الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

العنوان الثانوي الموجب لتبدل الحكم الأولي.

وبأحد الوجهين الأولين قد يفسر التصويب المنسوب للأشاعرة. وإن كان الأظهر من بعض الكلمات المنقولة عنهم الأول. وبالوجه الثالث قد يفسر التصويب المنسوب للمعتزلة. ولعله أهون الوجوه ، وأبعدها عن الخطأ ، لأن تبدل الأحكام الأولية بالعناوين الثانوية غير عزيز.

إلا أنه لا مجال للبناء عليه بعد منافاته لإطلاقات الأحكام الواقعية القاضية بفعليتها تبعا لفعلية موضوعاتها ، وعدم ارتفاعها بخطإ المجتهد في الوصول إليها.

مضافا إلى النصوص الكثيرة الظاهرة في فعلية الحكم الواقعي في صورة عدم إصابته.

منها : ما تضمن أن الحكم حكمان : حكم الله عزوجل ، وحكم الجاهلية ، وأن من أخطأ حكم الله فقد حكم بحكم الجاهلية (١).

ومنها : ما تضمن تفسير حديث أن اختلاف الأمة رحمة بالاختلاف في طلب العلم ، وأن الدين واحد (٢). فإنه كالصريح في عدم تعدد حكم الدين في الواقعة ، تبعا لاختلاف المجتهدين.

ومنها : ما في نهج البلاغة ، والاحتجاج ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال في ذم علماء السوء : «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا. وإلههم واحد ، ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد. أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه ،

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧ ، ٨ ، وباب : ٥ منها حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٠.

٦٤١

أم نهاهم عنه فعصوه؟!» (١) فإنه صريح الإنكار على تصويب أحكام القضاة المختلفة تبعا لاختلاف اجتهادهم.

ومنها : ما تضمن من النصوص الكثيرة الاهتمام بحفظ الأحاديث ومدح رواتها الأمناء عليها (٢). حيث يظهر منها أن ضياع الواقع بضياعها محذور لا يتدارك بتشخيص المجتهد للوظيفة الفعلية المخالفة للواقع ، بحيث يقتضي تبدل الحكم ... إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة أو المشعرة بأن الأحكام الواقعية باقية على ما هي عليه من الفعلية ، ولا تختلف باختلاف الاجتهادات والأنظار.

ولا ملزم بالخروج عن ذلك إلا توهم أنه مقتضى الجمع بين أدلة الأحكام الواقعية وأدلة الحجج والأصول الشرعية الظاهرية ، التي يختلف مفادها باختلاف الأنظار والاجتهادات ، إذ لو لا ارتفاع الحكم الواقعي الأولي بقيام الطرق والأصول المخالفة له للزم اجتماع الحكمين المتضادين ، وتفويت الملاكات الواقعية الفعلية.

لكن يظهر اندفاع التوهم المذكور مما تقدم في أوائل مباحث الحجج في بيان حقيقة مفاد أدلة الطرق والأصول ، وكيفية الجمع بينها وبين الأحكام الواقعية ، حيث يستغنى بذلك عن التصويب.

بل مقتضى ما سبق هناك عن ابن قبة من استحالة التعبد بغير العلم ، لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، كون بطلان التصويب أظهر من نصب الطرق الظنية ، لوضوح ابتناء المحذور المذكور على عدم التصويب.

__________________

(١) نهج البلاغة كلام رقم : ١٨ ص : ٦٢. والاحتجاج ج : ١ ص : ٣٨٩. وقد علق على ذلك في كتاب مصادر نهج البلاغة ج : ١ ص : ٣٦١ بما يحسن مراجعته.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ ، ١١ من أبواب صفات القاضي.

٦٤٢

على أن منافاة مفاد الطرق والأصول للواقع لو كانت ملزمة بالتصويب للزم البناء عليه في التعبد الظاهري بموضوعات الأحكام ، مع أن المحكي عن الفصول نفي الخلاف في عدمه فيها.

ومما ذكرنا يظهر ضعف الوجه الثاني للتصويب ، لصلوح ما سبق لرده ، فإن مقتضى إطلاق أدلة الأحكام ثبوتها في حق جميع المكلفين ، وعدم اختصاصها بمن يؤدي اجتهاده أو تقليده إليها. كما أن النصوص المتقدمة وافية بذلك.

بل هو مقتضى نصوص كثيرة أخرى :

منها : ما تضمن أن من يقضي بالحق وهو لا يعلم فهو في النار (١) ، وأن من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر من ما يصلح (٢) ، وأن من قال برأيه فأصاب لم يؤجر (٣) ، وأن أصحاب القياس لم يزدهم القياس من الحق إلا بعدا (٤) ، وأن أصحاب الرأي أحلوا ما حرم الله ، وحرموا ما أحل الله (٥) ، وأنهم غيروا كلام الله وسنة رسوله (٦). حيث فرض فيها وجود حق وحكم لله تعالى واحد ، دل عليه كلامه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من دون أن يصيبه اجتهاد المجتهدين.

