الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

وابتناء القول بالتخيير على الأدلة الآتية. وعلى كلا التقديرين لا ينهض بالاستدلال في قبال السيرة التي هي العمدة في المقام.

هذا وقد يستدل لعدم تعيين الأعلم للتقليد ، وجواز تقليد المفضول ، بوجوه ..

الأول : إطلاقات أدلة التقليد ، كتابا ، وسنة. بل قيل : إن حمل مثل آية النفر على صورة تساوي النافرين في الفضيلة حمل على الفرد النادر.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم من قصور الإطلاقات المذكورة ـ كسائر إطلاقات أدلة الحجية ـ عن صورة العلم بالتعارض والاختلاف. نعم لو كانت الصورة المذكورة هي الشائعة تعذر الحمل على غيرها ، وحينئذ يتعين حمل الإطلاقات على الحجية التخييرية ، ويتجه الاستدلال بها في المقام.

لكن الظاهر عدم شيوعها في الصدر الأول عند صدور الإطلاقات ، بسبب القرب من مصادر التشريع ، وعدم تحرير الفتاوى. فلا ملزم بالخروج عن ظهورها في الحجية التعيينية ، المستلزمة للقصور عن صورة العلم بالاختلاف.

الثاني : سيرة المتشرعة في عصر المعصومين عليهم‌السلام على الأخذ بفتاوى الفقهاء ، من دون تقيد بالأعلم ، ولا فحص عنه ، مع العلم بتفاضلهم.

ويندفع بأن المتيقن من ذلك صورة عدم العلم بالاختلاف. أما مع العلم به ـ كما هو محل الكلام ـ فثبوت السيرة غير معلوم. بل يظهر من الأخبار المتضمنة للسؤال عن الحكم الذي اختلف فيه أصحابنا البناء على التوقف حينئذ. وهي وإن اختصت بصورة إمكان استعلام الحكم من إمام العصر عليه‌السلام ، إلا أنها كافية في منع السيرة المتصلة بعصر المعصومين عليهم‌السلام على الأخذ بفتوى المفضول مع مخالفتها لفتوى الأفضل.

٦٦١

الثالث : لزوم العسر والحرج من الاقتصار على تقليد الأعلم ، لصعوبة تشخيصه ، وصعوبة رجوع جميع المسلمين له مع اختلاف أماكنهم وتباعد أوطانهم ، فلا يتيسر لهم جميعا استفتاؤه ، ولا يتيسر له إفتاء جميعهم.

وكأن المراد بالحرج الحرج النوعي ـ ليتم الاستدلال في حق من لا يلزم عليه الحرج من رجوعه للأعلم ـ

بضميمة ما يظهر من جملة من النصوص من أن الأحكام الشرعية لم تشرع بنحو يلزم منها الحرج نوعا.

وفيه : أن الترجيح بالأعلمية ـ بمقتضى السيرة ـ لما كان فرع الابتلاء بفتوى الفقيه ، والالتفات للاختلاف ، فهو لا يقتضي رجوع المسلمين لشخص واحد ، بل اكتفاء كل مكلف بالترجيح بها بين من يتيسر له معرفة رأيه عند اختلافهم.

نعم قد يلزم ذلك في عصورنا حيث شاع تسجيل الآراء ، وانتشار الرسائل العملية ، وكثرت وسائط النقل والاتصال. لكن ذلك أمر حادث لا يمكن تفسير التشريع على ضوئه. مع أنه بسبب ذلك لا يلزم الحرج من رجوع الكل لشخص واحد ، حيث يتيسر معه معرفة رأيه لمن يريدها.

غاية الأمر أنه قد يصعب تشخيص الأعلم على الكل ، لعدم تيسر اطلاع أهل الخبرة على حال الكل ، وغلبة اختلافهم في من يتيسر لهم الاطلاع عليه.

لكن ذلك لا يستلزم سقوط اعتبار الأعلمية رأسا ، ولو في حق من يتيسر له ذلك من المكلفين ، أو في حق من يعلم بكونه مفضولا من المجتهدين ، بحيث يحرز لأجله حجية رأيه وجواز الرجوع له ، وترك من يعلم بأنه أعلم منه ، خروجا عن مقتضى السيرة. لعدم نهوض قاعدة نفي الحرج بذلك ، لاختصاصها بنفي الحرج الشخصي ، وبنفي الأحكام الحرجية ، لا تشريع الحكم الذي يرتفع به الحرج ، كحجية رأي المفضول في المقام.

كما أن ما يستفاد من بعض النصوص من عدم تشريع الأحكام بنحو يلزم منها الحرج نوعا لا ينهض ببيان كيفية التشريع الذي لا يلزم منه الحرج النوعي ،

٦٦٢

ليحرز به عموم الحجية لفتوى المفضول.

ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من جواز الرجوع للأعلم ، بل لزوم ترجيحه في فرض تيسر الاطلاع عليه. ثم إنهم وإن أطلقوا الترجيح بالأعلمية ، إلا أن المتيقن من السيرة ما إذا كان الفرق معتدا به ، ولا يكفي الأعلمية بمرتبة ضعيفة غير معتد بها.

هذا ولو لم يتيسر معرفة الأعلم بالوجه المذكور ، إما للعلم بتساوي المجتهدين ، أو تقاربهم ، أو للجهل بحالهم ، فالمعروف بين الأصحاب التخيير بين المجتهدين ، بل مقتضى ما تقدم في صورة التفاضل المفروغية عنه.

