الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

بالوجدان بسبب دليل الحجية ، فيكون من التدين والفتوى بعلم.

الثاني : حيث تقدم أن الأصل عدم حجية غير العلم فالظاهر أن مقتضى الأصل أيضا حجية الطرق العقلائية الارتكازية ، بحيث لا يحتاج البناء على حجيتها إلى إحراز إمضاء الشارع لها ، وإن أمكن ردع الشارع عنها.

وتوضيح ذلك : أن سيرة عامة الناس وتعارفهم على العمل بطريق ..

تارة : تكون مستندة لأمر خارج عنهم طارئ عليهم ، كحاجتهم إليه في خصوص زمان ، أو مكان ، أو حملهم عليه من جهة خاصة ، كسلطان قاهر أو عالم ناصح ، أو جريهم عليه تبعا لعرف خاص أو لتقليد كبرائهم أو آبائهم إلى غير ذلك.

وأخرى : تكون ناشئة من مرتكزاتهم التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيهم ، وغرائزهم التي فطرهم عليها ، بحيث يجرون عليها وحدها ، لا بلحاظ أمر خارج عنها. والظاهر أن ذلك هو المراد بسيرة العقلاء في كلامهم ، إذ الظاهر من نسبتها إليهم جريهم عليها بما أنهم عقلاء. بخلاف الوجه الأول فإنه مجرد عرف عام أو خاص.

أما الوجه الأول فلا وجه لحجيته في نفسه ، كما لا مقتضي فيه للكشف عن الحجية الشرعية في مورده ، إذ لا منشأ لحمل الشارع الأقدس على الجهة الخارجية المذكورة ، كما لا وجه لحمل غيره من الموالي على ذلك بنحو يستكشف حكمهم ، بل لا بد له من إحراز الإمضاء من المولى الذي هو تمام المقتضي للحجية من قبله ، وبدونه لا مقتضي لها ، فلا يكفي في البناء على مقتضى السيرة عدم الردع عنها ، فضلا عن عدم ثبوته.

نعم لو استحكمت السيرة بنحو يغفل عن إرادة خلافها ، والتفت المولى لذلك وتيسر له الردع عنها استفيد من عدم ردعه إمضاؤه لها الذي عرفت أنه

٦١

تمام المقتضي للحجية.

وأما الوجه الثاني فالظاهر أنه بنفسه مقتض للحجية والعمل ، بحيث يكون مقتضى الأصل بنظر العقل متابعتها والعمل عليها في مقام التنجيز والتعذير بين المولى والعبد ، ما لم يثبت ردع المولى عنها. فمورد السيرة المذكورة يشترك مع العلم في ثبوت مقتضى الحجية فيه بذاته ، وإن فارقه بأن للمولى الردع عنه ، بخلاف العلم فإنه علة تامة للحجية لا تقبل الردع.

وعلى هذا لا يحتاج العمل بذلك إلى إثبات الإمضاء ، كما تجشمه غير واحد في بعض الموارد ، بل ولا إثبات عدم الردع ولو بالأصل ، بل يكفي عدم ثبوت الردع ، لحكم العقل في المقام بلزوم متابعة المقتضي في مثل ذلك ما لم يثبت الردع ، حتى لو احتمل كون عدم الردع لعدم تيسره للمولى ، كما يظهر بأدنى ملاحظة للمرتكزات العقلائية القطعية.

ومن ثم لا يظن من أحد التشكيك في الإلزام والالتزام بظاهر كلام المولى مثلا لو احتمل كون عدم ردعه عن العمل بالظهور لعدم تيسر الردع له. وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدس‌سره من قوله في الكفاية : «ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة وعدم استحقاقها مع الموافقة ـ ولو في صورة المخالفة عن الواقع ـ يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات». وما يظهر من سيدنا الأعظم قدس‌سره من عدم ثبوت هذا الوجه في غير محله بعد ما سبق وربما يأتي في المباحث الآتية ما ينفع في المقام.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في الحجية. فلنشرع فيما هو المقصود بالكلام ، وهو تشخيص موارد الحجج وذلك في ضمن فصول ..

٦٢

الفصل الأول

في حجية الاطمئنان

ولم يعرف القول بحجيته على الإطلاق قبل بعض مشايخنا «دامت بركاته» ، فقد صرح بحجيته في مقابل العلم الذي هو حجة ذاتية ، بدعوى : أنه علم عادي ، وهو حجة عقلائية ، ولم يردع عنها الشارع الأقدس.

لكن المراد بأنه علم عادي إن رجع إلى أنه من أفراد العلم الحقيقية الذي هو عبارة عن انكشاف الأمر بحيث لا يحتمل معه الخلاف ، فلا وجه لجعله مقابل العلم الذي هو حجة ذاتية ، ولا للاستدلال عليه بأنه حجة عقلائية لم يردع عنها.

