الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

الشك في وجود الجزء أو الشرط الذي هو أحد جزئي موضوع قاعدة التجاوز ، لا في الشك في صحة الصلاة المأخوذ في قاعدة الفراغ ، مع أن ما تضمنه من فرض الفراغ من الصلاة هو الجزء الثاني لقاعدة الفراغ.

فلو أريد قاعدة التجاوز بخصوصيتها لكان المناسب ذكر مضي محل المشكوك. ولو أريد إعمال قاعدة الفراغ بخصوصيتها لكان المناسب فرض الشك في صحة الصلاة ... إلى غير ذلك مما يظهر منه عدم الاهتمام في النصوص بتحديد إحدى القاعدتين وتمييزها عن الأخرى ، بل النظر للجامع الارتكازي بينهما الذي سبق منا ذكره.

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في أمور ..

الأمر الأول : حيث عرفت أن موضوع القاعدة هو مضي محل الشك فهو يختلف باختلاف الموارد ، إذ مع الشك في أصل وجود العمل لا بد في مضي محل الشك من خروج وقته ، أو الدخول فيما يترتب عليه ، ومع العلم بوجوده والشك في صحته يكفي الفراغ عنه في مضي محل الشك ، كما يستفاد ذلك كله من النصوص المتقدمة وغيرها.

هذا ووضوح خروج الوقت يغني عن إطالة الكلام فيه. وإنما الكلام في الأمرين الآخرين ، وهما الدخول فيما يترتب على العمل ، والفراغ عن العمل.

أما الأول فالظاهر أن المعيار فيه الترتب الشرعي ، كالترتب بين الأذان والإقامة ، وبين الإقامة والصلاة ، وبين الركوع والسجود ، وبين الظهر والعصر ، دون الترتب العادي أو العقلي ، فلا يكفي في صدق المضي على الاستبراء الإتيان بالاستنجاء ، بلحاظ تقديم الاستبراء على الاستنجاء عادة ، كما لا يصدق مضي السجود بالشروع في النهوض للقيام للركعة اللاحقة ، بلحاظ عدم كون النهوض المذكور عقلا مقدمة للقيام الصلاتي إلا بعد تحقق السجود ، إذ بدونه

٥٠١

يكون مقدمة لقيام غير صلاتي ولا مشروع.

والوجه في ذلك : أن كون الشيء محلا لشيء ليس تابعا لعلاقة حقيقية بينهما لا تقبل الاختلاف والتبديل ، بل هو أمر إضافي يختلف وجودا وعدما باختلاف جهة الإضافة من اعتبار شرعي أو عرفي أو عادة أو عقل أو غيرها ، فلا بد من ملاحظة خصوص جهة تصلح لانتزاع النسبة المذكورة. والمناسب للشارع إرادة ما يتعلق به ويرجع إليه ، وهو خصوص المحل الشرعي.

ودعوى : أن مقتضى الإطلاق الاكتفاء بكل جهة صالحة لانتزاع عنوان المحل شرعية كانت أو غيرها. مدفوعة بأن الإطلاق إنما ينهض بإلغاء القيود الزائدة على المفهوم ، وخصوصيات الجهات المختلفة في المقام ليست قيودا للمضي ، بل هي معيار في صدقه ومصححة لانتزاعه ، والإطلاق لا يتكفل بذلك ، بل المتكفل به هو الإطلاق المقامي ، وهو يقتضي الحمل على المحل الشرعي مع وجوده ، كما في المقام.

وقد تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات مبحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى ما ينفع هنا. فراجع.

نعم قد يستدل على إرادة المحل العادي بقوله عليه‌السلام في حديث بكير المتقدم : «وهو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» وبصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنه قال : إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» (١) فإن التعليل بالأذكرية والأقربية للحق يناسب إرادة المحل العادي ، لأن الإنسان لمقتضى عادته أذكر وأقرب منه لما يخالفها.

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٣.

٥٠٢

ويندفع بأنه لا ظهور لهما في التعليل بالعلة المنحصرة الصالحة لتحديد الموضوع ، والتي يدور الحكم مدارها وجودا وعدما ، لعدم اقترانهما بأداة التعليل ، بل في مجرد التنبيه لما يوجب الاقتناع بالحكم ، فهو أشبه بالحكمة.

