الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه» (١).

ومنها : صحيح الحسن بن الجهم المروي عن الرسالة المذكورة : «قلت للعبد الصالح : هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال : لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا. فقلت : فيروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شيء ، ويروى عنه خلافه ، فبأيهما نأخذ؟ فقال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه» (٢).

هذا ما تيسر لي العثور عليه من النصوص المعتبرة السند. وهناك نصوص أخرى لا تبلغ درجة الاعتبار تصلح للتأييد.

ومنها : خبر الحسين بن السري : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم» (٣).

ومنها : الصحيح عن محمد بن عبد الله : «قلت للرضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا ما يخالف منهما العامة فخذوه ، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه» (٤).

ومنها : مرفوعة زرارة : «سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكما الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم. فقال عليه‌السلام : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقال : انظر ما وافق منهما العامة فاتركه ، وخذ ما خالفه ، فان الحق فيما خالفهم. فقلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع؟ فقال : إذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك ، واترك الآخر. فقلت : إنهما معا موافقان للاحتياط ، أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : إذن

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٩ ، ٣١ ، ٣٠ ، ٣٤.

٥٨١

فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» (١).

ومنها : ما أرسله الكليني في ديباجة الكافي في كلامه المتقدم.

ومنها : ما أرسله المفيد في المحكي عن رسالة العدد. قال : «والمعروف قول أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن ، فإن لم تجدوا لهما شاهدا من القرآن فخذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، فإن كان فيه اختلاف وتساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول العامة» (٢). وهناك بعض النصوص الأخر يأتي التعرض لها.

وهذه النصوص وافية بإثبات وجوب الترجيح في الجملة ، فالمتعين البناء على ذلك.

وقد استشكل فيها المحقق الخراساني ـ مضافا إلى ما سبق منه في المقبولة وسبق دفعه ـ بأنه لا مجال لتقييد إطلاقات التخيير بصورة تساوي الخبرين من جميع الجهات ، لندرة ذلك بنحو يستلزم التخصيص المستهجن.

ويندفع أولا : بأن المرجحات المنصوصة ليست من الكثرة بحيث يمتنع حمل مطلقات التخيير ـ لو تمت ـ عليها. وغاية ما يلزم عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة ، وليس هو محذورا.

وثانيا : بأن ذلك لا يقتضي تعين نصوص الترجيح للسقوط ، بل يقتضي التعارض بينها وبين نصوص التخيير ، المقتضي للتساقط ، والبناء على الترجيح ، لأنه المتيقن.

وأما تنزيل نصوص الترجيح على الاستحباب فهو بعيد في نفسه ، بل

__________________

(١) الحدائق الناضرة ج : ١ ص : ٩٣ في المقدمة السادسة طبعة النجف الأشرف ، ومستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢.

(٢) مستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١١.

٥٨٢

يأباه لسان بعضها ، كالمقبولة والمرفوعة ومرسلي الكليني والمفيد ، فلا يكون جمعا عرفيا. إذا عرفت هذا

فيقع الكلام في أمور ..

الأمر الأول : في المرجحات المنصوصة.

وقد اختلفت النصوص المتقدمة في تعيين المرجحات. وربما يدعى اشتمال نصوص أخر على مرجحات أخرى. فالمناسب التعرض للمرجحات التي قد يدعى دلالة النصوص عليها ، والنظر في أدلتها ، وفي تحديدها. وهي أمور ..

الأول : صفات الراوي من الأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية والأوثقية. وظاهر شيخنا الأعظم قدس‌سره لزوم الترجيح بها ، بل معروفية ذلك ، وأنه مركوز في أذهان الناس ، غير محتاج للتوقيف.

لكن في بلوغ ذلك حدا ينهض بالاستدلال إشكال ، بل منع. ولا سيما مع عدم تعرض الكليني لذلك في كلامه الذي تقدمت الإشارة إليه ، وعدم العثور فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كلماتهم في أبواب الفقه على التعويل عليه.

وأما النصوص فلم يشتمل منها عليه إلا المقبولة والمرفوعة. والمقبولة ظاهرة في الترجيح بين الحكمين قبل الانتقال إلى الترجيح بين الروايتين المستندين لهما ، ولا وجه للتعدي من ذلك لترجيح نفس الروايتين.

ومثلها في ذلك موثق داود بن الحصين ، وخبر موسى بن أكيل (١) ، الواردان في الترجيح بين الحكمين ، من دون تعرض للترجيح بين الروايتين أصلا.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠ ، ٤٥.

٥٨٣

ومجرد كون الروايتين هما مدرك الحكمين لا يقتضي ابتناء الترجيح بين الحكمين بالصفات المذكورة على الترجيح بين الروايتين بها ، لإمكان ابتنائه على أن اجتهاد واجد الصفات أقرب إصابة للوظيفة الشرعية من فاقدها. ولا سيما مع عدم ملازمة واجدية أحد الحاكمين للصفات لواجدية روايته التي اعتمد عليها لها.