وإن رجع إلى أنه من أفراد العلم التسامحية العرفية ، لضعف الاحتمال وعدم تعويل العقلاء عليه ، فمن المعلوم عدم التعويل على التسامح العرفي في تطبيقات العرف وتشخيص الموضوعات. على أنه لو فرض التعويل على ذلك فهو إنما ينفع في أحكام العلم الموضوعي المأخوذة من إطلاقات الأدلة اللفظية ، دون المأخوذة من أدلة لبية أو لفظية لا إطلاق لها ، للزوم الاقتصار فيها على المتيقن. ولو كان داخلا في المتيقن كفى في ثبوت الحكم له بلا حاجة إلى تكلف دعوى أنه علم عادي. كما لا ينهض ذلك بإلحاقه بالعلم الطريقي في الحجية بعد عدم مشاركته له في الحجية الذاتية غير القابلة للردع. ومن هنا لا أثر للدعوى المذكورة في الاستدلال على حجية الاطمئنان.

وأما دعوى : أنه حجة عقلائية ، فهي لا تخلو من خفاء ، إذ لم يتضح من العقلاء حجية الاطمئنان بنفسه مطلقا بما هو وإن كان ابتدائيا أو مستتبعا إلى ما

٦٣

ليس حجة بنفسه ، كالرؤيا والفأل ونحوهما.

نعم لا يبعد كفاية الاطمئنان بل الوثوق في حجية خبر غير الثقة ، على ما يأتي في محله من مبحث حجية خبر الواحد. كما لا يبعد استفادة حجية الاطمئنان من خصوص بعض الأسباب أو في خصوص بعض الموارد لأدلة تعبدية لفظية أو لبية ، وهو موكول للفقه ، ومحل الكلام إنما هو عموم حجيته ببناء العقلاء.

على أنه لو تمت الدعوى المذكورة أمكن استفادة الردع عنه من أمرين :

الأول : عموم أدلة الأصول المتضمنة عدم رفع اليد عن مقتضى الأصل إلا بالعلم أو الاستبانة أو نحو ذلك مما يظهر منه عدم كفاية الاطمئنان في رفع اليد عن مقتضى الأصل.

إن قلت : تقدم في ذيل الكلام في أصالة عدم حجية غير العلم أن العلم في تلك الأدلة ليس مأخوذا بما هو صفة خاصة ، بل بما هو طريق ، فيقوم مقامه سائر الطرق ، لأن الموضوع في الحقيقة هو مطلق الطريق ، ولا تنهض حينئذ تلك الأدلة ببيان عدم طريقية غير العلم لتصلح للردع في المقام.

قلت : هذا إنما يتم في الطرق الخارجية غير القائمة بالنفس ـ كخبر الثقة واليد ـ دون الطرق القائمة بالنفس ، فإن الاقتصار في بيان ما هو الطريق منها على العلم الذي هو أتم مراتب الانكشاف ظاهر جدا في عدم حجية ما دونه من المراتب ومنها الاطمئنان. نظير عطف البينة على العلم في حديث مسعدة بن صدقة ونحوه فإنه ظاهر في عدم حجية خبر الثقة الواحد ، لأن الاقتصار في بيان ما هو الحجة من الخبر الحسي بما هو خبر على خبر العدلين ظاهر في عدم حجية ما دونه كخبر العدل الواحد ، فضلا عن خبر الثقة غير العدل ، من دون أن تنهض بالردع عن حجية مثل خبر صاحب اليد مطلقا ، أو الخبر الحدسي من

٦٤

أهل الخبرة في حق الجاهل ، أو غيرهما مما كانت حجيته لخصوصية زائدة على كونه خبرا ، لعدم أخذ العلم والبينة فيها بخصوصيتهما ، بل بما هما طريق ، نظير ما سبق.

الثاني : النصوص الخاصة الظاهرة في عدم حجية الاطمئنان بخصوصه ، كالنصوص المتضمنة للبناء على الطهارة بالتنبيه لاحتمالات بعيدة ، مثل قوله عليه‌السلام في موثق عمار في من وجد في إنائه فأرة وقد استعمل ماءه : «وإن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئا وليس عليه شيء ، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه». ثم قال : «لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها» (١).

وقوله عليه‌السلام في صحيح زرارة فيمن رأى في ثوبه دما أو منيا في أثناء الصلاة : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك» (٢).

ومثلها ما يظهر منه التأكيد على اليقين ، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليه‌السلام : «في الذي يذكر أنه لم يكبر في أول صلاته. فقال : إذا استيقن أنه لم يكبر فليعد ، ولكن كيف يستيقن؟» (٣).

وصحيح زرارة وبكير عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا» (٤).

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٤ من أبواب الماء المطلق حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ٢ باب : ٤٤ من أبواب النجاسات حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ٤ باب : ٢ من أبواب تكبيرة الإحرام من كتاب الصلاة حديث : ٢.