وقد يستدل له بإطلاقات أدلة التقليد. ويظهر الجواب عنه مما سبق.

نعم ادعى شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره الإجماع على جواز التقليد مطلقا للعامي ، وعدم تكليفه بالاحتياط. وبه يخرج عن أصالة التساقط في المتعارضين ، التي سبق التعرض لها.

لكن بعض مشايخنا قدس‌سره استشكل في الإجماع المذكور بعدم كونه إجماعا تعبديا ، ليكشف عن رأي المعصومين عليهم‌السلام. ويناسبه عدم تحرير المسألة بصورة واضحة في العصور السابقة ، بل عدم الابتلاء بها في عصور الأئمة عليهم‌السلام ، لتيسر الرجوع لهم عليهم‌السلام للفصل في الخلاف ، كما تضمنته بعض النصوص ، فكيف يعرف رأيهم عليهم‌السلام في صورة تعذر الرجوع لهم ، كما في عصر الغيبة؟. وكذا ظهور كلمات بعض الأصحاب رضى الله عنه في عدم الاعتماد على الإجماع المذكور ، بل على بعض الوجوه الاجتهادية.

ومن ثم جزم قدس‌سره بوجوب الأخذ بأحوط القولين. وهو الذي تقتضيه القاعدة في حق العامي بعد عدم إحاطته بمقتضى الأصول في موارد الخلاف ، وتمييز موارد جريان الأصول الترخيصية من موارد جريان الأصول الإلزامية.

لكن الإنصاف أن الاحتياط متعسر على العامي غالبا ، فإن تعلم مسائل

٦٦٣

الخلاف وضبطها ، وكيفية الاحتياط ، والترجيح بين جهاته عند التزاحم ، مما لا يتهيأ لعامة الناس. ولا سيما مع كثرة المجتهدين ، وظهور أقوالهم. وخصوصا بناء على ما سبق من عموم أدلة التقليد للأموات.

وحينئذ يكون مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم لزومه ، واكتفاء الشارع الأقدس بالموافقة الاحتمالية ، بناء على ما سبق في أوائل الكلام في مباحث العلم الإجمالي بالتكليف من إمكان اكتفاء الشارع بها. ولازم ذلك متابعة أحد المجتهدين تخييرا ، لتحقق مقتضي الحجية فيه ، ولأنه المتيقن من صور الموافقة الاحتمالية.

بل حيث كان عدم تيسر معرفة الأعلم بالوجه المذكور شايعا ، كالاختلاف بين المجتهدين ، فذلك يوجب الاطمئنان بعدم تشريع التقليد بالوجه المقتضي غالبا للتساقط والاحتياط ، الذي هو حرجي نوعا ، وبتسامح الشارع الأقدس في ذلك ، واكتفائه بما يتيسر للمكلف من المرجحات ، ومع عدمها فالتخيير ، كما هو المناسب للإجماع المدعى.

وعلى ذلك يتعين ترجيح الأعلم ولو بمرتبة ضعيفة ، ثم ترجيح محتمل الأعلمية لو كان معينا ، فضلا عن مظنونها ، ثم ترجيح الأورع ، كما تقدم من المعالم ، لأنه أقرب للتحفظ في مقام الاستنباط ، وللاقتصار في التخيير المخالف للأصل على المتيقن ، وهو صورة فقد جميع المرجحات. وإن كان الأحوط مع ذلك الاقتصار على ما إذا كان الاحتياط حرجيا بالفعل ، كما هو الغالب.

المسألة الرابعة : بعد الفراغ عما تقدم في مبحث الإجزاء من عدم إجزاء الحكم الظاهري ، فإذا عمل المكلف على فتوى المجتهد بحجة شرعية ، ثم سقطت تلك الفتوى عن الحجية في حقه ، ووجب العمل على وجه آخر ، فهل ينتقض التقليد السابق في الوقائع التي عمل فيها على طبقه ، فيجب تدارك

٦٦٤

الأعمال لو كانت باطلة وقابلة للتدارك بمقتضى الحجة الجديدة ، كما يجب ترتيب سائر آثار بطلانها ، كالتطهير من النجاسات ، والضمان في الماليات ونحوهما ، أو لا ينتقض ، بل يجتزئ المكلف بما وقع؟

لا ينبغي التأمل في أن مقتضى القاعدة وجوب التدارك لو ظهر الخطأ للمقلد بالعلم ، أو باجتهاده لو بلغ مرتبته. أما مع العلم فظاهر ، حيث لا يحتمل اختلاف الوقائع السابقة عن اللاحقة في حكم الموضوع الواحد. وأما مع الاجتهاد ، فلوضوح عموم حجية الأدلة التي استند إليها للوقائع السابقة ، فتكون حجة على خطأ مقتضى التقليد السابق فيها. وكذا الحال لو عدل المجتهد نفسه عن اجتهاده السابق بعلم ، أو باجتهاد مخالف ، لعين ما سبق.

ومنه يظهر اندفاع ما في الفصول من دعوى عدم تحمل الواقعة لاجتهادين ولو في زمانين ، لعدم الدليل عليه. وجه الاندفاع : أنه يكفي في الدليل عليه إطلاق أدلة الاجتهاد الثاني الشاملة للوقائع السابقة.

