الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

وأما ما استظهره المحقق الخراساني قدس‌سره من كون المقبولة ـ كسائر أخبار الترجيح ـ بصدد بيان مرجحية المرجحات المذكورة فيها ، من دون نظر للترتيب بينها ، لبعد تقييد نصوص الترجيح الكثيرة بما فيها. فهو كما ترى ، لعدم كثرة نصوص الترجيح المعتبرة المقتصر فيها على بعض المرجحات.

مع أن ذلك لا يصحح الخروج عن ظاهر الترتيب في المقبولة. وليس تقييد نصوص الترجيح بها بأصعب من رفع اليد عن ظهور تلك النصوص في انحصار الترجيح بما تضمنته من المرجح ، بحيث لا تزاحمه المرجحات الأخرى التي تضمنتها المقبولة وغيرها. بل لازم ما ذكره إهمال كلا المرجحين عند التزاحم بينهما ، وهو أكثر تخصيصا لإطلاقات الترجيح من الترتيب بينها.

ولا سيما مع اعتضاد المقبولة ـ في الجملة ـ بصحيح عبد الرحمن المتضمن تقديم موافقة الكتاب على مخالفة العامة ، وتأيدها بمرفوعة زرارة المتضمنة تقديم الشهرة على مخالفة العامة.

مضافا إلى احتمال كون إهمال بعض المرجحات ـ كالشهرة في الرواية ـ في بعض النصوص لوضوح حالها ، بنحو يكون كالقرينة على فرض التكافؤ فيها. واحتمال كون الاقتصار في بعضها على مخالفة العامة بسبب كونه المرجح المهم الذي يكثر الابتلاء به ، ويغلب كونه منشأ للاختلاف بين النصوص.

وأما ما تضمنه مرسل المفيد من تقديم موافقة الكتاب على الشهرة في الرواية. فلا مجال للخروج به عما سبق بعد ضعفه ، واحتمال الاضطراب فيه بسبب نقله بالمعنى.

هذا وأما بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فحيث يبتني التعدي عنها على إلغاء خصوصيتها ، فلا بد معه من إلغاء خصوصية الترتيب بينها. وحينئذ ربما يدعى الترتب الطبعي بينها بما لا مجال للتعويل عليه ، ولا لإطالة الكلام فيه ، بعد ما سبق من ضعف المبنى المذكور.

٦٠١
٦٠٢

الفصل الثاني

في التعادل

وهو يكون مع عدم الترجيح ، إما للبناء على عدم ثبوته ، أو لعدم حصول المرجحات المعتبرة.

وقد يظهر من المرتضى في الذريعة الحكم معه بالتخيير ، وبه صرح غير واحد ، كالكليني في كلامه المتقدم ، والشيخ في الاستبصار ، والعلامة في المبادي وغيرهم. ونسبه شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره للمشهور ، كما نسبه هو لجمهور المجتهدين ، بل في المعالم وعن غيره : «لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا».

وحيث سبق أن الأصل التساقط لقصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين ، فلا بد من البناء على التخيير من المخرج عنه ، وهو النصوص التي استدل بها غير واحد ، منهم الكليني في كلامه المتقدم ، والشيخ في الاستبصار.

فاللازم النظر فيما يمكن الاستدلال به منها ، وهو عدة نصوص.

الأول : موثق سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (١) بدعوى : ظهور السعة في السعة في العمل على طبق الروايتين.

وفيه أولا : أن ظاهر السعة السعة في البقاء على الجهل مع فرض العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الوجوب والحرمة ، وأن العلم المذكور وإن كان

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥.

٦٠٣

منجزا بنحو يقتضي الفحص ، إلا أن المكلف في سعة من الجهل في زمن الفحص إلى أن يلقى من يبين له الحق ويرفع جهله ، وهو أجنبي عن التخيير في مقام العمل.

ولو سلم أن المراد السعة في العمل ، فالمتيقن منه السعة من حيثية الخبرين ، بمعنى أن كلا منهما لا ينجز مضمونه في حقه ، الذي هو مرجع التساقط ، لا السعة في العمل على طبقهما ، بحيث لا يجوز الخروج عنهما ، الذي هو مرجع التخيير المدعى.

وثانيا : أن ظاهر الحديث فرض اختلاف المفتيين في حق المستفتي ، لا اختلاف الروايتين في حق المفتي الذي هو محل الكلام. والتخيير في الأول لا يستلزم التخيير في الثاني. ومجرد استناد المفتيين للرواية لا يستلزم التخيير بين الروايتين.

