الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

التصورية بعضها على بعض ، ليكون هناك ظهور تصديقي واحد ، كما هو الحال في الاطلاع على القرائن المتصلة.

لكنه كما ترى مخالف لما هو المعلوم من سيرة المتشرعة عند سماعهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام الكلام ابتداء ، أو جوابا عن سؤال ، حيث لا ريب في نسبتهم مفاد ظهوره ـ المتحصل منه ومن القرائن المحيطة به والمعلومة لهم ـ للمتكلم ، وعملهم عليه بلا تكلف الفحص عن القرائن المنفصلة ، كما يعملون على ذلك في البيانات العرفية ، لبنائهم على جريان الشارع الأقدس على الطريقة العرفية في البيان ، وعدم خروجه عنها.

كيف وخروجه عن طريقتهم في مثل هذا الأمر المهم الشائع الابتلاء يحتاج إلى بيان خاص منه صريح ملفت لأنظار الناس ، ليرتدعوا عن سيرتهم الارتكازية في معرفة مراده من كلامه ، مع العلم بعدم صدور ذلك منه ، وإلا لظهر وبان ، لتكثر الدواعي لحفظه ، وتوفر الأسباب لانتشاره وظهوره.

ولا مجال لاتكاله في بيان خروجه عن الطريقة العرفية على كثرة القرائن المنفصلة الكاشفة عن مخالفة مراده لظواهر كلامه ..

أولا : لأن ظهور كثرة القرائن بالنحو المذكور أمر متأخر عن عصور التشريع.

وثانيا : لعدم ملازمة كثرتها لخروجه عن الطريقة العرفية المذكورة ، لقرب رجوع ذلك إلى اختفاء القرائن المتصلة الكاشفة عن مراد المتكلم بكلامه ، أو عدم كونه في مقام البيان من بعض الجهات ، أو نحو ذلك.

بل كيف يمكن إيكاله في بيان مراده إلى القرائن المنفصلة مع عدم انضباطها ثبوتا وإثباتا. لتوقف حصولها على أمور غير منضبطة ، كتحقق الداعي للسؤال ، أو الحاجة للبيان الابتدائي ، أو الإجماع والسيرة الكافيين في الكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام وغير ذلك. وتوقف وصولها بعد حصولها على تحقق

٥٤١

دواعي النقل ، وضبط الناقل ، وثبوت وثاقته ـ ليكون نقله حجة ـ وعدم ضياع النقل ، وغير ذلك مما لا ينضبط أيضا.

ولا سيما مع انفصال جملة منها عن الكلام بعشرات السنين ، بل مئاتها ، حيث قد يرد الكلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الوصي عليه‌السلام ، ويرد ما يصرفه عن ظاهره عن الأئمة المتأخرين عليهم‌السلام أو يستند للإجماع الحاصل من اتفاق العلماء بعد الغيبة.

على أن لازم ذلك أمران لا يظن بأحد الالتزام بهما :

الأول : جريان حكم الكلام المجمل على المتعارضين ، لمانعية كل منهما من الظهور التصديقي للآخر لو اجتمعا في كلام واحد.

الثاني : عدم حجية الظهور حتى بعد استكمال الفحص ، لاحتمال ضياع القرائن المنفصلة ، لأن بناء العقلاء على أصالة عدم القرينة المنفصلة إنما هو مع الجري على طريقتهم في البيان ، حيث تكون القرينة المنفصلة من سنخ المعارض بعد انعقاد الظهور التصديقي للكلام الذي هو موضوع الحجية ، أما مع فرض الخروج عن طريقتهم بحيث تكون القرينة المنفصلة من سنخ المقوم للظهور التصديقي المفروض عدم إحراز انعقاده ، فلم يتضح بناؤهم على أصالة عدم القرينة.

بل يكون المقام حينئذ نظير ما لو شك في سماع تمام الكلام واحتمل فوت بعضه على السامع ، أو صرح المتكلم باعتماده على قرائن منفصلة واحتمل عدم استيفائها بالفحص ، حيث لا مجال للبناء على أصالة عدم القرينة المتصلة في الأول والمنفصلة في الثاني لإحراز الظهور التصديقي.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في استقرار ظهور الكلام بفراغ المتكلم عن كلامه ، وعدم ارتفاعه بالعثور على القرائن المنفصلة ، بل تكون القرائن المذكورة من سنخ المعارض للظهور المذكور النافي له ، من دون فرق بين كلام

٥٤٢

الشارع وغيره.

نعم قد يجمع العرف بين الظهورين بحمل أحدهما على الآخر وتنزيله عليه ، لكونه بنظرهم قرينة تصرفه عن ظاهره ، وتكشف عن عدم مطابقته لمراد المتكلم الجدي.

وحيث كان دليل العمل بالظهور واستكشاف المراد الجدي به منحصرا بسيرة العرف الارتكازية ـ كما تقدم في مبحث حجية الظواهر ـ كان توقفهم عن العمل بأحد الظهورين وتنزيله على ما يطابق الظهور الآخر في محل الكلام راجعا إلى عدم حجيته في نفسه ، وأن الحجة مجموع الكلامين على مقتضى الجمع العرفي المذكور.