وأما المرفوعة فهي ضعيفة جدا ، حيث لم يذكرها إلا ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللآلي عن العلامة مرفوعة إلى زرارة. وقيل : إنه لم يعثر عليها في كتب العلامة. قال في الحدائق : «لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللآلي ، مع ما هي عليه من الرفع والإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار ، والإهمال ، وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور». ومن ثم لا مجال للتعويل على ذلك في الترجيح.

الثاني : شهرة الرواية. والدليل على الترجيح بها المقبولة ، مؤيدة بالمرفوعة ومرسلتي الكليني والمفيد.

وقد ذكر بعض مشايخنا قدس‌سره أن الإرجاع إليها لتمييز الحجة عن اللاحجة ، لا للترجيح بين الحجتين ، الذي هو محل الكلام ، بدعوى : أن شهرة الرواية توجب العلم بصدورها ، فيكون المعارض لها مخالفا للسنة القطعية ، فيخرج عن موضوع الحجية ، لأن المراد بالسنة التي يسقط المخالف لها عن الحجية مطلق سنة المعصوم ، لا خصوص سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه : أولا : أن حمل السنة التي يخرج المخالف لها عن موضوع الحجية على مطلق سنة المعصوم لا يخلو عن إشكال ، بعد اختصاص النص المتضمن لذلك بسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما يظهر بمراجعة ما سبق في نصوص المنع من حجية

٥٨٤

خبر الواحد.

وأما ما تضمن أن كلامهم عليهم‌السلام مأخوذ من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنهم خلفاؤه المعبرون عنه والمبينون لعلمه. فهو إنما ورد لبيان حجية كلامهم ووجوب رجوع الأمة لهم ، ولا ينافي اختصاص نصوص العرض ـ التي وردت لبيان الضابط في الحجية ـ بسنته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي هي أبعد عن التقية ، والتي تمتاز بمكانة سامية في نفوس المسلمين تجعلها سببا للتشهير بمخالفها والتنفير عنه ، بخلاف سنتهم عليهم‌السلام.

وثانيا : أن اللازم حمل ما تضمن بطلان المخالف للسنة على المخالفة بنحو التباين ، لتصادم الكلامين عرفا ، دون مثل العموم من وجه مما يرجع لتصادم الظهورين.

وثالثا : أنه لم يتضح ورود المضمون المذكور بطريق معتبر في مخالفة السنة ، وإنما ورد في مخالفة الكتاب ، كما ورد اعتبار موافقة الخبر للسنة في جواز العمل ، ولا يمكن العمل بظاهره. فراجع ما يتعلق بذلك عند الكلام في استدلال المانعين من حجية خبر الواحد. ومن هنا لا طريق لإثبات خروج المرجح المذكور عن محل الكلام.

ثم إن المعيار في هذا المرجح على ما تضمنته أدلته من كون أحد الخبرين مشهورا معروفا بين الأصحاب ، والآخر شاذا نادرا. ولا يكفي فيه مجرد كون أحد الخبرين أكثر رواة من الآخر. وإن كان هو ظاهر غير واحد. ولعله يبتني على التعدي عن المرجحات المنصوصة.

الثالث : موافقة الكتاب. والدليل على الترجيح بها المقبولة ، وصحيح عبد الرحمن ، مؤيدين بمرسلي الكليني والمفيد.

وأما ما تضمن عرض الحديث على الكتاب والسنة ، وأنه لا بد في العمل

٥٨٥

به من موافقته لهما ، أو وجود شاهد عليه منهما. فهو يقتضي عدم حجية غير الموافق ذاتا لا بسبب المعارضة ، وقد سبق في مبحث حجية خبر الواحد عدم التعويل على هذه النصوص. وكذا ما تضمن طرح المخالف للكتاب والسنّة.

إلا أن يحمل على المخالفة بنحو التباين ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما وبينه ، بل يكون مصادما لمضمونهما عرفا ، لا لظهورهما ، فيتعين سقوطه عن الحجية ذاتا ، لا بسبب المعارضة. نظير ما تضمن أن المخالف لهما زخرف وباطل لم يصدر منهم ، وأنه مكذوب عليهم ، كما تقدم توضيح ذلك في المبحث المذكور.

وحينئذ قد يستشكل في إطلاق المخالفة في نصوص الترجيح المتقدمة بنحو يشمل المخالفة لظاهر الكتاب ، بنحو يمكن تنزيل أحدهما على الآخر ، بل هي مختصة بالمخالفة بنحو التباين ، لبعد التفكيك بين نصوص الترجيح والنصوص المذكورة في معنى المخالفة.

بل من القريب تفسير تلك النصوص لنصوص الترجيح ، وحمل المخالفة في الجميع على المخالفة بنحو التباين ، فتخرج عما نحن فيه من الترجيح بين الحجتين إلى تمييز الحجة عن اللاحجة ، كما ذكره المحقق الخراساني وشيخنا الأستاذ قدس‌سرهما. وعلى ذلك لا يبقى دليل على الترجيح بموافقة عموم الكتاب وظاهره.