الثاني : صحيح علي بن مهزيار : «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلهما في المحمل. وروى بعضهم : لا تصلهما إلا على الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع عليه‌السلام : موسع عليك بأية عملت» (١) بدعوى ظهوره في حجية كل منهما تخييرا.

وفيه : أن السؤال لما كان عن الحكم الواقعي ، الذي عليه عمل الإمام عليه‌السلام ، فظاهر الجواب هو السعة الواقعية ، لابتناء اختلاف الروايتين على الاختلاف في الفضل ، لا على التعارض والتكاذب بينهما. ولا مجال لحمله على السعة الظاهرية الراجعة للتخيير في العمل على طبق إحدى الروايتين المتعارضتين ،

__________________

(١) الوسائل ج : ٣ باب : ١٥ من أبواب القبلة حديث : ٨.

٦٠٤

التي هي محل الكلام. ولا سيما مع عدم مناسبته لوظيفة الإمام عليه‌السلام المطلع على الحكم الواقعي في مورد السؤال.

الثالث : مكاتبة الحميري إلى صاحب الزمان «عجل الله فرجه» التي رواها الشيخ في كتاب الغيبة بطريق معتبر ، والطبرسي في الاحتجاج مرسلا : «تسأل لي بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول للركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر ، فإن بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد. الجواب قال : إن فيه حديثين ، أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة أخرى فعليه التكبير ، وأما الآخر فإنه روي : أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه للقيام بعد القعود تكبير. وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى. وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» (١).

وتقريب دلالتها بعين ما سبق في صحيح ابن مهزيار. كما يظهر الجواب بملاحظة ما سبق ، حيث يتضح به ظهور التخيير في المقام في السعة الواقعية ، لظهور حال السائل في السؤال عن الحكم الواقعي ، ولعدم التعارض بين الروايتين بعد كون الثانية أخص مطلقا ، غاية الأمر كشف المكاتبة عن عدم تخصيص الثاني للأول ، بل رجوع نفي التكبير إلى خفة مطلوبيته مع بقاء مشروعيته.

الرابع : مرسل الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه» (٢).

واستشكل فيه بعض مشايخنا بأن مفاده حجية أخبار الثقات ، من دون

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١٣ من أبواب السجود حديث : ٨. والغيبة ص : ٢٣٢ طبع النجف الأشرف.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤١.

٦٠٥

نظر إلى فرض تعارضها الذي هو محل الكلام.

لكنه لا يناسب التعبير بالسعة ، لأن الحجية كما تقتضي التعذير تقتضي التنجيز المستتبع للضيق ، بخلاف التخيير بين الخبرين في فرض حجيتهما ذاتا ، فإنه نحو من السعة. ولا سيما مع قوله عليه‌السلام : «وكلهم ثقة» لظهوره في دخل وثاقة الكل بنحو المجموع في الحكم بالسعة ، مع أن حجية كل خبر منوطة بوثاقة راويه فقط ، والذي يناط بوثاقة الكل هو السعة مع التعارض ، إذ مع وثاقة البعض لا غير يتعين العمل بروايته.

وأما احتمال كون المراد السعة من حيثية تلك الروايات ، بمعنى أنها لا تصلح للتخيير بسبب التعارض ، الذي هو مرجع التساقط ، لا السعة في العمل على طبقها ، الذي هو مرجع التخيير ، نظير ما تقدم في موثق سماعة.

فيدفعه أن ذلك لا يناسب التنبيه على وثاقة الراوي المناسبة لحجية روايته ، بخلاف موثق سماعة ، حيث لم يتضمن ذلك ، بل تضمن فرض التعارض المناسب للتساقط. فالإنصاف أن دلالة المرسل على التخيير قريبة جدا ، ولا أقل من إشعاره به بنحو يصلح للتأييد.

الخامس : مرسل الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام : «قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق. قال : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» (١). ولعله أظهر نصوص التخيير دلالة.

ولا سيما بلحاظ التقييد فيه بعدم العلم بما هو الحق من الخبرين ، حيث لا يكون بذلك منافيا لنصوص الترجيح الصالحة للتعبد بتعيين ما هو الحق منهما ، بل يكون محكوما لها حكومة عرفية.

السادس : ما أرسله الكليني في كلامه المتقدم في أول الكلام في

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٠.

٦٠٦

الترجيح ، وبعد ذكره لموثق سماعة السابق ، حيث قال : «وفي رواية أخرى : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» (١).