وأما لو كان سقوط الفتوى السابقة عن الحجية للعدول في التقليد من شخص لآخر ، فإن كان العدول بسبب أعلمية الثاني ، فالظاهر لزوم التدارك أيضا ، لعدم الفرق في بناء العقلاء على ترجيح الأعلم بين سبق الرجوع لغيره في الواقعة وعدمه. ومجرد حجية الأول في وقته لا يصلح مانعا من عموم حجية الثاني للوقائع السابقة ، وسقوط حجية الأول فيها. وبه يخرج عن استصحاب حجية فتوى الأول في تلك الوقائع. لأن مقتضى مرجحية الأعلمية سقوط فتوى المفضول في تلك الوقائع بظهور فتوى الأفضل ، كما تسقط في الوقائع اللاحقة.

وإن لم يكن العدول لأعلمية الثاني ، بل لأمر تعبدي ـ كما قيل به في الموت ونحوه ، على ما سبق ـ فإن كان لدليل العدول إطلاق يعمّ الوقائع السابقة ـ بنحو ينافي بقاء حجية الأول فيها ـ فالمتجه البناء على عدم الإجزاء أيضا ، كما

٦٦٥

هو ظاهر.

وإن لم يكن له إطلاق ـ كالإجماع المدعى على وجوب العدول مع الموت ـ تعين البناء على اختصاص حجية الثاني بالوقائع اللاحقة ، وبقاء الأول حجة في الوقائع السابقة المفروض مطابقة العمل فيها لفتواه ، من دون موجب للتدارك ، بعد فرض عدم الدليل على سقوط فتواه عن الحجية بالإضافة لتلك الوقائع ، واختصاص دليل العدول بالوقائع اللاحقة.

نعم إنما يتم ذلك إذا لم يلزم منهما مخالفة علم إجمالي بالتكليف ، كما إذا أفتى الأول بعدم وجوب صلاة الآيات وأفتى الثاني بوجوبها ، أو بالعكس.

أما مع لزومها فالمتعين سقوط حجية كل من المعدول عنه والمعدول إليه ، ووجوب الاحتياط ، خروجا عن العلم الإجمالي المفروض.

كما إذا قلد من يفتي بوجوب القصر مدّة ، ثم عدل إلى من يفتي بوجوب التمام. حيث يعلم إجمالا إما بوجوب تدارك ما مضى ، وقضائه تماما كما يتم فيما يأتي ، أو بوجوب القصر عليه فيما يأتي أيضا. ولا يخرج عن العلم الإجمالي المذكور إلا بالجمع بين الأمرين بقضاء ما سبق تماما ، والجمع بين القصر والتمام فيما يأتي.

لكن ليس بناؤهم على ذلك ، بل على الاجتزاء في الوقائع اللاحقة بمطابقة التقليد اللاحق ، مع الخلاف في وجوب تدارك ما سبق لا غير.

هذا كله بحسب القواعد الأولية العامة. وأما بحسب الأدلة الخاصة فقد يستدل للإجزاء وعدم وجوب التدارك مطلقا .. تارة : بلزوم العسر والحرج ، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأي واحد ، كما في الفصول.

وأخرى : بالإجماع المدعى. ففي التقريرات عن بعض الأفاضل في تعليقاته على المعالم أنه ظاهر المذهب ، وعن المناهج نفي القول بعدم

٦٦٦

الإجزاء ، وقال سيدنا الأعظم قدس‌سره : «بل نسب إلى بعض دعوى صريح الإجماع ، بل الضرورة عليه». نعم عن بعض الأعاظم قدس‌سره أن المتيقن منه العبادات. وربما قيل : إن المتيقن منه الصلاة.

وثالثة : بسيرة المتشرعة ، لابتلائهم بذلك كثيرا ، خصوصا بناء على المشهور من عدم جواز البقاء على تقليد الميت ، فلو كان بناؤهم على عدم الإجزاء للزم الهرج والمرج.

لكن يندفع الأول ـ مع عدم اطّراده ـ بأنه لا يقتضي الإجزاء والحكم بصحة العمل واقعا أو ظاهرا ، بل عدم وجوب التدارك وعدم ترتيب أثر البطلان بالمقدار الذي يلزم منه الحرج. مع أنه لا يجري في حقوق الناس ، كالضمان ، لمنافاته في حقهم للامتنان ، الذي هو مبنى قاعدة نفي الحرج.

والثاني بأنه لا مجال للاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير ، ولا سيما مع إنكار غير واحد له. قال في التقريرات في بيان القول بعدم الإجزاء : «وفاقا للنهاية والتهذيب والمختصر وشروحه وشرح المنهاج على ما حكاه في شرح المفاتيح عنهم. بل وفي محكي النهاية الإجماع عليه ، بل وادعى العميدي قدس‌سره الاتفاق على ذلك ...». وكذا مع إطلاق جماعة عدم الإجزاء في الأمارات والطرق الظاهرية.

وأما الثالث فقد استشكل فيه غير واحد بمنع السيرة. وذكر بعض مشايخنا قدس‌سره أنها ـ لو تمت ـ مستندة في أمثال عصرنا إلى فتوى المجتهدين ، ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين عليهم‌السلام.