ومنها : ما تضمن أن الدين كله مبين في الكتاب والسنة ، وأن علمهما عند

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦ ، ٧.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٣.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦ ، ٣٥.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٨. والبحار ج : ٢ ص : ٣١٥ حديث : ٨١.

(٥) البحار ج : ٢ ص : ٣٠٨ حديث : ٦٩.

(٦) البحار ج : ٢ ص : ٣٠٩ حديث : ٧١.

٦٤٣

الأئمة عليهم‌السلام (١). لوضوح أن مدعى القائل بالتصويب اختصاص أحكام الكتاب والسنة بمن يصل إلى مضامينها ، دون من أخطأها ، بل له أحكام أخرى غير حكمها ، هي الدين المطلوب منه.

ومنها : ما تضمن أن العلم مخزون عند أهله ، وكل ما لم يخرج من أهل البيت عليهم‌السلام فهو باطل ، وأنه يجب سؤالهم عنه وطلبه منهم (٢). لظهورها بمجموعها في وحدة التكليف الواقعي ، وعمومه لكل أحد ، ولذا يجب طلبه من مظانه ... إلى غير ذلك مما هو صريح أو ظاهر في وحدة الحكم الواقعي.

بل هو المطابق لارتكازيات المتشرعة القطعية ، الملحقة بالبديهيات غير القابلة للأخذ والرد والنقض والإبرام ، بحيث يقطع لأجلها بأن البناء على التصويب لشبهة ضاقت بأهلها ، مردودة عليهم بالبداهة.

وأضعف وجوه التصويب هو الوجه الأول ، لمنافاته لجميع ما تقدم. ولما هو المعلوم من الكتاب ، والسنة ، وضرورات المتشرعة ، من جعل الأحكام الشرعية ، بل إكمال الدين مع قطع النظر عن الاجتهاد فيها.

كما لا ريب في أنه يمكن حصول العلم الإجمالي بالحكم قبل تناول الاجتهاد له بخصوصيته ، مع أن ثبوت أحد الأطراف بخصوصيته راجع إلى سبق الحكم على الاجتهاد ، وإمكان خطأ الاجتهاد في تعيينه ، إذ لا مجال للالتزام بثبوت أحدهما المردد ، لاستحالة جعل المردد ، ولا التخييري ، للقطع بعدمه ،

__________________

(١) تراجع هذه النصوص في الوسائل ج : ١٨ في أبواب صفات القاضي ، وكذا في مستدرك الوسائل في الأبواب المذكورة ، وفي ج : ٢ من البحار في باب : ٢٢ وغيره من كتاب العلم. وهي كثيرة متفرقة لا يسعنا ضبطها تفصيلا.

(٢) تراجع هذه النصوص في الوسائل ج : ١٨ في أبواب صفات القاضي ، وكذا مستدرك الوسائل في الأبواب المذكورة ، وفي ج : ٢ من البحار في باب : ٣٣ وغيره من أبواب كتاب العلم. وهي كثيرة متفرقة لا يسعنا ضبطها تفصيلا.

٦٤٤

بل قد يستحيل جعله ، كالتخيير بين الوجوب والحرمة ، أو بين الاستحباب والوجوب ، والتخيير بين ملكية أحد الوارثين. بل المفروض في العلم الإجمالي كون المعلوم بالإجمال هو أحد الطرفين بخصوصيته مع عدم وصول الاجتهاد للخصوصية بعد.

هذا مضافا إلى استحالة الوجه المذكور من التصويب في نفسه ، لأن الاجتهاد لما كان راجعا إلى التحري عن الأحكام الشرعية ، ثم إثباتها ، كان متأخرا عنها رتبة ، ومتفرعا عليها تفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت. فلا موضوع للاجتهاد إلا في فرض جعل أحكام يجتهد المجتهد في الوصول إليها ، لا مع العلم بعدم جعل حكم في الواقعة. وقد تقدم في أول الكلام في القطع الموضوعي ما ينفع في المقام.

والرجوع إلى بعض ما ينقل من كلماتهم في وجه البناء على التصويب شاهد باختلاط مقام الإثبات عليهم بمقام الثبوت ، ومقام التنجيز بمقام الجعل ، فحيث كان إثبات التكليف وتنجزه متفرعا على الاجتهاد في الجملة تخيلوا إناطة الجعل به. وهو ظاهر الوهن.

المسألة الثالثة : لا إشكال في جواز الفتوى للمجتهد بالحكم الشرعي الواقعي مع العلم الحقيقي به ، لضرورة ، أو إجماع ، أو غيرهما. وكذا مع قيام الحجة عليه عنده ، بناء على جواز الإخبار بالواقع اعتمادا عليها. لكن الظاهر عدم تمامية المبنى المذكور ، وأنه لا بد معه من ابتناء الخبر على بيان مفاد الحجة ، لا على بيان الواقع.

