالخصوص على أقوال كثيرة بين المنع مطلقا والحجية في الجملة على تفاصيل لا مجال لإطالة الكلام فيها.

٨٥

ومن ثم يقع الكلام في هذه المسألة في مقامات :

الأول : في حجج المنع مطلقا.

الثاني : في حجج الإثبات في الجملة.

الثالث : في تحديد ما هو الحجة حسبما يستفاد من أدلة الحجية التي تنهض بالاستدلال. وهو من أهم مباحث المسألة. ولا يحسن إلحاقه بالمقام الثاني بالتعرض عند الكلام في كل دليل لمفاده سعة وضيقا ، لأنه يستلزم اضطراب الكلام. ومن سبحانه نستمد العون والتسديد.

المقام الأول : في حجج المنع مطلقا

فقد حكي المنع من حجية خبر الواحد مطلقا عن جماعة من الأكابر ، كالسيدين والقاضي والطبرسي وابن ادريس قدس‌سرهم ، بل ربما نسب للشيخين قدس‌سرهما.

وحيث كان عدم الحجية هو المطابق للأصل فهو غني عن الاستدلال ، وفائدة الاستدلال حينئذ تأكيد مقتضى الأصل. مع أنه لو تم كان مانعا من أدلة المثبتين ـ لو تمت في أنفسها ـ أو معارضا لها بنحو يلزم النظر في كيفية الجمع بينها.

وكيف كان فقد استدل عليه بالأدلة الأربعة. وقد تقدم في مقدمة مباحث الحجج التعرض لدليل العقل القاضي بامتناع التعبد بغير العلم من دون خصوصية للخبر ، والجواب عنه بما لا مزيد عليه.

كما أن عمدة الأدلة من الكتاب هو العمومات الناهية عن التمسك بغير العلم أو بالظن ونحوها مما تقدم التعرض له في مقدمة مباحث الحجج أيضا ، عند الكلام في أصالة عدم حجية غير العلم. وقد سبق أنه لا ينهض بإثبات العموم. ولو نهض به أمكن تخصيصه بأدلة الحجية ، على كلام في خصوص سيرة العقلاء التي استدل بها على حجية الخبر يأتي التعرض له إن شاء الله تعالى. كما يأتي الكلام عند الاستدلال على الحجية ب آية النبأ في نهوض

٨٦

التعليل فيها بإثبات عدم جواز العمل بالخبر وسائر موارد عدم العلم. فالعمدة في المقام الدليلان الباقيان.

الأول : السنة الشريفة. وقد استدل منها بعموم ما تضمن النهي عن العمل بغير علم. ويظهر حاله مما تقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية ، نظير ما تقدم في الاستدلال بالكتاب.

كما استدل أيضا بما ورد من النصوص الكثيرة ـ المتواترة معنى أو إجمالا ـ في خصوص الأخبار ، المتضمنة عدم العمل بالخبر إذا لم يعلم بصدوره ، أو إذا كان مخالفا للكتاب ، أو لم يكن موافقا له ونحو ذلك. فاللازم النظر فيه على اختلاف ألسنته. فنقول : النصوص المذكورة على طوائف ..

الأولى : ما ورد في المتعارضين. كمكاتبة محمد بن علي بن عيسى : «كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهم‌السلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليه‌السلام :

ما علمتم أنه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردوه إلينا» (١) ، ونحوها ما عن بصائر الدرجات (٢) ، وغير ذلك من النصوص الكثيرة الواردة في التعارض ، وقد تعرض لجملة منها في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل.

ومن الظاهر خروج هذه النصوص عن محل الكلام ، بل هي على الحجية أدلّ ، لظهورها في المفروغية عن حجية الأخبار لو لا الاختلاف والتعارض بينها.

وأما الإشكال فيها بأنها من أخبار الآحاد ، فيلزم من حجيتها عدمه. فيظهر اندفاعه مما يأتي في الطائفة الثالثة.

ومثله دعوى : أن مقتضى أدلة حجية خبر الثقة كونه معلوما تنزيلا فيكون

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٦.

(٢) مستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي وما يجوز إن يقضي به حديث : ١٠.