ولازم ذلك عدم التعارض بينهما في مقام الحجية بحسب عموم أدلتها ، بل يكون ورود القرينة المنفصلة مانعا من حجية الظهور البدوي للكلام ، ولا مجال معه لفرض التعارض في مقام الحجية بحسب عموم أدلتها. ومن ثم ذكرنا آنفا خروج ذلك عن التعارض حقيقة ، لأن المهم من التعارض ليس هو التعارض البدوي في مقام الحكاية ، بل التعارض في مقام الحجية بحسب أدلتها العامة.

وحيث انتهى الكلام إلى هنا ، فالمناسب التعرض لأمور ..

الأمر الأول : الظاهر أن المعيار في الجمع العرفي على تقديم الأظهر على الظاهر وتنزيله على ما يطابقه ، فتعين أحد الدليلين للقرينية على الآخر عرفا منوط بأظهريته منه دلالة.

وما اشتهر من تقديم الخاص على العام والمقيد على المطلق وغيرهما راجع إلى ذلك. فلو كان العام أظهر من الخاص أو المطلق أظهر من المقيد لزم تنزيل الخاص أو المقيد على العام أو المطلق. مثلا لو كان ظهور العام أو المطلق

٥٤٣

في عموم الرخصة أقوى من ظهور الخاص أو المقيد في الإلزام تعين تقديم العام وتنزيل الخاص عليه بحمله على الاستحباب ، أو بيان أحد الأفراد أو غير ذلك.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من لزوم تقديم الخاص مطلقا وإن كان أضعف ظهورا ، لأن الخاص بمنزلة القرينة على العام ، وأصالة الظهور في القرينة حاكمة على أصالة الظهور في ذيها ، فلا يحتاج تقديمها لملاحظة الترجيح الدلالي.

فيندفع بأن تعيين أحد الكلامين للقرينية على الآخر إنما يتجه لو كان ناظرا إليه ، ومسوقا من قبل المتكلم لبيان المراد منه ، حيث يكون حاكما عليه حكومة بيانية ، فيتقدم عليه طبعا من دون تناف بينهما ، كما سبق في الفصل الأول ، ولا يحتاج تقديمه عليه لأقوائية ظهوره. وأما في موارد تعارض الظاهرين بدوا فلا يتعين أحدهما عرفا للقرينية على الآخر إلا بقوة ظهوره.

نعم الظاهر عدم الاكتفاء بمجرد الأظهرية في الجمع العرفي ، بل لا بد معها من كون الأضعف ظهورا صالحا عرفا للتأويل والتنزيل على طبق الأظهر ، بحيث يكون مفاد الجمع بينهما ملائما عرفا لهما معا.

أما لو لم يصلح لذلك فليس بينهما جمع عرفي ، ويتعين إجراء حكم التعارض ، لو لم يكشف الأظهر عرفا عن خلل في الظاهر. وإلا تعين العمل بالأظهر وإهمال الظاهر ، لصيرورته بحكم المجمل.

الأمر الثاني : التعارض بين الظهورات الذي هو الموضوع للجمع العرفي إنما يكون بلحاظ امتناع إرادتها جميعا. وعلى ذلك فهو كما يجري إذا كانت من متكلم واحد يجري إذا كانت من أكثر إذا امتنع اختلافهم ، كالمعصومين عليهم‌السلام. وكذا يجري فيما إذا لم تكن القرينة لفظية ، بل لبية يعلم بعدم مخالفة المتكلم لمضمونها ، حيث يتعين رفع اليد عن ظاهر كلامه ، وتنزيله على ما لا ينافيها.

٥٤٤

كما أنه لا يجري مع احتمال عدول المتكلم الواحد في رأيه أو خبره في أحد كلاميه عما كان عليه في الآخر ، بحيث يمكن قصده لظاهر كل منهما عند صدوره وإن كانا مختلفين ، لأن أصالة الظهور إنما تقتضي إرادته حين صدور الكلام ، لا دائما ، لينافي الآخر.

غاية الأمر أن الأصل عدم عدول صاحب الرأي أو الخبر عن رأيه أو خبره. إلا أنه لا ينهض برفع اليد عن أصالة الظهور في كل من الكلامين بنحو يلزم بالجمع بينهما ، بل أصالة الظهور تكون واردة على الأصل المذكور رافعة لموضوعه ، حيث تكون دليلا على العدول ، ومعه لا موضوع للجمع العرفي.

وكذا الحال مع احتمال النسخ في الحكم الذي تعرض له المتكلم المسبب عن البداء الحقيقي لو أمكن في حقه ، لأنه من صغريات العدول عن الرأي.

بل وكذا احتمال النسخ غير المسبب عن البداء الحقيقي كما هو الحال في الأحكام الشرعية ، لما تقدم في الفصل السادس من المبحث الثالث من مباحث الاستصحاب من أن نسخ الحكم الشرعي لا يستلزم صدور دليله لا بداعي بيان المراد الجدي ، ليكون مقتضى أصالة الجهة نفيه ، الملزم بالجمع العرفي بين الظهورين ، ولا مخالف لظهوره اللفظي ، ليكون الظهور المذكور طرفا للمعارضة مع الظهورين المفروض تعارضهما في المقام ، ويقع الكلام في تعيين الأقوى من الظهورات المذكورة ، كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره في مسألة دوران الأمر بين النسخ والتخصيص. بل لا دافع لاحتمال النسخ إلا الأصل الذي لا ينهض برفع اليد عن ظهور كل من الكلامين في إرادة مضمونه ، فلا تصل النوبة للجمع العرفي.