السابع : مرفوعة زرارة المتقدمة في نصوص الترجيح ، حيث تضمنت التخيير بعد فرض عدم المرجح لأحد الخبرين حتى بالاحتياط.

الثامن : الرضوي : «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها وهي عشرة أيام ، وتستظهر بثلاثة أيام ثم تغتسل ، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة. وقد روي : ثمانية عشر يوما. وروي : ثلاثة وعشرين يوما. وبأي هذه الأحاديث أخذه [أخذت. ظ] من جهة التسليم جاز» (٢). وهو وإن كان واردا في مورد خاص ، إلا أن إلغاء خصوصية مورده قريب جدا ، لاشتمال المورد على أحكام الزامية مهمة.

فالعمدة في وهن الاستدلال به عدم ثبوت نسبته للإمام عليه‌السلام. مضافا إلى أن الإرجاع للتخيير في الواقعة الشخصية لا يناسب وظيفة الإمام المطلع على حكمها الواقعي.

كما أن ما دل من النصوص السابقة على التخيير ضعيف لا ينهض بالاستدلال حتى بلحاظ التعاضد ، لعدم كثرة النصوص المذكورة ، ينحو يمنع من احتمال عدم صدور مضامينها أو احتفافها بما يمنع من استفادة التخيير منها من القرائن الحالية والمقالية.

ولو سلم نهوضها في أنفسها بالاستدلال فهي معارضة بنصوص أخر ظاهرة في التوقف والإرجاء ، فينبغي النظر فيها أولا ، ثم في الجمع بينها وبين

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦.

(٢) الرضوي ص : ٢١. مستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٢. وقد حذف بعضه.

٦٠٧

نصوص التخيير. وهي جملة من النصوص.

الأول : مقبولة ابن حنظلة المتقدمة في نصوص الترجيح ، حيث قال عليه‌السلام في ذيلها بعد فرض التعادل : «إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

ومقتضى التعليل فيها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة إلغاء خصوصيتي القضاء وزمان الحضور ، لظهوره في عدم حجية كل من الخبرين بسبب التعارض وعدم المرجح المستلزمين لاشتباه الأمر.

على أن الاختصاص بزمان الحضور إنما ينفع لو أمكن حمل نصوص التخيير على زمان الغيبة ، وهو متعذر ، لاستلزامه تخصيص المورد.

«الثاني والثالث» : ما عن مستطرفات السرائر عن كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمد : «إن محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهم‌السلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه ، أو الرد إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليه‌السلام : ما علمتم أنه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردوه إلينا» (١) ونحوه مكاتبة داود بن فرقد الفارسي (٢).

فإن مقتضى إطلاقهما وإن كان هو التوقف حتى عن الترجيح ، إلا أنه لا يبعد تقييدهما بنصوص الترجيح ، وحملهما على التعادل. وعلى كل حال فهما معارضان لنصوص التخيير.

الرابع : مرسلة عوالي اللآلي ، حيث قال بعد ذكر المرفوعة : «وفي رواية

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٦.

(٢) مستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٠ وبصائر الدرجات ج : ١٠ باب : ٢ حديث : ٢٦ ص : ٥٣٤ طبعة النجف الأشرف.

٦٠٨

أنه عليه‌السلام قال : إذن فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله» (١).

هذا والمتيقن من التوقف في هذه النصوص هو التوقف عن ترجيح أحد الخبرين ، وعن العمل بهما ، المساوق للتساقط ، ولزوم الفحص مع تيسره ، ثم الرجوع للأصل ، أو غيره مما هو متأخر رتبة عن الخبرين المتعارضين. لا التوقف المطلق عن الفتوى ولو بالحكم الظاهري ، أو الاحتياط في مقام العمل. إذ لا شاهد بحمل هذه النصوص عليه.

ثم إنه قد وقع الكلام بينهم في وجه الجمع بين هذه النصوص ونصوص التخيير ، وذكروا وجوها كثيرة لا يسعنا استقصاؤها بعد كون جملة منها تبرعيا ، أو ظاهر الوهن ، غير أنه لا بد من التعرض لبعضها.

منها : حمل نصوص الإرجاء على زمن الحضور ، وحمل نصوص التخيير على زمن الغيبة. بل قد يدعى القطع بعدم بناء الشيعة على التخيير في عصر الحضور ، وأنهم يرجعون للأئمة عليهم‌السلام لمعرفة الحق ، فلا بد من حمل نصوصه على خصوص عصر الغيبة ، فيكون أخص من نصوص التوقف.