٨٧

مقتضى الحديث المتقدم حجيته. إذ فيها : أنه لا معنى لجعل المعيار في العمل العلم إذا كان المراد به ما يعم خبر الثقة بعد كون خبر الثقة من الأفراد المتيقنة من مورد النصوص المتقدمة المسئول فيها عن حكم التعارض. بل المناسب حينئذ التنبيه على كفاية الوثاقة ، فالعدول عن ذلك للعلم كالصريح في إرادة العلم الحقيقي. فالعمدة ما ذكرنا.

الثانية : ما تضمن التبري من الخبر المخالف للكتاب أو الذي لا يوافقه وأنه زخرف أو باطل. وهو نصوص كثيرة ذكرها شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله» (١) ، وقريب منه مصحح هشام بن الحكم (٢) ، وخبر أيوب بن الحر : «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (٣) ، ونحوه خبر أيوب بن راشد (٤) ، وغيرها.

وهذه النصوص على كثرتها لا تنفع فيما نحن فيه أيضا ، لإباء لسانها عن التخصيص ، فلا بد من حمل المخالفة فيها على المخالفة بالتباين ، دون المخالفة للظهور ، للعلم بصدور الأخبار الكثيرة عنهم عليهم‌السلام على خلاف ظاهر الكتاب. كما لا بد من حمل عدم الموافقة للقرآن على ذلك أيضا ، دون مجرد عدم الموافقة ولو لعدم وجود الحكم في ظاهر القرآن ، الذي هو ظاهرها بدوا. كيف ولا ريب في عدم وفاء ظاهر القرآن بجميع الأحكام ، وأن كثيرا منها مأخوذ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام ، ولذا أكمل الله تعالى الدين بولايتهم ، وقد استفاضت النصوص بوجود أخبار منهم «صلوات الله عليهم» بمضامين لا يمكن تحصيلها من الكتاب الكريم.

__________________

(١) تفسير العياشي ج : ١ ص : ٨

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٥.

(٣) أصول الكافي ج : ١ ص : ٦٦ ، تفسير العياشي ج : ١ ص : ٩.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٢ ، أصول الكافي ج : ١ ص : ٦٩.

٨٨

ودعوى : أنه لا مجال لحمل هذه النصوص على المخالفة بالتباين ، إذ لا يصدر ممن يكذب عليهم ما يباين الكتاب والسنة المعلومة ، لأنه لا يصدق فيه ، فلا يترتب غرضه.

مدفوعة : بأن عدم صدور ما يخالف الكتاب منهم عليهم‌السلام إنما اتضح لأهل الحق من ذوي البصائر ، دون غيرهم من جهال الناس وذوي المقالات الباطلة ، من أعدائهم اللذين ينسبون لهم الضلال والباطل ، أو المفوضة والغلاة ونحوهم من من يرى أن لهم تشريع الأحكام المخالفة للكتاب ، وينسب لهم العقائد الفاسدة ، وهو كاف لتحقيق غرض من يكذب عليهم لتشويه سمعتهم عليهم‌السلام أو لإضلال الناس بما ينسبه لهم ، ولا سيما مع دسّ تلك الروايات في كتب أصحابهم من من يصدق عليهم ، كما صرحت به بعض النصوص الآتية وغيرها.

بل لا ريب في وجود أخبار كثيرة ليست من سنخ أحاديثهم عليهم‌السلام ولا تشابه القرآن بل تخالفه ، كما استفاضت به النصوص. ومن ثم نشأت الفرق الضالة من الغلاة والمفوضة ممن ينتسب لهم عليهم‌السلام ويدعي الأخذ عنهم والقبول منهم.

نعم يشكل الحمل المذكور في خبر كليب الأسدي : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل» (١).

لظهوره في عدم صدور ما لا يصدقه الكتاب من الأخبار وإن لم يكن مخالفا له. فلا بد من حمل البطلان فيه على مجرد النهي عن العمل به من دون تكذيب له ، كما يأتي في الطائفة الثالثة. أو البناء على إجماله وكونه من المشتبه الذي يجب ردّ علمه لهم عليهم‌السلام.

__________________

(١) تفسير العياشي ج : ١ ص : ٩.