لكن يصعب البناء في الأحكام الشرعية على النسخ. لاستلزامه كثرة

٥٤٥

النسخ ، ومن المعلوم قلته ، خصوصا من الأئمة عليهم‌السلام بناء على ما هو الظاهر من إمكان صدوره منهم ، بمعنى علمهم به وتبليغهم الأحكام على ما يناسبه ، كما هو الحال في النسخ الصادر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

مع أنه مستلزم لاضطراب نظام الفقه القائم ، وتأسيس فقه جديد ، إذ كثيرا ما يكون الظهور الأقوى سابقا زمانا على الظهور الأضعف ، فلو بني على النسخ لزم البناء على مقتضى الظهور الأضعف ، لنسخ الظهور الأقوى به. ولو جهل الأسبق من الظهورين لزم التوقف عنهما معا ، للعلم الإجمالي بنسخ أحدهما بالآخر.

ولا يظهر منهم البناء على ذلك. بل سيرتهم على العمل بالأظهر مطلقا ، وتنزيل الأضعف عليه ، للجمع العرفي بينهما ، ولا يذكر النسخ إلا احتمالا لتوجيه النصوص التي يبنى على إهمالها.

ولعل الوجه في سيرتهم المذكورة وعدم تعويلهم على احتمال النسخ : أن العمدة في البيانات الشرعية هي الأخبار الصادرة عن الأئمة (صلوات الله عليهم) ، وهي منصرفة إلى كون مضمونها الأحكام الثابتة من عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن ذلك هو الذي يقع موردا لسؤال السائلين ، فإن النسخ منهم عليهم‌السلام وإن كان ممكنا ، إلا أنه مغفل في مقام السؤال والجواب.

ولذا تضمن كثير من النصوص استشهاد الإمام عليه‌السلام بكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو استفسار السائل عن وجه الجمع بين فتواه عليه‌السلام وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن الأئمة المتقدمين ، وتكذيب الإمام روايات العامة المخالفة لفتواهم ، أو تفسيرها بما لا يخالفها ، حيث يظهر من ذلك ونحوه المفروغية عن كون الحكم الصادر منهم عليهم‌السلام مشرعا من عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد يشير إليه ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في توجيه اختلاف الناس

٥٤٦

في الدين (١) ، حيث تعرض لاحتمال النسخ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يشر لاحتمال وقوعه بعده ، بنحو يظهر في المفروغية عن ثبوت أحكامهم من عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كما يشهد به أيضا نصوص العرض على الكتاب ، والنصوص الواردة في تعارض الأخبار ، لأن فرض التعارض بينها والترجيح ، من دون إشارة للنسخ والترجيح بما يناسبه من تأخر الزمان ، ظاهر في المفروغية عن وحدة الحكم في الواقعة التي يرد فيها المتعارضان.

نعم ورد في بعضها ترجيح الرواية عن الحي ، وترجيح المتأخر من أحاديث الإمام الواحد المختلفة (٢). إلا أن ظاهر بعضها وصريح آخر عدم إحراز الحكم العام الأولي به الذي هو محل الكلام ، بل الحكم الفعلي وإن كان ثانويا ، على ما يأتي عند الكلام في المرجحات المنصوصة إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص الواردة عنهم عليهم‌السلام في سوقها لبيان الحكم الثابت في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن وقع خلاف ذلك فهو مبني على نحو من الخروج عن الظاهر المستند للقرينة العامة المعول عليها ، وهو الذي فهمه الأصحاب ، كما يناسبه سيرتهم المشار إليها آنفا.

نعم يشكل الأمر في الأحاديث النبوية ، لعدم جريان القرينة المذكورة فيها. ومجرد كون الخروج عن الظاهر أكثر وأشهر من النسخ ـ لو تم فيها ـ ليس من القرائن العرفية المحيطة بالكلام ، بحيث يفيد استمرار مضمونه. ولعله لذا ورد عن الأئمة عليهم‌السلام التعريض بالعامة ، حيث أخذوا بها من دون تمييز للناسخ

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٧.

٥٤٧

والمنسوخ (١) ، وتوجيه اختلافهم فيما بينهم ومخالفة حديثهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحاديث الأئمة عليهم‌السلام بأن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (٢).

نعم لا يجري ذلك فيما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريق الأئمة عليهم‌السلام في مقام بيان الحكم الشرعي ، لأن ظاهر حكايتهم له استمرار حكمه وعدم نسخه.

ومن هنا يهون أمر هذا الإشكال ، لندرة الأحاديث النبوية المعتبرة السند المروية من غير طريقهم عليهم‌السلام ، أو من طريقهم في غير مقام بيان الحكم الشرعي ، والتي يحتمل نسخها بنحو يكون له الأثر في مقام العمل. بل لعله لا وجود لها.

الأمر الثالث : لما كان مرجع الجمع العرفي إلى ترجيح الأظهر على الظاهر فهو مبني على المفروغية عن البناء على صدور الأظهر ، وعن كون صدوره لبيان المراد الجدي ، بحيث لا يمكن رفع اليد عن أحد الأمرين محافظة على ظهور الظاهر.