أقول : لا ريب في ابتناء معرفة الأحكام في عصور الأئمة عليهم‌السلام على الخطأ كثيرا. لعدم وضوح فتاواهم عليهم‌السلام لشيعتهم ، بسبب انتشار فقهاء العامة ، وتعارف أخذ الشيعة منهم ، للغفلة قبل عصر الصادقين عليهما‌السلام عن امتياز الفرقتين في الفقه ، واختلافهما فيه ، كما يشهد به قلة روايات الشيعة عن من قبلهما من

٦٦٧

الأئمة عليهم‌السلام ، وكثرة روايتهم عنهما وعن من بعدهما منهم عليهم‌السلام ، خصوصا في الفروع المهمة التي يكثر الابتلاء بها ، كفروع الطهارة الحدثية والخبثية والصلاة وغيرهما ، بنحو يظهر منه خفاء بعض ما هو من ضروريات الفقه اليوم عليهم.

وبعد تميز الفرقتين ، والالتفات لاختلافهما في الفروع ، وتنبه الشيعة لوجوب الأخذ منهم عليهم‌السلام ، وعدم الركون لغيرهم ، فقد كان وصول أحكامهم عليهم‌السلام لشيعتهم تدريجيا ، مشفوعا بأسباب الضياع والاشتباه من التقية ، والخطأ ، والكذب ، وضياع كثير من القرائن. ولذا اختلفت الأخبار كثيرا ، وكثرت الشكوى من ذلك.

ولازم ذلك تعرض أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وشيعتهم عموما للاطلاع كثيرا على خطأ ما وصل إليهم ، إما بالسؤال منهم عليهم‌السلام ، أو بوصول أحاديث أخر مخالفة لما وصل لهم. فلو كان البناء مع ذلك على عدم الإجزاء بعد انكشاف الخطأ ، ولزوم التدارك ، لوقع الهرج والمرج واضطرب أمرهم ، ولكثر منهم السؤال عن الأحكام الماضية ، ولزوم تداركها ، وضوابط ذلك وما يتعلق به من فروع. مع أنا لم نعثر على ذلك فيما وصلنا من النصوص. ويظهر من ذلك المفروغية عن الإجزاء.

وهو المناسب لما ارتكز من سهولة الشريعة ، وعدم ابتنائها على الضيق والحرج ، وعدم إيقاعهم عليهم‌السلام لأوليائهم وشيعتهم إلا فيما يسعهم ، رأفة بهم ورحمة لهم ، وتداركا لما ابتلوا به نتيجة ظلم الظالمين من مشاكل أوجبت صعوبة القيام عليهم بالوظائف الشرعية الواقعية الأولية. ولذا أحلوا لهم الخمس ونحوه مما يكون لهم ، واكتفوا منهم في الزكاة والخراج والمقاسمة بما يأخذه منهم حكام الجور ، وأمضوا أحكامهم فيها.

كما قد يعتضد ذلك أو يتأيد بالنصوص الكثيرة المتضمنة تعمد

٦٦٨

الأئمة عليهم‌السلام بيان خلاف الواقع تقية على الشيعة ، وما تضمن الإرجاع عند فقد النص لبعض الطرق التي يتوقع ظهور الخطأ فيها ، مثل ما تضمن الإرجاع لما رواه العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) وما تضمن الأخذ بخلاف ما يفتي به قاضي البلد (٢). حيث لا يبعد كون مقتضى إطلاقها المقامي الإجزاء لو انكشف الخطأ ، فيكون عاضدا للسيرة التي هي العمدة في المقام.

ودعوى : أن المتيقن من السيرة ما لو لم يكن الخطأ موجبا لبطلان العمل ، كما في موارد حديث : «لا تعاد الصلاة ...» ونحوها ، ولم يعلم ابتلاؤهم بغير ذلك. ممنوعة جدا ، لكثرة اختلاف الأخبار والفقهاء في غير الموارد المذكورة ، كتحديد الكر ، والوضوء ، والنجاسات ، والقصر والتمام ، والتذكية ، وغيرها مما يكون الإخلال فيه مبطلا للعمل ومستلزما للقضاء ، والضمان ونحوها. فعدم اهتمام المتشرعة بتمييز الموارد المذكورة شاهد بالمفروغية عن عموم الإجزاء.

نعم لا يبعد اختصاص السيرة بالعبادات ونحوها مما يقتضي بطلانه بعض الآثار التي هي من سنخ التدارك والتبعة ، كالقضاء والضمان والكفارات ونحوها. أما ما لا يكون من سنخ التدارك ، بل من سنخ الجري على مقتضى العمل السابق ، وترتيب آثار صحته ، فلا يتضح قيام السيرة عليه بعد انكشاف البطلان.

فمن ذكى بغير الحديد ـ مثلا ـ لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطأ له. وكذا من تزوج امرأة بوجه قام الدليل عنده على مشروعيته لم يبعد توقفه عن مباشرتها ، وعن ترتيب آثار الزوجية عليها ، بعد انكشاف البطلان ، ونحو ذلك. ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة. ولعله إليه يرجع ما قيل

__________________

(١) رجال الكشي ص : ٢٧٧ طبعة النجف الأشرف.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٧.

٦٦٩

من اختصاص الإجماع بالعبادات.

بل لا يبعد قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الإعادة لو انكشف الخطأ بعد العمل قبل خروج الوقت. لعدم كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك.

ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة أيضا ، لعدم وضوح ابتلائهم بانكشاف الخطأ في الوقت بعد العمل ، وعدم وضوح كيفية عملهم لو فرض ابتلاؤهم به بعد عدم أهميته ، وعدم لزوم الحرج من الإعادة ، ليحاول التخلص منه بالسؤال عن الإجزاء ، فلا يكشف عدم السؤال عن المفروغية عنه.