٨٩

الثالثة : ما تضمن النهي عن قبول الخبر الذي يخالف الكتاب ، أو لا يوافقه أو ليس عليه شاهد أو شاهدان منه ، وأنه يجب رده لهم ولا يعمل به ، من دون تعرض لتكذيبه والتبري منه. وهو أخبار كثيرة ، كمعتبر ابن أبي يعفور : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به. قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلا فالذي جاءكم به أولى به» (١).

ومرسل عبد الله بن بكير عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : إذا جاءكم حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم» (٢).

ورواية محمد بن مسلم : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا محمد ما جاءك في رواية من بر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به ، وما جاءك في رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به» (٣).

ورواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : «قال : انظروا أمرنا وما جاءكم عنا فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردوه ، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» (٤).

وخبر سدير : «قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما‌السلام : لا تصدق علينا إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٥).

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١١.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٨.

(٣) تفسير العياشي ج : ١ ص : ٨.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٧.

(٥) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٧.

٩٠

وما رواه الكشي بسنده الصحيح عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس ابن عبد الرحمن : «أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال له : يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا ، فما الذي يحملك على رد الأحاديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة بن سعيد «لعنه الله» دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنا إذا حدثنا قلنا : قال الله عزوجل ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال يونس وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال لي : إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام. لعن الله أبا الخطاب. وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إما عن الله و] إما. ظ [عن رسوله نحدث ، ولا نقول : قال فلان وفلان ، فيتناقض كلامنا ، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا ، وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا ، وإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه ، وقولوا : أنت أعلم وما جئت به ، فإن مع كل قول منا حقيقة ، وعليه نور ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك قول الشيطان» (١).

قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «والأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة

__________________

(١) رجال الكشي ص : ١٩٥ طبعة النجف الأشرف.

٩١

للكتاب والسنة متواترة جدا».

وهذه النصوص هي المهمة في المقام ، لأنها ـ مع كثرتها وتشابه مضامينها ـ ظاهرة في أن عدم حجية الأخبار ليس لبطلانها ـ كي يختص بالأخبار المخالفة بالتباين ، كما سبق في الطائفة الثانية ـ بل لاحتمال كذبها ـ ولو من جهة احتمال الدسّ ، كما تضمنه بعضها ـ وهو موجود في أغلب الأخبار التي بأيدينا ، فيكون مقتضى هذه النصوص توقف العمل بالأخبار على اعتضادها بالقرائن القطعية من الكتاب والسنة ، وعدم كفاية رواية الثقات لها.

ولا مجال لدعوى : حملها على أخبار غير الثقات جمعا بينها وبين ما تضمن حجية خبر الثقة. لاندفاعه بأن أخبار الثقات متيقنة من مواردها ، لأن عدم حجية خبر غير الثقة لا يحتاج إلى هذا النحو من البيان والتأكيد ، بل ظاهر هذه النصوص الردع عن العمل بالأخبار التي هي مورد الابتلاء ومن شأنها أن يعمل بها التي عمدتها أخبار الثقات ، بل هو كالصريح من حديثي ابن أبي يعفور ومحمد بن مسلم ، فإن إهمال الترجيح بالوثاقة مع التعرض لها في الحديثين كالصريح في عدم كفايتها.

وكذا صحيحة يونس لصراحتها في عدم التعويل على ما في كتب أصحاب الأئمة عليهم‌السلام لاحتمال الدسّ فيها ، مع وضوح أن غرض الذي يدسّ الحديث لا يتأتى إلا بدسه في كتب من يرجع إليهم ويقبل عنهم من الرواة ، وهم الثقات.

بل هذه النصوص تصلح لتخصيص عموم حجية خبر الثقة لو تم ، لاختصاصها بالأخبار المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام. كما تصلح للردع عن سيرة العقلاء على حجية خبر الثقة بالإضافة إليها. بل بملاحظة التعليل في صحيحي يونس المتقدم والآتي تكون الأخبار المذكورة حاكمة أو واردة على العمومات

٩٢

والسيرة على حجية خبر الثقة ، لأنه يكشف عن ابتلاء الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام بما يمنع من الاعتماد عليها عند العقلاء ويرفع الوثوق بصدورها ، وهو دسّ الأكاذيب فيها.