والوجه في ذلك : أن صدور الأظهر هو مقتضى حجية سنده ، فيكون سنده دليلا على القرينة الرافعة لحجية الظاهر. وأما صدوره لبيان المراد الجدي فهو مقتضى أصالة الجهة التي هي أقوى ارتكازا من أصالة الظهور ومقدمة عليها. إلا أن تقوم بعض الأمارات العرفية على خلافها ، فيشكل التعويل عليها حينئذ. وهو خارج عن محل الكلام.

ولعل هذا هو الوجه في عدم بناء الفقهاء على رفع اليد عن أصالة الجهة في الدليل ـ بحمله على التقية أو نحوها ـ إلا مع تعذر الجمع العرفي ، حيث

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٣.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ١٤ من أبواب صفات القاضي. والكافي ج : ١ ص : ٦٢ باب اختلاف الحديث.

٥٤٨

يجري حينئذ حكم التعارض بالرجوع للمرجحات ، ومنها مخالفة العامة.

الأمر الرابع : لما كان مبنى الجمع العرفي على ترجيح أقوى الظهورين وتنزيل أضعفهما عليه فتشخيص ذلك يبتني على ملاحظة القرائن العامة والخاصة. أما القرائن الخاصة فلا ضابط لها ، بل توكل لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة. وأما القرائن العامة فقد تكفلت بعض مباحث الألفاظ ببعضها ، كتقديم الخاص على العام ، والمقيد على المطلق. كما تعرض غير واحد هنا لبعض آخر لم يذكر هناك ، فالمناسب منا التعرض لبعض ما ذكروه.

منها : تعارض العموم الوضعي والإطلاقي بنحو العموم من وجه ، حيث يدور الأمر بين تقييد المطلق وتخصيص العموم. فإنه بناء على ما سبق ـ عند الكلام في مقدمات الحكمة ـ من أن يكفي فيها عدم البيان المتصل يتعين استقرار ظهور المطلق في الإطلاق ، وعدم ارتفاعه بالعثور على العام ، بل يكونان ظهورين متعارضين لا بد من الجمع بينهما.

وقد ذكر غير واحد أنه يتعين تقديم العام ، ووجهه بعض مشايخنا بأن نسبة العام إلى المطلق نسبة الأمارة إلى الأصل ، فكما أن الأصل حجة ما لم تقم أمارة على خلافه ، كذلك المطلق إنما يكون حجة ما لم يرد العام على خلافه ، فإذا ورد العام خرج عن موضوع الحجية وانفرد بها العام.

لكن تقييد حجية المطلق بذلك غير ظاهر المنشأ بعد كونه كالعام تام الظهور. غاية الأمر تقييد حجية الظهور بعدم ورود ظهور أقوى منه يتعين عرفا للقرينية عليه ، وهو مشترك بين العموم والإطلاق. فلا بد من بيان وجه ترجيح العموم ، ولا إشارة في كلامه لذلك.

وقد أشار شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره للاستدلال له ... تارة : بأن التقييد أكثر من التخصيص. وأخرى : بأن دلالة العموم أقوى من دلالة الإطلاق. وثالثة : بأن

٥٤٩

ظهور العموم في السريان لما كان مستندا لوجود ما يدل عليه في الكلام فهو أقوى من ظهور الإطلاق فيه ، المستند لسكوت المتكلم عن ذكر القيد.

ويندفع الأول : بأن الغلبة بنفسها ـ لو سلمت في المقام ـ لا توجب أقوائية الظهور ما لم تكن من الوضوح بحيث تكون عرفا قرينة محيطة بالكلام ، ولم يتضح ذلك في المقام.

وأما الأخيران فهما وإن كانا قريبين في الجملة إلا أن في بلوغهما حدا ينهض بضرب القاعدة العامة إشكالا. فلا بد من التأمل في خصوصيات الموارد ، لاستيضاح الأقوى من الظهورين ، كما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره.

ومنها : تعارض الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي. حيث يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره تقديم الشمولي لوجوه لا مجال لإطالة الكلام فيها.

غير أنه ينبغي التنبيه إلى أمر ، وهو أن مفاد الإطلاق البدلي لما كان هو وفاء الماهية بالغرض الداعي للأمر بها بنحو يقتضي وفاء كل فرد منها به ، فالإطلاق الشمولي إن تضمن النهي عن الماهية الأخرى المستلزم للنهي عن المجمع بين الماهيتين ، من دون أن ينافي وفاء ذلك المجمع بغرض الأمر ، فالمورد خارج عن التعارض ـ الذي هو محل الكلام ـ وداخل في التزاحم ويتعين حينئذ العمل على الإطلاق الشمولي حفاظا على غرضه ، واستيفاء غرض الأمر بفرد آخر ، جمعا بين الغرضين. لكن لو جىء بالمجمع واجدا لشرائط الأمر لوفى بغرضه ، وكان امتثالا له.

أما إذا كان مفاد الإطلاق الشمولي النهي عن الماهية الأخرى بنحو ينافي وفاء المجمع بغرض الأمر ، فالمورد داخل في التعارض الذي هو محل الكلام ، وتعين التكاذب بين الإطلاقين. ومجرد كون أحدهما شموليا لا يقتضي ترجيحه ما لم يرجع إلى كونه أقوى ظهورا ، ولم يظهر من الوجوه المذكورة في كلامهم

٥٥٠

ما ينهض بذلك. نعم لا يبعد غلبة أقوائية ظهور الشمولي. فاللازم التأمل في خصوصيات الموارد.