كما أن المتيقن من السيرة أيضا ما إذا كان خفاء الحكم لعدم وصول الدليل للمكلف ، كما لو عدل المجتهد عن فتواه لعثوره على نص لم يكن مقصرا في عدم الوصول إليه ، أو عدل المقلد في تقليده لأحد أسباب العدول ، أو عدل مقلده في فتواه ، أو ظهر له خطأ فتوى مقلده لبلوغه مرتبة الاجتهاد.

بخلاف ما إذا كان لخطأ المكلف في فهم الدليل الواصل ، أو لنسيانه أو نحو ذلك ، مما يعود للمكلف نفسه وإن كان معذورا ، كما يكثر في حق المجتهد في زماننا ، وكما إذا نسي العامي فتوى مقلده ، أو لم يحسن فهم كلامه.

كل ذلك لعدم شيوع الابتلاء بذلك في تلك العصور ، وعدم وضوح بنائهم على الإجزاء معه ، لاحتمال ابتناء الإجزاء على الرفق بأهل الحق ، وعدم إلزامهم بتدارك ما ضاع عليهم بسبب الظالمين ، دون ما يستند ضياعه للمكلف نفسه وإن كان معذورا.

ومنه يظهر أن الإجزاء في المقام واقعي ، لا ظاهري ، فلا مجال معه لفرض العلم الإجمالي الذي سبق تقريب لزومه من مقتضى القاعدة في بعض الفروض.

٦٧٠

خاتمة

في وجوب الفحص

لا بد للمجتهد في مقام الاستنباط ، وتشخيص وظيفته ووظيفة العامي ، من استفراغ الوسع في الفحص عن الأدلة ، والمعارضات ، والقرائن الدخيلة في تعيين مفاد الدليل. وليس له الاكتفاء بما وصل له من الأدلة ، فضلا عن الرجوع للأصل من دون فحص عن الدليل لو لم يطلع عليه.

والظاهر عدم الإشكال بينهم في ذلك ، كما يناسبه أخذ كثير منهم استفراغ الوسع في تعريف الاجتهاد. بل لعل إطلاقهم الاجتهاد إنما هو بلحاظ ذلك ، لمناسبته لمعناه لغة. ومرجع ذلك إلى قصور أدلة الحجج والأصول عن صورة عدم الفحص ، فلا يمكن الرجوع إليها.

وكيف كان فيستدل على وجوب الفحص بأمور ..

الأول : الإجماع ، فإنه وإن لم أعثر على من ادعاه على عموم الدعوى المذكورة. إلا أنه قد يستفاد من مجموع كلماتهم ، فقد ادعى شيخنا الأعظم قدس‌سره الإجماع القطعي على عدم جواز الرجوع للبراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة. وذكر بعض أعاظم تلامذته في حاشيته على الرسائل أنه لا ريب فيه ، كما يظهر بأدنى فحص في كلماتهم ، بل الحق إجماع علماء الإسلام عليه. انتهى. كما أنه حكى في المعالم عن جمع من المحققين أن العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص ممتنع إجماعا. بل يظهر المفروغية عنه من استدلاله على ذلك بأن المجتهد يجب عليه البحث عن الأدلة وكيفية دلالتها.

وهو المناسب لسيرة الفقهاء في مقام الاستنباط والفتوى ، لاهتمامهم

٦٧١

بضبط الأدلة واستيعابها بنحو يظهر من حالهم ـ ولو بمعونة الارتكازيات ـ وجوب ذلك.

وأما ما قد يظهر من صاحب المعالم من عدم وجوب الفحص عن قرينة المجاز ، وما نسب للعلامة من جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص. فإما أن ينزلا على ما لا ينافي ذلك ، بأن يحملا على الخطابات العرفية ، أو على عدم وجوب القطع بانتفاء المخصص وقرينة المجاز ، والاكتفاء بالاطمئنان والظن. وإما أن يكونا مستندين لشبهة مخرجة عما سبق ، من دون أن يقدحا في الإجماع الارتكازي المتقدم.

الثاني : العلم الإجمالي بوجود الأدلة على التكاليف ، والقرائن الدخيلة فيها ، التي يمكن الاطلاع عليها بالفحص. وهو منجز لاحتمال التكليف في مورد احتمال العثور على الدليل ، أو القرينة بالفحص. ومع تنجز احتمال التكليف لا مجال للرجوع للطرق والأصول الترخيصية المعذرة.

نعم هذا الوجه إنما ينفع مع عدم انحلال العلم الإجمالي بالعثور على مقدار المعلوم بالإجمال ، دون ما إذا عثر عليه واحتمل وجود غيره ، كما يظهر وجهه مما سبق في مبحث انحلال العلم الإجمالي.

الثالث : الأدلة النقلية ، وهي طائفتان :

الأولى : ما تضمن الإنكار على بعض العامة في استنباط الحكم والتصدي للفتوى من دون معرفة تامة بالكتاب المجيد ، ولا تمييز للناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص منه.

كموثق مسعدة بن صدقة أو صحيحه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث احتجاجه على الصوفية لما احتجوا عليه ب آيات من القرآن : «قال : ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، الذي في مثله ضل من ضل ،

٦٧٢

وهلك من هلك من هذه الأمة؟ ... «إلى أن قال :» فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله ... وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ ... إلى أن قال : كونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه ، ومحكمه من متشابهه ...» (١).