وفيه : أنه إن رجع إلى دعوى خصوصية زمن الحضور والغيبة ، فيظهر ضعفه مما سبق في الاستدلال على الإرجاء بالمقبولة من تعذر حمل نصوص التخيير على خصوص زمن الغيبة ، لاستلزامه تخصيص المورد.

ولو فرض القطع بعدم بناء الشيعة على التخيير في عصر الحضور ، لزم البناء على إجمال نصوصه ، لا على حملها على عصر الغيبة بعد استلزامه ذلك.

كما أن التعليل في المقبولة بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة آب عن التخصيص عرفا.

__________________

(١) مستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢.

٦٠٩

وإن رجع إلى أن المعيار على التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام ، ومعرفة الحكم الواقعي منه ، وتعذر ذلك أو تعسره ، الذي قد يكون في عصر الحضور أيضا ـ كما جرى عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ فهو جمع تبرعي خال عن الشاهد ، لأن اشتمال بعض نصوص التوقف على جعل الغاية لقاء الإمام لا يقتضي القدرة على لقائه. كيف؟! وقد اشتملت بعض نصوص التخيير على ذلك أيضا.

مضافا إلى ما سبق من إباء التعليل في المقبولة عن التخصيص عرفا.

ومنها : حمل نصوص الإرجاء على الاستحباب ونصوص التخيير على الرخصة. وكأنه لأنه المناسب للجمع العرفي بين الأمر أو النهي والترخيص.

وفيه : أنه لا يناسب التعليل في المقبولة. مع أن مرجع الإرجاء إلى التساقط ، وهو قد يكون أوسع عملا من التخيير.

ومنها : حمل نصوص التخيير على ما إذا كان الأمر أو النهي في أحد الخبرين أمر فضل وندب ، أو نهي إعافة وكراهة ، فيحمل الإذن في الآخر على الرخصة ، ويتخير في العمل بينهما ، وحمل نصوص التوقف على غير ذلك. ولا يخفى رجوعه إلى الاستغناء عن نصوص التخيير في مقام العمل ، إذ مع إحراز كون الأمر والنهي للندب والكراهة يتعين التخيير عملا ، من دون حاجة إلى خبر معارض مرخص ، فضلا عن نصوص التخيير الموسعة في العمل بأيهما. ومع الشك فيه لا يحرز موضوعها. مضافا إلى أن التخيير يكون حينئذ عقليا واقعيا بين المؤديين ، لا شرعيا ظاهريا بين الحجتين ، ولا ريب في ظهور نصوص التخيير في الثاني.

نعم يتجه ما في الحدائق من الاستدلال على هذا الوجه بما رواه الميثمي عن الرضا عليه‌السلام في خبر طويل رواه الصدوق في العيون في اختلاف الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام. وقد تضمن صدره أن الأوامر والنواهي الواردة في

٦١٠

الكتاب والسنة تكون .. تارة : أوامر إلزام وفرض ونواهي تحريم وأخرى : أوامر فضل وندب ونواهي إعافة وكراهة. وأن القسم الأول لا يمكن الخروج عنه ولا يقبل الحديث المخالف له ، لأنهم عليهم‌السلام لا يستحلون ما حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يحرمون ما استحل ، بل هم تابعون له ، كما كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله تابعا لله تعالى ، وأن الذي يسع استعمال الرخصة فيه هو القسم الثاني.

ثم قال عليه‌السلام : «فما كان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي إعافة أو أمر فضل ، فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه إذا ورد عليكم عنا الخبر [الخبران. عيون] فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره ، وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما ، يجب الأخذ بأحدهما ، أو بهما جميعا ، أو بأيهما شئت وأحببت ، موسع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والرد إليه وإلينا.

وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشركا بالله العظيم.

فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام و [أو. عيون] مأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره.

وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ، ثم كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا ، وبأيهما شئت وسعك الاختيار ، من باب التسليم والاتباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه ب آرائكم وعليكم بالكف ، والتثبت والوقوف

٦١١

وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا» (١).

ورجال سنده بين صحيح وموثق ، عدا محمد بن عبد الله المسمعي الذي قال في حقه الصدوق بعد رواية هذا الخبر : «كان شيخنا محمد بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه سيّئ الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ، ورواه لي».