(٤) الوسائل ج : ٥ باب : ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ١.

٦٥

وصحيح محمد بن مسلم : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل استيقن بعد ما صلى الظهر أنه صلى خمسا. قال : وكيف استيقن؟ قلت : علم ...» (١).

وقد يستأنس له بما دل على لزوم الاحتياط في الشهادة ، مثل ما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «هل ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع» (٢) ، وما عن الصادق عليه‌السلام : «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك» (٣).

ومن هنا لا مجال للبناء على عموم حجية الاطمئنان. وإن أمكن البناء على حجيته في خصوص بعض الموارد ، لأدلة خاصة لفظية أو لبية من دون أن تنهض بإثبات عموم حجيته الذي هو محل الكلام في المقام.

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٢٠ من أبواب الشهادات حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٢٠ من أبواب الشهادات حديث : ١.

٦٦

الفصل الثاني

في حجية الظواهر

حيث كان الكلام هو أهم أدوات البيان الذي به فضل الله تعالى الإنسان وميزه عن البهائم ، وكان للعقلاء طرق خاصة في أداء المقاصد بالكلام ومعرفتها به جروا بمقتضى مرتكزاتهم على سلوكها في مقام التفهيم والتفهم ، كانت الطرق حجة بمقتضى ما سبق في ذيل الكلام في أصالة عدم حجية غير العلم من حجية سيرة العقلاء الارتكازية ما لم يصل الردع عنها شرعا. ومن الظاهر عدم وصوله ، بل لا إشكال في عدم صدوره ، وإلا لظهر وبان ، لتوفر الدواعي على نقله لو كان. بل حيث كان يتيسر له الردع فعدم صدوره منه موجب للقطع بإمضائه للسيرة المذكورة ، وإلا كان مخلا بغرضه ، وهو قبيح منه. بل لا ريب في تحقق الإمضاء منه بعد ملاحظة حاله في جريه على طريقة العقلاء المذكورة.

هذا ولا ينبغي التأمل في عدم اقتصار العقلاء في مقام التفاهم على النصوص الكلامية الموجبة للقطع بالمراد ، بل يكتفون بالظهورات الكلامية ، ولا يعتنون باحتمال مخالفتها للمراد الجدي إلا بقرينة صارفة ، بل هي الأكثر شيوعا والأيسر تناولا ، لعدم تيسر ضبط النصوص بقواعد عامة يتفق عليها الكل لا تختلف بالأحوال والأزمنة ، لعدم الضابط للاحتمالات القريبة فضلا عن البعيدة ، فلو كان البناء على الاقتصار على ما يوجب اليقين لاضطرب أمر التفاهم ، واختلت موازينه.

ثم إن احتمال عدم مطابقة الظاهر للمراد الجدي يكون لأحد أمور ..

الأول : خروج المتكلم عن طريق العقلاء المذكور واختراعه طريقا آخر.

٦٧

الثاني : عدم صدور الكلام لبيان المراد الجدي ، بل لغرض آخر غير عقلائي أو عقلائي ، كالخوف ، ومنه ما إذا كان صادرا لبيان بعض المراد الجدي مما هو مورد الحاجة للبيان مع إيكال بيان الباقي لقرائن منفصلة مخرجة عن مقتضى الظهور ، لعدم الحاجة لتعجيل بيانه.

الثالث : غفلة المتكلم عن مقتضى الظهور أو عن إقامة القرينة الخاصة الموجبة لتبدله لو فرض إمكان ذلك في حقه كما في غير الشارع.

الرابع : ضياع قرائن احتفت بالكلام أوجبت تبدل ظهوره ، ولو بسبب غفلة السامع.

ولا إشكال في عدم اعتناء العقلاء بالاحتمالات المذكورة ، ولا تمنع من اتباع الظهور ، بل يدفع الأول بأصالة جري المتكلم على مقتضى الطريق المألوف للعقلاء ، ما لم يثبت منه الردع عنه والخروج عن مقتضاه ، كما سبق ، والثاني بأصالة الجهة المعول عليها عند العقلاء ، والثالث بأصالة عدم الخطأ والغفلة المعول عليها في غير المقام أيضا ، والرابع بأصالة عدم القرينة. ولو لا ذلك لاختل نظام التفاهم.

هذا والظاهر أن أصالة الظهور الراجعة إلى كون مقتضى الظهور هو المراد الجدي للمتكلم تبتني على الأصول المذكورة بأجمعها وترجع إليها ، فهي إجمال لمؤدياتها ، وليست أصلا برأسه في قبالها. كما أن الأصول الوجودية الأخر ـ كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق ونحوها ـ راجعة إليها ومن صغرياتها ، فلا يرجع إليها لو كان الظهور على خلافها.