ورواية إسماعيل بن جابر عنه عليه‌السلام في ذمّ الناس : «وذلك أنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجوا بأول الآية وتركوا السنة في تأويلها ... فضلوا وأضلوا ...» (٢).

ومرسل شبيب عنه عليه‌السلام في حديث : «قال لأبي حنيفة : أنت فقيه [أهل. ظ] العراق؟ قال : نعم. قال : فبم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم.

قال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ـ ويلك ـ ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ...» (٣).

ومرسل العياشي عن عبد الرحمن السلمي : «أن عليا عليه‌السلام مرّ على قاض فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا. فقال : هلكت وأهلكت» (٤).

ومرسله الآخر عنه عليه‌السلام في الإنكار على عمر حين أفتى بالمسح على الخفين لدعوى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مسح عليهما ، وفيه : «قال : قبل المائدة أو بعدها؟ قال : لا أدري. قال : فلم تفتي وأنت لا تدري؟. سبق الكتاب الخفين» (٥).

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٣.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٣.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦٢.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٧.

(٥) تفسير العياشي سورة المائدة ج : ١ ص : ٢٩٧ حديث : ٤٦.

٦٧٣

لوضوح أن أصالة الظهور ، وعدم التخصيص ، والنسخ ، من الأصول العقلائية ، فإنكار العمل بالكتاب من دون معرفة تامة به ، ولا معرفة بالناسخ والخاص ، ظاهر في لزوم استفراغ الوسع في مقام الاستنباط ، وعدم الاكتفاء بالدليل الواصل.

نعم هذه النصوص مختصة بالكتاب ، فاستفادة حكم غيره مبني على إلغاء خصوصية موردها ، أو أنها تكون مؤيدة للعموم المدعى.

الثانية : ما تضمن الأمر بطلب العلم من أجل التعليم والعمل ، كآيتي النفر (١) ، وسؤال أهل الذكر (٢) ، والنصوص الكثيرة الواردة في تفسير الآيتين ، وغيرها مما تضمن الأمر بطلب العلم ، والحث على السؤال ، والذم على تركه ، والأمر بمذاكرة الروايات على اختلاف ألسنتها (٣).

ومثل صحيح مسعدة بن زياد : «سمعت جعفر بن محمد عليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فقال : إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى للعبد : أكنت عالما؟ فإن قال : نعم قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلا قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه. فتلك الحجة البالغة لله عزوجل على خلقه» (٤).

وصحيحه الآخر عنه عليه‌السلام في من أطال الجلوس في الخلاء لاستماع الغناء مستحلا له ، لأنه لم يأته ، وإنما سمعه ، حيث أنكر عليه‌السلام محتجا بقوله

__________________

(١) سورة التوبة الآية : ١٢٢.

(٢) سورة الأنبياء الآية : ٧.

(٣) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ ، ٧ ، ٨ ، ١١ من أبواب صفات القاضي. وأصول الكافي ج : ١ باب : ١ من كتاب فضل العلم. والبحار ج : ١ باب : ١ من كتاب العلم.

(٤) أمالي المفيد ، المجلس الخامس والثلاثون حديث : ١. ورواه عنه في البحار ج : ٢ ص : ٢٩ باب : ٩ من أبواب كتاب العلم حديث : ١٠.

٦٧٤

تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(١) ، ثم قال : «قم فاغتسل ، وصلّ ما بدا لك ، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم. ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك ...» (٢).

وما ورد من النصوص في المجدور والجريح يجنب ، فيغسل فيموت ، من استنكار عدم السؤال ، والتوبيخ عليه ، وفي بعضها «قتلوه ، قتلهم الله ، إنما كان دواء العي السؤال» (٣).

وحيث كان مفادها وجوب الفحص المتعلق بعمل المكلف الدخيل في حفظ تكاليفه ، كان مقتضى إطلاقها وجوبه حتى في مورد الدليل المعتبر في نفسه إذا احتمل تبدل مقتضى الوظيفة بالفحص ، ولا يختص بصورة فقد الدليل ، لصدق السؤال والتعلم والتفقه في الدين ونحوها من العناوين المأخوذة في الأدلة عليه.

بل هو صريح ما ورد في المجدور والجريح ، لوضوح أن التغسيل مقتضى عموم وجوب غسل الجنابة ، ومشروعية التيمم مع المرض من سنخ المخصص له.

هذا ومقتضى المناسبات الارتكازية ، وسياق جملة من النصوص ، بل صريح بعضها ، كون وجوب التعلم والفحص طريقيا في طول التكاليف الواقعية ، لأجل حفظها والقيام بمقتضاها. ومن ثم لا يجب في غير موارد احتمال الحكم الإلزامي ، ولا فيها مع عدم فوت الواقع ، لعدم الابتلاء بها ، أو للاحتياط فيها.

__________________

(١) سورة الاسراء الآية : ٣٦.

(٢) الوسائل ج : ٢ باب : ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ٢ باب : ٥ من أبواب التيمم حديث : ١ ، ٣ ، ٦.

٦٧٥

ومرجع الوجوب الطريقي المذكور إلى أن الواقع مورد للمسئولية ، ولا يكون الجهل به عذرا إذا استند للتقصير في الفحص. ولازم ذلك قصور إطلاقات أدلة الحجج والأصول عن صورة عدم الفحص ، كما سبق في توجيه المدعى.

