الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

فيها على صورة عدم جريانه ، نظير ما تقدم في القاعدة السابقة.

ولنقتصر من الكلام في القاعدة ـ تتمة للكلام في الاستصحاب ـ على هذا المقدار ، مع إيكال كثير مما وقع الكلام فيه بينهم من التفاصيل للمطولات.

وبذلك ينتهي الكلام في الأصول العملية. والحمد لله رب العالمين.

٥٢١
٥٢٢

المقصد الثالث

في التعارض

وهو لغة تفاعل من العرض ، الذي ورد في استعمالات كثيرة بأنحاء مختلفة ، وذكرت له في كلمات اللغويين ـ تبعا لذلك ـ معاني متعددة قد يرجع بعضها إلى بعض. ولعل الأصل لغير واحد منها هو العرض المقابل للطول ، حيث قد يرجع إليه استعماله بمعنى السعة في مثل قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(١) وقوله سبحانه : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(٢).

كما قد يرجع إليه استعماله بمعنى المنع تشبيها للمانع بما يقف للسائر في عرض الطريق ويصده عن المضي والنفوذ ، كالخشبة المعترضة في النهر المانعة من جريان الماء ، كما تضمنه حديث سراقة أنه عرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر الفرس.

قال ابن الأثير : «أي اعترض به الطريق يمنعهما من المسير». ولعله لذا سمي الإيراد على المطالب العلمية اعتراضا.

وهذا هو الأنسب بالمقام ، بلحاظ أن كلا المتعارضين يمنع من العمل بالآخر. فكأنه مانع من نفوذه وتأثيره لمقتضاه. والأمر سهل.

__________________

(١) سورة الحديد الآية : ٢١.

(٢) سورة فصلت الآية : ٥١.

٥٢٣

أما في الاصطلاح فقد اختلفوا في تعريفه. ولعل الأولى أن يقال : «التعارض هو منع كل من التعبدين أو الأكثر من حجية الآخر ومن نهوضه بالعمل ، بلحاظ إطلاق دليل التعبد به بسبب تنافي المؤديين أو الأكثر بالذات ، أو لأمر خارج».

وبقولنا : «منع ...» يظهر أن التعارض هو الأمر المسبب عن التنافي بين المؤديين ، لا نفس التنافي بينهما ـ كما تضمنه غير واحد من تعاريفه ـ لأن ذلك هو الأنسب بالمعنى اللغوي المتقدم.

وبقولنا : «كل من التعبدين ...» يظهر اختصاص التعارض المصطلح بتعارض ما يتضمن التعبد الشرعي ، دون غيره كالأخبار التاريخية والعلمية غير التعبدية وغيرها مما لا يتعلق بمقام العمل.

نعم قد يصدق التعارض فيها عرفا بلحاظ التكاذب في مقام الحكاية والكشف عن الواقع. لكنه خارج عن وظيفة الأصولي ، لعدم دخل ذلك بتشخيص الوظيفة العملية.

كما أنه يظهر بذلك عدم اختصاص التعارض المصطلح بالأدلة الاجتهادية ، بل يعمّ الأصول العملية ، لعموم جملة من أحكامه العامة لها. نعم الأخبار الواردة في التعارض مختصة بتعارض الأدلة الاجتهادية ، بل بتعارض خصوص الأخبار منها. إلا أن ذلك لا يقتضي قصر التعارض المصطلح عليه.

وبقولنا : «أو الأكثر» يظهر عموم التعارض لما يكون بين أكثر من دليلين ، كما لو ورد دليل بوجوب القصر ، وآخر بوجوب الصيام ، وثالث بالتلازم بين التقصير والإفطار وبين الإتمام والصيام. فإن العموم لذلك هو المناسب لعموم جملة من أحكام التعارض العامة له.

غاية الأمر أن بعض الأخبار الواردة في التعارض تختص بتعارض

٥٢٤

الخبرين لا أكثر ، وهو لا يقتضي قصر التعارض المصطلح عليه. ولا سيما مع قرب إلغاء خصوصية مورد النصوص المذكورة من هذه الجهة ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ثم إن التعارض بين أكثر من دليلين يختص بما إذا كان الجميع ظنيا يمكن التوقف عن العمل به بسبب التعارض ، أما إذا كان بعضها قطعيا فالتعارض يختص بالباقي ، غايته أنه يكون من التعارض لأمر خارج.