وحيث إن سوء الرأي لا يخلو عن إجمال ، لإمكان رجوعه لجهات لا تنافي الوثاقة ـ كالغلوّ واعتماد المراسيل ـ فلا يخرج به عن ظاهر حال ابن الوليد في الاعتماد على حديثه ، حيث لم يستثنه ـ كما قيل ـ من رجال كتاب نوادر الحكمة. ولا سيما مع ما صرح به الصدوق في كلامه المتقدم من رواية ابن الوليد للحديث المذكور ، الظاهر في اعتماده عليه ، وأنه قد رواه من كتاب الرحمة ، الذي صرح في الفقيه بأنه من الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها المرجع (٢).

وأما دلالته فهو ظاهر في حصر المراد من أخبار التخيير في التخيير الواقعي في موارد الأمر والنهي غير الإلزاميين في مقابل الرخصة ، ولزوم التوقف في غير الموارد المذكورة ، وخروجه عن مفاد تلك الأخبار. وهو راجع إلى بيان حال التعارض واختلاف منشئه ، لا إلى ضرب القاعدة العملية فيه ، لما سبق من أن نصوص التخيير بعد تفسيرها بذلك يستغنى عنها في مقام العمل.

نعم يمكن الرجوع للإمام في تشخيص حال الأمر والنهي وأنهما من أي

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢١. وعيون أخبار الرضا (ع) ج ٢ : ص : ١٩ باب : ٣٠ من أبواب ما جاء عن الرضا (ع) من الأخبار المنثورة حديث : ٤٥. طبعة النجف الأشرف.

(٢) كتاب من لا يحضره الفقيه ج : ١ ص : ٤.

٦١٢

القسمين ، وتطبيق كبرى التخيير تبعا لذلك ، كما سبق في صحيح ابن مهزيار ومكاتبة الحميري ، اللذين يصلحان لتأييد التفسير المذكور لنصوص التخيير.

وحيث كان هذا الحديث متعرضا لمضامين نصوص التخيير كان حاكما عليها حكومة بيانية ، ومقدما عليها طبعا ، ويكون كاشفا عن خلل في ظهورها البدوي في التخيير الظاهري ، الذي هو محل الكلام. ومن ثم جعله شيخنا الأستاذ قدس‌سره مانعا من البناء على التخيير والعمل بنصوصه.

اللهم إلا أن يقال : الحكومة المذكورة إنما تتم في مثل مرسل الكليني القابل للحمل على السعة الواقعية ، دون مثل مرسل الحسن بن الجهم الذي هو كالصريح في التخيير الظاهري ، حيث فرض في السؤال والجواب الجهل بالحق من الخبرين الظاهر في المفروغية عن مخالفة أحدهما له ، ومرفوعة زرارة المفروض فيها لزوم الترجيح الذي لا مجال له في المورد المذكور. فلا مجال لحكومة حديث الميثمي على الخبرين المذكورين ونحوهما حكومة تفسيرية ، بل هو معارض لهما ، كأخبار التوقف.

على أنه ظاهر في أن الخبرين المشتمل أحدهما على الأمر أو النهي والآخر على الرخصة متعارضان يكونان موردا للتخيير أو الرد مع العلم بحال الأمر أو النهي ، وأنهما من أي القسمين ، وللتوقف مع الجهل بحالهما. مع وضوح بناء الأصحاب على الجمع بينهما مع الجهل بالحال بالحمل على الاستحباب أو الكراهة ، وخروجهما بذلك عن التعارض عرفا. فهو من هذه الجهة مهجور عند الأصحاب.

كما أنه مناف لنصوص الترجيح ، لقوة ظهوره في استيفاء حكم صور التعارض ، وفي عدم الوظيفة الظاهرية فيها.

وذلك بمجموعه موجب لوهن الخبر في نفسه ، ولزوم ردّ علمه

٦١٣

لقائله عليهم‌السلام. ويبقى التعارض بين نصوص التخيير والتوقف مستحكما. فتأمل جيدا.

نعم يتعين إهمال نصوص التخيير ، إما لضعفها دلالة أو سندا ـ كما سبق ـ أو لمعارضتها بنصوص التوقف ، والبناء على التساقط ، الذي سبق أنه مقتضى الأصل في المتعارضين.

بقي في المقام أمور تبتني على القول بالتخيير.

الأول : أنه لا يراد بالتخيير التخيير في المسألة الفرعية ، نظير التخيير بين القصر والتمام في المواطن الأربعة ، للعلم بعدم تبدل الحكم الفرعي بسبب التعارض ، فلا معنى للحكم الواقعي أو الظاهري بالتخيير ، بل التخيير في المسألة الأصولية الراجع لجواز التعويل في مقام العمل على كل من المتعارضين ظاهرا ومطابقة العمل له ، لأن ذلك هو الظاهر من أدلته.