ودعوى : امتناع حمل الأدلة المتقدمة على الوجوب الطريقي ، الراجع إلى عدم معذرية الجهل. لشمولها لما إذا وقع العمل غفلة عن احتمال الحرمة ، بل قد يكون هو المتيقن من مواردها ، فتنافي حكم العقل بقبح عقاب الغافل. كما أنها تشمل التكاليف الموقتة التي لا تكون فعلية قبل الوقت ، ليجب تعلمها طريقيا ، ولا يجب تعلمها بعد الوقت ، لضيقه عنه.

فلا بد من حملها على الوجوب النفسي المطلق غير الموقت ، فيكون العقاب على ترك التعلم بنفسه ، لفعلية التكليف به ، والقدرة عليه قبل الوقت ، كما حكي عن الأردبيلي ، وصاحب المدارك. وحينئذ لا ينافي معذرية الجهل من التكاليف الواقعية. ولا تنهض أدلة وجوب التعلم بتقييد أدلة الطرق والأصول.

مدفوعة بالمنع من حكم العقل بقبح العقاب مع الغفلة إذا كانت مستندة لاختيار المكلف ، وتقصيره. وكذا مع تعذر التعلم تقصيرا ، لعدم حفظه القدرة عليه قبل دخول الوقت ، نظير ما يذكر في موارد المقدمات المفوتة. وإلا فأدلة وجوب التعلم المتقدمة كما تشمل وقوع العمل غفلة عن احتمال التكليف ، تشمل وقوعه مع الغفلة عن وجوب التعلم.

على أن حمل الأدلة المتقدمة على وجوب التعلم نفسيا ـ مع إباء سياقها عنه ، بل صراحة بعضها في خلافه ـ مستلزم لحملها إما على الاكتفاء بمسمى التعلم ، ولو لحكم واحد ، وهو خلاف المقطوع منها. أو على تعلم جميع

٦٧٦

الأحكام وإن لم تكن إلزامية ، أو لم تكن مورد الابتلاء ، أو لم تكن معرضة للمخالفة ، للبناء على الاحتياط. وهو خلاف المقطوع به منهم ، ومن المرتكزات المتشرعية. كما أن لازمه عدم اختلاف مقدار العقاب باختلاف التكاليف الفائتة في الأهمية. ولا يظن بأحد البناء على ذلك.

ومن هنا لا ينبغي التأمل فيما ذكرنا من كون وجوب التعلم طريقيا مانعا من الرجوع للأصول والأدلة الواصلة ، كما هو ظاهر الأصحاب.

بقي في المقام أمور ..

الأول : الظاهر أن الفحص اللازم هو الفحص بالمقدار الموجب لليأس من كون استمرار الفحص موجبا للظفر بالدليل ، وإن أمكن حصوله بوجه غير محتسب ، قد يحصل مع الفحص وبدونه.

لقصور الوجوه السابقة عن إثبات ما زاد على ذلك. أما الإجماع فظاهر. وأما العلم الإجمالي ، فلأن المتيقن إجمالا هو وجود الأدلة التي يعثر عليها بالفحص ، ولا علم بوجود ما زاد على ذلك مما يكشف عن تكاليف غير واصلة ، ليكون منجزا.

وأما النصوص ، فلورود جملة منها مورد الإنكار على ترك الفحص ، والمنصرف منه مورد التقصير العرفي في تركه ، للاعتداد باحتمال الاطلاع بسببه على الواقع ، ولا يشمل فرض اليأس من ذلك. وكذا الحال فيما أطلق فيه وجوب التفقه والتعلم ، إذ لا يراد به إلا طلب تحصيل العلم من مظانه المتيسرة ، ولا نظر فيه إلى حصوله بالطرق غير المحتسبة.

والظاهر أن سيرة الفقهاء في مقام الاستنباط على ذلك ، لا على حصول العلم أو الاطمئنان بعدم الدليل ، إذ قد لا يتيسر ذلك. مع أنه لا دليل عليه. إلا أن يراد به الاطمئنان بعدم العثور على الدليل بالفحص ، فيرجع لما ذكرنا.

٦٧٧

الثاني : أن أكثر الأدلة المتقدمة كما تجري في حق المجتهد في مقام الاستنباط ـ لعمله وللفتوى ـ تجري في حق غيره ، فليس للعامي العمل بمقتضى الأصول أو غيرها إذا احتمل قيام الأدلة على خلافها ، بل يجب عليه الفحص عن مفاد الأدلة بالسؤال من المجتهد. لوضوح مشاركته للمجتهد في الإجماع ، والعلم الإجمالي ، والطائفة الثانية من النصوص ، بل لعله المتيقن من كثير منها. نعم تقصر عنه الطائفة الأولى منها. وهو غير مهم.

الثالث : تقدم قصور وجوب الفحص عما إذا أمن فوت التكاليف الواقعية ، للاحتياط ، أو لعدم الابتلاء. كما لا إشكال في وجوبه مع التعرّض لفوت التكاليف الواقعية التي يعلم بالابتلاء بمواردها.

وأما مع الشك في الابتلاء ، فالظاهر وجوب الفحص ، لا للعلم الإجمالي ، لعدم صلوحه لتنجيز احتمال المخالفة مع عدم إحراز الابتلاء بها ، بل لأدلة وجوب التعلم والتفقه ، لشمول العناوين المأخوذة فيها من التعلم والتفقه والسؤال للتكليف المذكور من دون محذور ، لأن وجوب التعلم لما كان طريقيا كفى في تحقق موضوعه وإمكانه الخوف من فوت الواقع بسبب الجهل وإن لم يحرز الابتلاء به.