وقولنا : «بلحاظ إطلاق التعبد» يظهر أنه لا بد في التعارض في محل الكلام من تمامية موضوع الحجية والعمل بلحاظ الأدلة العامة ، لأن فرض التمانع بين المتعارضين فرع تمامية موضوع الحجية في كل منهما ، أما مع قصور موضوع الحجية في أحدهما رأسا ، أو في مورد التعارض ، فلا يكون عدم العمل به من جهة التعارض والتمانع ، بل لعدم المقتضي. ومن ثم لا تعارض بين الحجة واللاحجة إلا في مقام الحكاية والكشف عن الواقع ، الذي سبق أنه خارج عن وظيفة الأصولي.

وبقولنا : «بسبب تنافي المؤديين» يظهر أنه لا بد في صدق التعارض من تنافي المؤديين بسبب تناقض مدلولهما أو تضادهما. حيث يكون كل منهما مانعا من العمل بالآخر ، لامتناع التعبد بالمتنافيين. أما مع عدم التنافي بينهما والعلم من الخارج بعدم ثبوت أحدهما تخصيصا لعموم دليله ، فلا تعارض ، كما لو علم بتخصيص دليل الاستصحاب في أحد موردين إجمالا ، فإنه وإن لم يمكن العمل بالاستصحاب في كل من الموردين بسبب العلم المذكور ، إلا أنه لا تعارض بين الاستصحابين ، لعدم التنافي بينهما. وكذا إذا امتنع العمل بالدليلين معا بسبب العجز عن الجمع بين مفاديهما عملا من دون تناف بين مضمونيهما ، فإن اللازم حينئذ التزاحم ، لا التعارض.

٥٢٥

وبقولنا : «بالذات أو لأمر خارج» يظهر عموم التنافي في محل الكلام للوجهين معا. وتوضيح ذلك أن التنافي بين الدليلين .. تارة : يكون بلحاظ مدلولهما المطابقي ـ كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على عدمه ، أو على الاستحباب ـ أو مدلولهما الالتزامي بلحاظ ملازمة ظاهرة تكون من سنخ القرينة المحتفة بالكلام الموجبة لظهوره في اللازم ، كدليل وجوب القصر ودليل وجوب التمام ، بضميمة ما هو المعلوم من عدم وجوب صلاتين ، حيث يكون ذلك متمما لدلالة كل منهما على نفي الآخر ، ومنشأ للتنافي بينهما.

وأخرى : يكون لأمر خارج عن مدلولهما المطابقي والالتزامي ، ثبت بدليل خارجي يقتضي عدم ثبوت مدلولي الدليلين معا ، إذ يكشف ذلك عن كون ثبوت كل منهما ملازما لعدم الأخر ، فيكون دليل كل منهما حجة على نفي الآخر ، لما هو المعلوم من حجية الدليل في لازم مؤداه وإن لم يكن مدلولا التزاميا له ، فيتنافيان بلحاظ ذلك ، وإن لم يتنافيا بأنفسهما. هذا في الأدلة التي تكون حجة في لازم مؤداها.

وأما الأصول فكما إذا لزم من جريان الأصلين محذور مانع من الجمع بينهما ، كما في موارد العلم الإجمالي المنجز ، حيث يلزم من جريان الأصول الترخيصية في الأطراف المخالفة القطعية للتكليف المنجز ، وهو أمر خارج عن مفاد الأصول يقتضي التنافي بينها بالعرض.

بقي في المقام أمران :

الأول : تعرض شيخنا الأعظم قدس‌سره للكلام في قاعدة : «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» المدعى عليها الإجماع من بعضهم. وقد أطال الكلام فيها بما لا يسعنا متابعته فيه بعد إجمال المراد من القاعدة المذكورة ، وعدم الدليل عليها غير الأدلة العامة المحكمة في العمل بالأدلة.

٥٢٦

والذي ينبغي أن يقال : الجمع إن كان راجعا إلى تحكيم أحد الدليلين على الآخر وحمله عليه بالنحو الذي تقتضيه أدلة الحجية العامة ـ كما في موارد الجمع العرفي ـ فهو المتعين عملا بدليل الحجية المقتضي له ، كما يعمل به في الدليل الواحد الذي لا معارض له.