لكنه يندفع أولا : بأن الاستبعاد المذكور لا يكفي في الخروج عن إطلاق المخالفة في نصوص الترجيح المتقدمة. ولا سيما مع مقابلتها بالموافقة في المقبولة والصحيح ومرسل الكليني ، مع وضوح صدق الموافقة للكتاب بموافقة عمومه.

وثانيا : بأن ذلك لا يناسب تأخير الترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح

٥٨٦

بشهرة الرواية ، مع وضوح أن شهرة الرواية إنما تقتضي القطع بالصدور ، ومخالفة الكتاب بنحو التباين توجب القطع ببطلان المضمون ، فلا معنى لتأخير الترجيح بها عن الترجيح بالشهرة ... إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل ، ويلزم بحمل المخالفة في نصوص الترجيح على ما يعم المخالفة بالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوها مما لا يخرج به الخبر عن عموم الحجية ذاتا ، ويصلح لأن يكون مرجحا بين الحجتين.

الرابع : موافقة السنة. وينحصر الدليل على الترجيح بها بمقبولة ابن حنظلة ، بناء على ما هو الظاهر من ابتناء ضمها للكتاب على مرجحية كل منهما استقلالا ، بلحاظ مرجعيتهما للأمة في التشريع. كما قد يناسبه فرض السائل بعد ذلك أخذ الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة ، مع وضوح إرادة الأخذ منهما في الجملة ، ولو بالأخذ من أحدهما فقط ، لانحصار الدليل به.

والمنصرف منها وإن كان هو خصوص سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلا أنه لا يبعد إلحاق سنة الأئمة عليهم‌السلام بها ، لرجوعها إليها وقيامها مقامها في المرجعية للأمة.

الخامس : مخالفة العامة. ويدل على الترجيح بها جميع النصوص السابقة. وربما يستدل بغيرها من ما لا ملزم بإطالة الكلام فيه بعد وفاء ما سبق بالترجيح المذكور ، المعتضد بمعروفيته بين الأصحاب ، وجريهم عليه بنحو يقرّب تحقق الإجماع منهم ، حيث يبعد جدا مخالفتهم لمفاد هذه النصوص ، مع كثرتها ومعروفيتها بينهم ، وقرب مضامينها لأذواقهم ، ولظرف صدور الروايات.

لكن قال المحقق في المعارج بعد الاستدلال للمرجح المذكور بالرواية : «وهو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد. وما يخفى عليك ما فيه. مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة ، كالمفيد وغيره».

٥٨٧

وهو كما ترى لاستفاضة النصوص بذلك ـ بنحو يبعد عدم صدور شيء منها ـ وموافقته للاعتبار. وكون المسألة علمية لا تثبت بخبر الواحد مبني على ما اشتهر من عدم ثبوت المسألة الأصولية بالأدلة الظنية ، وهو مختص بأصول الدين الاعتقادية ، دون أصول الفقه التي هي عملية ، كالمسائل الفقهية.

وأما طعن المفيد فكأن مراده به ما ذكره في تعقيب المرسل المتقدم منه ، حيث قال : «وإنما المعنى في قولهم عليهم‌السلام : خذوا بأبعدها من قول العامة يختص بما روي عنهم في مدائح أعداء الله ، والترحم على خصماء الدين ومخالفي الإيمان ، فقالوا عليهم‌السلام : إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان أحدهما في قول [تولي. ظ] المتقدمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام والآخر في التبري منهم ، فخذوا بأبعدها من قول العامة ، لأن التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامة بما يذهبون إليه من أئمتهم».

وهو كما ترى تكلف لا مجال لحمل النصوص عليه ، خصوصا المقبولة. على أنه لو تم إرادة ذلك منها ، فإلغاء خصوصية موردها والتعدي إلى ما نحن فيه هو الأنسب بالعلة الارتكازية التي أشار إليها والتي تضمنتها النصوص. فلا ينبغي التأمل في المرجح المذكور. بل لا يظن بالمفيد والمحقق قدس‌سرهما الخروج عنه في فقههما. وكأن ما سبق منهما مبني على تدقيقات وتمحلات تقتضيها طبيعة البحث وظروفه من دون أن تبلغ مقام العمل.

بل حاول المحقق الخراساني قدس‌سره تخريج المرجح المذكور على القاعدة بإرجاعه إلى تمييز الحجة عن اللاحجة ، دون الترجيح بين الحجتين ، ليحتاج للنصوص الخاصة ، بتقريب : أن أصالة الجهة لا تجري في الخبر الموافق لهم بعد الوثوق بصدور الخبر المخالف ، للوثوق حينئذ بصدوره تقية.