فالعمدة في المقام : أن ظاهر حال أهل الفتوى هو ابتناء الفتوى منهم على بيان مفاد الحجة ومقتضى الوظيفة ، لا على بيان الواقع ، لعدم تعلق غرض المفتي والمستفتي ببيان الحكم الواقعي ، بل ببيان ما ينبغي العمل عليه من مفاد

٦٤٥

الحجة ، أو بيان مفاد الأصل الشرعي أو العقلي.

نعم لما كان الغرض من الفتوى ترتب عمل المستفتي لزم تحقق موضوع الوظيفة العملية في حقه ، ولا يكفي ـ كما لا يعتبر ـ تحققها في حق المفتي ، لأن اللازم على المستفتي هو العمل على مقتضى وظيفته التي يشخصها له المفتي ، لا على مقتضى وظيفة المفتي. ولذا تقدم أنه بناء على التخيير بين الخبرين المتعارضين فلا بد من اختيار المستفتي ، لا المفتي. وربما يأتي في مباحث التقليد ما ينفع في المقام.

٦٤٦

المقام الثاني

في التقليد

والمستفاد من بعض كلمات اللغويين ، واستعمالات أهل اللغة ، أنه عبارة عن جعل الشيء في عنق الغير. وأطلق في العرف على متابعة الغير في العمل. ولعله بلحاظ أن التابع قد حمّل المتبوع مسئولية عمله ، كأنه جعله في عنقه.

لكنه جرد بعد ذلك عن النكتة المذكورة ، ولحظ فيه محض المتابعة والمحاكاة مع قطع النظر عنها. ولذا صح فيما لا مسئولية فيه من الأعمال ، وعدي ب «في» فيقال : قلده في عمله ، لا قلده عمله.

والظاهر أن ذلك هو المراد منه اصطلاحا ، فهو عبارة عن متابعة الغير في العمل. وإن كان ربما يظهر من بعضهم أنه أمر سابق على العمل ، كالأخذ بقول الغير ، والالتزام به على أنه الحكم الظاهري ، أو البناء على المتابعة في مقام العمل. لكنه بعيد ، لاحتياج الخروج عن المعنى العرفي إلى عناية لا ملزم بها.

وكيف كان فلا يهم تحقيق مفهوم التقليد الاصطلاحي ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح. كما لا ثمرة مهمة في تحقيق مفهومه اللغوي ، لعدم أخذ عنوانه في أدلة أحكامه ، وإنما أخذ في مرسل الاحتجاج (١) المتضمن لاعتبار العدالة في مرجع التقليد ، وهو ظاهر في المعنى العرفي المذكور. على أن ضعفه في نفسه ، ووضوح اعتبار العدالة ، يغني عن تحقيق مفاده.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٠ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

٦٤٧

إذا عرفت هذا فالمعروف من مذهب الأصحاب اجتزاء العامي بالتقليد. والظاهر أن خلاف بعض الأخباريين لفظي ، لأن المحكي عنهم دعوى أن ما صدر من معاصري الأئمة عليهم‌السلام ، وجرت عليه سيرة الإمامية خلفا عن سلف ، ليس من التقليد ، بل هو نظير قبول الرواية المنقولة بالمعنى ، الذي لا إشكال في جوازه ، وأنه لا يجوز تقليد من يجتهد في استنباط الحكم برأيه ، بل يجب أخذ أحكام الدين من المعصومين عليهم‌السلام.

ونحن متفقون معهم في حرمة أخذ الدين من غير المعصومين عليهم‌السلام اعتمادا على الرأي والاستحسان ونحوهما ، كما هو دأب العامة. والتقليد الجائز عندنا هو الرجوع للعلماء لمعرفة الحكم الصادر عن المعصومين عليهم‌السلام ، الذي أقروه وجعلوه نظير قبول الرواية بالمعنى.

نعم حكي عن الحلبيين وجوب الاجتهاد عينا. وهو غريب.

ويمكن الاستدلال على جواز التقليد بسيرة العقلاء على الرجوع لأهل الخبرة في جميع أمورهم ، فكل من لا يتسنى له العلم بشيء يرجع إلى العالم به.

ولو لا ذلك لاختل نظامهم في معاشهم ومعادهم ، لتعذر العلم لهم بجميع ما يحتاجون إليه. وحيث كانت السيرة المذكورة ارتكازية ، كفى في حجيتها عدم ثبوت الردع عنها ، كما تقدم أواخر الكلام في مقتضى الأصل عند الشك في الحجية.

ولا طريق لإحراز الردع عن مقتضى السيرة المذكورة. لأن ما ورد في ذم التقليد من الآيات والروايات ظاهر ، أو منصرف لتقليد الجهال في مقابل الحق والدليل ، لعصبية عمياء وحمية جاهلية ، كما أشير إليه في مثل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ

٦٤٨

آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١).

أو لتقليد علماء السوء والسلاطين الذين يحلون الحرام ، ويحرمون الحلال ، والتدين بقولهم مع ذلك ، كما ورد في تفسير قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)(٢) أنهم أحلوا لهم حراما ، وحرموا عليهم حلالا ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون (٣).

