الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

السعة أو غير ذلك مما ينافي العمل على مقتضى البقاء. وليس التعبد المذكور بلسان تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ليتوهم تحقق ملاك الحكومة العرفية على أدلة الأصول التي موضوعها الشك.

ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من أن مفاد دليل الاستصحاب الحكم ببقاء اليقين ـ الذي هو رافع لموضوع بقية الأصول ـ ادعاء وتنزيلا ، فيكون حاكما على أدلة الأصول ، كما في سائر موارد التنزيل.

لاندفاعه بأن دليل الاستصحاب لا يتضمن الحكم ببقاء اليقين تنزيلا وادعاء ، بل الحكم بلزوم الجري على مقتضى اليقين السابق وعدم نقضه ، لادعاء أن عدم ترتيب آثار المتيقن حين الشك نقض لليقين السابق عملا ، فالادعاء والتوسع إنما هو في مقتضى اليقين السابق عملا. لا في بقاء اليقين ، ليرتفع معه موضوع الأصول ادعاء وتنزيلا ، وتتم حكومة الاستصحاب عليها عرفا.

ومن هنا كان الظاهر أن تقديم الاستصحاب على بقية الأصول هو مقتضى الجمع العرفي بين أدلته وأدلتها ، على نحو ما تقدم من الجمع بين أدلة الطرق والأمارات وأدلة الأصول ، بحمل أدلة بقية الأصول على ثبوت مقتضاها من حيثية مجرد الشك ، لا مطلقا ومن جميع الجهات ، فلا ينافي رفع اليد عنه والبناء على مقتضى الاستصحاب بلحاظ أمر زائد عليه ، وهو اليقين السابق ، نظير رفع اليد عن حكم العنوان الأولي بالعنوان الثانوي الزائد عليه.

نعم مقتضى جعل غاية الحكم في الأصول غير الإحرازية هو العلم بالواقع عدم رفع اليد عنها باليقين السابق بعد الشك في بقاء المتيقن ، لعدم تحقق العلم بالواقع معه.

لكن يسهل الجمع عرفا بإلغاء خصوصية العلم ، وجعل الغاية كل محرز

٥٦١

للواقع ، بنحو يشمل اليقين السابق بعد اقتضاء أدلة الاستصحاب نهوضه بالإحراز وهو راجع في الحقيقة لورود الاستصحاب على الأصول غير الإحرازية ، نظير ما تقدم في وجه تقديم الطرق والأمارات على الأصول.

كما يظهر مما سبق هناك أن الاستصحاب إنما يمنع من جريان الأصول غير الإحرازية إذا كانت مخالفة له عملا ، دون ما إذا كانت موافقة له. فلاحظ.

وبعبارة أخرى : مقتضى الجمع العرفي بين أدلة الطرق والأمارات والاستصحاب وبقية الأصول ـ بضميمة المناسبات الارتكازية ـ ابتناء أصل الطهارة والحل وغيرهما من الأصول غير الإحرازية على مقتضى الأصل الأولي ، لعدم صلوح الشك للخروج عنه ، وأن البناء على مقتضى الاستصحاب في مورد الأصول المذكورة إنما هو لصلوح اليقين السابق للعمل على مقتضاه حال الشك ، بعد عدم صلوح الشك لنقضه ، وأن العمل على مقتضى الطرق والأمارات في مورد الاستصحاب لصلوحها لنقض اليقين السابق ، وإن لم يصلح الشك لنقضه.

ومما ذكرنا يظهر الحال في بقية الأصول الإحرازية الجارية في الشبهات الموضوعية التي يبتني التعبد فيها على أمر زائد على الشك محرز للأمر المتعبد به ، كمضي المحل في قاعدة الفراغ والتجاوز ، والفراش في قاعدة : الولد للفراش وغيرهما. حيث يتعين تقديمها على الأصول المذكورة بالملاك المتقدم. بل هي مقدمة حتى على الاستصحاب ، كما تقدم الكلام في بعضها في خاتمة الاستصحاب.

المقام الثالث : في تقديم الأصل السببي على المسببي

والمراد بالأصل السببي هو الأصل الذي يتضمن التعبد بموضوع الأثر ، فيستتبع التعبد بالأثر ، لما سبق عند الكلام في الأصل المثبت من أن التعبد

٥٦٢

بالموضوع مستلزم عرفا للتعبد بأثره الشرعي. أما المسببي فهو الأصل المتضمن لبيان الوظيفة بالإضافة إلى الأثر نفسه من حيثية كونه بنفسه موردا للشك.

ولا يعتبر في السببي أن يكون إحرازيا ، بل يقدم وإن لم يكن إحرازيا على المسببي وإن كان إحرازيا ، كأصالة الطهارة في الماء التي يرفع بها اليد عن استصحاب نجاسة الثوب المغسول به ، كما يرفع بها اليد عن أصالة البراءة من وجوب تطهير المسجد به لو انحصر الماء به.