ومنها : انقلاب النسبة ، الذي كثر النقض والإبرام فيه بينهم. وموضوعه التعارض بين أكثر من دليلين. ومرجعه إلى أن النسبة بين تلك الأدلة المتعارضة هل تتم بلحاظ مدلول كل منها في نفسه ، أو بلحاظ المتحصل منه بعد جمعه مع أحد أطراف المعارضة؟.

مثلا : إذا ورد عامان متباينان وخاص موافق لأحدهما مخالف للآخر ، مثل : يحرم بيع العذرة ، و : لا بأس ببيع العذرة ، و : يحرم بيع عذرة الإنسان ، فهل يستحكم التعارض بين العامين ، لأنهما متباينان ، ويقتصر في العمل بالخاص على مورده ، ففي الفرض السابق يحكم بحرمة بيع عذرة الإنسان عملا بالخاص ، ويستحكم تعارض العامين في غيرها ، أو يخصص العام المخالف للخاص به ، فيبقى حجة في غير مورده ، ويكون أخص من العام الموافق للخاص ، فيخصصه ، ويكون العام الموافق حجة في مورد الخاص. ففي الفرض السابق يخصص عموم جواز بيع العذرة بدليل حرمة بيع عذرة الإنسان ، فيبقى حجة في غيرها ، فيكون أخص من عموم المنع ، فيخصصه ، ويحكم بحلية بيع عذرة غير الإنسان؟.

إذا عرفت هذا فقد سبق في أول الكلام في الجمع العرفي أن تحكيم بعض الأدلة على بعض لا يبتني على خصوصيات النسب بينها تعبدا ، بل على أقوائية ظهور بعضها من بعض بحيث يكون قرينة عليه عرفا. ومرجعه إلى تحكيم العرف في فهم المراد من مجموع الأدلة ، وبدونه يتعين استحكام التعارض بينها.

وحينئذ كما يكون للعرف النظر للأدلة المتعارضة بمقتضى مدلولها في

٥٥١

نفسه ، الراجع لعدم انقلاب النسبة ، له النظر لها بتحكيم بعضها على بعض في رتبة سابقة على تحكيمه على غيره ، الراجع لانقلاب النسبة. ولا مجال لتعميم أحد الوجهين ، أو إعطاء الضابط لموارد كل منهما ، بعد اختلاف خصوصيات الأدلة في أنفسها ، وفيما بينها ، بوجه لا يتيسر استيعابه. بل المناسب إيكال ذلك لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة المختلفة في كل واقعة واقعة. نعم يحسن التعرض لبعض الفروض المذكورة في كلماتهم هنا.

الأول : الفرض المتقدم. والظاهر صلوح الخاص لأن يكون شاهد جمع بين العامين ، ومانعا من استحكام التعارض بينهما ، بحمل الموافق على مورده والمخالف على غير مورده ، وخصوصا إذا كان عنوان الخاص مناسبا لحكمه ارتكازا. ولا مجال عرفا لاستحكام التعارض بين العامين ، وانفراد الخاص بالحجية في مورده.

الثاني : ما إذا ورد عام ، وورد خاصان بينهما عموم من وجه ، مثل : أكرم العلماء. و : لا تكرم فساق العلماء. و : لا تكرم من لا ينتفع بعلمه. حيث يدور الأمر بين تخصيص العام بهما معا بلحاظ أن كلا منهما في نفسه أخص منه مطلقا الذي هو مناسب لعدم انقلاب النسبة ، وتخصيص العام بأحدهما أولا ، فتنقلب النسبة بين العام والخاص الآخر إلى العموم من وجه ، فيجري عليهما حكم العامين من وجه ، ولا يتعين الخاص لتخصيص العام.

لكن الأظهر الأول ، لأن كلا من الخاصين أقوى ظهورا في مورده من العام فيه ، فيقدم عليه. مع أنه لا مرجح لأحد الخاصين على الآخر بعد تمامية مقتضى الحجية في كل منهما. ولا وجه لترجيح مقطوع الصدور أو المضمون بعد مشاركة المظنون له في الحجية ، فإن القطعي إنما يقدم على الظني عند تعارضهما ، لا في مقام تأثيرهما في الدليل الآخر. وكذا ترجيح الأسبق زمانا ، لعدم الأثر لسبق صدور الخاص زمانا في استكشاف مراد المتكلم من العام.

٥٥٢

الثالث : ما إذا وردت أدلة ثلاثة أحدها أخص من الآخر مطلقا. والظاهر تخصيص الخاص منها لما فوقه إذا خالفه في الحكم مطلقا ، لأنه أظهر منه ، والعمل بالعام في الباقي.