أو لتقليد علماء السوء الذين لا يأخذون من أهل البيت عليهم‌السلام ، بل يتعدونهم إلى غيرهم ممن ليس بحجة ، أو يعتمدون الرأي والاستحسان.

ولا عموم له لمحل الكلام من الرجوع للعلماء المؤمنين الموثوقين الذين يعتمدون الحجج ، ويأخذون عن الأئمة عليهم‌السلام ، وينهجون نهجهم.

كما أن ما ورد من النهي عن العمل بغير العلم أو بالظن قاصر عن التقليد المذكور ونحوه من موارد الرجوع للحجج العقلائية ، كما تقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية في أوائل مباحث الحجج. فراجع.

على أنه يمكن استفادة إمضاء مقتضى السيرة المذكورة من أمور ..

الأول : سيرة المتشرعة خلفا عن سلف على الاجتزاء بأخذ الأحكام العملية من العلماء ، لما هو المعلوم من عدم تيسر الاجتهاد لغالب الناس ، فلو لم يشرع لهم ذلك ، ولم يعملوا عليه ، لزم الهرج والمرج ، واختل نظام معاشهم ومعادهم ، ولكثر السؤال عن البديل بنحو لم يخف ، وحيث لم يظهر شيء من ذلك كشفت السيرة المذكورة عن إقرار ذلك شرعا.

الثاني : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ١٠٤.

(٢) سورة التوبة الآية : ٣١.

(٣) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ١٠ من أبواب صفات القاضي.

٦٤٩

الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) فإن التفقه في الدين تعلمه ، ومنه تعلم أحكامه العملية وأخذها عن أدلتها. وظاهر الإنذار هو الإنذار بما تفقهوا فيه ، فيدخل فيه بيان الأحكام الإلزامية المستتبعة للعقاب ، والفتوى بها.

وحيث كان ظاهر جعل الحذر غاية للإنذار مطلوبيته تبعا له ، كان ظاهرا في حجية الفتوى بالأحكام الإلزامية. ويتم في غيرها بعدم الفصل. بل بفهم عدم الخصوصية ، بسبب ظهورها في كون ترتب الحذر على الإنذار طبيعيا ، لا تعبديا محضا. وما ذلك إلا بلحاظ سيرة العقلاء ، التي لا يفرق فيها بين الأحكام الإلزامية وغيرها. وبذلك تكون الآية ظاهرة في إمضاء السيرة المذكورة.

وقد تقدم في الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد الكلام في بعض الجهات الراجعة للاستدلال بها مما ينفع في المقام. كما تقدم الإشكال في الاستدلال على حجية الخبر ب آيات أخر ، وهو يجري في الاستدلال بها في المقام. فراجع.

الثالث : النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم ، وتعلمه ، والانتفاع به ، والرجوع للعلماء في القضاء ، وأخذ الأحكام منه ، ونحو ذلك (٢) حيث يظهر من مجموعها المفروغية عن جواز الرجوع للعلماء في معرفة الأحكام والعمل عليها.

لكن لا عموم للنصوص المذكورة ، لعدم التصدي فيها لبيان الحجية ، وإنما استفيد منها المفروغية عنها ، تبعا لسيرة العقلاء المذكورة ، فتدل على

__________________

(١) سورة التوبة الآية : ١٢٢.

(٢) تراجع النصوص المذكورة في الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ ، ٥ ، ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ من أبواب صفات القاضي. والأبواب المناظرة لها في مستدرك الوسائل. وأبواب كتاب العلم من البحار ج : ٢.

٦٥٠

إمضائها ، ويستفاد العموم من السيرة ، لا منها.

نعم قد يستفاد العموم من التوقيع الشريف : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله» (١). وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه» (٢).

وقول الإمام الهادي عليه‌السلام في كتابه لأحمد بن حاتم وأخيه : «فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى» (٣).

اللهم إلا أن يستشكل في الأخير بوروده لبيان اشتراط الإيمان في المرجع ، من دون تعرض لمن يرجع إليه ، ليؤخذ بعمومه. إذ لا ريب في عدم كفاية العنوان المذكور في المرجع. فهو نظير قول أبي الحسن عليه‌السلام في كتابه لعلي بن سويد : «لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين ...» (٤).

فلم يبق إلا الأولين. لكن ضعفهما ـ خصوصا الثاني ـ مانع من التعويل عليهما ، لعدم وضوح انجبارهما بعمل الأصحاب ، لقرب اعتمادهم على الأدلة الأخر.

على أن إهمال الوثاقة في الأول لا بد أن يبتني على اعتبارها بمقتضى سيرة العقلاء ، أو على اعتبار ما هو أشد منها شرعا ، كما هو مقتضى الثاني ، أو

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٠ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٥.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٢.

٦٥١

غيره من الأدلة الشرعية. وعلى كل حال لا مجال للبناء على كون موضوع التقليد شرعا أعم من مورد السيرة. فلاحظ.