كيف؟! ولو استظهر منهما التعليل الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما لزم التعدي لكل مورد يكون

المكلف فيه أذكر وأقرب للحق وإن لم يكن الشك في صحة المركب وأجزائه ، بل في أصل الإتيان بالعمل أو غيره ، لعدم خصوصية المورد في ذلك ارتكازا ، ولا يظن بأحد الالتزام بذلك ، لرجوعه إلى حجية كل ظن.

بل لزم قصور القاعدة عن غير مورد العادة فمن لم يتعود الأذان أو الإقامة لو شك في الإتيان بهما بعد الدخول في الصلاة لا يبني على الإتيان بهما ، لعدم تحقق الأذكرية. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من كون المعيار مضي المحل الشرعي ، للدخول فيما يترتب شرعا على الأمر المشكوك.

نعم في صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع. قال : قد ركع» (١). وقد يستظهر منه الاكتفاء في المضي بالدخول في مقدمات ما يترتب شرعا على المشكوك.

لكنه معارض بصحيحه الآخر : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل رفع رأسه عن السجود ، فشك قبل أن يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال : يسجد. قلت : فرجل نهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال : يسجد» (٢). وهو نص في عدم الاكتفاء بحال النهوض

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج : ٤ باب : ١٥ من أبواب السجود حديث : ٦.

٥٠٣

قبل الوصول لحدّ القيام.

فأما أن يجمع بينهما بحمل الهوي للسجود في الصحيح الأول على الوصول لحدّ السجود ، أو يقتصر فيه على مورده ، ويرجع في غيره للقاعدة التي عرفتها والتي يطابقها الصحيح الآخر.

وأما الثاني وهو الفراغ عن العمل ، فالمعيار فيه ليس على الفراغ الحقيقي عن العمل المشروع المطلوب من المكلف ، إذ لا يجتمع إحرازه مع الشك في تمامية العمل ، ولا على الفراغ البنائي الاعتقادي ، لمخالفته لظاهر إطلاق الفراغ والمضي من دون قرينة ، بل ظاهر صحيح محمد بن مسلم المتقدم قريبا كونه أمرا زائدا على الفراغ.

بل الظاهر أن المعيار فيه على الفراغ الحقيقي عن العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من تطهير أو وضوء أو غسل أو صلاة أو بيع أو غيرها ، لأن العمل المذكور هو الذي يكون موضوعا للشك في الصحة والتمامية ، وإليه أسند المضي ونحوه في النصوص ، فيلزم صدقه بالإضافة إليه حقيقة بالمعنى المقابل للانشغال به ولقطعه ، فإن من يشرع في العمل لا يخرج عن أحد وجوه ثلاثة : الانشغال به ، وقطعه معرضا عنه ، والفراغ عنه منصرفا عنه ، وموضوع القاعدة هو الأخير المقابل للأولين.

فليس التسامح إلا في إطلاق العنوان على العمل المأتي به بقصده بناء على الصحيح ، وهو تسامح شايع ، أما بناء على الأعم فلا تسامح حتى في ذلك ، بل يكون الإطلاق حقيقيا مع احتمال النقص ، بل مع العلم به. وقد شاع في النصوص وغيرها فرض تحقق العمل من المكلف مع العلم ببطلانه أو الشك فيه.

نعم احتمال النقص لا يجتمع مع إحراز الفراغ عن العمل المشروع. وهو

٥٠٤

غير مهمّ ، لعدم اتصافه بالصحة والفساد ، بل بالوجود والعدم ، فيخرج عن محل الكلام وعن مورد النصوص.

ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا شك في الإتيان بالجزء الأخير فيما يعتبر فيه الترتيب ، وببعض الأجزاء فيما لا ترتيب فيه ، ولم يمكن إحرازه بالدخول فيما يترتب على العمل بتمامه ، سواء تحقق المنافي المانع من تتميم العمل أم لا. حيث يكون المدار في جريان القاعدة فيه على إحراز الفراغ بالمعنى المتقدم ، بأن يحرز الانشغال بالعمل بعنوانه الخاص ، ثم إنهاؤه والفراغ منه بذلك العنوان ، وإن احتمل نقصه عن بعض ما يجب فيه ، أما إذا لم يحرز ذلك فلا تجري القاعدة ، لعدم إحراز موضوعها.