وإن لم يرجع لذلك ، بل كان متمحضا في تأويل أحدهما بما لا ينافي الآخر ـ من دون أن تنهض به أدلة الحجية ـ من أجل رفع التنافي بين الدليلين ، دفعا لتوهم صدور المتنافيين عن المعصوم. فهو مستغنى عنه في حق من يعتقد عصمته ، وإنما يحتاج له لدفع النقض على عصمته ممن لا يعتقد بها. ولا أثر له إلا محاولة الإقناع بوجه خطابي غير عملي ، دفعا لشبهته بمثلها.

لأن دليل العصمة إن لم يكن أقوى من هذه الشبهة المستندة لظهور الكلام لم يصلح التأويل الذي لا تنهض به أدلة الحجية لدفع التنافي بعد استناده لظاهر الكلام الذي هو حجة في كشف مراد المتكلم. وإن كان دليل العصمة قطعيا أقوى من الشبهة المذكورة كان مانعا من التعويل عليها علميا ، فإيرادها تهريج بخطابيات مردود بمثلها.

نعم قد ينفع التأويل في منع استحكام الشبهة في حق ضعيف البصيرة من المؤمنين. كما قد ينفع في استيضاح العمل بأحد المتعارضين إذا اقتضاه دليل الحجية ، لأن طرح الآخر للجهل أثقل على النفس من تأويله بما يلائم مقتضى الحجية. وقد تعرض لأكثر ما ذكرنا الشيخ قدس‌سره في التهذيب.

لكن اللازم حينئذ ذكر التأويل احتمالا ، تجنبا لمحذور القول بغير علم ولا حجة الذي هو من المحرمات ، ولا سيما إذا كان في كلام المعصومين «صلوات الله عليهم» الذين هم حجج الله تعالى على خلقه والناطقين عنه في بريته.

٥٢٧

وأشد من ذلك ما لو أريد بالتأويل العمل بمقتضاه ، كما قد يناسبه المقابلة بالطرح ، فإنه قول وعمل بغير علم. ومن ثم ورد عنهم عليهم‌السلام الأمر بردّ ما اشتبه أمره إليهم ، والنهي عن القول فيه بالرأي (١).

الثاني : سبق في تعقيب بعض فقرات تعريف التعارض أن التعارض لا يتحقق إلا مع تمامية موضوع الحجية بحسب الأدلة العامة في كل من المتعارضين حتى في ظرف اجتماعهما ، وأنه لا بد فيه من التنافي بين المؤديين.

ويترتب على الأول عدم التعارض في موارد الجمع العرفي ، حيث يكون الأظهر قرينة عرفا على صرف الظاهر عن ما هو ظاهر فيه ، بحيث يخرج بسببه عن موضوع حجية الظهور. كما يترتب على الثاني عدم تحققه في موارد التخصص والورود والحكومة البيانية التفسيرية ، لعدم التنافي بين دليل ثبوت الحكم لموضوعه والدليل الشارح لذلك الدليل أو لموضوعه والمنقح لصغرياته.

ومن ثم كان البحث في الأمرين خارجا عن التعارض الذي هو محل الكلام. إلا أن أهمية البحث فيهما ، وارتباطه بمحل الكلام ، ملزم بتعميم البحث بنحو يشملهما ، بأن يكون موضوع البحث الأدلة التي يكون لبعضها أثر في العمل بالآخر.

وعلى ذلك يكون البحث في بابين ، يبحث في الباب الأول عن الأدلة التي يكون بعضها دخيلا في العمل بالآخر من دون تمانع بينهما في الحجية ، ويبحث في الباب الثاني عن الأدلة المتعارضة التي يكون بعضها مانعا من حجية الآخر.

كما أن المناسب إلحاق البحث في المقام بخاتمة يبحث فيها عن حقيقة

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١ ، ٢١ ، ٣٧. وغيرها.

٥٢٨

التزاحم بين الحكمين ، والفرق بينه وبين التعارض ، وعن الوظيفة معه من حيثية التخيير والترجيح ، لأن خروج ذلك عن محل الكلام ، وعدم وضوح الجامع بينهما مانع من جعله من مقاصد البحث. كما أن أهميته وشدة مناسبته للمقام ملزم بالتعرض له وإلحاقه به تتميما للفائدة.

ومنه سبحانه نستمد العون والتسديد.