وأما الأصول العدمية ـ كأصالة عدم المخصص والمقيد ونحوهما ـ فإن أريد بها نفي اتصال الأمور المذكورة بالكلام بحيث توجب تبدل ظهوره فهي راجعة إلى أصالة عدم القرينة المتقدمة ومن صغرياتها. وإن أريد بها نفي صدور

٦٨

الأمور المذكورة منفصلة عن الكلام بنحو يرفع بها اليد عن مقتضى الظهور بعد فرض انعقاده ـ كما هو غير بعيد ـ كانت من صغريات أصالة عدم المعارض المعول عليها عند العقلاء أيضا.

والظاهر أن ما ذكرنا أولى من ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من رجوع أصالة الحقيقة وأخواتها إلى أصالة عدم القرينة ، ومن ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من إنكار أصالة عدم القرينة والاعتراف بأصالة الظهور ، بدعوى : أن بناء العقلاء على إرادة المتكلم للظهور ليس بتوسط بنائهم على عدم احتفاف الكلام بالقرينة ، ومن ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من أن أصالة الظهور في قبال أصالة عدم القرينة ومترتبة عليها موضوعا ، بدعوى : أن أصالة عدم القرينة تنقح ظهور الكلام وأصالة الظهور تقتضي إرادة مقتضاه بعد الفراغ عن ثبوته. وكذا ما تردد في كلام بعضهم من جعل أصالة الظهور في قبال أصالة الجهة. فإن جميع ذلك غير ظاهر ، بل الأقرب ما ذكرنا. وإن كان الأمر غير مهم بعد الاتفاق على الأصول المذكورة ، حيث يكون تحديد مرجعها أشبه بتحديد الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.

بقي شيء

وهو أن حجية الظهور من المسلمات في الجملة ، وإنما وقع الكلام في بعض الموارد ، إما بدعوى عدم بناء العقلاء على حجية الظهور فيها ، أو لدعوى ردع الشارع عن مقتضى سيرتهم فيها ، فينبغي الكلام فيها في ضمن مباحث ..

٦٩

المبحث الأول

في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام

فعن المحقق القمي قدس‌سره اختصاص الحجية بمن قصد بالإفهام. وقد يستدل لذلك بأن حجية الظهور مبنية على أصالة عدم الغفلة ، حيث يعول عليها في دفع احتمال غفلة المتكلم عن إقامة القرينة على خلاف ظاهر كلامه أو غفلة السامع عن القرائن المكتنفة بالكلام. أما لو لم يبتن احتمال إرادة المتكلم خلاف ظاهر كلامه على احتمال غفلتهما ، فلا دليل على حجية الظهور. وحينئذ فحيث لم يكن وظيفة المتكلم تفهيم كل أحد بل تفهيم خصوص من يقصد إفهامه ، وله إخفاء مراده عن غيره ، فلا مجال لحجية الظهور في حق من لم يقصد بالإفهام ، لاحتمال اختصاص من قصد بالإفهام بقرينة لا يطلع عليها غيره ، ولا يكون عدم اطلاعه عليها ناشئا عن غفلته ولا عن غفلة المتكلم ، ليدفع احتمال ذلك بالأصل المذكور ، ولا دافع لهذا الاحتمال.

وفيه : أن بناء العقلاء وأهل اللسان على العمل بالظواهر لا يبتني على خصوص أصالة عدم الغفلة بل الأصل عندهم عدم الصارف عن ظاهر الكلام مطلقا بعد الفحص عنه في مظانه ، من دون فرق بين من قصد بالإفهام وغيره ، كما لو وقع كتاب موجه من شخص إلى آخر بيد ثالث ، فإنه لا يتوقف عن استخراج مراد المرسل منه بحيث لو كان مضمون الكتاب متعلقا بعمله لم يكن له التساهل والتسامح معتذرا بعدم حجية ظهور الكتاب في حقه ، كما نبه لذلك غير واحد ، ويتضح مما تقدم في مبنى أصالة الظهور.

وعلى ذلك جرت سيرة العلماء في الأحكام الكلية ، حيث يأخذونها من ظواهر الأخبار مع عدم كونهم مقصودين بالإفهام منها ـ على كلام يأتي ـ وفي

٧٠

الموضوعات كما في الوصايا والأقارير والعقود وغيرها. فالتفصيل المذكور في غير محله.

بقي في المقام شيء

وهو أن المحقق القمي قدس‌سره جعل ثمرة التفصيل المذكور عدم حجية الأخبار في حقنا. لأن المقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين. وكذا الكتاب بناء على عدم كوننا مقصودين بالإفهام به. أما بناء على كونه من باب تصنيف المصنفين يقصد به تفهيم كل من يطلع عليه فهو حجة في حقنا وإن لم نكن مخاطبين به.