وذلك فيما تعتبر فيه الموالاة إنما يكون لاحتمال الإعراض عن العمل بعد الشروع فيه ، وفيما لا تعتبر فيه ـ كالغسل ـ قد يكون لذلك ، بأن يعلم المكلف من نفسه أنه قصد الإتيان بمجموع العمل مواليا ، وقد يكون لعدم القصد من أول الأمر لمجموع العمل ، بل قصد بعضه عازما على إكماله بعد ذلك بقصد استقلالي آخر ، ثم احتمل الغفلة عن الإكمال ، إذ لا يحرز حينئذ الانشغال بتمام العمل بل ببعضه ، فلا يحرز الفراغ إلا عن البعض المذكور ، ويحتمل الشروع في غيره والأصل عدمه.

نعم لو علم بالفراغ عن كل الأجزاء ـ ولو مع القصد إليها متفرقا ـ صدق الفراغ عن المجموع وإن احتمل الإخلال ببعض ما قصده وانشغل به من الأجزاء ، كما لو علم بأنه قد اغتسل مفرقا للأعضاء وأكمل غسله ذلك ، ثم احتمل إخلاله ببعض عضو عند إرادة غسله.

وهذا هو المعيار في الأمور غير الارتباطية ـ كالتطهير من الخبث ووفاء الدين ـ لو شك في تحقق بعض أجزائها ، فإنه إن كان مع إحراز الفراغ عن

٥٠٥

الكل ـ إما للقصد للمجموع ابتداء ، أو للقصد للأجزاء بنحو التعاقب مع احتمال الإخلال ببعض ما قصد ـ جرت القاعدة ، وإلا لم تجر ، كما لو علم بقصده للكل واحتمل إعراضه عن الإكمال ، أو علم بعدم القصد من أول الأمر للكل ، بل للأجزاء بنحو التفريق واحتمل الغفلة عن بعضها.

الأمر الثاني : الظاهر عموم القاعدة بلحاظ جميع الأبواب من العبادات والمعاملات وغيرها ، بنحو يكون الخروج عنه في بعضها محتاجا للدليل.

وهو المصرح به في كلام غير واحد ممن ادعى تعدد القاعدة أيضا ، فحكموا بعموم قاعدتي التجاوز والفراغ معا.

لكن ادعى بعض الأعاظم قدس‌سره اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة. وكأنه لاختصاص مورد صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر المتقدمين بها ، بلحاظ الأمثلة المذكورة في صدرهما ، لسوقها للتمهيد والتوطئة للقاعدة.

ويندفع : بأن المورد لا يخصص الوارد ، خصوصا إذا كان العموم ارتكازيا ، كما في المقام. بل لا ينبغي التأمل في ذلك بالنظر للتعليل بالحائل في صحيح زرارة المروي عن مستطرفات السرائر ، وصحيح زرارة والفضيل الوارد في الشك في الصلاة بعد خروج الوقت.

نعم لا إشكال في عدم جريانها في الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ عنه. بل قيل بإلحاق غيره من الطهارات به. وإن كان الظاهر خلوه عن الدليل. والبحث في ذلك بمسائل الفقه أنسب.

هذا ، وقد وقع الكلام في عموم القاعدة من بعض الجهات الأخر غير ما سبق ، ولا مجال لاستقصائها.

ولنقتصر منها على جهتين :

٥٠٦

الأولى : العموم من حيثية الالتفات حين العمل لمنشا الشك وعدمه ، وأنه هل تجري القاعدة فيما لو علم المكلف من نفسه الغفلة حين العمل عن منشأ الشك المتجدد بعد العمل ـ كما لو توضأ غفلة عن وجود الحاجب ، ثم احتمل صحة وضوئه لتأخر طروء الحاجب عن الوضوء ، أو لعدم مانعيته من وصول الماء لما تحته ، أو صلى إلى جهة غفلة ثم احتمل صحة صلاته لمصادفتها القبلة ـ أو لا ، بل لا بد في جريانها من احتماله الالتفات حين العمل لمنشا الشك؟

وقد أصرّ بعض مشايخنا قدس‌سره على الثاني ، ونسبه إلى جماعة. والظاهر أنه إليه يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من عدم جريان القاعدة مع حفظ صورة العمل ، كما يقضي به التأمل في دليله.