الرابع : ما تضمن حثّ الإمام الباقر عليه‌السلام أبان بن تغلب على الجلوس للفتوى (١) ، وتقرير الإمام الصادق عليه‌السلام معاذ بن مسلم على ذلك (٢). لوضوح أن مبنى استفتاء الناس لهما على العمل بما يفتيان ، كما هو مقتضى السيرة.

ولا يقدح في ذلك احتمال خصوصيتهما في نظرهما عليه‌السلام. لأن خصوصيتهما إنما تكون دخيلة في الأمر بالفتوى ، والتقرير عليها ، لا في عمل المستفتي بفتواهما ، بل هو مبتن على الرجوع لهما لمحض ثقته بهما ، كما يرجع إلى سائر أهل العلم بمقتضى السيرة ، فيدل على إمضائها.

نعم لا مجال للاستدلال بالنصوص الكثيرة المتضمنة إرجاع الأئمة عليهم‌السلام إلى بعض أصحابهم ، كأبي بصير ، ومحمد بن مسلم ، والحارث بن المغيرة ، ويونس بن عبد الرحمن ، وزكريا بن آدم ، والعمري وابنه ، والمفضل بن عمر (٣). لإمكان خصوصيتهم بنظرهم عليهم‌السلام في علمهم ودينهم ، بل هو المقطوع به. ومن المعلوم أن إرجاع الإمام عليه‌السلام شيعته لشخص ثقة منه عليه‌السلام بعلمه ودينه لا يستلزم جواز رجوعهم لمن يثقون هم بعلمه ودينه ، كما هو محل الكلام.

وربما يستدل بنصوص أخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد كفاية ما سبق ، ووضوح دلالته على إمضاء السيرة ، التي عرفت لزوم التعويل عليها ما لم يثبت الردع عنها.

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في مسائل ..

__________________

(١) رجال النجاشي ص : ٨ الطبعة الثانية ، والفهرست ص : ٤١ طبعة النجف الأشرف.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٦.

(٣) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي.

٦٥٢

المسألة الأولى : لا ريب في اعتبار الوثوق بأهل الخبرة في جواز الرجوع إليهم بمقتضى السيرة ، بأن يوثق بكونهم في مقام إعمال خبرتهم واجتهادهم ، وبيان ما انتهى إليه نظرهم من دون تسامح.

إلا أن المعروف من مذهب الأصحاب رضى الله عنه اعتبار الإيمان والعدالة في مرجع التقليد ، وادعي عليه إجماعهم ، بل الظاهر من حالهم ومن بعض كلماتهم المفروغية عنه ، على خلاف ما هو المعروف منهم في الخبر الحسي ، حيث يكتفي كثير منهم بالوثوق بالمخبر ، كما هو مقتضى السيرة.

ولعل منشأ الفرق : تيسر حصول الوثوق في الخبر الحسي ، لانضباطه ، بخلاف الفتوى المبنية على الحدس. أما في الإيمان فلأن غير المؤمن إن كان يعتمد في الفتوى على أصوله الباطلة ، فهو ليس من أهل الخبرة في تشخيص وظيفة المؤمن ، المبنية على أصول أهل الإيمان ، التي هي محل الكلام.

وإن كان يعتمد على أصولنا وطرقنا ، فمن الظاهر عدم انضباط الطرق المذكورة. لأن كثيرا من الأدلة والقرائن لا تتهيأ الإحاطة بها لغير المؤمن ، كإجماعات الخاصة ، وشهرة الحكم بينهم ، وهجرهم للأخبار ، وعملهم بها ، وتوثيقهم وجرحهم للرواة الذين تتضارب فيهم النصوص والنقول ، وسيرة المتشرعة ، ومرتكزاتهم ، ونحو ذلك مما يكون دخيلا في استنباط المجتهد المؤمن ، بسبب اندماجه بالمؤمنين ، وحسن ظنه بهم ، واعتقاده في علمائهم وعوامهم أنهم في مقام تلقي الأحكام وأخذها عن أئمتهم ، والاحتياط لها ، وعدم التساهل فيها ، وتجنب التعصب والعناد ، ونحو ذلك مما يوجب الوثوق بهم ، وبنقلهم ، وسيرتهم ، ومرتكزاتهم ، وكل ذلك لا يتيسر لغير المؤمن. ومرجع ذلك إلى نقص خبرته.

ونظير ذلك يجري في العدالة ، لتعرض المجتهد للضغط النفسي عند

٦٥٣

اختيار الحكم .. تارة : بلحاظ أن النفس بطبعها تميل للفتوى بما يطابق الظنون والقناعات والاستحسانات ، بحيث قد يغفل عن عدم بلوغ ذلك مرتبة الحجية. وأخرى : بلحاظ الهوى وحبّ الظهور في ابتكار الجديد ، وإرضاء الناس ، واستقطاب أكبر عدد ممكن منهم. حيث قد تلبّس عليه النفس لأجل ذلك ، وتغفله باعتماد ما ليس بحجة. وثالثة : بلحاظ أن ما تقتضيه الأدلة قد لا يلائم السلطان ، أو الجماهير الضاغطة ، أو الظرف القائم. وفي جميع ذلك قد يؤتى حظا من القدرة على الاستدلال واللحن بالحجة ، فيبرز ما ليس دليلا بصورة الدليل.