لكن الظاهر عدم ترتب الثمرة المذكورة في أكثر الأخبار ، وهي التي يرويها المخاطبون بها ، لابتناء نقلها على بيان المضمون لأجل العمل به والرجوع إليه ، لا لمجرد نقل اللفظ كحادث من الحوادث ، فيكون الناقل متعهدا بالمضمون ، فيلزمه التعرض لجميع ما هو الدخيل فيه من قرينة حالية أو مقالية.

ولذا يجري على اختلاف النسخ بالزيادة والنقصان إذا كان موجبا لاختلاف المضمون حكم التعارض ، لظهور حال عدم ناقل الزيادة في عدم وجودها.

وعليه فاحتمال عدم وصول القرينة ناشئ من احتمال غفلة المخاطب المقصود بالإفهام عنها حين تلقي المضمون من المعصوم عليه‌السلام أو غفلته عن بيانها عند حكاية المضمون ، أو تعمد إهمالها ، ويندفع الأولان بأصالة عدم الغفلة ، والثالث بفرض وثاقته وحجية نقله.

نعم قد يتم في الأخبار التي يرويها غير المخاطبين بها ، كما لو قال الراوي : سأله رجل عن كذا فقال عليه‌السلام له ... ، أو سمعته يقول لرجل ... ، أو كتب إليه رجل في كذا فكتب له ....

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من كون المقصود بها إفهام جميع

٧١

السامعين لها ، لعلمهم عليهم‌السلام بأن غرض الجالسين في مجالسهم الاستفادة من سؤال السائلين والتفقه به. فهو غير ثابت بنحو العموم. ومن ثم لا يبعد ترتب الثمرة المذكورة في مثل ذلك.

إلا أن الأخبار المذكورة تشهد بعدم الفرق في الحجية بين من قصد بالإفهام وغيره ، لما أشرنا إليه من أن نقل الأخبار من الرواة ليس لمحض حكاية اللفظ ، بل لبيان المضمون من أجل الرجوع إليه والعمل به ، وهو شاهد بأن عموم الحجية من الارتكازيات العامة التي جرى عليها الرواة ونقلة الحديث والعلماء في مقام معرفة الأحكام والاستدلال عليها ، كما تقدم.

هذا وقد يستشكل في الرجوع للروايات .. تارة : من جهة التقطيع الذي طرأ عليها ، حيث يحتمل معه ضياع القرائن.

وأخرى : من جهة النقل بالمعنى ، حيث قد يخطئ الناقل في فهم المراد أو في أدائه.

لكن يندفع الأول بأنه حيث كان إثبات الروايات في الكتب مع التقطيع لأجل الرجوع إليها والأخذ بمضامينها كان اللازم على مثبتها ملاحظة القرائن الدخيلة في فهم المراد. واحتمال غفلته مدفوع بالأصل.

والثاني بقرب ظهور كلام الراوي في أنه حاك باللفظ. وإلا كان ظاهر نقل الحديث وتدوينه المفروغية عن حجية النقل المذكور ، إما لبناء العقلاء على أصالة عدم الخطأ في فهم المراد وأدائه ، أو للنصوص المجوزة له (١) ، لما سبق من أن الغرض من نقل الأحاديث وتدوينها الرجوع إليها والعمل بها.

وكفى بسيرة الرواة والعلماء قديما وحديثا على الاهتمام بتدوين الروايات والعمل بها دافعا لهذه الشبهة وأمثالها.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩ ، ١٠ ، ٨٧ ، ٨٨.

٧٢

المبحث الثاني

في حجية الظواهر وإن لم تفد الظن ، أو ظن بخلافها

قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن ، أو إذا حصل الظن الغير المعتبر على خلافها. لكن الإنصاف أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان في كل مكان».

وما ذكره متين جدا بلحاظ مرتكزاتهم فيما هو محل الكلام من الحجية المتقومة بالتعذير والتنجيز في مقام التكليف أو الخروج عن عهدته.

نعم قد يخالف سيرتهم عند الاهتمام بتحصيل الواقع ، حيث لا يكتفون معه بالظهور مع عدم حصول الظن منه ، فضلا عما لو حصل الظن بخلافه ، بل قد لا يكتفون بالظن ويستزيدون من القرائن حتى يحصل الاطمئنان أو العلم حسب أهمية الواقع المفروض اهتمامهم به. وهو خارج عن محل الكلام ، كما نبه له في الجملة بعض مشايخنا قدس‌سره.

ولعل منشأ اكتفائهم بالظهور في محل الكلام أن إناطة حجية الظهور بالظن وجودا أو عدما يستلزم عدم انضباط موارد الحجة ، ليتكل عليها المتكلم ، لاختلاف الظن الشخصي بحسب الأحوال والأشخاص كثيرا ، وذلك يوجب اضطراب باب التفاهم ، بخلاف ما لو كانت تابعة للظهور فإنه أيسر ضبطا لتبعيته لجهات عامة مشتركة بين أهل اللسان غالبا.