نعم مفروض كلام شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني قدس‌سرهما في السببي والمسببي معا الاستصحاب ، ونظرهما في استدلالهما لدليله. لكن الظاهر أن منشأه تحريرهما للمسألة في الاستصحاب ، لا لخصوصيته في التقديم. ومن ثم صرح غير واحد ممن تأخر عنهما بالتعميم.

إذا عرفت هذا فقد يوجه تقديم السببي بأنه وارد على المسببي رافع لموضوعه ، نظير ما تقدم في توجيه ورود الطرق على الأصول ، لدعوى : أن موضوع المسببي ليس محض الشك الوجداني في الواقع الباقي مع جريان السببي ، بل عدم العلم بما يعم الوظيفة الظاهرية ، ومع جريان السببي تعلم الوظيفة الظاهرية ، ويرتفع موضوع المسببي ، لما تقدم من أن التعبد بالموضوع يقتضي التعبد بحكمه عرفا.

أما المسببي فلا ينهض برفع موضوع السببي إلا بناء على الأصل المثبت ، لأن التعبد بالحكم وجودا أو عدما لا يقتضي التعبد بموضوعه كذلك ، وإن كان ملازما له خارجا.

ويظهر اندفاعه مما تقدم هناك من أن حمل الشك في أدلة الأصول على عدم العلم بما يعم الوظيفة الظاهرية مخالف للظاهر ، وخال عن الشاهد.

٥٦٣

وربما يدعى حكومة الأصل السببي على المسببي بتقريب : أن السببي رافع لموضوع المسببي ـ وهو الشك ـ تنزيلا ، أو في عالم التشريع والاعتبار ، لأن التعبد بمؤدى السببي يقتضي إلغاء الشك في مورد المسببي تنزيلا أو تعبدا ، نظير ما تقدم من شيخنا الأعظم وبعض الأعاظم قدس‌سرهم في توجيه حكومة الطرق على الأصول.

ويظهر اندفاعه مما سبق هناك أيضا من أن التعبد بمفاد الأصل إنما يقتضي العمل على أحد طرفي الشك من دون إلغاء الشك لا تنزيلا ولا تشريعا. بل لا مجال لإلغاء الشك تشريعا مع كون الشك من الأمور الحقيقية التي لا تنالها يد التشريع والاعتبار ، مضافا إلى أنه لو تم فهو يقتضي الورود لا الحكومة. فراجع.

ومثله ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من أن الأصل السببي وإن لم يكن رافعا لموضوع المسببي ـ وهو الشك ـ لا حقيقة ولا تنزيلا ولا تعبدا ، إلا أنه حاكم عليه بملاك النظر ، الذي هو المعيار في الحكومة مطلقا ، لأن التعبد بالموضوع ـ بمقتضى الأصل السببي ـ ناظر لإثبات آثاره التي هي مؤدى الأصل المسببي.

إذ هو ـ كما ترى ـ إنما يقتضي حكومة الأصل السببي على أدلة تلك الآثار الواقعية ، أو الورود عليها ورودا ظاهريا ـ على ما سبق التعرض له عند الكلام في تحديد الورود ـ لا على أدلة التعبد ظاهرا بالآثار ، الذي هو مفاد الأصل المسببي.

وتوضيح ذلك : أنه إذا غسل الثوب النجس بماء مشكوك الطهارة ، فدليل أصالة الطهارة في الماء ـ الذي هو الأصل السببي ـ ناظر إلى الآثار الشرعية لطهارة الماء ، ومنها مطهريته للثوب المغسول به ، فيكون حاكما أو واردا

٥٦٤

ظاهريا على دليل مطهرية الماء الطاهر لما يغسل به ، ولذا يكون محرزا لطهارة الثوب. ولا يكون ناظرا إلى استصحاب نجاسة الثوب المغسول ـ الذي هو الأصل المسببي ـ المفروض تحقق موضوعه ، وهو الشك في حصول الطهارة له ، ليكون حاكما عليه. بل هو مناف له عملا ، فلا بد من توجيه تقديمه عليه بغير ما سبق.

ولعل الأولى في وجه تقديم السببي على المسببي الرجوع إلى ما سبق في وجه تقديم الطرق والأمارات على الأصول. فإن المسببي إنما يقتضي تعيين الوظيفة العملية من حيثية موضوعه وهو الشك في الأثر ، والسببي إنما يقتضي تعيينها بلحاظ أمر زائد على الشك المذكور ، وهو التعبد بموضوع ذلك الأثر ، فيقدم عليه بملاك تقديم الحكم الثابت بالعنوان الثانوي على الحكم الثابت بالعنوان الأولي. فإذا لاقى الثوب المشكوك الطهارة اليد المستصحبة النجاسة برطوبة ، فهو من حيثية الشك في طهارته وإن كان محكوما ظاهرا بالطهارة ، إلا أنه يتعين رفع اليد عن ذلك لأمر زائد على الشك المذكور ، وهو إحراز سبب تنجيسه باستصحاب نجاسة اليد.