٥٢٩

الباب الأول

في الأدلة التي يكون لبعضها

دخل في العمل بالآخر بلا تمانع في الحجية

وقد أشرنا إلى أن ذلك .. تارة : يكون مع عدم التنافي بين الدليلين وأخرى : يكون مع التنافي بينهما ، إلا أن موضوع الحجية يرتفع في أحدهما بسبب الآخر.

وتوضيح ذلك : أن ترتب العمل على الدليل اللفظي ـ الذي هو حجة في نفسه ـ موقوف على أمور لا يتكفل هو بها ، بل تحرز من جهات أخر ، كإحراز موضوع الحكم الذي تكفله ، وتشخيص ظهوره ، وإحراز إرادة الظهور ، وصدور الكلام لبيان المراد الجدي.

فإن كان الدليل الآخر الدخيل في العمل به غير متعرض لمضمونه ، بل كان متكفلا ببعض هذه الجهات ومتعرضا لها نفيا أو إثباتا لم يكن منافيا له في المؤدى ، ودخل في القسم الأول.

أما لو تعرض لمضمونه ، فإن وافقه كان مؤكدا له ، وخرج عن محل الكلام. وإن كان منافيا له ، فإن كان وروده موجبا لارتفاع موضوع الحجية في الدليل الأول كان من القسم الثاني. وإلا خرج عن القسمين ، ودخل في التعارض الذي يأتي الكلام فيه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.

كما أن المناسب البحث في هذا الباب ـ بعد النظر في القسمين المذكورين ـ عن مراتب الأدلة والوظائف الظاهرية التي سبق الكلام فيها من

٥٣٠

الطرق والأصول بأقسامها ، والوجه في تقديم بعضها على بعض على ضوء الكلام في هذين القسمين.

ومن ثم يكون البحث في هذا الباب في ضمن فصول ثلاثة.

الفصل الأول

فيما إذا لم يكن الدليلان متنافيين

حيث سبق أن موضوع الكلام هنا ما إذا لم يكن الدليل متعرضا للحكم الذي تضمنه الدليل الآخر ، بل لأمور خارجة عن مضمونه دخيلة في ترتب العمل عليه ، فالدليل المذكور .. تارة : ينقح موضوع الحكم وأخرى : يتعرض لبقية الجهات المتقدمة. وقد خص الأول في مصطلحهم بالورود ، والثاني بالحكومة. فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في الورود

من الظاهر أن كلا من ثبوت الحكم في مورد لصدق عنوان موضوعه فيه ، وقصوره عنه تخصصا لعدم صدق عنوانه فيه ، أمر خارج عن مفاد دليل جعل الحكم على الموضوع. وحينئذ قد يكون ذلك تابعا ثبوتا وإثباتا للأسباب التكوينية التي لا دخل للشارع بها. كشمول عموم وجوب العالم لزيد المعلوم كونه عالما ، وقصوره عن عمرو المعلوم كونه جاهلا. وقد يكون تابعا للشارع ثبوتا أو إثباتا أو من الجهتين معا.

وتوضيح ذلك : أن الموضوع قد يكون أمرا جعليا تناله يد التشريع. وحينئذ إذا كان الدليل أو التعبد بنفسه ـ لا بلحاظ مضمونه ـ محققا لموضوع الحكم أو لنفيه ثبوتا في مورد كان بنفسه سببا في ثبوت الحكم أو نفيه في ذلك المورد ، كما في الأحكام التي يؤخذ في موضوعاتها قيام الحجة ، كجواز القضاء

٥٣١

والفتوى ، وكما في الأصول العقلية التي يكون موضوعها عدم الحجة والبيان ، كالبراءة والاشتغال ، حيث يكون قيام الحجة والدليل محققا لموضوع الأولى ، ورافعا لموضوع الثانية واقعا.

كما أن الدليل أو التعبد الشرعي قد يتكفل بإحراز تحقق الموضوع أو عدمه في مورد ، فيكون منشأ لإحراز حصول الحكم فيه أو عدم حصوله فيه إثباتا ، سواء كان الموضوع جعليا ، كالملكية والطهارة ، أم تكوينيا ، كالبلوغ والعدالة.