نعم لا يبعد توقف العقلاء عن الاعتماد على الظهور مع وجود أمارات عرفية ـ وإن لم تكن معتبرة في نفسها ـ توجب الوثوق بوجود قرائن ترفع بها اليد عن أصالة عدم القرينة أو أصالة الجهة أو نحوهما مما تقدم ابتناء العمل بالظهور عليه ، بحيث يكون الظهور موردا للريب عرفا.

٧٣

ولعله على ذلك تبتني سيرة جمهور الفقهاء على طرح الروايات المتروكة والمهجورة بين الأصحاب ، لأن هجرها قرينة عرفية توجب الوثوق بل الاطمئنان بعثورهم على قرينة مانعة عن مقتضى أصالة عدم القرينة أو أصالة الجهة.

بخلاف ما لو لم يستند الظن بعدم إرادة الظهور لأمارة تقتضي الوثوق بوجود القرينة المذكورة ، بل استند لجهة خارجية ، كالشهرة الفتوائية التي لا تبتني على هجر الرواية أو تركها ، بل على أمور أخر كعدم عثورهم على الرواية أو خطئهم في فهمها أو دعوى الدليل المعارض لها أو غير ذلك.

المبحث الثالث

في حجية ظاهر الكتاب الكريم

فقد حكي عن جماعة من الأخباريين المنع عن العمل به ما لم يرد تفسيره عن الأئمة عليهم‌السلام ، وهو ظاهر الوسائل. وقد استدل بوجوه كثيرة بعضها ظاهر الوهن. وعمدتها النصوص الكثيرة التي تعرض لكثير منها في الوسائل ، وأنهاها في الباب الثالث عشر من أبواب صفات القاضي إلى ثمانين حديثا ، ثم قال : «وتقدم ما يدل على ذلك ويأتي ما يدل عليه ، والأحاديث في ذلك كثيرة جدا ... وإنما اقتصرت على ما ذكرت لتجاوزه حد التواتر». وهي على طوائف.

الأولى : ما تضمن عدم حجية القرآن إلا بعد الرجوع للأئمة عليهم‌السلام ، كصحيح منصور بن حازم : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ... وقلت للناس : أليس تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا : بلى. قلت : فحين مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجة لله على خلقه؟ قالوا : القرآن. فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم فما قال

٧٤

فيه من شيء كان حقا ... فأشهد أن عليا عليه‌السلام كان قيم القرآن ... ، فقال : رحمك الله» (١).

وحديث عبيدة السلماني : «سمعت عليا عليه‌السلام يقول : يا أيها الناس اتقوا الله ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال قولا آل منه إلى غيره ، وقد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه ، فقام عبيدة وعلقمة والأسود وأناس معهم فقالوا : يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟ فقال : يسأل عن ذلك علماء آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

الثانية : ما تضمن اختصاص الأئمة عليهم‌السلام بالعلم بالتأويل وأنهم الراسخون في العلم ، وما تضمن تفسير قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(٣) بهم عليهم‌السلام ، وأن علم الكتاب عندهم ، وميراثه إليهم خاصة ، وعهد بيانه إليهم ، ووجوب الرجوع لهم في تفسيره ، وهم المستنبطون ، وأن المتمسك بالقرآن هو الذي يأخذه منهم ومن سفرائهم إلى شيعتهم ، لا عن آراء المجادلين وقياس الفاسقين.

الثالثة : ما تضمن النهي عن تفسير القرآن مطلقا ، أو بالرأي ، أو من غير علم ، وعن القول والمراء والجدال فيه ، وعن أخذه من غيرهم عليهم‌السلام ، وأن الرجل ينتزع الآية فيخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض وأنه ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر ، ونحو ذلك.

الرابعة : ما تضمن أن للقرآن ظهرا وبطنا ، وأن فيه ناسخا ومنسوخا ، وأنه ليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ومن تفسيره ، ونحو ذلك.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٩.

(٣) سورة العنكبوت الآية : ٤٩.

٧٥

لكن الظاهر عدم نهوض النصوص المذكورة بالمدعى. أما الطائفة الأولى فعمدتها صحيح منصور ، وهو ظاهر في إرادة نصب الإمام ، ليكون حجة على الناس في بيان الحق ورفع الاختلاف فيه ، وأن القرآن لا يكفي في ذلك ، وهو لا ينافي حجية ظاهر الكتاب في مقام العمل كظاهر الإمام عليه‌السلام الذي لا يرفع الاختلاف أيضا. فالمراد فيه بالحجة الحجة الرافعة للاختلاف ، لا الحجة التي يرجع إليها في مقام العمل.