وقد يدعى انقلاب النسبة فيما إذا اتفق الأخص والمتوسط في الحكم على خلاف الأعم ، فينحصر الأعم بالأخص ، وحينئذ تنقلب النسبة بينه وبين المتوسط للعموم من وجه ، فإذا ورد : أكرم العلماء ، و : لا تكرم العالم الفاسق ، و :

لا تكرم صاحب السلطان من العلماء ، كان الثالث مخصصا للأول ، وانقلبت النسبة بين الأول والثاني للعموم من وجه ، وكان مورد الاجتماع هو الفاسق الذي ليس بصاحب السلطان ، حيث يكون مقتضى الأول إكرامه ، ومقتضى الثاني عدمه. ولا يكون مخصصا للأول ، المستلزم لعدم إكرام الشخص المذكور.

ويشكل بأن تخصيص الأخص للأعم لا أثر له عرفا في قرينية المتوسط عليه بنحو لا يشمله ملاك التخصيص. مع أنه لا وجه لتخصيص الأعم بالأخص في رتبة سابقة على تخصيصه بالمتوسط ، بل هو مخصص بهما معا في رتبة واحدة ، نظير ما سبق في الفرض الثاني.

هذه بعض الفروض المذكورة في كلماتهم لانقلاب النسبة. وهناك فروض أخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها ، بل يوكل ذلك لنظر الفقيه عند ابتلائه بالأدلة المتنافية. ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.

٥٥٣

الفصل الثالث

في مراتب الأدلة والوظائف الظاهرية

من الظاهر أن استنباط الحكم والوظيفة العملية من الأدلة التفصيلية والوظائف الظاهرية كما يتوقف على معرفة تلك الأدلة والوظائف ، يتوقف على معرفة النسب بينها وتعيين مرتبة كل منها ، كي لا يرجع للمتأخر مع وجود المتقدم. لرجوع ذلك إلى تشخيص دليلية الدليل ومعرفة مورده. ومن هنا كان البحث عن ذلك من مقدمات الاستنباط المهمة ، كالبحث عن نفس الأدلة.

ولم تتكفل المباحث السابقة بالنظر في ذلك ، بل كان البحث فيها مقتصرا على تعيين الأدلة والوظائف الظاهرية من دون نظر لترتبها فيما بينها. والمناسب بحث ذلك هنا على ضوء ما تقدم في الفصلين السابقين من البحث في أقسام النسب من الورود والحكومة والجمع العرفي.

إذا عرفت هذا فالظاهر لزوم الرجوع للطرق والأمارات في المرتبة الأولى ، ثم للأصول والقواعد الشرعية الإحرازية ، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ ، ثم للأصول الشرعية غير الإحرازية ، تعبدية كانت ـ كأصالة الطهارة ـ أو غيرها ـ كالبراءة والاحتياط الشرعيين ـ ثم للأصول العقلية العملية.

كما أن الظاهر تقدم الأصول التعبدية الموضوعية ـ وهي المتضمنة للتعبد بموضوعات الأحكام ـ وإن لم تكن إحرازية على الأصول الحكمية ـ وهي المتضمنة للتعبد بحكم ذلك الموضوع أو بنفيه ـ وإن كانت إحرازية. وهو مرادهم بتقدم الأصل السببي على المسببي.

وعلى هذا جرى الأصحاب رضي الله عنه بطبعهم في مقام الاستدلال بنحو يظهر

٥٥٤

منهم المفروغية عنه. بل صرح به بعضهم. وأطال شيخنا الأعظم قدس‌سره ومن بعده في توضيحه.

نعم قد يظهر من بعضهم الخروج عنه في بعض الموارد ، حيث يجمع في مقام الاستدلال بين المرتبتين ، أو يعارض بينهما. لكن الظاهر أن منشأه الغفلة عن الحال ، أو محض الاستظهار بتكثير الأدلة ، وإلا فمن البعيد جدا خلافهم في ذلك.

هذا ولا ينبغي التأمل في تأخر الأصول العقلية عن جميع الأدلة والأمارات والقواعد والأصول الشرعية ، لورودها عليها ، حيث لا يحكم العقل بالوظيفة الظاهرية إلا عند التحير ، وعدم تصدي الشارع لبيانها ، وإلا استغنى ببيانه ، وارتفع موضوع حكمه.

وعلى هذا لا يبقى في المقام إلا الكلام في وجه تقديم الطرق والأمارات على الأصول ، وفي وجه تقديم القواعد والأصول الإحرازية على الأصول غير الإحرازية ، وفي وجه تقديم الأصل السببي على المسببي ، فيقع البحث في مقامات ثلاثة.

المقام الأول : في تقدم الطرق والأمارات على الأصول الشرعية

من الظاهر أن إطلاق أدلة الأصول شامل لصورة قيام الطرق والأمارات بعد فرض عدم إفادتها العلم بالحكم الواقعي ، فهي بنفسها ـ مع قطع النظر عن دليل حجيتها ـ لا ترفع موضوع الأصول.

وحينئذ ربما يدعى ورود أدلة حجية الطرق والأمارات على أدلة الأصول ورفعها لموضوعها ، إما لأن المراد من الشك والجهل في موضوع أدلة الأصول هو عدم الحجة على الواقع ، أو لأن المراد به ما يقابل العلم ولو بالوظيفة الظاهرية. فيرتفع الموضوع المذكور حقيقة بقيام الطرق والأمارات بعد فرض

٥٥٥

حجيتها ، حيث يتم به قيام الحجة على الواقع ، والعلم بالوظيفة الظاهرية.