وأولى من ذلك ما إذا كان الأصل المسببي استصحابا. لما أشرنا إليه هناك من أن عدم نقض اليقين السابق بالشك في الأمر المستصحب لا ينافي نقضه بأمر آخر ، كالطرق. حيث يجري نظيره في المقام ، فإن نقض اليقين في مورد الأصل المسببي ليس بمحض الشك في ارتفاع الأمر المتيقن ، بل بالأصل السببي الذي به يحرز تحقق السبب الرافع له ، فإذا غسل الثوب النجس بماء مستصحب الطهارة فرفع اليد عن اليقين بنجاسة الثوب ليس بمحض الشك ، بل باستصحاب طهارة الماء المغسول به ، الذي به يحرز تحقق الرافع للنجاسة. وبملاحظة ما تقدم هناك يتضح الحال هنا ، لأنهما من باب واحد.

٥٦٥

الباب الثاني

في الأدلة المتعارضة

والمراد بها كل تعبدين متنافيين في مقام العمل. من دون فرق بين الأدلة الاجتهادية والأصول العملية ، كما تقدم ، ولا يختصّ بالأولى ، فضلا عن أن يختصّ بالأخبار ، وإن اختصت بها بعض الأحكام ، تبعا لاختصاص أدلتها بها.

وحيث كان مرجع الكلام في المتعارضين إلى الكلام في حجيتهما بعد فرض التعارض فهو يقع أولا : في مقتضى الأصل في المتعارضين بلحاظ أدلة الحجية الأولية ، وأنه التساقط ، أو التخيير ، أو الترجيح.

وثانيا : في مقتضى الأدلة الخاصة الواردة في حكم التعارض ، وفي تحقيق مفادها.

فالكلام في مقامين :

المقام الأول

في مقتضى الأصل في المتعارضين

والظاهر أن الأصل في المتعارضين التساقط ، لا التخيير ولا الترجيح.

ووجهه ظاهر فيما إذا كان دليل حجيتهما لبيا ، أو لفظيا لا إطلاق له يشمل صورة التعارض ، حيث يكون المرجع فيها أصالة عدم الحجية في كل منهما ، من دون أن يكون هناك منشأ لتوهم الخروج عنه.

وأما إذا كان دليل الحجية لفظيا له عموم أو إطلاق يشمل صورة

٥٦٦

التعارض ، فلامتناع حجية كلا المتعارضين ، لاستلزامه التعبد الظاهري بالضدين أو النقيضين ـ ولو بلحاظ لازم المؤدى إذا كان الدليل حجة فيه ـ وهو ممتنع بملاك امتناع جعل الضدين أو النقيضين واقعا. لتقوم الأحكام التكليفية بنحو اقتضائها للعمل ، وتضادها وتناقضها إنما يكونان بلحاظ اختلافها في ذلك. ومن الظاهر أن اقتضاء التعبد الظاهري بالحكم للعمل مماثل لاقتضاء نفس الحكم له ، وإن كان في طوله بلحاظ طريقيته له ، فيستحيل حجية كلا المتعارضين.

وكذا الحال لو كان التعارض بينهما لأمر خارجي ، كتعارض الأصول الترخيصية الجارية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف بلحاظ لزوم المخالفة القطعية للتكليف المفروض.

كما لا مجال لاختصاص الحجية بأحدهما ، لعدم المرجح له بالإضافة لعموم دليلها بعد فرض اشتراكهما في الدخول تحته ، لتحقق عنوانه في كل منهما ، وفي الجهة المانعة من فعلية حكمه فيهما معا ، وهو التعبد بالضدين أو النقيضين ، أو المحذور الخارجي. فيتعين سقوطهما معا عن الحجية ، الراجع لخروجهما بسبب التعارض عن عموم دليل الحجية.

إن قلت : ما سبق إنما يمنع من حجية كل منهما والتعبد بمضمونه تعيينا في فرض التعارض ، دون حجيتها أو التعبد بكل منهما تخييرا ، فيتعين البناء على ذلك ، عملا بعموم دليل الحجية ، والتعبد بالقدر الممكن.

قلت : ليس مفاد الحجية تخييرا هو حجية أحدهما لا بعينه ، ليكون أولى من سقوطهما معا عن الحجية ، بلحاظ كونه أقل تخصيصا. إذ لا معنى لحجية أحدهما لا بعينه بعد مطابقة عمل المكلف لأحدهما المعين. بل لا بد من رجوع الحجية التخييرية إلى حجية كل منهما على نحو خاص.