وذلك كإحراز الملكية أو الطهارة أو البلوغ أو العدالة أو عدمها بالبينة أو اليد أو الاستصحاب أو أصالة الطهارة ، بالإضافة إلى أحكام هذه الأمور ، كوجوب الحج على من ملك الزاد والراحلة ، وجواز الوضوء بالماء الطاهر ، ونفوذ تصرف البالغ ، وجواز الائتمام بالعادل. وكذا الحال فيما دل على سببية الأسباب كبرويا ، كأدلة حصول الملكية بالميراث أو الحيازة ، وحصول الطهارة أو ارتفاعها بالأسباب الشرعية ... إلى غير ذلك.

وهذا النحو من النسبة بين الدليلين هو المصطلح عليه بالورود ، حيث يكون الدليل المتعرض للموضوع هو الوارد على دليل الحكم ، ودليل الحكم مورودا له.

إلا أن المتيقن من مصطلحهم المذكور هو الصورة الأولى ، التي يكون فيها الدليل المتعرض للموضوع محققا له أو رافعا له ثبوتا ، دون الصورة الثانية التي يكون فيها متعرضا لإحرازه إثباتا.

بل مقتضى جعله في مساق التخصص ، والتمثيل له بقيام الحجة بالإضافة إلى دليل البراءة والاشتغال الاقتصار فيه على ما إذا كان الدليل رافعا لموضوع الحكم ، دون ما إذا كان محققا له. إلا أن اشتراكهما في سنخ التصرف في موضوع

٥٣٢

الحكم يناسب تعميم هذا المصطلح لهما معا.

بل المناسب تعميمه للصورة الثانية ، لأنها تبتني أيضا على نحو من التصرف في الموضوع ، ودليل الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه ثبوتا ، كذلك لا يقتضي إحرازه إثباتا.

وهو أولى من إلحاقها بالحكومة ـ كما هو ظاهر أو صريح بعضهم ـ لأن التعبد بالموضوع وإن كان مستلزما عرفا للتعبد بحكمه ، إلا أنه لا يبتني على النظر للحكم ، ولا لدليله ، الذي يأتي أنه المعيار في الحكومة.

وعلى ذلك فالورود عبارة عن «كون أحد الدليلين رافعا لموضوع حكم الآخر ، أو محققا له ثبوتا ، أو محرزا لأحد الأمرين إثباتا». ولنخص الثاني باسم الورود الظاهري ، فرقا بينه وبين الأول الذي هو المتيقن في الجملة من مصطلحهم. وإن كان الأمر غير مهم ، حيث لا مشاحة في الاصطلاح.

وإنما المهم في المقام هو عدم الإشكال في لزوم العمل بالدليل أو التعبد الوارد بالمعنى المتقدم مطلقا. عملا بإطلاق دليله ، بعد عدم منافاته لدليل الحكم المورود ، لعدم تعرض دليل الحكم للموضوع ثبوتا ولا إثباتا. والتعبير بالورود ليس بلحاظ تغليب الدليل الوارد وترجيحه ، ولا بلحاظ تحكيمه فيه ، بل بلحاظ مجرد تحكيمه في حكم الدليل المورود وفي العمل به.

ثم إنه قد يكون الحكمان متواردين ، بأن يكون كل منهما مقيدا بقيد يرفعه الآخر ، كما لو تعلق النذر ونهي الأم بشيء واحد ، حيث يعتبر في انعقاد النذر رجحان المنذور ، ونهي الأم عن الشيء مانع من رجحانه ، كما يعتبر في مرجوحية معصية الأم أن لا تكون طاعتها معصية شرعا ، ونفوذ النذر يجعل طاعتها في مخالفته معصية شرعا.

والظاهر أنه مع تقارن حدوث عنوانيهما زمانا يتعين سقوطهما معا عن

٥٣٣

الفعلية ، لمانعية كل منهما من تمامية موضوع الآخر في المرتبة اللاحقة لتحقق العنوانين ، ومع عدم تمامية الموضوع يتعين عدم فعلية الحكم.

أما مع سبق أحدهما فيكون فعليا ، لتمامية موضوعه ـ بعد فرض عدم تحقق الآخر ـ فيمنع من تمامية موضوع اللاحق ، ومن فعلية حكمه.

المقام الثاني : في الحكومة

وقد سبق أن موضوعها ما إذا كان أحد الدليلين متعرضا لبعض الجهات التي يترتب عليها العمل بالدليل الثاني مما لا يتكفل به الدليل نفسه عدا تنقيح الموضوع ، كتعيين معاني المفردات ، وظهور الكلام ـ ومنه التنبيه لبعض القرائن المحيطة به الموجبة لتبدل ظهوره ـ وشرح مراد المتكلم منه ، أو التعرض لجهة صدوره ـ كالتقية ـ وغير ذلك.