ومما ذكرنا يظهر لزوم قبول هذه الأخبار وإن كانت من أخبار الآحاد ـ إذا تمت فيها شرائط الحجية المستفادة من العمومات والسيرة ـ بلا حاجة إلى تواترها ، لوجود مقتضي الحجية فيها ، وعدم المانع منها ، لقصورها عن إثبات عدم حجية أنفسها ، بل هي مختصة ببيان المانع من حجية غيرها من الأخبار ، لا من جهة امتناع شمول القضية لنفسها ، فإنه لا أصل له ، بل من جهة امتناع وجود المانع عن الحجية في جميع الأخبار حتى هذه الأخبار نفسها ، إذ بعد منافاة حجيتها لحجية بقية الأخبار ، فلا بد إما من وجود المانع من الحجية فيها دون بقية الأخبار ، أو في بقية الأخبار دونها ، وحيث يتعذر حملها على بيان الأول ، لاستلزامه استعمال الكلام في نفسه ، بل فيما هو متأخر عنه ومن شئونه ـ وهو إخبار الراوي به ـ واستلزامه لغوية صدورها ، وحمل عمومها على الفرد النادر ، تعين الثاني ، فتبقى هذه الأخبار داخلة في عموم الحجية وباقية على مقتضى السيرة ، وتكون حجة على الخروج عن عموم الحجية ومقتضى السيرة في بقية الأخبار ، فتسقط بسببها بقية الأخبار عن الحجية.

وبعبارة أخرى : جميع الأخبار الواجدة لشرائط الحجية الآتية ـ ومنها هذه الأخبار ـ حجة في مرتبة سابقة على ورود هذه الأخبار ، وفي المرتبة المتأخرة عن صدورها يسقط غيرها من الأخبار عن الحجية بسببها ، ولا تسقط هي بعد عدم شمولها لنفسها ، كما سبق. نظير ما لو ورد ظهور كلامي رادع عن حجية الظهور ، ونحو ذلك.

نعم من يرى قصور خبر الواحد عن مقتضى الحجية ذاتا لا من جهة المانع ليس له الاحتجاج بهذه الأخبار إلا مع تواترها ، لعدم حجيتها مع عدمه

٩٣

في مرتبة سابقة على صدورها. وهو غير مهم ، لبنائه على عدم حجية بقية الأخبار ذاتا بلا حاجة إلى هذه الأخبار.

وكيف كان فهذه الأخبار وافية ببيان عدم حجية أخبار الثقات ، إما لتواترها أو لما ذكرناه.

اللهم إلا أن يقال : ما تقدم من الكشي من حديث يونس وإن تضمن النهي عن تصديق ما يخالف الكتاب والسنة أو لا يوافقهما ، إلا أنه مسوق مساق التبري منه وبيان عدم صدوره منهم عليهم‌السلام ، وأنها لا تشبه أقوالهم ، ومن قول الشيطان. وهو يناسب حمله على الروايات المخالفة بالتباين من روايات الغلو والتفويض والتشبيه وسقوط الفرائض ونحوها.

كما يناسبه في الجملة ما رواه الكشي بسنده الصحيح أيضا عن هشام بن الحكم : «أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ، ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يثبتوها في الشيعة ، فكلما كان من كتب أصحاب أبي من الغلو فذلك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم» (١). ولعل ذلك جار في رواية سدير حيث لا يبعد ظهور النهي عن التصديق في التبري من الرواية.

كما قد يكون ذلك قرينة على بقية الروايات المتقدمة ، فلا يراد بها مثل روايات الأحكام التي بأيدينا التي لا تتضمن أحكاما لا تشبه ما صدر عنهم عليهم‌السلام. ولا سيما مع ما قد يقال من ضعف سند هذه النصوص ، وأن المتيقن من مضمونها المتواتر خصوص صورة المخالفة بالتباين. فتأمل.

__________________

(١) رجال الكشي ص : ١٩٦ طبعة النجف الأشرف.

٩٤

على أنه لا مجال للتعويل على هذه النصوص بعد التأمل في سيرة الأصحاب قديما وحديثا وتسالمهم على الرجوع للروايات والعمل عليها ، لأن هذه النصوص نصب أعينهم ، فعدم امتناعهم لأجلها من العمل بالأخبار المتداولة بينهم شاهد باطلاعهم على ما يمنع من العمل بها فيها ، إما لانصرافها إلى ما ذكرناه ونحوه ، أو لتهذيب الأخبار عن الأخبار المكذوبة بعد عرضها على الأئمة عليهم‌السلام ، أو لقرائن أخر ، بنحو يعلم بارتفاع ما يقتضي التوقف عنها ويلزم بطلب الشاهد عليها.