ولا حاجز له عن التلاعب أو التسامح أو التغافل في ذلك إلا الخوف من الله تعالى ، وشدة الحذر من نكاله ، حين يلتفت إلى أن الخصم المحاسب هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يخدع بالحجج الواهية.

ومن ثم لا تستكمل الخبرة والاجتهاد في الأحكام ، ولا يتم الوثوق بالمجتهد إلا بالعدالة ، بل بالمرتبة العالية منها.

وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة ، ومرتكزاتهم القطعية التي تنهض بنفسها بالاستدلال ، لو لم يتم الاستدلال بالإجماع لبعض المناقشات التي لا مجال لإطالة الكلام فيها.

المسألة الثانية : لا ينبغي التأمل في أن مقتضى سيرة العقلاء عدم اعتبار الحياة في المفتي ، لعدم دخلها في ما هو المناط في حجية الرأي ، وهو كاشفيته نوعا.

ودعوى : أن موضوع الحجية هو الرأي ، ولا رأي للميت. مدفوعة ـ بعد تسليم عدم الرأي للميت ـ بأن بقاء الرأي لا دخل له في حجيته بمقتضى السيرة. غاية الأمر أنه لا بد من عدم عدول صاحب الرأي عن رأيه ، كاعتبار عدم عدول

٦٥٤

الشاهد عن شهادته في حجية الشهادة ، ولا طريق لإحراز العدول من الميت. ولذا لا ريب بملاحظة السيرة في عموم الحجية للميت في سائر موارد الرجوع لأهل الخبرة وأهل العلم من الأمور النظرية.

لكن المشهور اعتبار الحياة في المفتي ، خروجا عن مقتضى السيرة المذكورة. واستدل عليه بوجوه كثيرة لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور ضعفها. ونقتصر منها على وجهين :

الأول : أن أدلة التقليد الشرعية مختصة بصورة فعلية الرأي ، ولا تشمل صورة زواله بالموت ونحوه ، لقصور العناوين التي تضمنتها ، كالإنذار ، والفقاهة ، والعلم ، والنظر في الحلال والحرام.

وفيه أولا : أنه إن أريد بذلك أن الأدلة المذكورة رادعة عن مقتضى السيرة ، فمن الظاهر عدم ظهورها في حصر الحجية بمواردها ونفيها عن غيرها ، لتنهض بالردع عن عموم السيرة. وإن أريد به أن اختصاصها بذلك ملزم بالاقتصار عليه ، لعدم إحراز إمضاء السيرة في غيره.

فيظهر اندفاعه مما سبق من أنه يكفي في حجية السيرة عدم ثبوت الردع ، من دون حاجة للإمضاء.

وثانيا : أن ظهور الأدلة في الجري على مقتضى السيرة والمفروغية عن ذلك موجب لانصرافها إلى بيان حجية الرأي الصادر عن العالم والفقيه وإن خرج بعد ذلك عن كونه عالما وفقيها ، كما هو الحال في نظائر المقام ، كالرواية ، والشهادة ، والإقرار ، وغيرها مما اعتبر فيه عناوين خاصة ، مثل الوثاقة ، والعدالة ، والعقل ، وغيرها ، حيث يكفي تحقق العناوين المذكورة حين صدورها ، لا حين العمل بها ، بقرينة ظهور أدلتها في الإشارة إلى موضوع السيرة.

٦٥٥

الثاني : الإجماع المدعى من غير واحد ، كما في الجواهر. وقد تعرض في التقريرات لكلمات غير واحد الظاهرة أو الصريحة في دعوى الإجماع ، كابن أبي جمهور الأحسائي ، والمحقق الثاني في شرح الألفية ، والشهيد الثاني في المسالك ، وفي رسالته في المسألة ، والوحيد البهبهاني قدس الله أسرارهم الزكية.

وقال سيدنا الأعظم قدس‌سره : «فإن الحاكين للإجماع وإن كانوا جماعة خاصة ، لكن تلقى الأصحاب لنقلهم بالقبول من دون تشكيك أو توقف من أحد ، وتسالمهم على العمل به ، يوجب صحة الاعتماد عليه. ولا سيما مع كون نقلة الإجماع المذكور من أعاظم علمائنا وأكابر فقهائنا ، ولهم المقام الرفيع في الضبط والاتقان والتثبت. قدس الله تعالى أرواحهم ، ورفع منازل كرامتهم ، وجزاهم أفضل الجزاء».

لكن في بلوغ ذلك حدا ينهض بالحجية إشكال ، بل منع ، لأن دعوى الإجماع إنما صدرت من المتأخرين ، مع عدم تحرير المسألة في العصور الأولى المقاربة لعصور المعصومين عليهم‌السلام ، ليكشف عن أخذها خلفا عن سلف منهم ، وعدم وضوح نحو الابتلاء بها في تلك العصور ، لتستند دعوى الإجماع لوضوح الحكم بين الطائفة بسبب سيرتهم العملية.