٥٦٧

وذلك إما بتقييد حجية كل منهما تعيينا بما إذا اختاره المكلف ، وإما بأن يكون كل منهما حجة للمكلف في مقام التعذير ، يصح له الاعتماد عليه في الخروج عن مسئولية الواقع ، ومجموعهما حجة عليه في مقام التنجيز ، بحيث ليس له الخروج عنهما معا. ولعل الأظهر الثاني ، لاحتياج توقف الحجية على الاختيار على عناية يصعب تنزيل أدلة الحجية التخييرية ـ لو تمت ـ عليها.

وكيف كان فدليل الحجية حيث كان ظاهرا في الحجية التعيينية ، كان حمله على الحجية التخييرية ـ بأحد الوجهين ـ في المتعارضين موقوفا على كون امتناع حجيتهما تعيينا قرينة عرفية على تنزيل عمومه على الحجية التخييرية فيهما ، وهو غير ظاهر.

بل الأقرب عرفا تنزيله على خروجهما معا عن الحجية الفعلية ، مع ثبوت الحجية الاقتضائية لكل منهما. ومرجعه إلى حجية كل منهما لو لا المانع. لأن ذلك هو الأنسب بالقياس للحجج العرفية.

ومجرد كون الحجية التخييرية أقل تخصيصا منه ، لابتنائها على إعمال دليل الحجية في المتعارضين في الجملة ، لا يكفي في الحمل عليها بعد أن لم يكن التنزيل عليها عرفيا.

إن قلت : لما كان العمل بالحجة واجبا ، فمع تعذر العمل بكلتا الحجتين يتعين العمل بأحدهما تخييرا ، كما هو الحال في سائر موارد تعذر الجمع بين الواجبين ، بل سائر موارد التزاحم بين التكليفين.

قلت : وجوب العمل بالحجة ليس شرعيا ، بل هو عقلي طريقي تابع لمنجزيتها ، متفرع على حجيتها ، ولا مجال لثبوته في المتعارضين بعد ما سبق من امتناع حجيتهما معا ، وعدم الدليل على حجية أحدهما ، بل المستفاد من الأدلة ثبوت مقتضي الحجية فيهما من دون أن يكونا حجة بالفعل.

٥٦٨

هذا بناء على التحقيق من الطريقية المحضة. أما بناء على السببية بأنحائها ـ من التصويب المنسوب للأشاعرة ، والتصويب المنسوب للمعتزلة ، والمصلحة السلوكية الراجعة إلى أن في متابعة الطريق مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع في فرض الخطأ ـ فقيام الطريق يستلزم حدوث ملاك يقتضي شرعا العمل على طبقه ، ومن ثم قد يدعى أنه مع تنافي الملاكين عملا يتعين التخيير.

لكنه يندفع بأن حدوث الملاك المقتضي للعمل على طبق الطريق متفرع على حجية الطريق ، فمع امتناع حجية المتعارضين ـ لما سبق ـ يتعين فقد كل منهما للملاك المقتضي للعمل على طبقه ، ومعه لا موضوع للتخيير.

ثم إنه قد أشار المحقق الخراساني قدس‌سره لتقريب أصالة التساقط في المتعارضين بأنه حيث يمتنع حجية معلوم الكذب من الطرق ، وكان تعارض الطريقين مستلزما للعلم بكذب أحدهما إجمالا ، لزم العلم بقصور عموم الحجية عن أحدهما دون الآخر ، وحيث كان معلوم الكذب مرددا بينهما ، كان المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة ، الموجب لسقوط كل منهما عن الحجية في خصوص مؤداه. نعم يجب ترتيب الأثر المشترك لحجية كل منهما ، لفرض حجية أحدهما.

ويشكل ـ مضافا إلى أن لازمه امتناع التخيير بين المتعارضين ، مع أنه لا إشكال في إمكانه ، بل لعل المشهور البناء عليه ، وأصرّ هو قدس‌سره على ذلك ـ بأن المتصف بالكذب وإن كان هو أحدهما بخصوصه على إجماله ، إلا أن معلوم الكذب هو أحدهما ، على ما هو عليه من الإبهام والترديد ، من دون أن ينطبق على أحدهما بخصوصه ، ومن المعلوم أن عموم الحجية إنما يقتضي حجية كل فرد بواقعه وخصوصيته من دون إبهام ولا ترديد ، فلا ينطبق معلوم الكذب على شيء من أفراد العام ، ليمتنع شمول العموم له.

٥٦٩

نعم الكاذب الواقعي ينطبق على بعض أفراد العام. إلا أن الكذب الواقعي من دون تعيين لموضوعه غير مانع من الحجية ، ليكون المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة.