هذا مضافا إلى النصوص الكثيرة التي يأتي التعرض لها هناك الظاهرة في المفروغية عن قبول أخبار الثقات عن أهل البيت عليهم‌السلام ، حيث لا مجال معها للتعويل على هذه النصوص في التوقف عنها ، بل تكشف عن خلل فيها إما بما ذكرنا أو غيره.

والمظنون اختصاص ذلك بأوقات خاصة كثر فيها الكذب والتخليط والدس في غفلة من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام عن ذلك واسترسالهم عند بدئهم بتدوين الحديث ، وقد زال ذلك بعد أن نبهوا وتنبهوا بنحو أوجب شدة احتياطهم وحذرهم عند تحمل الروايات وعند روايتها ، وتحفظوا على كتبهم ، كما يناسب قبولهم لأخبار الثقات وجريهم على ذلك من غير نكير ، كما يأتي عند التعرض لأدلة المثبتين للحجية إن شاء الله تعالى.

الثاني : الإجماع. فقد ادعى السيد المرتضى قدس‌سره إجماع أصحابنا على عدم العمل بأخبار الآحاد ، بل جعلها كالقياس في كون ترك العمل به ضروريا من مذهب أصحابنا يعرفه الموافق والمخالف عنهم.

ويندفع بمنع الإجماع المذكور ، بل الإجماع على خلاف ذلك ، كما يأتي في أدلة المثبتين. وهو قدس‌سره وإن ادعى أن الأخبار التي يعمل بها الأصحاب محتفة بالقرائن القطعية ، وإن كانت مودعة في الكتب بطرق الآحاد ، إلا أنه لا يبعد كون

٩٥

مراده ما يعم الوثوق ، حيث يصعب الالتزام بحصول القطع بصدور جميع الأخبار لجميع العاملين بها ، كما يأتي في حجة أدلة المثبتين.

على أنه من الإجماع المنقول الذي لا يعتمد عليه ما لم يوجب العلم بالواقع أو بالدليل المعتبر على معقده ، وهو لا يوجب ذلك ، بل ولا الظن ، لو لم ندّع العلم بعدم ثبوت معقده.

المقام الثاني : في حجة الإثبات في الجملة

كما هو المعروف من مذهب الأصحاب. وقد استدل عليه بالأدلة الأربعة.

الأول : الكتاب الكريم. وقد استدل منه بآيات ..

الأولى : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١). وتقريب الاستدلال بها : أن وجوب التبين كناية عن عدم حجية الخبر ، ومقتضى جعل موضوعه خبر الفاسق حجية خبر غير الفاسق. إما لأن في خبر الفاسق جهتين ذاتية ، وهي كونه خبر واحد ، وعرضية ، وهي كونه خبر فاسق ، فذكر الثانية وعدم ذكر الأولى ظاهر في عدم صلوح الأولى لاقتضاء الحكم ، وإلا كانت هي الأولى بالحكم ، إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلية أولى من التعليل بالعرضي ، فلا بد أن يكون المقتضي لعدم الحجية هو الجهة الثانية ، ولا سيما مع مناسبتها للحكم عرفا ، حيث يناسب ذلك دخلها فيه وإما لأجل استفادة إناطته بالفسق من الشرط الدال على التعليق والظاهر في المفهوم على التحقيق.

لكن الأول راجع للاستدلال بمفهوم الوصف الذي تقدم في محله عدم تماميته. ومجرد المناسبة بين الوصف والحكم عرفا لا يوجب الظهور في المفهوم ، بل غايته الإشعار بالعلية ـ وإن لم تكن منحصرة ـ الذي لا يبلغ مرتبة الحجية. على أنه لا مجال له في خصوص المقام بناء على ما يأتي من عدم سوق

__________________

(١) سورة الحجرات الآية : ٦.

٩٦

الآية الشريفة لمجرد بيان عدم الحجية ، بل للاستنكار والتبكيت زائدا على ذلك ، فلعل ذكر الفسق لأنه آكد في ذلك ، لا لإناطة عدم الحجية به.