وما ذكره وإن لم يخل عن وجه ، إلا أنه لا يبلغ من الوضوح حدا يستغنى

٥٨٨

معه عن الأدلة الخاصة ، من الأخبار ، والإجماع ـ القولي أو العملي ـ أو نحوها من الأدلة التعبدية. بل قد تنافيه نصوص الترجيح ، لظهورها في تأخر المرجح المذكور عن الترجيح بموافقة الكتاب ، التي سبق الاكتفاء فيها بموافقة ظواهره من عموم أو نحوه. وإن كان الأمر غير مهم بعد عدم ظهور أثر عملي للنزاع المذكور.

بقي شيء

وهو أن ظاهر نسبة الموافقة والمخالفة للعامة هو مخالفتهم بما أنهم جماعة قائمة ، ولا يتم ذلك إلا مع اتفاقهم ، أو شهرة الحكم بينهم شهرة يكون بها المخالف منهم شاذا عنهم. إلا أن فرض موافقة الخبرين المتعارضين ومخالفتهما لهم في المقبولة والمرفوعة يناسب العموم لمخالفة بعضهم ممن يعتد به ، ولا يكون شاذا عنهم عرفا. وهو المناسب لارتكاز ابتناء المرجح المذكور على مراعاة احتمال التقية في الموافق ، فإنه يجري في فرض كون أحد الخبرين موافقا لبعضهم والآخر مخالفا لهم بأجمعهم.

كما لا يفرق في البعض بين أن يكون معاصرا لصدور الخبر الموافق أو المخالف وكونه سابقا عليه ، ولا بين كونه منتسبا للسلطان ـ بقضاء ونحوه ـ وغيره ، عملا بالإطلاق.

بل مقتضى فرض موافقة الخبرين للعامة في المقبولة ، ثم الأمر فيها بترك ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل ، كون المراد من موافقة البعض ما يعم موافقة غير الحكام والقضاة.

مضافا إلى عموم الجهة الارتكازية لمنشا الترجيح ، لما هو المعلوم من فتح باب الاجتهاد عندهم في العصور السابقة بمصراعيه ، فتتأدى التقية بموافقة أي منهم ، ولا تتميز الطائفة عنهم إلا بمخالفة إجماعهم أو الشهرة المساوقة له.

٥٨٩

نعم يقصر الإطلاق عن أقوالهم الحادثة بعد صدور الخبر ، لعدم تأدي التقية بها.

ومنه يظهر عدم الخصوصية للمذاهب الأربعة ، لأن الحصر بها قد فرض عليهم بعد الغيبة. بل بعضها قد حدث في أواخر عصور ظهور الأئمة عليهم‌السلام ، وربما كان قبل ذلك ما هو الأشيع منها ، وأجل قائلا عندهم.

السادس : الإجماع. ففي الاحتجاج : «وروي عنهم عليهم‌السلام أيضا أنهم قالوا : إذا اختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا ، فإنه لا ريب فيه» (١). وظاهر الاجتماع هنا هو الاجتماع على العمل بالخبر ، الذي هو عبارة عن الإجماع على الفتوى. وحيث كان ذلك من القرائن القطعية على مطابقة مضمون الخبر الموافق له للواقع دون الآخر ، فيخرجان به عن موضوع الحجية والترجيح. ويرجع الخبر إلى تمييز الحق من الباطل ، لا إلى تمييز الحجة عن اللاحجة ، فضلا عن الترجيح بين الحجتين. على أن ضعف الخبر مانع من التعويل عليه ، فلا ينفع لو كان مخالفا للقواعد.

السابع : الأحدثية. فقد تضمنت جملة من النصوص لزوم الأخذ بالأحدث ، كخبر المعلى بن خنيس الذي لا يخلو عن اعتبار : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ فقال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم» (٢).

وخبر أبي عمرو الكناني : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٣ ، والاحتجاج ج : ٢ ص : ١٠٩ طبعة النجف الأشرف.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٨.

٥٩٠

بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر. فقال : قد أصبت يا أبا عمرو. أبي الله إلا أن يعبد سرا. أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم. أبى الله عزوجل لنا في دينه إلا التقية» (١).

ومرسل الحسين بن المختار : عنه عليه‌السلام : «قال : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ، ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه ، بأيهما كنت تأخذ. قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك الله» (٢).

ومرسل الكليني : «وفي حديث آخر : خذوا بالأحدث» (٣).

ولم يعرف من اعتمد هذا المرجح غير الصدوق في الفقيه في باب الرجلين يوصى إليهما ، حيث ذكر حديثا عن العسكري عليه‌السلام وآخر معارضا له عن الصادق عليه‌السلام ، ثم قال : «لست أفتي بهذا الحديث ، بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليه‌السلام. ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير ، كما أمر به الصادق عليه‌السلام ، وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس. وبالله التوفيق» (٤).

والذي ينبغي أن يقال : من الظاهر أن تأخر الزمان لا دخل له في أقربية الدليل للواقع وكاشفيته عنه. ومن هنا يمتنع حمل هذه النصوص على الترجيح إثباتا بين الخبرين ، بلحاظ طريقيتهما للواقع ، كما هو حال المرجحات السابقة.