كحديث علي بن أبي المغيرة : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال : لا. قلت : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بشاة ميتة ، فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها [بجلدها]؟! قال :

تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها ، فتركوها حتى ماتت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها. أي تذكى» (١).

وصحيح عبيد بن زرارة عنه عليه‌السلام : «سألته عن رجل لم يدر ركعتين صلى أم ثلاثا؟ قال : يعيد. قلت : أليس يقال : لا يعيد الصلاة فقيه؟ فقال : إنما ذلك في الثلاث والأربع» (٢).

وموثقة عنه عليه‌السلام : «قال : ما سمعته مني يشبه قول الناس فيه التقية ، وما

__________________

(١) الوسائل ج : ٢ باب : ٦١ من أبواب النجاسات حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج : ٥ باب : ٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٣.

٥٣٤

سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه» (١) وغيرها.

ومن الظاهر أن هذا النوع من الأدلة ناظر للدليل الآخر ، إما تفصيلا كحديث علي بن المغيرة وصحيح عبيد ، أو إجمالا كموثق عبيد. ومثله ما يتضمن شرح بيان معاني المفردات ـ كمرسل ابن رباط الوارد في تفسير المني والوذي والمذي والودي (٢) ـ لرجوعه إلى بيان ما هي ظاهرة فيه في جميع موارد استعمالها ، بما في ذلك أدلة أحكامها الشرعية.

ولا ينبغي التأمل في العمل بالدليل الناظر للدليل الآخر ، المتعرض لبعض تلك الجهات فيه ، وتحكيمه عليه ، لتقدمه عليه رتبة بعد كونه متعرضا للجهات التي تتم بها دليليته ، من دون أن ينافيه ، لعدم تعرضه لمضمونه ، فضلا عن أن ينافيه فيه.

كما لا إشكال في أن هذا من موارد الحكومة المصطلحة ، فالدليل الناظر لدليل الحكم هو الحاكم ، ودليل الحكم المنظور له هو المحكوم.

وإنما الإشكال في اختصاص الحكومة بذلك أو يعم قسما آخر ، وهو ما لا يكون فيه ناظرا للدليل المحكوم بل لحكمه. وذلك كالأدلة المتضمنة للتنزيل صريحا ، كخبر النيسابوري : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : القدح من النبيذ والقدح من الخمر سواء؟ قال : نعم سواء ...» (٣).

أو بلسان توسيع الموضوع ، كقوله عليه‌السلام : «وكل مسكر خمر» (٤) وقوله عليه‌السلام : «فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» (٥) والنبوي : «الطواف بالبيت

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٦.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ١٢ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ٦.

(٣) الوسائل ج : ١٧ باب : ٢٤ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٤.

(٤) الوسائل ج : ١٧ باب : ١٥ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٥.

(٥) الوسائل ج : ١٧ باب : ١٩ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ١.

٥٣٥

صلاة» (١) ونحوها ، أو تضييقه ، كقوله عليه‌السلام : «ولا سهو في نافلة» (٢) وقولهم عليهم‌السلام : «لا رضاع بعد فطام» (٣) وغيرهما.

لوضوح ابتناء التنزيل على ملاحظة أحكام المنزل عليه. وكذلك توسيع العنوان بحمله على غير أفراده ، وتضييقه بسلبه عن بعض أفراده حيث لا مصحح لهما إلا النظر لأحكامه ، وبيان ثبوتها في موضع الحمل ، وانتفائها في موضع السلب.

وكذا أدلة الرفع الثانوية مع الأحكام الأولية ، كأدلة رفع الحرج والضرر والإكراه والاضطرار ونحوها. لظهور ابتناء الرفع على النظر للأحكام الأولية التي من شأنها الثبوت ـ تبعا لثبوت مقتضيها ـ لو لا طروء الرافع.

لكن لا نظر في هذه الأدلة لأدلة تلك الأحكام ، ولا لشرح المراد منها ، لعدم تعرضها لها ، ولا للجهات التي تبتني عليها دليليتها.