بل لعل المتيقن من بعض النصوص المتقدمة ذلك ، كصحيح مسعدة بن زياد الوارد في من أطال الجلوس في الخلاء لاستماع الغناء ، ونصوص غسل المجدور والجريح. ولا يبعد بناء الأصحاب على ذلك ، بحيث يدخل في معقد إجماعهم.

الرابع : لا يخفى أن وجوب التعلم لما كان طريقيا يتفرع عليه قصور أدلة حجية الأدلة الواصلة والأصول عن صورة عدم الفحص ، فهو إنما يقتضي عدم الاجتزاء ظاهرا بالعمل الواقع من دون فحص.

٦٧٨

ولو أحرز بعد ذلك مطابقته للواقع تعين الاجتزاء به. وكذا لو انكشف مطابقته للحجة القائمة حين إرادة الخروج عن العهدة ، كما لو كان حينئذ مقلدا لمن يقول بصحة عمله.

وأما إذا كان مطابقا للحجة القائمة حين صدور العمل ، دون الحجة القائمة حين إرادة الخروج عن العهدة ، فهل يجب التدارك أو لا؟ فإذا صلّى الجمعة تسامحا في وقت كانت وظيفته الرجوع لمن يفتي بإجزائها من دون علم برأيه ، ولم يهتم بالخروج عن العهدة إلا بعد أن صارت وظيفته الرجوع لمن يفتي بعدم إجزائها ، فهل يجتزئ بها تبعا لفتوى الأول أو لا يجتزئ بها تبعا لفتوى الثاني؟ وجهان ، مبنيان على ما تقدم في المسألة الرابعة من التفصيل بين ما إذا كان دليل الرجوع للثاني يعم الوقائع السابقة ، بنحو يقتضي سقوط التقليد الأول عن الحجية فيها ، وعدمه ، فيجتزئ بعمله على الثاني ، دون الأول.

ولا مجال لما تقدم منا من الإجتزاء بمتابعة فتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل مطلقا. لاختصاص الدليل عليه بالسيرة ، والمتيقن منها صورة اعتماد المكلف على الحجة حين العمل ، ولا طريق لإحراز عمومها لما إذا طابق الحجة المذكورة من دون أن يعتمد عليها.

هذا وقد دلت الأدلة الخاصة في بعض الموارد على الاجتزاء بالعمل المخالف للواقع جهلا ، كما في الإتمام في موضع القصر ، والإخفات في موضع الجهر ، وعكسه ، وجميع موارد حديث : «لا تعاد الصلاة ...» (١) ـ بناء على ما هو الظاهر من عمومه لصورة الجهل بالحكم ـ وغيرها.

وقد وقع الإشكال بينهم في الجمع بينه وبين وجوب الفحص عن الواقع في الأحكام المذكورة ، الراجع لاستحقاق العقاب بفوته مع التقصير في

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٣ من أبواب الوضوء حديث : ٨.

٦٧٩

الفحص. بدعوى : أن المأتي به في حال الجهل على خلاف المطلوب الواقعي إن لم يكن وافيا بغرض الواقع الأولي امتنع إجزاؤه ، وإن كان وافيا تعين كون المكلف به هو الأعم منهما ، لتبعية التكليف للغرض ، وذلك لا يناسب وجوب الفحص عن الواقع المستلزم لانحصار الغرض به ، وفوته بفوته ، بحيث يكون سببا لاستحقاق العقاب ، كما تقدم.

وقد أطال شيخنا الأعظم قدس‌سره ومن تأخر عنه في حلّ الإشكال بما لا مجال لإطالة الكلام فيه ، بعد عدم التنافي بين الأمرين ، وإمكان الجمع بينهما.

لأن الإجزاء كما يمكن أن يكون لوفاء المأتي به حال الجهل بملاك الواقع الأولي ، أو لتبدل الملاك المستلزم لعدم العقاب ، كذلك يمكن أن يكون لمانعية المأتي به من استيفاء تمام ملاك الواقع من دون أن يفي به ، كما لو تعلق الغرض بإطعام اللحم ، لخصوصية في اللحم زائدة على الإشباع ، فأطعمه التمر حتى أشبعه ، ولم يكن التمر وافيا بفائدة اللحم الخاصة ، إلا أنه حيث يوجب الامتلاء يتعذر إطعام اللحم وتحصيل فائدته ، فيتعين الإجتزاء بالتمر عن اللحم.

الخامس : لا يخفى أن أدلة وجوب الفحص المتقدمة مختصة بالشبهات الحكمية. أما الشبهات الموضوعية فمقتضى إطلاق أدلة حجية الأمارات الواصلة والأصول جواز الرجوع إليها من دون فحص.

بل بعضها صريح في ذلك ، كصحيحة زرارة الثانية المتقدمة في أدلة الاستصحاب ، المتضمنة عدم وجوب النظر في الثوب الذي يحتمل إصابة النجاسة له (١) ، عملا بأصالة الطهارة ، أو استصحابها ، والنصوص المتضمنة عدم وجوب السؤال عن ذكاة الجلود المأخوذة من المسلمين (٢) ، عملا بأمارية

__________________

(١) الوسائل ج : ٢ باب : ٣٧ من أبواب النجاسات حديث : ١.

(٢) راجع الوسائل ج : ٢ باب : ٥٠ من أبواب النجاسات.

٦٨٠