ويتعين حملها على الترجيح ثبوتا بين الحكمين المحكيين بهما ـ من دون قصور في حجيتهما ـ بلحاظ ورود الأحدث لبيان الوظيفة الفعلية التي يدركها إمام الوقت ، سواء كانت هي الحكم الواقعي الثانوي ، لحدوث سبب التقية الرافع للحكم الأولي المبين بالدليل الأسبق ، أو لتبدل مقتضى التقية ، أم

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٧ ، ٧ ، ٩.

(٤) كتاب من لا يحضره الفقيه ج : ٤ ص : ١٥١ طبع النجف الأشرف.

٥٩١

كانت هي الحكم الأولي ، لارتفاع سبب التقية التي كان الحكم المبين بالدليل الأسبق جاريا على مقتضاها.

ويقتضيه قوله عليه‌السلام : «إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم» وقوله عليه‌السلام : «أبي الله إلا أن يعبد سرا. أما والله لئن فعلتم إنه لخير لي ولكم ، أبى الله عزوجل لنا في دينه إلا التقية». لمناسبتهما لتوجيه اختلاف نفس الحكمين المحكيين بالدليلين ، وفعلية الحكم الأخير ، لأن ذلك هو الذي يسع الشيعة في مقام العمل ، ويكون خيرا لهم ، ويرجع إلى عبادة السر والتقية عملا. لا لتوجيه اختلاف نفس الدليلين في بيان الواقع ، الراجع للتقية في الفتوى التي هي من وظيفة المفتي ، من دون أن يجب العمل عليها واقعا.

كما يناسبه ما تضمنه حديثا الكناني والحسين من رجوع الراوي بطبعه للمرجح المذكور ، إذ من الظاهر أن الأمر الارتكازي هو العمل على الحكم الأحدث الذي يدركه إمام الوقت ، لا ترجيح الحجة الأحدث ، بلحاظ كاشفيتها.

وعلى ذلك فاختلاف الحديثين في الحكم إن كان مع وحدة الحكم المحكي بهما ـ وهو الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع غير القابل للتبدل مع عدم النسخ ـ فالمتعين التكاذب بينهما والتعارض الذي هو موضوع المرجحات الإثباتية المتقدمة ، ولا مجال معه للعمل بالأحدث.

وإن كان مع تعدد الحكم المحكي بهما ، وهو الوظيفة الفعلية ـ وإن كانت ثانوية بسبب التقية ـ التي تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال ، فلا تكاذب بينهما ولا تعارض في الحقيقة ، ليكونا موضوعا للمرجحات الإثباتية المتقدمة ، بل يتعين العمل على الأحدث منهما ، كما تضمنته هذه النصوص. ومرجع ذلك إلى أن الترجيح بالأحدثية لا يجري مجرى سائر المرجحات ، بل هو مختلف معها سنخا وموضوعا.

٥٩٢

هذا ولا ريب في ظهور النصوص الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام نوعا في بيان الحكم الواقعي الأولي الثابت في أصل التشريع غير القابل للاختلاف في فرض عدم النسخ ، بحيث يكون هو مورد السؤال والجواب ، دون الوظيفة الفعلية الثابتة من أجل التقية ونحوها.

كما يناسبه ما تضمنته كثير من النصوص من الاستشهاد بالكتاب المجيد وبسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاستفسار من الراوي عن توجيه الحكم المبين على ما يناسبهما ، ونصوص عرض أخبارهم عليهم‌السلام على الكتاب والسنة ، وضيق الشيعة من اختلاف النصوص ، حتى صار سببا للتشكيك من بعض ضعاف البصائر في إمامة الأئمة عليهم‌السلام ، وجميع النصوص الواردة في علاج التعارض غير هذه النصوص.

وكذا النصوص الحاثّة على التقية ، لظهورها في كون التقية حالة استثنائية يدركها المكلف يخرج بسببها عن مقتضى الأحكام الأولية المتحصلة له من الأدلة ... إلى غير ذلك مما يوجب وضوح الظهور النوعي المذكور بحيث يكون عليه العمل بدوا.

وحينئذ يتعين البناء على تعارض النصوص المختلفة في بيان حكم الموضوع الواحد ، وكونها موضوعا للترجيحات الإثباتية المتقدمة ، دون الترجيح بالأحدثية ، نظير ما سبق في مباحث الجمع العرفي من عدم التعويل على احتمال النسخ.