وأما الثاني فيدفعه أنه لا مفهوم للشرطية في المقام ، لأنها مسوقة لتحقيق الموضوع ، فإن المراد بالأمر التبين ـ الذي هو كناية عن عدم الحجية ـ هو الأمر بالتبين عن حال خبر الفاسق الذي هو موضوع قضية الشرط ، ومن الظاهر أن جملة الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع المذكور لا لاعتبار أمر زائد عليه ، إذ ليس مجىء الفاسق بالنبإ إلا عبارة عن وجوده ، وبدونه لا نبأ للفاسق الذي هو موضوع الأمر بالتبين والحكم بعدم الحجية.

نعم لو كان موضوع الأمر بالتبين مطلق النبأ ومجىء الفاسق به أو كون الجائي به فاسقا شرطا للأمر بالتبين عنه لم تكن جملة الشرط مسوقة لتحقيق الموضوع ، وكان لها مفهوم ، كما لو كان الخطاب هكذا : النبأ إن جاء به الفاسق ، أو إن كان الجائي به فاسقا ، فتبينوا عنه.

لكنه لا يناسب التركيب الكلامي للآية الشريفة ، بل مقتضى تركيبها أن موضوع الأمر بالتبين في جملة الجزاء هو خصوص نبأ الفاسق الذي سيقت جملة الشرط لتحقيقه ، وبارتفاعه لا يبقى موضوع للحكم الذي تضمنته جملة الجزاء ، فلا مفهوم للقضية يقتضي عدم الأمر بالتبين عن خبر غير الفاسق ، الملازم لحجيته.

هذا عمدة الكلام في وجه الاستدلال بالآية ، وردّه ، وهناك وجوه أخرى للاستدلال لا يخلو أكثرها عن تحكم أو تكلف ظاهر ، ولا مجال لإطالة الكلام فيها ، وإن كان قد يأتي ما ينفع في ذلك.

ثم إنه لو تم ظهور الآية الشريفة في نفسها في المفهوم فقد أورد على الاستدلال بها بوجوه ..

٩٧

الوجه الأول : ما ذكره جماعة من القدماء والمتأخرين من أنه لا بد من رفع اليد عن المفهوم بعموم التعليل في ذيلها المقتضي لعدم الإقدام مع الجهل فرارا من الوقوع في أمر يحذر منه ، ولا مانع من رفع اليد عن المفهوم بالقرينة المنفصلة ، فضلا عن المتصلة المانعة من انعقاد ظهور الكلام فيه بدوا.

وقد يدفع ذلك بوجوه «أولها» : ما ذكره بعض المعاصرين رحمه‌الله في أصوله في تقريب معنى الآية من منع سوق الذيل للتعليل ، لاستلزامه تقدير مفعول لقوله : (فَتَبَيَّنُوا) وتقدير ما يدل على التعليل في الذيل ، فيكون التقدير هكذا :

إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا صدقه لئلا تصيبوا قوما بجهالة ... ونحو ذلك ، وهو تكلف مخالف للأصل. فالأولى جعل الذيل نفسه مفعولا للتبين ـ مع تضمن التبين معنى التثبت ـ قال : «فيكون معناه : فتثبتوا واحذروا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين». فلا يكون للذيل عموم ينهض برفع اليد عن المفهوم.

وفيه : أنه لا مجال لكون الذيل مفعولا للتبين بعد تقييد الإصابة بالجهالة التي هي من الأمور الوجدانية غير القابلة للجهل ، والتبين إنما يتعلق بالأمور الواقعية القابلة للجهل ، فلا يتم ما ذكره إلا بقطع التبين عن الإصابة وتقدير متعلق لها يناسب المقام ، كالحذر ، إما بتقدير فعل الحذر ـ كما ذكره في كلامه ـ أو بتصيده من التبين بجعل التبين متضمنا معناه ، وكلاهما خلاف الأصل كالتقدير اللازم من الحمل على التعليل.

بل لعل الثاني أولى ، لاشتهار حذف عامل «أن» خصوصا في مقام التعليل الوارد مورد الحذر ، كما في قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(١) ، وقوله تعالى : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا

__________________

(١) سورة النساء الآية : ١٧٦.