بقي في المقام أمور ..

الأمر الأول : أنه لا فرق في أصالة التساقط في المتعارضين بين التساوي في مقدار التخصيص اللازم من سقوط كل منهما عن الحجية والتفاضل فيه ، لزيادة أحد طرفي التعارض كمية أو دليلا ، فكما يكون الأصل التساقط عند معارضة صحيحة لأخرى ، يكون الأصل ذلك عند معارضة صحيحة لصحيحتين ، وكذا عند معارضة صحيحة لموثقة وإن كانت الصحيحة مشاركة للموثقة في أدلة حجيتها ، وتزيد عليها بدليل حجية خبر العادل أو المؤمن.

وأما ما اشتهر من لزوم الاقتصار على التخصيص الأقل عند الدوران بينه وبين الأكثر ، فإنما هو مع العلم بمورد التخصيص الأقل والشك في الزائد ، لا مع الدوران بين تخصيصين أحدهما أكثر من الآخر من دون متيقن في البين ، كما في المقام ، لأن أصالة العموم وعدم التخصيص إنما تنهض بنفي التخصيص في مورد الشك فيه ، لا بتعيين مورده مع تردده بين أفراد العام.

الأمر الثاني : لا فرق في أصالة التساقط بين القطع ببعض الجهات ـ من الصدور والدلالة والجهة ـ في أحد الدليلين ، أو في كليهما ، وعدمه. غايته أن التعارض في الأول يكون بين الجهة غير المقطوعة من أحد الدليلين مع الدليل الآخر. أما الجهة المقطوعة فهي لا تكون طرفا للمعارضة. ولذا يمتنع التعارض بين الدليلين المقطوعين من جميع الجهات.

ومن هنا يشكل ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره من عدم التساقط في

٥٧٠

مقطوعي الصدور مظنوني الدلالة ، بل يجب الأخذ بهما معا مع تأويلهما وصرفهما عن ظاهرهما ، بل ظاهره الاتفاق على ذلك.

إذ فيه : أن صرفهما عن ظاهرهما إن كان بنحو الجمع العرفي خرج عن محل الكلام من فرض استحكام التعارض. وإن كان بنحو التأويل والجمع التبرعي ، فلا دليل على التعويل عليه في مقام العمل ، كما سبق عند الكلام في قاعدة : الجمع مهما أمكن أولى من الطرح. والمتيقن من الاتفاق المدعى هو عدم الحكم بكذب أحدهما وردّه بعد فرض القطع بصدوره ، لا العمل بهما بعد التأويل ، بل يتعين تساقطهما.

الأمر الثالث : بعد البناء على أصالة التساقط في المتعارضين ، فهل يقتصر فيها على خصوص ما ينفرد به كل منهما ، أو تعم ما يشتركان فيه ، وهو نفي الوجه الثالث لو فرض احتماله ، لاحتمال كذبهما معا ، وعدم العلم بصدق أحدهما إجمالا؟

لا ينبغي التأمل في حجيتهما في نفي الثالث بناء على ما سبق من المحقق الخراساني قدس‌سره من ابتناء أصالة التساقط على كون المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة ، لأن تردد ما هو الحجة منهما لا يوجب سقوطه عن الحجية فيما لا يتكاذبان فيه.

أما بناء على ما سبق في وجه التساقط فقد اختلفت كلماتهم في ذلك.

ويظهر من كثير منها ابتناء الكلام في ذلك على الكلام في أن سقوط الكلام عن الحجية في المدلول المطابقي هل يقتضي سقوطه عن الحجية في لازم مدلوله أو لا؟

فيحسن الكلام في ذلك مقدمة لما نحن فيه من الكلام في حجية المتعارضين في نفي الثالث.

٥٧١

فاعلم أنه قد أصرّ غير واحد على الثاني ، وأن سقوط الكلام عن الحجية في المدلول المطابقي لا يستلزم سقوطه عنها في لازم مدلوله ، لدعوى : لزوم الاقتصار في الخروج عن عموم الحجية على المورد الذي يقتضيه دليل التخصيص ، وهو خصوص المدلول المطابقي ـ الذي هو مورد المعارضة في المقام ـ دون الالتزامي.

وقد يستشكل في ذلك بأن دلالة الدليل على المدلول الالتزامي لما كانت متفرعة على دلالته على المدلول المطابقي ، لتبعيته له ، فقصور الدليل عن إثبات المدلول المطابقي مستلزم لقصوره عن إثبات المدلول الالتزامي.