كما يتعين ـ لأجل ذلك ـ حمل نصوص الترجيح بالأحدثية على ما إذا احتف الكلام بما يناسب حمله على بيان الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية ، كالقطع بعدم كون مضمونه هو الحكم الأولي ، مع ظهور الخطاب به في الجدية المستتبعة للعمل ، نظير ما ورد من أمر الإمام الكاظم عليه‌السلام علي بن يقطين بوضوء

٥٩٣

العامة ، حيث أدرك علي أن الأمر المذكور ثانوي ، لمخالفته لما عليه إجماع العصابة في كيفية الوضوء ، كما صرح به في الخبر (١). وكظهور تعمد الخلاف من قبل الإمام عليه‌السلام في بيان حكم الواقعة ، كما تضمنه غير واحد من النصوص ، منها حديثا الكناني والحسين المتقدمان المفروض فيهما تعدد الجواب مع وحدة السائل ... إلى غير ذلك. وهو المناسب لما تضمنه الخبران المذكوران من ترجيح الراوي الأحدث بطبعه ، كما أشرنا إليه آنفا.

نعم ذلك لا يناسب إطلاق خبر المعلى الشامل لاختلاف الحديثين المحكيين عن الإمامين ، والظاهرين في أنفسهما في بيان الحكم الأولي ، الذي سبق أنه مقتضى الظهور النوعي. ولا سيما مع ظهور تحير السائل في الوظيفة ، مع أن الرجوع للأحدث بعد فرض ظهور الحديث في بيان الوظيفة الفعلية ـ وإن كانت ثانوية ـ أمرا ارتكازيا لا يحتاج إلى سؤال ، حيث يتعين كون منشأ سؤاله ظهور الحديثين في بيان الحكم الأولي الموجب للتعارض والتحير.

ولا مجال لحمله على الترجيح بين الخبرين الحجتين إثباتا بالأحدثية ، لعدم مناسبته لقوله عليه‌السلام فيه : «إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم».

بل يكون الخبر المذكور كاشفا عن حال اختلاف الأخبار ، وأنه ليس راجعا إلى تعارض الحجتين إثباتا في الحكم الواحد ، كما هو مقتضى ظهورها البدوي ، بل إلى تعدد الحكم ثبوتا بلحاظ العناوين الثانوية القابلة للتبدل ، والذي يلزم معه الأخذ بالأحدث ، والجري عليه حتى يصدر خلافه من إمام الوقت الذي هو محيط بحكمه ، وعليه التنبيه له.

وبعبارة أخرى : الخبر المذكور رادع عن مقتضى الظهور الأولي للنصوص ، وكاشف عن أن اختلافها ليس راجعا إلى اختلافها إثباتا في بيان

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٣٢ من أبواب الوضوء حديث : ٣.

٥٩٤

الحكم الأولي ، بل إلى اختلاف الأحكام التي تضمنتها ثبوتا باختلاف الطوارئ والأزمنة.

لكن ذلك مخالف للنصوص الكثيرة التي سبقت الإشارة إليها ، والتي تناسب ورود الأخبار لبيان الحكم الأولي. كما أنه معارض لنصوص العرض على الكتاب والسنة ، والآمرة بطرح ما خالفهما. لوضوح أنه لو كان الحكم الذي تضمنته النصوص ثانويا كان مقدما على حكم الكتاب والسنة.

وكذا الحال في نصوص الترجيح الأخر ونصوص التخيير والتوقف ، التي يتعذر حملها على خصوص صورة الجهل بالأحدث ، لندرتها في عصر حضور الأئمة عليهم‌السلام. بل اللازم التوقف عن الترجيح حتى مع الجهل بالأحدث ، لعدم صلوح المرجحات المذكورة لتشخيص الوظيفة الفعلية ، المفروض اهتمامهم عليهم‌السلام ببيانها.

مضافا إلى ما هو المعلوم من سيرة الأئمة عليهم‌السلام من عدم التصدي لبيان الوظيفة الفعلية الثانوية في حق جميع الشيعة بنحو تتجدد البيانات العامة منهم عليهم‌السلام باختلاف المناسبات والظروف. بل البناء على العمل بالأحكام الأولية المستفادة من الأدلة ، وإيكال تشخيص الوظيفة الثانوية من حيثية التقية في حق كل شخص إليه ـ كما يشخصها من سائر الجهات ، كالحرج والضرر ـ لاختلافها باختلاف الأشخاص والظروف والمناسبات بنحو غير منضبط عادة.

ولذا ورد الحثّ على التقية ، مع وضوح الاستغناء عن ذلك لو كان بيان الحكم على ما يناسبها من وظيفة الإمام عليه‌السلام. وإنما صدر منهم عليه‌السلام في مناسبات نادرة تشخيص الوظيفة الثانوية في حق بعض الأشخاص وخطابهم على طبقها ، كما في قضيتي علي بن يقطين وداود بن زربي (١) وغيرهما.

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٣٢ من أبواب الوضوء.

٥٩٥

ومن أجل ذلك لا مجال للتعويل على خبر المعلى ، ولا سيما مع ظهور إعراض الأصحاب عنه ، حتى في عصر ظهور الأئمة عليهم‌السلام ، لأن الجري عليه موجب لانقلاب مقاييس الفقه بنحو لا يخفى عادة.