بل من القريب جريان السيرة على تقليد الموتى يوم لم يكن للتقليد عنوان يقتضي العناية به والاهتمام بأحكامه ، بل تجري الناس فيه على مقتضى طبائعهم. إذ يبعد جدا أن يكون أخذ المكلف الحكم من الفقيه ليعمل به هو وأهله ما دام الفقيه حيا ، فإذا مات رجع إلى غيره ، وسأله عن نفس الحكم الذي تعلمه من الميت ، لما في ذلك من الخروج عن مقتضى السيرة الارتكازية بنحو لو كان لظهر وبان ، ولم يخف علينا.

ومثله احتمال أن يعمل به بعد موته هو وأهله ومن يتبعه ممن عملوا به

٦٥٦

في حياة المفتي ، دون من تجدد تكليفه منهم ، أو اتصل بهم بعد موته ، بل يرجع هؤلاء إلى مفت آخر حي ، لئلا يكون عملهم بفتوى الأول تقليدا ابتدائيا منهم للميت ، بحيث يعمل أهل البيت الواحد على وجهين ، بعضهم على رأي الميت ، وبعضهم على رأي الحي. لما في ذلك من الكلفة الظاهرة ، والخروج عن الوضع المتعارف بالنحو الذي لو كان لظهر وبان.

بل يبعد جدا تحقق ذلك منهم من دون ورود أدلة تعبدية نقلية خاصة صالحة عندهم للردع عن مقتضى السيرة. ولو ورد شيء منها لم يخف عادة ، لتوفر الدواعي لنقله وحفظه عن الضياع.

نعم لا ريب في عدم شيوع الرجوع للميت ، لغلبة عدم الاطلاع على فتاواه ، لعدم تعارف تحرير الفتاوى وضبطها ، بل تصدر الفتاوى مشافهة ، فلا يتيسر الاطلاع عليها بعد موت المفتي لغير من شافهه بها ، ومن حدث بها عنه ، لو لم تضع عليهم بنسيان أو غيره.

ولا سيما مع تيسر الرجوع للأحياء ، والاستغناء بهم عن الأموات ، والغفلة عن الاختلاف الملزم بالنظر في الترجيح ، حيث يستلزم ذلك إهمال رأي الميت طبعا.

ومن ثم لا ينهض ذلك بتأييد دعوى الإجماع ، أو بالظن باستناد الدعوى المذكورة للتسالم ، بسبب سيرة المتشرعة على عدم تقليد الميت ، خصوصا بعد ما سبق من قرب قيام السيرة في الجملة على تقليده.

ولا سيما مع ظهور بعض كلماتهم في وجود الخلاف في المسألة ، أو عدم القطع بانعقاد الإجماع فيها. فعن الشهيد في الذكرى نسبة الخلاف للبعض.

وحمله على العامة ـ كما عن الشهيد الثاني ـ بعيد جدا ، خصوصا مع كونه المعروف بينهم.

وأظهر من ذلك قول المحقق الثاني في الجعفرية بعد بيان وجوب

٦٥٧

الرجوع للمجتهد : «واشترط الأكثر كونه حيا». وعن الشهيد الثاني في المسالك دعوى عدم تحقق الخلاف له ممن يعتد بقوله ، وفي رسالته في المسألة عدم العلم بمخالف ممن يعتبر قوله ويعتمد على فتواه.

وأما تلقي الأصحاب لدعواهم بالقبول ، فهو قد يتم في جملة من متأخري المتأخرين ، الذين لا يكشف قبولهم عن ثبوت الإجماع ، لإمكان ابتنائه على حسن الظن بالناقلين له ، أو على حجية الإجماع المنقول بنظرهم ، لا لاطلاعهم على قرائن تشهد بثبوته. بل لعل جملة منهم قد استندوا في المنع من تقليد الميت لوجوه أخر غير الإجماع المدعى ، فهم موافقون له ، لا أنهم معتمدون عليه ، ومتلقون له بالقبول.

على أن ظاهر كلام السلطان في حاشية المعالم التردد في ثبوت الإجماع.

وهو المناسب لما ذكره المحقق القمي من أنه لا يوجب الظن ، فضلا عن اليقين ، لعدم تداول المسألة بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، بل هي مسألة حادثة.

وكذا خروج الأخباريين عليه ، فإن خروجهم وإن كان مبنيا على دعوى أن الفتوى من سنخ الرواية المنقولة بالمعنى ، التي تقبل بعد موت الراوي ، إلا أن موضوع كلامهم لمّا كان هو التقليد بواقعه الخارجي ، فلو كان عدم الرجوع للميت واضحا عند الشيعة ، متسالما عليه بينهم ، لما وسعهم الخروج عليه.

ومن ثم يصعب الخروج عما تقتضيه السيرة من جواز تقليد الميت.