والذي ينبغي أن يقال : لما كانت حجية الكلام في لازم المدلول مقتضى بناء العقلاء ومرتكزاتهم ـ كما ذكرناه في آخر الكلام في حجية الأصل المثبت ـ فاللازم الرجوع للمرتكزات المذكورة في تحديد الحجية وسعتها في المقام ، وأنها هل تشمل صورة سقوط الكلام عن الحجية في المدلول المطابقي أو تقصر عنها؟. والظاهر أنه يختلف باختلاف منشأ عدم الحجية في المدلول المطابقي.

فإن كان ناشئا من قصور في طريقية الطريق ، كان مستتبعا لعدم حجيته في اللازم ، لتفرع طريقيته عليه ارتكازا على طريقيته على الملزوم ، سواء كان ذلك لعدم طريقيته رأسا ، كما لو علم بخطئه فيه مع احتمال تحقق اللازم ، أم لعدم التعويل شرعا أو عرفا على طريقيته ، كما لو كان المدلول المطابقي ولازمه حسيين وكان الإخبار بالمدلول المطابقي عن حدس واحتمل اطلاع المخبر على اللازم حسا.

أما إذا كان عدم حجية الطريق في المدلول المطابقي ناشئا عن خصوصية فيه يمتاز بها عن اللازم ، تمنع من ثبوته بالطريق ، من دون قصور في طريقية

٥٧٢

الطريق ، ولا في كاشفيته ، فلا يكون مستتبعا لعدم حجية الطريق في اللازم ، بعد فرض عدم اشتماله على تلك الخصوصية ، وصلوحه لأن يثبت بالطريق المذكور ، كما لو أخذ في حجية الطريق عنوان لا ينطبق على المدلول المطابقي ، وينطبق على لازمه.

كالإقرار المتقوم بكون موضوعه حقا على المقرّ ، حيث قد لا يتضمن الخبر حقا على المخبر بمدلوله المطابقي ، بل بلازمه. وكما في الشاهد واليمين اللذين ينهضان شرعا بإثبات حقوق الناس ، دون حقوق الله تعالى ، حيث قد يكون مدلولهما المطابقي موضوعا لحق الله ، ومدلولهما الالتزامي موضوعا لحق الناس ، كالسرقة التي هي موضوع الحدّ وهو حق الله تعالى ، فلا يثبت بهما ، ولازمها الضمان الذي هو حق الناس ، فيثبت بهما.

إذا عرفت هذا فالظاهر أن التعارض من القسم الأول ، فإنه وإن كان سقوط الحجية معه لامتناع التعبد بالنقيضين المفروض اختصاصه بالمدلول المطابقي ، إلا أنه موجب أيضا لقصور طريقية الطريق عرفا ، حيث يكون كل من المتعارضين من سنخ المكذب للآخر في مدلوله ، فهو من سنخ المانع من فعلية الطريقية وإن تم معه مقتضيها ، فيتعين عدم حجية الطريق في اللازم ، تبعا لسقوط حجيته في الملزوم.

من دون فرق في ذلك بين اتفاقهما في لازم واحد ـ كما في محل الكلام ـ وانفراد أحدهما بلازم لا ينافيه الآخر ، كما لو قامت إحدى البينتين على مطر السماء المستلزم لوجود السحاب ، ونفت الأخرى المطر من دون أن تنفي السحاب ، أو دل أحد الدليلين على وجوب شيء أو استحبابه ، المستلزم لثبوت الملاك الصالح للتقرب ، ودل الآخر على العدم من دون أن ينفي الملاك.

نعم إذا لم يبتن التعارض على كون أحد الدليلين مكذبا للآخر في

٥٧٣

مدلوله ، بل على خفاء وجه الجمع العرفي بينهما ، مع صلوح كل منهما للقرينية على الآخر عرفا ، بحيث لا يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأسا ، بل عن تعيينه مع تردده إجمالا بين وجهين تعين حجيتهما في نفي الثالث ، لخروجه عن طرفي الترديد. كما هو الظاهر في مثل العامين من وجه في مورد الاجتماع.

هذا كله إذا كانت حجية الكلام في لازم مدلوله ـ ومنه نفي الثالث ـ لمجرد بناء العقلاء وارتكازياتهم على ذلك ، من دون أن يكون الكلام مسوقا لبيانه.

أما إذا كان الكلام مسوقا لبيان اللازم ، نظير الكناية فاللازم بنفسه ـ كالملزوم ـ يكون موضوعا للعنوان المأخوذ في دليل الحجية ، كالخبر والنبأ والشهادة ، فالكلام الواحد ينحل إلى خبرين خبر عن الملزوم وخبر عن اللازم ، وحينئذ لا يكون سقوط أحد الخبرين ـ وهو الخبر عن الملزوم ـ عن الحجية مستلزما لسقوط الآخر ـ وهو الخبر عن اللازم ـ عنها ، من دون فرق بين منشأ السقوط عن الحجية. ويتعين حينئذ حجيتهما في نفي الثالث.