غاية الأمر أن ما تضمن قصور الحكم عن بعض الأفراد أو الأحوال ـ بلسان نفي الموضوع أو بلسان الرفع للعنوان الثانوي أو غيرهما ـ مستلزم لعدم إرادة عموم الحكم من أدلته بعد فرض عصمة المتكلم وعدم النسخ. وهذا جار في جميع موارد التنافي البدوي بين الدليلين ، من دون أن يقتضي نظر أحدهما للآخر.

إذا عرفت هذا فقد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ الذي اشتهر أنه الأصل في مصطلح الحكومة ـ اختصاصها بالقسم الأول. بل

__________________

(١) حكي عن سنن البيهقي ج : ٥ ص : ٨٧ وعن كنز العمال ج : ٣ ص : ١٠ رقم : ٢٠٦. وذكره في الخلاف والمسالك مرسلا في مسألة مس المحدث للقرآن.

(٢) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٤ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٨.

(٣) راجع الوسائل ج : ١٤ باب : ٥ من أبواب ما يحرم بالرضاع.

٥٣٦

بخصوص قسم منه ، وهو ما كان مسوقا لشرح المراد من الدليل المحكوم ، حيث قال في مبحث التعارض : «وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبينا لمقدار مدلوله ، ومسوقا لبيان حاله ، متفرعا عليه». وقريب منه في ذلك كلامه الآتي.

إلا أن ذلك لا يناسب تمثيله بأدلة أحكام الشكوك بالإضافة لما دل على أنه لا حكم للشك في النافلة ، أو مع حفظ الإمام ، أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل. وتعرضه لنظير ذلك في تقريب حكومة أدلة نفي الضرر والحرج على أدلة الأحكام الأولية ، وغير ذلك مما تطفح به كلماته.

بل يتعين لأجل ذلك عمومها للقسم الثاني ، كما هو الظاهر من جميع من تأخر عنه ، بل صريح بعضهم. ولعله لذا حكي عن بعض محشي الرسائل أن شيخنا الأعظم قدس‌سره ضرب في الدورة الأخيرة على العبارة الدالة على إرادة خصوص القسم الأول.

نعم لا مجال لتوجيه تقديم الدليل الحاكم في هذا القسم بما سبق في وجه تقديمه في القسم الأول من تقدمه عليه رتبة ، لتعرضه للجهات التي تتم بها دليليته ، من دون تناف بينهما. بل لا بد فيه من وجه آخر.

وحينئذ لا ينبغي التأمل في العمل بالدليل الحاكم في هذا القسم إذا لم يناف الدليل المحكوم ، لإطلاق دليل حجيته بلا مانع ، كما هو الحال في موارد التنزيل المقتضي لتعميم حكم الدليل المحكوم لغير مورده ، سواء كان صريحا ، أم كان بلسان توسيع الموضوع. لأن دليل ثبوت الحكم لعنوان لا ينافي ثبوته في غير مورده.

وإنما الكلام في وجه التقديم مع التنافي بينهما ، كما إذا كان مقتضى

٥٣٧

الدليل المحكوم عموم الحكم ، وكان مقتضى الدليل الحاكم قصوره عن بعض الأفراد أو الأحوال ، لتضمنه رفع الحكم بلسان رفع الموضوع ، أو رفعه للعنوان الثانوي ، أو نحوهما. فهو نحو من التخصيص أو التقييد.

وقد حاول غير واحد توجيه تقديم الدليل الحاكم في المقام بأن الحكم الذي تضمنه وإن كان منافيا لإطلاق دليل المحكوم ، إلا أنه يتعين تقديمه عليه بسبب نظره إليه وسوقه لشرح المراد منه. قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «والفرق بينه وبين التخصيص : أن كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص. وهذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير».

لكنه كما ترى إنما يتجه في القسم الأول ، الذي يكون فيه الدليل الحاكم ناظرا للدليل المحكوم ، دون هذا القسم ، الذي يكون الحاكم فيه ناظرا للحكم ، دون دليله ، حيث لا يكون حينئذ مسوقا لتفسير الدليل المذكور ، ليتعين تقديمه عليه طبعا ، كما ذكرناه آنفا.

ومن هنا يتعين كون المورد من موارد التنافي البدوي بين الدليلين ، الذي يتعين فيه الجمع العرفي بتقديم الأظهر على الظاهر الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثاني.