وبعبارة أخرى : ظاهر كلام الراوي الإشارة للواقع الخارجي الذي كان عليه الناس ، حيث استدلت كل فئة وفرقة من القرآن بما يناسب أهواءهم وآراءهم ، ليجادلوا به مع تجاهلهم لغيره ، غفلة أو تغافلا عن اشتماله على المجمل والمتشابه والظهورات المتنافية ، وعن عدم وفاء ظواهره ببيان تمام الواقع ، وعن وجود غيره من الأدلة من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، وحيث كان ذلك سببا للتفرق والانقسام في الأمة واختلافها ، بنحو أوجب خفاء الواقع أو ضياعه ، فلا يمكن تجنبه إلا بنصب مرجع يحكم فيه ويبين ما خفي منه ، فيكشف ذلك عن نصب المرجع المذكور من قبله تعالى بعد أن كان الغرض من بعثة الأنبياء هداية الناس وتعريفهم بالحق. ولا ظهور له في الردع عن العمل بظاهر القرآن على أنه حجة بعد الفحص عما ينافيه كسائر الحجج.

وأما رواية عبيدة فهي وإن كان لها نحو تعلق بالمطلوب ، إلا أنها ـ مع ضعف سندها ـ لا يبعد حملها على بيان عدم الاستغناء بالكتاب الكريم من دون رجوع للأئمة عليهم‌السلام ، تنبيها على مقام أهل البيت عليهم‌السلام الذي كان مجهولا حينئذ ، كما يناسبه صدرها المتضمن لعروض النسخ والخطأ في موضع سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث لا يراد به بيان عدم حجية سنته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لوضوح عدم التزام الخصم بذلك ، بل المراد لزوم الفحص عما يكشف عن عدم إرادة ظاهرها بالرجوع إليهم عليهم‌السلام وعدم الاستغناء بها عنهم كما عليه العامة.

٧٦

وأما الطائفة الثانية فهي ـ على كثرتها ـ أجنبية عما نحن فيه ، ولا تدل إلا على لزوم قبول ما يرد منهم عليهم‌السلام في تفسير القرآن وتأويله ، وعدم الاستغناء عنهم في ذلك ـ كما عليه العامة ـ من دون أن تنهض ببيان عدم حجية ظاهره إذا لم يرد منهم ما ينافيه. وليس معنى لزوم أخذه منهم دون غيرهم ، إلا لزوم أخذ ما يحتاج للتأويل والتفسير ، دون الأخذ بالظاهر الذي هو واصل بنفسه عرفا. كما أن إرثه ليس إلا بإرث ما اختص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلمه ، دون الظواهر التي يفهمها عموم الناس.

ومنه يظهر حال الطائفة الثالثة ، فإن الأمور المذكورة فيها لا تنافي حجية ظواهر القرآن ، لعدم ابتناء العمل بها على التأويل والتفسير ، ولا على القول فيه بغير علم ، وليس هو من انتزاع الآية ، ولا من ضرب بعض القرآن ببعض ، لظهورهما في ابتناء أخذ المعنى على التكلف أو التحكم.

ومثلها في ذلك الطائفة الرابعة ، فإن وجود الظهر والبطن والناسخ والمنسوخ وغيرها في القرآن لا ينافي حجية ظواهره على الوجه المعول عليه في سائر الظواهر ، وإنما يمنع من الأخذ البدوي وإهمال القرائن الأخر التي قد تجعله من المتشابه ، وليس معنى بعده عن عقول الرجال تعذر حصول شيء منه لهم ، بل بمعنى تعذر الوصول إلى تمام ما يقصد به ، كما هو ظاهر ما في مرسلة شبيب بن أنس عن الصادق عليه‌السلام : «قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم. قال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما. ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ... وما ورثك الله من كتابه حرفا» (١).

بل هو صريح ما في رواية الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ثم إن الله

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٧.

٧٧

قسم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعلمه إلا الله وملائكته والراسخون في العلم ...» (١). كيف ولا إشكال ـ ولو بضميمة بعض الروايات ـ في أن بعض ظواهره مرادة ، وهي مما تصل إليه العقول.

وبالجملة : التأمل في الروايات المذكورة المتقدمة وغيرها ـ على كثرتها ـ شاهد بورودها للردع عن الاستغناء بالقرآن عن الأئمة عليهم‌السلام ، أو النهي عن تأويل مجملاته وصرف ظواهره بالاجتهاد والاستحسانات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، أو عن الأخذ بمشابهاته من دون تأمل في القرائن الأخر ، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن محل الكلام.

ولو فرض عدم ظهور النصوص المذكورة في ذلك بنفسها فلا أقل من لزوم حملها عليه أو على نحوه مما لا ينافي حجية ظاهر الكتاب جمعا مع النصوص الكثيرة الظاهرة في حجية ظاهر الكتاب والعمل بها ، كأحاديث عرض الأخبار على الكتاب ، وأحاديث الترجيح بينها بموافقته (٢).