كما لو ورد أنه قيل للإمام عليه‌السلام : هل صلاة التراويح فريضة؟ فأجاب منكرا لذلك بأنها سنّة ، ثم ورد أنه أجاب بأنها بدعة. فإن تعارض الخبرين في أنها سنّة أو بدعة لا يكون مانعا من حجيتهما في أنها ليست فريضة.

وكما لو سمع شاهدان من يقول : أن زيدا عمّر طويلا ، فقالا منكرين ذلك : مات عن ثلاثين سنة ، وشهد آخران أنه مات عن أربعين ، حيث لا يكون تعارضهما في تحديد سنّه مانعا من حجيتهما في نفي طول عمره ، لأنه خبر آخر للبينتين لا قصور فيه ذاتا ، ولا مانع من حجيته. بل لو صدر كل من الخبرين من واحد ، تمت بهما البينة في المدلول الالتزامي ـ وهو نفي طول عمره ـ وإن لم تتم البينة في كل من مدلوليهما المطابقيين اللذين تعارضا فيهما.

٥٧٤

نعم لو لم يكن الإخبار عن المدلول الالتزامي مستقلا ، بل مبتنيا على اعتقاد المخبر بتحقق المدلول المطابقي ، أشكلت حجيته فيه ـ بعد فرض سقوط حجية الخبر في المدلول المطابقي ـ بقصور في طريقيته من جهة التعارض ، لأن الخبر بعد معرفة مستنده تابع في الحجية لثبوت مستنده ، فمع عدم ثبوت مستنده لا مجال للبناء على حجيته.

٥٧٥

المقام الثاني

في مقتضى الأدلة الخاصة في المتعارضين

حيث سبق أن الأصل في المتعارضين التساقط ، فالظاهر لزوم الخروج عنه في تعارض الأخبار ، بل ربما ادعي الإجماع على عدم الرجوع فيه لأصالة التساقط. للنصوص الكثيرة المتضمنة للترجيح والتخيير أو التوقف.

والنظر في ذلك يستدعي الكلام في فصول ثلاثة ، يتضمن الأول منها البحث في الترجيح. والثاني البحث في التعادل. وهو يكون مع عدم الترجيح ، إما لعدم ثبوته ، أو لعدم تحقق المرجحات المعتبرة. ويتضمن الثالث البحث في اللواحق التي لا تخص أحد الفصلين ، لتبحث في ضمنه.

الفصل الأول

في الترجيح

والمعروف وجوبه في الجملة ، خلافا للمحقق الخراساني والمحكي عند السيد صدر الدين العاملي ، فقد حكما بعموم التخيير. واستدل للمشهور بوجوه بعضها ظاهر الوهن لا ينبغي إطالة الكلام فيه ، وما ينبغي التعرض له وجهان :

الأول : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من الإجماع المحقق والسيرة القطعية. وكأن مراده بالسيرة سيرة العلماء في مقام الاستدلال على الترجيح ، في مقابل إجماعهم عليه ، المستفاد من تصريحهم به عند تعرضهم للمسألة

٥٧٦

الأصولية ، ومن إيداعهم نصوصه في كتبهم المبنية على جمع الأخبار المعتمد عليها. وإلا فسيرة المتشرعة في مقام العمل لا مجال لها في المسألة الأصولية التي ليس من شأنهم الرجوع إليها.

وقد أنكر المحقق الخراساني قدس‌سره الإجماع المذكور ، فذكر أنه لا مجال لدعواه مع ذهاب الكليني قدس‌سره للتخيير ، حيث قال في ديباجة الكافي : «ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من التخيير».

لكن ما نقله عن الكليني لا يناسب كلامه في ديباجة الكافي ، حيث قال : «فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء برأيه ، إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليه‌السلام : اعرضوها على كتاب الله فما وافى كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه. وقوله عليه‌السلام :

دعوا ما وافق القوم ، فإن الرشد في خلافهم. وقوله عليه‌السلام خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كله إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام : بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (١). وظاهره لزوم الترجيح مع الاطلاع على المرجحات ، والاقتصار في التخيير على صورة الجهل بها توسعة منهم عليهم‌السلام.

ومن ثم لا مجال لإثبات الخلاف ، وإنكار الإجماع المدعى ، المؤيد بارتكازية الحكم ، ومعروفيته عند الأصحاب ، تبعا للنصوص الواردة به.

ودعوى : أن موافقتهم للنصوص تجعل إجماعهم مدركيا يجب النظر في مدركه ، لا تعبديا ينهض بالاستدلال مع قطع النظر عنها.

مدفوعة بأن فهمهم للمعنى المذكور من النصوص ، وجريهم عليه ، مع

__________________

(١) الكافي ج : ١ ص : ٨.