٩٨

مِنَ الْخالِدِينَ)(١) ، وقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ...)(٢) ، وقوله عزّ اسمه : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...)(٣) وغيرها ولا سيما مع كون التعليل أبلغ في بيان المطلوب وأدعى للارتداع. ولا أقل من الإجمال والتردد بين الوجهين الراجع لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على عدم المفهوم.

ثانيها : ما ذكره غير واحد من حكومة المفهوم على التعليل ، لأن مقتضاه كون خبر العادل علما تعبدا أو تنزيلا ، فيخرج عن موضوع التعليل ، وترتفع المعارضة بينهما. وهو مبني على أن مفاد جعل الطرق جعلها علما تعبدا أو تنزيلا.

لكنه ممنوع ، كما يأتي في كيفية الجمع بين أدلة الطرق وأدلة الأصول من مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.

مع أن التعبد أو التنزيل المذكور موقوف على انعقاد الظهور في المفهوم ، وعموم التعليل مانع من انعقاده.

وبعبارة أخرى : خروج خبر العادل عن عموم التعليل إثباتا في رتبة متأخرة عن انعقاد الظهور في المفهوم ، وعموم التعليل مانع من انعقاده. ومجرد صلوح القضية في نفسها للدلالة على المفهوم لا ينفع في حجية خبر العادل ما لم ينعقد ظهورها فيه ، ولا ينعقد ظهورها فيه مع إلحاقها

__________________

(١) سورة الأعراف الآية : ٢٠.

(٢) سورة الأعراف الآية : ١٧٢.

(٣) سورة الزمر الآية : ٥٥ ، ٥٦.

٩٩

بالتعليل ، فما ذكر قد يتجه لو كان دليل المفهوم منفصلا عن التعليل ، كما أشار إليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره.

ثالثها ـ وهو العمدة ـ : أن التعليل لا يعم مورد المفهوم غالبا ، فإن حمله على مطلق الجهل بالواقع لا يناسب مقام التعليل الذي ينبغي فيه أن يكون ارتكازيا صالحا لبيان وجه الحكم وتقريبه إلى ذهن السامع ليقتنع به ، كما لا يناسب خصوصية الفسق المناسب ارتكازا للتوقف عن الخبر ، بل المناسب لذلك حمله على خصوص الجهل الذي يرى العقلاء الإقدام معه تغريرا وتفريطا ، لعدم وجود ما يصلح بنظرهم لأن يركن إليه ويعتمد عليه في مقام العمل ، كخبر الفاسق ، وتقديم عموم التعليل على المفهوم إنما هو بالإضافة إلى ما يشبه خبر الفاسق في ذلك ، كخبر العدل غير الضابط ، دون مثل خبر العدل الضابط الذي يصح الركون إليه والاعتماد عليه عند العقلاء الذي هو المراد بالمفهوم ، بل يقصر التعليل عنه ارتكازا ، كما يقصر عن خبر الفاسق الثقة المأمون منه الكذب وإن دخل في إطلاق المنطوق. ولعل وجه ذكر الفاسق حينئذ غلبة كونه من القسم الأول مع التنبيه والتأكيد على فسق المخبر في مورد النزول ، والتأنيب والتبكيت لمن حاول العمل بخبره.

ونظير ذلك ما لو قيل : إن وصفت لك النساء دواء فلا تستعمله ، لأنك لا تأمن ضرره ، حيث لا يتوهم عموم التعليل فيه لما يصفه الطبيب الحاذق وإن لم يكن معصوما من الخطأ ، وإنما يعم ما يصفه غير الأطباء من الرجال ، كما يقصر عما يصفه النساء الطبيبات الحاذقات. وليس وجه ذكر النساء إلا غلبة تصدي غير الطبيبات الحاذقات. وليس وجه ذكر النساء إلا غلبة تصدي غير الطبيبات منهن لوصف الدواء أو الابتلاء بهن في مورد الخطاب.

ويشهد بما ذكرنا أيضا التعقيب بالندم الظاهر في المفروغية عن ترتب الندم بالعمل على خبر الفاسق بعد ظهور كذبه ، إذ من الظاهر أن الندم لا يكون بمجرد فوت الواقع ، بل مع التقصير فيه ، المستلزم لتقريع النفس وتأنيبها ، ولا

١٠٠