وربما يكون الوجه في تقديم الحاكم ـ مع قطع النظر عن كونه أخص مطلقا في بعض الموارد ـ : أن ظهور دليله في خصوصية عنوانه كثيرا ما يكون أقوى من ظهور المحكوم ، لوروده في الأفراد أو الأحوال المشتملة على خصوصية تناسب مضمونه ، كنفي السهو في النافلة ، المناسب لعدم أهميتها ، أو عن كثير الشك ، المناسب للزوم العسر من جريان أحكام الشك فيه ، أو لخروج الشك فيه عن الوضع الطبيعي للإنسان ، أو عن الإمام أو المأموم مع

٥٣٨

حفظ الآخر ، المناسب لوجود الأمارة المرجحة لأحد طرفي الشك ، وكرفع التكليف مع الصبا والحرج والضرر والإكراه ونحوها مما يناسب عرفا التخفيف ، وكرفع حكم الرضاع عن الرضاع بعد الفطام ، المناسب لكونه في غير محله ... إلى غير ذلك مما يكون فيه الحكم الذي تضمنه الدليل الحاكم مناسبا عرفا لخصوصية مورده ، فإن الدليل الحاكم حيث يكون منبها عرفا للمناسبة المفروضة يكون ظهوره في خصوصية مورده لحكمه أقوى من ظهور الدليل المحكوم في خصوصية عنوانه لحكمه ، وذلك يناسب تقديمه عليه.

ولو فرض ورود الألسنة المذكورة في مورد خال عن المناسبة العرفية ، بحيث يكون مقتضاه تعبديا متمحضا في نفي الحكم ، فلا يبعد فقده الخصوصية الموجبة للتقديم ، بل يكون كسائر موارد التخصيص أو التقييد ، كما لعله في مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلا بطهور» (١) وقوله عليه‌السلام : «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له» (٢). ولعله غير منظور لهم في اصطلاح الحكومة ، ويختص نظرهم لبا بالقسم السابق.

وبالجملة : تقديم الدليل الحاكم في هذا القسم عرفي يبتني على أقوائية ظهوره في مورده من الدليل المحكوم ، كما هو الحال في سائر موارد الجمع العرفي بين الأدلة المتنافية بدوا. وليس هو كتقديمه في القسم الأول مبنيا على تقدمه رتبة من دون تناف بينهما ، كما سبق. فالحكومة في القسمين مختلفة ملاكا. ومن ثم يحسن تسمية الحكومة في القسم الأول بالحكومة البيانية ، وفي القسم الثاني بالحكومة العرفية.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الوضوء حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ٤ باب : ٢ من أبواب القيام حديث : ٢.

٥٣٩

الفصل الثاني

في ارتفاع موضوع الحجية في أحد الدليلين بسبب الآخر

من الظاهر أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن في مقام بيان مراده وإن كانت على خلاف مقتضى الظهورات الأولية العامة المستندة للأوضاع أو للانصرافات الناشئة من كثرة الاستعمال أو نحوها ، فتمنع القرائن الخاصة من انعقاد ظهور الكلام على طبق الظهورات الأولية ، بل ينعقد الظهور على طبقها.

فإذا فرغ المتكلم من كلامه انعقد ظهوره في بيان مراده الجدي على ما يناسب الظهورات الأولية والقرائن الخاصة ، ويستقر الظهور المذكور ، ويكون موضوعا للحجية بطبعه ، ولا يرتفع بالعثور على المعارض له في المدلول وإن كان أقوى منه ظهورا.

هذا ولكن يظهر من بعض الأعاظم قدس‌سره في غير موضع كلامه المنع من ذلك في بيانات الشارع الأقدس ، لدعوى خروجه عن الطريقة العرفية في بيان مراده الجدي ، واتكاله فيه على القرائن المنفصلة ـ كما يظهر بملاحظة النصوص المروية عن الأئمة (صلوات الله عليهم) ـ لمصالح هو أعرف بها.

وعلى ذلك فقبل الفحص عن القرائن المنفصلة لا مجال للجزم بظهور الكلام التصديقي ، وهو الظهور في المراد الجدي ، وإن علم بظهور الكلام التصوري المستند لحاقّ الكلام ، والذي لا يكون موضوعا للحجية ، فهو نظير ظهور صدر الكلام قبل الفراغ منه.

كما أنه بالعثور على القرائن المنفصلة لا يلزم التعارض بين الظهورات التصديقية ، بل منعها عن انعقاد الظهور الأولي للكلام ، وتحكيم الظهورات

٥٤٠