الثاني : أن مقتضى إطلاق أدلة التخيير عدم الفرق بين المفتي والمستفتي ، فليس للمفتي اختيار أحد المتعارضين والفتوى على طبقه ، وإلزام المستفتي بذلك.

أما بناء (١) على أن مفاد الحجية التخييرية كون كل من الدليلين حجة للمكلف ، ومجموعهما حجة عليه ، فلعدم لزوم العمل عليه بأحد المتعارضين ليتعين عليه الفتوى بمفاده.

وأما بناء على أن مفادها توقف حجية كل منهما تعيينا على اختيار المكلف له ، فاختيار المفتي لأحد الدليلين وإن كان سببا لحجيته عليه تعيينا ، إلا أنه لا يكون سببا لحجيته على المستفتي كذلك ، لعدم الدليل على قيام اختيار

__________________

(١) تقدم التعرض لمفاد الحجية التخييرية في أوائل الكلام في مقتضى الأصل في المتعارضين. (منه عفي عنه).

٦١٤

المفتي مقام اختيار المستفتي ، بل مقتضى إطلاق أدلة التخيير إناطة الحجية التعيينية لأحد المتعارضين في حق كل أحد باختياره هو غاية الأمر أن المفتي يقوم مقام المستفتي في الفحص عن الأدلة وتحديد مفادها.

ولازم ذلك أن وظيفة المفتي في مورد التعارض تنبيه المستفتي لورود الخبرين المتعارضين في الواقعة ، ثم الحكم بأنه له العمل على طبق كل منهما.

الثالث : أن مقتضى إطلاق أدلة التخيير أنه استمراري ، بمعنى أن للمكلف في كل واقعة أن يختار في مقام العمل خلاف ما اختاره في الواقعة الأخرى ، وليس ابتدائيا ، بحيث ليس له الخروج عما اختاره في الواقعة الأولى.

ودعوى : أن أدلة التخيير واردة لبيان حكم المتحير ، ولا تحير بعد اختيار أحد الخبرين في الواقعة الأولى ، حيث يكون هو الحجة حينئذ ، ويرتفع معه التحير.

مدفوعة أولا : بأنه مبني على رجوع الحجية التخييرية إلى حجية أحد الخبرين تعيينا بشرط اختياره ، وهو لا يخلو عن إشكال ، كما سبق في أوائل الكلام في مقتضى الأصل في المتعارضين.

وثانيا : بأن أدلة التخيير لم يؤخذ فيها التحير ، ليهتم بتحديده وصدقه في المقام ، وإنما أخذ فيها تعارض الخبرين ـ الذي هو موجب للتحير ـ وهو باق حتى بعد اختيار أحدهما في الواقعة الأولى. وارتفاع التحير في تلك الواقعة باختيار أحدهما لا ينافي التحير في غيرها بسبب بقاء التعارض. بل لو كان مرسل الحارث بن المغيرة من أدلة التخيير فقوله عليه‌السلام فيه : «فموسع عليك حتى ترى القائم» صريح في استمرار التخيير ما دام لم ير القائم ، وعدم اختصاصه بالواقعة الأولى.

٦١٥

الفصل الثالث

في لواحق الكلام في مفاد أدلة التعارض الخاصة

والكلام فيها في ضمن مسائل ..

المسألة الأولى : سبق في الباب الأول عدم جريان أحكام التعارض العامة في موارد الجمع العرفي. وأما الأحكام الخاصة ـ من الترجيح والتخيير والإرجاء ـ فقصورها عن موارد الجمع العرفي موقوف على كون موضوعها التعارض في مقام الحجية المستتبعة للعمل. أما لو كان موضوعها التعارض في مقام البيان والدلالة تعين عمومها لموارد الجمع العرفي ، وتكون رادعة عنه ، وكاشفة عن خصوصية في الأخبار مانعة منه.

إذا عرفت هذا فأكثر النصوص قد اشتمل على عنوان الاختلاف بين الأخبار ، والظاهر صدقه بمجرد الاختلاف في مقام البيان والدلالة. إلا أن ورودها مورد التحير في الوظيفة موجب لانصرافها عن موارد الجمع العرفي ، لعدم التحير فيه بحسب الطبع الأولي.