فلا بد من حمله على ظروف خاصة ، أو بيانات خاصة ، نظير ما سبق في حديثي الكناني والحسين ، ولا يتخذ قاعدة عامة للعمل عليها ، ولا سيما في عصر الغيبة المتطاول ، الذي يعلم بعدم بقاء مقتضى التقية فيه على النحو الذي بدأ.

والله سبحانه العالم. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.

الثامن : موافقة الاحتياط. وقد انفردت بالترجيح بها مرفوعة زرارة التي سبق عدم نهوضها بالاستدلال. فلا يهمّ مع ذلك تحقيق المراد بالموافقة والمخالفة له ، وأنه كيف يمكن تحققهما معا في المتعارضين ، كما تضمنته المرفوعة.

وقد تحصل من جميع ما سبق : أن المرجحات المنصوصة تنحصر بالشهرة في الرواية ، وموافقة الكتاب والسنة ، ومخالفة العامة. وهي التي اقتصر عليها الكليني قدس‌سره ، وأن ما عداها إما لا تنهض نصوصه بإثباته ، أو خارج عما نحن فيه من الترجيح بين الحجتين.

الأمر الثاني : في التعدي عن المرجحات المنصوصة.

لا يخفى أن مقتضى الأصل التعدي عن المرجحات المنصوصة ، بناء على أن المرجع مع عدم الترجيح هو التخيير ، من دون أن يكون لدليل التخيير إطلاق يقتضي الاقتصار في الخروج عنه على المرجحات المنصوصة ، حيث يتعين حينئذ الاقتصار على محتمل الرجحان ، لأنه متيقن الحجية ، على تفصيل لا يسعه المقام.

٥٩٦

أما لو كان لدليل التخيير إطلاق ـ بالنحو المذكور ـ فالمتعين عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة إلا بدليل. وكذا بناء على التساقط مع فقد المرجح ، لأصالة عدم حجية الواجد لجهة الرجحان غير المنصوصة.

وكيف كان فالمعروف عن جماعة من الأصحاب التعدي عن المرجحات المنصوصة لكل مزية ، ونسب شيخنا الأعظم قدس‌سره إلى جمهور المجتهدين عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة. بل نسب في آخر تنبيهات دليل الانسداد لبعض مشايخه استظهار الاتفاق على الترجيح بكل ظن. وقال في مبحث الترجيح : «ادعى بعضهم الإجماع ، وعدم ظهور الخلاف ، على وجوب العمل بالراجح من الدليلين ، بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة». وقد يستدل على ذلك بوجهين :

الأول : الإجماع المدعى فيما سبق ، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره في آخر تنبيهات دليل الانسداد أن تتبع كلماتهم يوجب الظن القوي ، بل القطع بأن بناءهم على الأخذ بكل مزية ، حيث يظهر منه أن قوة البناء على ذلك من جهة الإجماع.

لكن لا مجال لدعوى الإجماع ، فضلا عن الاستدلال به ، بعد ما سبق من عدم نهوض الإجماع بالاستدلال على أصل الترجيح ، وبعد ظهور كلام الكليني المتقدم في الاقتصار على المرجحات المنصوصة. بل لعله مذهب جميع القدماء الذين لا طريق لمعرفة آرائهم إلا النصوص التي يثبتونها في كتبهم. ولا سيما مع ظهور اعتماد بعض من صرح بالتعدي عن المرجحات المنصوصة على بعض الوجوه الاعتبارية التي لا تنهض بالاستدلال ، بنحو لا يناسب ابتناء ذلك منهم على تعبد شرعي يستكشف بإجماعهم.

ومن ثم أنكر ذلك غير واحد من المتأخرين ، خصوصا المحدثين. قال

٥٩٧

في الحدائق : «وقد ذكر علماء الأصول من وجوه الترجيحات في هذا المقام بما لا يرجع أكثره إلى محصول. والمعتمد عندنا على ما ورد عن أهل بيت الرسول من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات ...».

الثاني : نصوص الترجيح ، فقد ادعى شيخنا الأعظم قدس‌سره ظهور بعض الفقرات فيها في الترجيح بكل مزية.

منها : الترجيح بالأصدقية والأوثقية ، بدعوى : قضاء المناسبات الارتكازية بأن اعتبارهما ليس تعبديا محضا ، كاعتبار الأعدلية والأفقهية ، بل لأن الخبر الواجد لهما أقرب للواقع ، فيتعدى لكل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين من الآخر.

وفيه ـ مضافا إلى ما سبق من عدم ثبوت الترجيح بالصفات ـ : أن المناسبات الارتكازية تقضي بكون منشأ الترجيح الأقربية نوعا بنظر الشارع ، لا الأقربية الشخصية أو النوعية بنظر المكلف ، ليتعدى عن موردها لكل ما هو الأقرب بنظره ، كما هو المدعى. نظير ما تضمن حجية خبر الثقة أو الصادق ، حيث يبتني ارتكازا على القرب نوعا بنظر الشارع ، لا على القرب شخصا أو نوعا بنظر المكلف ، ليتعدى منه لحجية كل ما يوجب الظن.