لكنه يندفع بأن ظاهر الجهل والشك في أدلة الأصول هو ما يقابل العلم بالواقع لا غير ، وهو لا يرتفع حقيقة بقيام الطرق والأمارات وإن كانت حجة. ويأتي تتمة الكلام في ذلك عند التعرض للوجه المختار في المقام.

هذا وقد ادعى شيخنا الأعظم قدس‌سره حكومة الطرق والأمارات على الأصول ، بتقريب : أن مقتضى أدلة حجيتها إلغاء احتمال الخلاف وجعله بمنزلة العدم ، فهي وإن كانت لا ترفع موضوع الأصول ـ وهو الشك ـ حقيقة ، إلا أنها ترفعه تنزيلا ، وتجعله بمنزلة العدم. نظير الأدلة المتضمنة أنه لا حكم للشك في النافلة ، أو مع حفظ الإمام ، بالإضافة إلى أدلة أحكام الشكوك.

هذا وقد سبق عند الكلام في تحديد الحكومة أن الحكومة في مثل ذلك عرفية ، وهي نحو من الجمع العرفي مع تنافي الدليلين بدوا ، وليست بيانية ، يكون الدليل الحاكم فيها متقدما رتبة على الدليل المحكوم من دون تناف بينهما.

على أن تقريب الحكومة بالوجه المذكور في المقام لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، حيث لم تتضمن أدلة حجية الطرق والأمارات تنزيلها منزلة العلم صريحا ، ولا إلغاء الشك ونفي الجهل معها ، ليلزم حمله على الإلغاء والنفي تنزيلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، نظير قوله عليه‌السلام : «ولا سهو في نافلة» (١). بل مجرد لزوم متابعتها والعمل عليها ، من دون دلالة على كون ذلك متفرعا على لزوم متابعة العلم وفي طوله ، وبعناية تنزيلها منزلته.

كيف؟! وقد سيقت في بعض الأدلة في مقابل العلم بنحو لا يناسب التنزيل المذكور ، ففي موثق مسعدة بن صدقة أو صحيحه : «والأشياء كلها على

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٤ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٨.

٥٥٦

هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (١).

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات جعلها علما تعبدا من حيثية كشفه عن المعلوم ، فهي متممة لكشفه بإلغاء احتمال الخلاف شرعا.

إذ فيه أولا : ما سبق من أن أدلة الطرق والأمارات إنما تضمنت مجرد لزوم متابعتها من دون عناية كون ذلك في طول متابعة العلم لتنزيلها منزلته.

وثانيا : أن التعبد والاعتبار الشرعي إنما يتناول الأمور الجعلية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج ، دون الحقائق المتأصلة ، كالعلم والانكشاف والاحتمال ونحوها من الأمور الحقيقية ، فكما لا يمكن سلخ الانكشاف عن العلم تشريعا ، لا يمكن جعله لغيره كذلك ، وكما لا يمكن جعل الاحتمال شرعا مع العلم لا يمكن إلغاؤه بدونه. غاية الأمر أنه يمكن جعل أحكامه أو نفيها. على أن ذلك لو تم كان وجها لورود الطرق والأمارات على الأصول ، لا لحكومتها عليها.

ومن هنا كان الظاهر أن تقديم الطرق والأمارات على الأصول هو مقتضى الجمع العرفي بين أدلتها ، بضميمة المناسبات الارتكازية ، فإنه وإن كان بين إطلاق كل منها عموم من وجه ، إلا أن المتعين تنزيل أدلة الأصول على ما لا ينافي أدلة الطرق والأمارات ، بحملها على ثبوت مقتضاها من حيثية موضوعها ، وهو الشك ، وإن لم يكن فعليا لطروء أمر زائد على ذلك مقتض لخلافه ، وهو قيام الطرق والأمارات ، كما هو الحال في سائر موارد الجمع بين أدلة الأحكام الأولية والأحكام الثانوية ، فالمورد من حيثية الشك مجرى للأصل ، ومن حيثية قيام الطريق والأمارة الذي هو أمر زائد على الشك يتعين العمل فيه على مقتضاهما.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٢ باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث : ٤.

٥٥٧

بل الأمر في الاستصحاب أظهر ، لأن دليله لم يتضمن العمل بالحالة السابقة مع الشك تعبدا ، بل من أجل عدم نقض اليقين بالشك. فلا ينافي رفع اليد عنها بالطريق المعتبر. وبعبارة أخرى : ليس مفاد أدلته عدم نقض اليقين مع الشك ، بل عدم نقضه بالشك ، ومن الظاهر أن عدم نقض اليقين بالشك لا ينافي نقضه بقيام الطريق المعتبر.

إن قلت : هذا لا يناسب غير واحد من أدلة الأصول من إناطتها بعدم العلم ، والاقتصار في رفع مفادها عليه ، كما هو مقتضى الغاية في قولهم عليهم‌السلام :

«حتى تعرف الحرام منه ...» و : «حتى تعلم أنه حرام بعينه ...» و : «حتى تعلم أنه قذر ...» و : «حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجىء من ذلك أمر بيّن» والحصر في قوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين أبدا بالشك ، وإنما تنقضه بيقين آخر».