وأما ما في الوسائل من حملها على ما كان من القرآن واضح الدلالة ، فإن أراد به خصوص النص القطعي المراد فهو لا يناسب فرض اختلاف الأخبار الظاهر في احتمال كونه منشأ للتحير واحتمال صدق كل منها. وإن أراد منه ما كان ظاهر الدلالة وإن احتمل التأويل فهو لا يناسب ما ادعاه من عدم حجية ظواهر الكتاب.

ومثله ما ذكره من حملهما على ما ورد تفسيره منهم عليهم‌السلام. إذ هو راجع

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٤.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي.

٧٨

إلى العرض على السنة المفسرة للكتاب والترجيح بها ، لا العرض على الكتاب بنفسه والترجيح به ، الذي هو كالصريح من نصوص الطائفتين المذكورتين.

وأشكل منه ما ذكره في نصوص العرض على الكتاب من أن العمل حينئذ بالكتاب والسنة ، لا بالكتاب وحده (١). إذ فيه : أن مفاد النصوص المدعى دلالتها على المنع من العمل بظواهر الكتاب ليس هو المنع من ذلك تعبدا ، بل لتعذر الاطلاع على معناه إلا بأخذه منهم عليهم‌السلام. وحينئذ كيف يكون مرجعا في تصحيح الأخبار وتوهينها ، وكيف يكون التابع لشيء متبوعا له والمحكوم بشيء حاكما عليه؟!

ومثل الأخبار المذكورة ما تضمن لزوم الرجوع للكتاب الشريف والعترة الطاهرة الظاهرة في استقلال كل منهما في المرجعية كحديث الثقلين ونحوه. بل حمل جميع النصوص المتضمنة لوجوب الرجوع للقرآن والعمل به على خصوص ما إذا ورد تفسيره منهم عليهم‌السلام صعب جدا. وكذا النصوص الكثيرة الواردة في الموارد المتفرقة التي يظهر منها المفروغية عن جواز الرجوع للقرآن والاحتجاج بظاهره التي لا يسع المقام استقصاءها ، وقد تعرض لبعضها شيخنا الأعظم قدس‌سره.

وعلى هذا جرت سيرة الأصحاب قديما وحديثا ، فقد عرفوا بالرجوع للكتاب الشريف والاستدلال به ، متسالمين على حجيته وحجية ظواهره ، حتى اشتهر بينهم عدّه أول الأدلة ، وتقديمه على سائر الأدلة الظنية ، حتى اختلفوا في تخصيص خبر الواحد له ، وادعي إجماعهم على عدم نسخه له ، مع أن النصوص المتقدمة حجة للأخباريين نصب أعينهم قد حفظوها ووعوها فلم

__________________

(١) يراجع في جميع ما نقلناه عنه تعقيبه لحديث : ٣٧ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، ولحديث : ٨١ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي.

٧٩

يروها تنهض بالردع عن ذلك والمنع منه.

وبذلك يظهر أنه لا مجال للتعويل على الوجوه الأخر المستدل بها للمنع من حجية ظواهر الكتاب ، حيث لا تنهض ـ مهما بلغت من المتانة ـ برفع اليد عما سبق. مع أنها في نفسها لا تخلو عن إشكال.

منها : ما عن السيد الصدر ـ على اضطراب كلامه ـ من أن الظواهر من المتشابه ، الذي ورد النهي عن العمل به في الكتاب والسنة ، وليس المحكم إلا النصوص القطعية الدلالة. ولو فرض الشك في شمول المتشابه للظواهر كفى في منع العمل بها.

وفيه : أن المتشابه هو الذي يعمل به بعد التأويل ـ كما تشير إليه الآية الكريمة ـ إما لصرفه عن ظاهره ، أو لإجماله في نفسه ، أو لمصادمته لظهور مثله ، أو لدليل قطعي مانع من البناء عليه ، ولا يشمل الظواهر التي لا معارض لها والتي يراد العمل بظهورها تبعا لسيرة العقلاء وأهل اللسان. ومن ثم كان ظاهر الآية الكريمة المفروغية عن حرمة العمل بالمتشابه ، لا النهي عنه تأسيسا ، ردعا عن طريقة العقلاء في العمل بالظواهر.

ولو فرض إجمال المراد بالمتشابه واحتمال شموله للظواهر لزم الاقتصار فيه على المتيقن وعدم الخروج به عن مقتضى الأصل الذي اعترف به من حجية الظواهر.

ومنها : أن ما دل من الروايات على وقوع التحريف في القرآن مانع من العمل به ، لاحتمال ضياع القرائن الموجبة لتبدل ظهوره. ولا مجال معه للرجوع لأصالة عدم القرينة فيما وصل إلينا من الظواهر ، لعدم بناء العقلاء عليها في مثل ذلك مما علم فيه بضياع شيء من جملة الكلام وبوقوع الخطأ في نقله.

وفيه : أنه يصعب جدا البناء على وقوع التحريف في القرآن المجيد مع ما

٨٠