ولعل هذا هو الوجه في سيرة الأصحاب «رضوان الله عليهم» في مقام الاستدلال على اعتماد الجمع العرفي ، وعدم الرجوع لأحكام التعارض إلا بعد تعذره ، خصوصا بعض أنواعه المحررة بعناوينها في كلماتهم ، كالعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، حيث يظهر منهم الإجماع على الرجوع إليها. من دون فرق بين تعارض الخبرين ، الذي هو موضوع نصوص العلاج ، وتعارض البيانين الكتابيين ، وتعارض البيان الكتابي والخبر ، بنحو يكشف عن بنائهم

٦١٦

على عدم نهوض أخبار العلاج في تعارض الخبرين للردع عن الجمع العرفي بينهما.

وكفى بهذه السيرة والإجماع دليلا على اعتماد الجمع العرفي في الأخبار ، وعاضدا للانصراف المشار إليه آنفا ، فلا ينبغي التوقف في ذلك.

المسألة الثانية : سبق أن أحكام التعارض العامة كما تجري في الدليلين الذي يكون أحدهما مكذبا للآخر عرفا ، لتعذر الجمع بينهما ، كذلك تجري في الدليلين المتعارضين بظاهرهما ، بحيث يمكن تنزيل أحدهما على الآخر مع خفاء وجه الجمع بينهما ، كالعامين من وجه في مورد الاجتماع ، وكما إذا دار الأمر في الجمع بين المطلق والمقيد بين تقييد المطلق بالمقيد ، وحمل المقيد على أفضل الأفراد ، من دون مرجح لأحدهما ، وغير ذلك.

غاية الأمر أنه بسبب عدم التكاذب بين الدليلين يكونان حجة في نفي الاحتمال الثالث ونحوه من اللوازم المشتركة بين مفاديهما.

وأما أحكام التعارض الخاصة المستفادة من أخبار العلاج فربما يدعى قصورها عن ذلك ، لعدم التصادم بين الخبرين عرفا ، بل بين ظهوريهما ، الموجب لجريان حكم الإجمال عليهما في مورد التعارض.

لكنه يندفع بأن أكثر نصوص العلاج قد تضمن عنوان الاختلاف الصادق في مورد وضوح الجمع العرفي ـ كما سبق ـ فضلا عما نحن فيه. غايته أن ورود تلك النصوص في مورد التحير موجب لانصرافها عن مورد وضوح الجمع العرفي.

ولا وجه لقصورها عما نحن فيه مع كونه موردا للتحير. ولا سيما مقبولة ابن حنظلة ، فإن فرض اختلاف الخبرين فيها لم يكن ابتدائيا ، ليدعى انصرافه لخصوص صورة تكاذب الخبرين ، وإنما كان بعد فرض اختلاف الحكمين ،

٦١٧

وحيث إن اختلاف الحكمين قد يكون لاختلاف ظهوري الخبرين من دون تصادم بينهما ، تعين عموم اختلاف الخبرين الذي هو موضوع العلاج لذلك.

هذا وظاهر بعض الأعيان المحققين قدس‌سره خصوصية العامين من وجه ونحوهما مما لا يمنع التعارض فيه من العمل به في الجملة ، ولو في غير مورد المعارضة ، لدعوى : انصراف العلاج إلى ما إذا أوجب التعارض التوقف عن المتعارضين رأسا ، دون ما إذا بقي التعبد بسنديهما ، لانفراد كل منهما بمورد يعمل فيه.

لكن منشأ الانصراف المذكور غير ظاهر ، ليخرج به عن الإطلاق ، خصوصا بملاحظة ما سبق في المقبولة ، فإنه يعم العامين من وجه ونحوهما ، بلحاظ أن ذلك قد يحصل في مورد اختلاف الحكمين ، فيتعين عموم اختلاف الخبرين المفروض فيها له.

نعم قد يستشكل في جريان المرجحات السندية ـ كالشهرة في الرواية ـ فيه ، لما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنه لا وجه لإعمالها على الإطلاق ، لأنه يوجب طرح الخبر المرجوح في غير مورد التعارض ، ولا لإعمالها في خصوص مورد التعارض مع العمل بالمرجوح في غيره ، لأنه بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجية.

بل صرح بعض الأعاظم قدس‌سره بامتناعه ، لأن الخبر الواحد لا يقبل التبعيض في المدلول من حيثية الصدور ، بأن يكون صادرا في بعض مدلوله دون بعض.

اللهم إلا أن يقال : ليس مرجع الترجيح الصدوري إلى تكذيب المرجوح والحكم بعدم صدوره ، ليمتنع التفكيك في الصدور بين أبعاض مضمون الخبر الواحد ، بل إلى التعبد بمضمون الراجح لأقوائيته من حيثية الصدور ، تقديما للأقوى في مقام التعارض ، وذلك إنما يناسب عدم حجية المرجوح في مورد

٦١٨

المعارضة ، من دون أن يمنع من حجيته في غير موردها.