قلت : المتعين تنزيل ذلك ـ ولو بمقتضى الجمع المذكور ـ على أن ذكر العلم ليس بما هو صفة خاصة ، بل بما هو طريق كاشف عن الواقع ودليل عليه ، فيقوم مقامه سائر الطرق والأمارات المعتبرة ، كما سبق عند الكلام في قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي ، وتقدم نظيره عند الكلام في استصحاب مؤدى الطرق والأمارات في أوائل الكلام في أركان الاستصحاب. ويناسبه ما في حديث مسعدة بن صدقة من الاقتصار في صدره على العلم ، ثم قوله عليه‌السلام في ذيله المتقدم : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة». ومرجع ذلك إلى كون الرافع لموضوع الأصول هو ثبوت الواقع ولو بغير العلم.

لكن ذلك راجع في الحقيقة إلى كون أدلة اعتبار الطرق والأمارات واردة على أدلة الأصول ، وأن قيام الطرق رافعا لموضوعها حقيقة. غاية الأمر أنه ليس لكون المراد بالشك وعدم العلم عدم قيام الحجة ، أو عدم العلم بما يعم الوظيفة

٥٥٨

الظاهرية ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ بل لإلغاء خصوصية العلم الرافع لمقتضى الأصل ـ عرفا ، والتعدي منه لكل طريق.

بقي شيء

وهو أن هذا الوجه إنما يقتضي ارتفاع موضوع الأصل بالطريق والأمارة المخالفين له ، دون الموافقين له ، لأن ما تضمن كون العلم غاية للعمل على طبق الأصل ورافعيته له لا يراد به إلا العلم بما يخالف مقتضى الأصل ، دون العلم بما يوافقه.

غاية الأمر أنه يمتنع التعبد الظاهري مع العلم بالواقع عقلا. وهو مختص بالعلم الوجداني ، ولا يعم ما يقوم مقامه من الطرق والأمارات المعتبرة ، فإن حجية الطرق والأمارات لا تنافي التعبد الظاهري بالأصل المطابق لها.

كما أن العنوان الثانوي الاقتضائي إنما يمنع من تأثير العنوان الأولي غير الاقتضائي مع تنافيهما عملا ، لا مع اتفاقهما. وقد تقدم في الاستدلال بحديث مسعدة بن صدقة على البراءة ما ينفع في المقام.

نعم الاستناد في البناء على الشيء إلى مقتضي إثباته ـ وهو الطريق أو الأمارة ـ أولى ارتكازا من الاستناد فيه إلى مجرد عدم المقتضي لخلافه ، كما هو مفاد الأصل. فالاستناد للطرق والأمارات مقدم طبعا على الاستناد للأصل الموافق لها ، وإن لم تكن رافعة لموضوعه.

المقام الثاني

في تقديم الأصول الإحرازية على الأصول غير الإحرازية

والمراد بالأصول غير الإحرازية ما يكون التعبد فيه بمفاد الأصل لمجرد الشك ، كما في أصالتي الحل والطهارة ، وبالأصول الإحرازية ما يكون التعبد فيه بمفاد الأصل في مورد الشك بضميمة المحرز له ، من دون أن يكون طريقا

٥٥٩

وكاشفا عن الواقع ، كما هو الحال في الاستصحاب ، لأن الحكم في دليله بعدم نقض اليقين راجع إلى أن البناء على مقتضى الحالة السابقة من أجل اليقين السابق ، لا لمجرد الشك.

وحيث لا يجري في الشبهات الحكمية من الأصول الإحرازية غير الاستصحاب ، فيقع الكلام هنا فيه ، ومنه قد يتضح الكلام في غيره.

وقد حاول المحقق الخراساني قدس‌سره تقريب وروده على بقية الأصول ، لدعوى كونه رافعا لموضوعها ، لأن المشكوك معه يكون معلوم الحكم ، ولو بلحاظ الوظيفة الظاهرية ، فيرتفع معه موضوع الأصول الأخر ، وهو المشكوك من جميع الجهات.

وفيه : أن ظاهر أدلة الأصول الشرعية كون موضوعها الشك في الواقع ، لا في ما يعم الوظيفة الظاهرية ، من دون فرق بين الاستصحاب وغيره ، فكما لا تنهض بقية الأصول برفع موضوع الاستصحاب لا ينهض الاستصحاب برفع موضوعها ، ولا منشأ للفرق بينه وبينها في ذلك. نعم يتجه ذلك في الأصول العقلية ، لما ذكرناه آنفا من أن موضوعها عدم البيان مطلقا ولو للوظيفة الظاهرية.

كما حاول شيخنا الأعظم قدس‌سره تقريب حكومة الاستصحاب على بقية الأصول : بأن دليل الاستصحاب بمنزلة معمم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق ، فيكون حاكما على دليل الأصل الذي أخذ فيه الشك في الحكم.

لكنه يندفع بأن دليل الاستصحاب وإن تضمن الحكم ببقاء المتيقن سابقا ، إلا أنه لا يتضمن استمراره واقعا ، ليكون متمما لدلالة الدليل الدال على الحدوث ، ويكون مقدما على بقية الأصول بملاك تقديم الطرق عليها ، بل إنما يتضمن الحكم ببقاء المتيقن بلسان التعبد الظاهري ، الراجع للزوم البناء على العمل على البقاء ، فينافي مفاد الأصول المتضمنة للحكم بالحل أو الطهارة أو

٥٦٠