لكن ذلك لا ينفع في جواز تقليده مع العلم بمخالفة الحي له ، كما هو الشائع في محل الابتلاء. لما سبق في مبحث التعارض ويأتي ، من أن الأصل في المتعارضين التساقط. وحينئذ يتعين في حق العامي الاحتياط في الجملة ، كما هو الحال في سائر موارد اختلاف المجتهدين. أما مع تعذر الاحتياط ، وفقد المرجح ، فالمتيقن التخيير بين الأحياء ، لو تم ، أما التخيير بين الحي والميت فلا دليل عليه بعد احتمال عدم جواز تقليد الميت ، لأن ما سبق لا ينهض بجواز

٦٥٨

تقليد الميت في صورة الاختلاف.

نعم يتجه تقليد الميت في صورتين :

الأولى : ما إذا كان أعلم من الحي بمرتبة معتد بها ، فالمتعين تقليده ، لأن الأعلمية من المرجحات العقلائية كما سيأتي. وإن كان الفرض المذكور ليس بذلك الشيوع ، لأن تطور العلم يناسب كون المتأخرين أعلم ، لو لم يفقدوا الذوق الفقهي في فهم النصوص. بل لا ريب في أنهم نوعا أمتن استدلالا ، وأضبط للقواعد ، وأقدر على إعمالها إذا بقي العلم في تطوره وتكامله.

غاية الأمر أنه يعلم في الجملة بتيسر بعض الأدلة والقرائن للقدماء المقاربين لعصور الأئمة عليهم‌السلام ، كمعرفة حال الرواة ، وصحة الكتب ، ونحو ذلك مما خفي بعضه على المتأخرين. إلا أن عدم انضباط ذلك أوجب عدم إدراك حالهم فيه.

الثانية : ما إذا سبقت حجية فتواه في حق المكلف حال حياته ، كما لو قلده بوجه شرعي ثم مات ، بناء على ما هو الظاهر من جريان استصحاب حجية رأيه في حقه ، كما يظهر مما تقدم في مقدمة علم الأصول من أن الحجية من الأحكام المجعولة التي تجري فيها الاستصحاب.

هذا وما ذكرناه في الموت يجري في سائر ما يعرض للمجتهد مما يسقطه عن كونه ذا رأي وفتوى ـ كالخرف والجنون ـ أو يسقط حجية رأيه ـ كالفسق ـ كما يظهر بالتأمل.

المسألة الثالثة : إذا تعدد المجتهدون ، فإن اتفقوا فلا إشكال في جواز الرجوع لكل منهم ، كما يجوز الرجوع لهم جميعا. من دون فرق بين التفاضل بينهم وعدمه ، لعموم أدلة التقليد من الآية والروايات والسيرة. وما دل على عدم جواز تقليد المفضول ـ لو تم ـ مختص بصورة الاختلاف.

٦٥٩

وأما مع الاختلاف بينهم ، فلا مجال لتخيل كون تقليد كل منهم مقتضى الإطلاقات ، لما سبق في مبحث التعارض من قصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين ، وأنها لا تقتضي حجية كل منهما تخييرا. وهو الحال في السيرة بملاحظة المرتكزات العقلائية التي تبتني عليها سيرتهم في المقام ، وفي سائر موارد الرجوع لأهل الخبرة.

نعم مع تيسر العلم بأعلمية أحدهم بعينه بمرتبة معتد بها فمقتضى السيرة جواز الرجوع له ، بل تعينه للتقليد. لصلوح قوله للقرينية على خطأ المفضول المخالف له ، وخروجه عن موضوع الحجية. وهو كاف في حجية قوله ، بناء على ما سبق من حجية السيرة ما لم يثبت الردع عنها. على أنه لا يبعد تنزيل الأدلة الشرعية المتقدمة على ذلك ، بضميمة ما سبق من ورودها مورد الإمضاء للسيرة.

مضافا إلى الإجماع المدعى على تعينه للتقليد ، كما عن ظاهر السيد المرتضى في الذريعة ، وصريح المحقق الثاني. مؤيدا بما عن النهاية من أنه قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليين ، وما في المعالم من أن تعيين الأرجح في العلم والعدالة هو قول من وصل إلينا كلامهم من الأصحاب.

ولم يعرف القول بالتخيير ـ وجواز تقليد المفضول ـ إلا بعد الشهيد الثاني. قال في التقريرات : «وصار إليه جملة من متأخري أصحابنا ، حتى صار في هذا الزمان قولا معتدا به». وهو لا يقدح في انعقاد الإجماع.

ولا أقل من الإجماع المركب على جواز تقليده ، فيتعين للتقليد بضميمة الأصل ، القاضي بالتعيين عند دوران الحجية بين التعيين والتخيير.

لكن في نهوض ذلك بالاستدلال إشكال. لعدم وضوح كونه إجماعا تعبديا ، بل لا يبعد ابتناء الإجماع المدعى على تعينه للتقليد على السيرة ،

٦٦٠