المسألة الثالثة : سبق في تعريف التعارض أنه قد يكون بين أكثر من دليلين. ولا ريب في جريان أحكام التعارض العامة فيه. وأما أحكامه الخاصة التي تضمنتها نصوص العلاج فلا يبعد جريانها فيه أيضا ، لأن جملة من تلك النصوص وإن اختصت بتعارض الخبرين ، إلا أن إلغاء خصوصية ذلك قريب جدا ، ولا سيما مع مناسبته لنوع المرجحات ارتكازا ، ولما في بعض نصوص التخيير من كون الأخذ بها من باب التسليم.

بل بعض النصوص مطلق من هذه الجهة ، كمقبولة ابن حنظلة المفروض فيها الاختلاف في الحديث بعد فرض اختلاف الحكمين ، لوضوح أن كلا من الحكمين قد يستند في حكمه للجمع بين مضموني حديثين أو أكثر ، وصحيح الحسن بن الجهم الوارد في الترجيح ، حيث فرض فيه رواية الشيء عن أبي عبد الله عليه‌السلام ورواية خلافه عنه ، فإن الخلاف قد يستفاد من الجمع بين روايتين أو أكثر.

المسألة الرابعة : صرح بعض مشايخنا قدس‌سره بأن اختلاف النسخ في الأحاديث داخل في تعارض الأخبار. وظاهره جريان أحكامه الخاصة من الترجيح والتخيير أو التوقف.

لكن الظاهر قصور الأخبار العلاجية عن ذلك ، لأن موضوعها اختلاف أخبارهم ، واختلاف النسخ راجع إلى الاختلاف في الخبر المنقول عنهم ، فإن الحديث والخبر والرواية في عرف المتشرعة ـ الذي عليه جرت النصوص ـ عبارة عن الأمر المنقول عن المعصوم عليه‌السلام ، واختلافه إنما يكون بتنافي المضامين المنقولة عنهم عليهم‌السلام ، وهو لا يصدق مع اتحاد الأمر المنقول عنه من قبل الراوي الأول ، مع الاختلاف في ما نقله الراوي الأول من قبل الوسائط

٦١٩

المتأخرة عنه.

ومن ثم كان الترجيح بمخالفة العامة ارتكازا من المرجحات الجهتية ، بلحاظ أن ما ورد عنهم عليهم‌السلام مخالفا للعامة أبعد عن التقية مما ورد عنهم موافقا لهم. مع أنه لو كان شاملا لاختلاف النسخ لكان مرجحا صدوريا ، لفرض أنه لم يصدر عنهم إلا شيء واحد مردد بين الوجهين. وهو بعيد جدا ، لعدم وضوح غلبة مخالفتهم للعامة ، بل لعل ما ورد عنهم موافقا لهم أكثر.

ومن هنا كان اللازم جريان حكم التعارض العام عند اختلاف النسخ ، وهو التساقط في فرض تكاذبها.

نعم لا يبعد حجيتها في القدر المشترك بينها ، كنفي الثالث. أما مع العلم بصدق بعضها إجمالا فظاهر. وأما مع عدمه فلقرب ابتناء اختلاف النسخ على الخطأ في إثبات النسخة أو قراءتها أو سماعها ، وأصالة عدم الخطأ بنظر العقلاء تقتضي عدمه في إحداها إجمالا ، اقتصارا فيه على المتيقن.

وليس الخطأ كغيره من الأمور التي يبتني استحصال الواقع من الطريق على عدمها ـ كمخالفة ظاهر الكلام ، وصدوره لبيان غير المراد الجدي ، والكذب من الناقل ـ مما يبتني على العمد الذي لو جاز في أحد الطريقين جاز في الآخر ، ولا دافع له بعد تكاذب الخبرين.

كما أنه لا يبعد الترجيح فيها بالشهرة ونحوها ، من ما يوجب الاطمئنان بصدق إحدى النسخ. لكن لا بملاك الترجيح بين الحجتين ، بل لأن الاطمئنان بصدق إحدى النسخ مستلزم للاطمئنان بكذب غيرها ، الذي يخرج معه الخبر عن الحجية ، بخلاف الاطمئنان بصدور أحد الخبرين ، فإنه لا يستلزم الاطمئنان بعدم صدور الخبر المعارض له ، لإمكان صدورهما معا ، وإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، أو صدوره بداعي بيان غير الواقع من تقية أو نحوها.

٦٢٠