٥٧٧

شيوع الابتلاء به من عصور الأئمة عليهم‌السلام ، شاهد قطعي على أن ذلك هو المراد من النصوص ، وعلى مطابقته لرأي الأئمة عليهم‌السلام ، فيتم الاستدلال به لو فرض التشكيك في النصوص سندا أو دلالة مع قطع النظر عنه.

نعم في بلوغ الإجماع المذكور حدّا يحصل به القطع بالحكم ، بحيث ينهض وحده بالاستدلال ، إشكال ، لعدم شيوع التعرض منهم للمسألة الأصولية ، وعدم تيسر الاستيعاب لكلماتهم في الفقه بالنحو الكافي في معرفة اتفاقهم.

الثاني : النصوص المشتملة على المرجحات ، على اختلاف في تعدادها.

منها : مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في الخصومة ، والمتضمنة الأمر بتحكيم رواة أحاديثهم عليهم‌السلام العارفين بأحكامهم.

وفيها : «فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم [حديثنا. خ. ل] فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال : فقلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ، لا يفضل [ليس يتفاضل] واحد منهما على صاحبه. فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ... قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم ، بأي الخبرين

٥٧٨

يؤخذ؟ فقال : ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ـ حكامهم وقضاتهم ـ فيترك ، ويؤخذ بالآخر. قلت : فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١).

وقد استشكل فيها بعض مشايخنا قدس‌سره بضعف السند ، لعدم النص على توثيق عمر بن حنظلة.

ويندفع بأن الظاهر وثاقة عمر بن حنظلة لأمرين :

الأول : رواية صفوان بن يحيى عنه ، الذي ذكروا أنه لا يروي إلا عن ثقة ، مؤيدا برواية جماعة من الأعيان عنه ، وفيهم غير واحد من أصحاب الإجماع.

الثاني : ما رواه يزيد بن خليفة : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا لا يكذب علينا ...» (٢) ، بناء على ما هو الظاهر من اعتبار سنده ، إذ ليس فيه من لم ينص على توثيقه إلا يزيد بن خليفة الذي روى عنه صفوان بن يحيى ويونس ، اللذين ذكروا أنهما لا يرويان إلا عن ثقة ، مؤيدا بروايات تدل على جلالته لا تبلغ مرتبة الاستدلال.

ويؤيد هذين الوجهين أيضا كثرة رواياته وتلقي الأصحاب لها بالقبول ، وروايتهم لها في الأصول ، خصوصا هذه الرواية التي رواها المشايخ الثلاثة معتمدين عليها ، كما اعتمد عليها الأصحاب في كثير من مضامينها حتى سميت بالمقبولة.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ٣ باب : ١٠ من أبواب المواقيت حديث : ١.

٥٧٩

كما استشكل فيها المحقق الخراساني قدس‌سره بأن موردها تعارض الحكمين في القضاء الذي لا مجال فيه للتخيير ، لعدم فصل الخصومة به. ولذا أرجأ عليه‌السلام الأمر مع عدم الترجيح إلى لقاء الإمام. ولا وجه للتعدي عنه إلى مقام الفتوى ، التي يمكن فيها التخيير من أول الأمر. مضافا إلى اختصاصها بزمان الحضور كما يظهر من ذيلها المذكور.

ويندفع أيضا بأن لسان الترجيح فيها يأبى الجمود على مورد التخاصم ، لظهوره في عدم صلوح المرجوح لأن يرجع إليه ، كما هو المناسب لقوله عليه‌السلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» وقوله : «ما خالف العامة ففيه الرشاد». ولذا كان المستفاد منها عرفا خطأ الحكم على طبق المرجوح ، بحيث لا ينبغي لصاحبه العود له في واقعة أخرى ، وإن لم يكن له فيها مخالف في التحكيم.

على أنه لا مجال لذلك بناء على أن المرجع مع عدم الترجيح هو التوقف أو التساقط ، لأن خصوصية القضاء لا تمنع منهما. وإلا فلا يحتمل حجية الراجح في القضاء والتخاصم دون الفتوى.

كما أن اختصاصها بزمان الحضور لا يمنع من فهم عموم الترجيح منها لزمان الغيبة ، لإلغاء خصوصية المورد عرفا ، كما هو الحال في بقية الأحكام التي اشتملت عليها ، ولا سيما مع إباء لسان الترجيح عن الاقتصار على ذلك.

بل زمان الغيبة أولى بالترجيح بناء على أن المرجع مع عدم الترجيح هو التوقف أو التساقط ، كما لعله ظاهر. على أنه يكفي في البناء على العموم لغير مورد القضاء ، ولعصر الغيبة ، بقية النصوص الآتية.

ومنها : صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله المروي عن رسالة القطب الراوندي : «قال الصادق عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه ، فإن لم

٥٨٠