ومنها : تعليل الترجيح بالشهرة في المقبولة بقوله عليه‌السلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» بدعوى : أن نفي الريب في المشهور ليس بنحو الإطلاق ومن جميع الجهات وهي الصدور والدلالة والجهة ، بل إضافي ، بمعنى أن المشهور لا ريب فيه بالنسبة للشاذ ، لأن جهة الريب في الشاذ غير حاصلة فيه ، فيفيد الترجيح بكل مزية في أحد الخبرين ، لأن في فاقد المزية منشأ لاحتمال مخالفة الواقع غير موجود في واجدها.

وفيه : أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي حمل نفي الريب في المجمع عليه على نفيه من حيثية الصدور فقط ، ومقتضى عموم التعليل التعدي عن

٥٩٨

الإجماع إلى كل ما يوجب عدم الريب في صدور أحد الخبرين من القرائن ، لا التعدي إلى كل مزية من حيثية الصدور وإن لم توجب نفي الريب فيه ، فضلا عن التعدي لكل مزية ولو من غير جهة الصدور.

ومنها : تعليل ترجيح الخبر المخالف للعامة بأن الحق والرشد في خلافهم ، وأن ما وافقهم فيه التقية ، فإن هذه كلها قضايا غالبية لا دائمية ، فيدل بمقتضى التعليل على وجوب ترجيح كل ما كان معه أمارة الحق والرشد ، وترك ما فيه مظنة مخالفة الحق.

وفيه أولا : أنه لا مانع من الالتزام بأنها قضايا دائمية في خصوص المتعارضين التي تصل النوبة فيهما للترجيح بمخالفة العامة. ولو كانت غالبية فلعل الغلبة بمرتبة لا يعتد معها باحتمال الخلاف ، وذلك لا يقتضي التعدي لكل مزية توجب الأقربية للواقع وإن كانت ضعيفة.

وثانيا : أن ما تضمن التعليل بأن الحق في خلافهم هو المرفوعة ، التي سبق عدم نهوضها بالاستدلال. وأما المقبولة فقد تضمنت الحكم بأن ما خالف العامة ففيه الرشاد ، لا التعليل بذلك ، وظاهره أنه دائمي واقعي ، فإن ثبت خلافه تعين حمله على كونه دائميا ظاهريا ، لأنه الصالح لأن يترتب عليه العمل ، دون الغالبي الواقعي.

وأما ما تضمن أن ما وافقهم فيه التقية ، فلم أعثر عليه عاجلا. نعم ورد أن ما يشبه قول الناس فيه التقية (١). لكنه ليس من أخبار التعارض. على أنه ليس بلسان التعليل.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) قال قدس‌سره : «دل على أنه إذا دار أمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٦.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥٦.

٥٩٩

به ، وليس المراد نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى».

وفيه ـ مع إرسال الخبر ـ أنه لا شاهد على حمله على نفي الريب بالإضافة لخصوص بعض الجهات ، بل ظاهره النفي الحقيقي بنحو السالبة الكلية ، ولا سيما مع عدم كونه من نصوص التعارض ، ليتوهم حمله على النفي الإضافي ، لدعوى ندرة خلوّ الخبر من الريب بنحو السالبة الكلية. ولذا عدّه هو قدس‌سره وغير واحد من نصوص الاحتياط التي يحتج بها للأخباريين.

هذا كله مضافا إلى إباء نصوص الترجيح الحمل على ذلك بعد ما تضمنته من الترتيب بين المرجحات ، والاقتصار على قليل منها ، وإطلاق الأمر بالأخذ بالواجد لجهة الرجحان المنصوصة ، من دون تنبيه إلى أنه قد يعارض بجهة غير منصوصة في الخبر الآخر.

كما قد تأباه نصوص التخيير والتوقف ، لندرة التساوي بين الخبرين من جميع الجهات. وليس هو كتقييدها بالمرجحات المنصوصة ، لكثرة موارد تساوي الخبرين من حيثيتها ، وقرب الاعتماد في الإطلاق على وضوح بعضها ، لارتكازية أو ظهور مرجحيته. ومن ثم يتعين الاقتصار على المرجحات المنصوصة ، وعدم التعدي عنها.

الأمر الثالث : في الترتيب بين المرجحات.

بعد ما سبق من الاقتصار على المرجحات المنصوصة ، تعبدا بظاهر أدلتها ، فاللازم التعبد بظاهرها أيضا في الترتيب بين المرجحات. ومن الظاهر أن أخص نصوص الترجيح هو مقبولة ابن حنظلة ، لاستيفائها جميع المرجحات ، وهي تقتضي الترجيح أولا بشهرة الرواية ، ثم بموافقة الكتاب والسنة ، من دون ترتيب بينهما ، ثم بمخالفة العامة ، ثم بمخالفة ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل ، فيلزم العمل عليها ، وتقييد إطلاق النصوص المقتصرة على بعض المرجحات بها.

٦٠٠