وقد يستدل على ذلك بأن مبنى القاعدة ارتكازا على ملاحظة ظهور حال العامل في مطابقة عمله لموضوع الأثر المطلوب ، بالمحافظة على جميع الخصوصيات الدخيلة في ترتب الأثر. وذلك يختص بما إذا لم يعلم بغفلته عن جهة الشك ، حيث يكون حصول الخصوصية المطلوبة على تقديره اتفاقيا لا يقتضيه ظهور حال العامل. مضافا إلى التعليل بأنه أذكر ، وبأنه أقرب إلى الحق ، في حديثي بكير ومحمد بن مسلم المتقدمين في التنبيه الأول ، فإنه لا مجال له في فرض الغفلة عن منشأ الشك.

لكنه يندفع بأنه ليس في النصوص العامة ـ على كثرتها ـ إشارة لابتناء القاعدة على الارتكاز المذكور. بل مجرد عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله ، الذي هو أمر ارتكازي أيضا ، قد يبتني على مصلحة التسهيل وحفظ النظام ، لعدم تيسر حفظ ما مضى وضبط حاله.

وأما التعليل في حديثي بكير ومحمد بن مسلم فقد تقدم ـ عند الكلام في

٥٠٧

معيار مضي المحل ـ المنع من ظهوره في التعليل بالعلة المنحصرة التي يدور الحكم مدارها وجودا وعدما ، بل عدم إمكان الالتزام بذلك. فلا مجال للخروج به عن إطلاق النصوص العامة المتقدم.

مضافا إلى صحيح الحسين بن أبي العلاء : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال : حوّله من مكانه. وقال في الوضوء : تديره ، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» (١) لظهوره في إهمال احتمال عدم وصول الماء لما تحت الخاتم ، والمضي على الوضوء إذا ذكر بعد الفراغ منه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا قدس‌سره من أنه وارد لبيان عدم شرطية تحويل الخاتم وإدارته في الوضوء والغسل ، ودفع توهم بطلانهما بتركهما ولو مع وصول الماء لما تحت الخاتم ، لا بلحاظ احتمال وصول الماء لما تحت الخاتم ، لينفع فيما نحن فيه.

فهو بعيد جدا ، لعدم المنشأ الارتكازي للاحتمال المذكور ، بخلاف وجوب التحويل أو الإدارة طريقيا عند الشك في وصول الماء لإحراز وصوله ، فإنه أمر ارتكازي ينصرف إليه الإطلاق ، وقد تضمنته بعض النصوص (٢).

على أن حمل صحيح الحسين على ذلك يقتضي البناء على شرطية التحويل أو الإدارة بنحو يبطل الغسل والوضوء بتركهما عمدا ، غاية الأمر أنه يعفى عن تركهما نسيانا. ولا يظن بأحد البناء على ذلك. وذلك يناسب حمله على ما ذكرنا. ومن ثم يتعين البناء على عموم القاعدة من هذه الجهة.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٤١ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ٤١ من أبواب الوضوء حديث : ١.

٥٠٨

الثانية : العموم للشروط. فإنه يظهر من كشف اللثام اختصاصها بالأجزاء ، وعدم جريانها في الشروط. ورتب على ذلك وجوب إعادة الطواف لو شك بعد الفراغ منه في الطهارة حينه إذا كان متيقن الحدث سابقا. ويحتمله ما في المدارك ، حيث وافقه في الفرع المذكور.

لكن الظاهر جريان القاعدة في الشروط ، لصدق المضي مع الشك فيها بلحاظ نفس الشرط ، لمضي محله بمضي المشروط والفراغ منه ، وبلحاظ المشروط ، لصدق مضيه بالفراغ عنه. مضافا إلى خصوص صحيح محمد بن مسلم : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال : يمضي على صلاته ولا يعيد» (١) وقد يستفاد من غيره.

نعم لا مجال لجريانه في خصوص بعض الشروط مما كان مقوّما للمشروط غير زائد عليه عرفا ، كالموالاة بين أجزاء الكلمة الواحدة ، وكالنية الراجعة لقصد نوع الفعل ، كنية كون الانحناء ركوعا أو سجودا ، ونية كون الصلاة ظهرا أو عصرا ، ونية كون المال المدفوع زكاة أو هدية.

إذ مع الشك في ذلك لا يحرز مضي العمل ذي العنوان الخاص والفراغ عنه ، ولا مضي محل الشرط ، لأن مضيه إنما يكون بمضي المشروط ، كما سبق. بل لا بد في عدم الاعتناء بالشك المذكور من انطباق القاعدة على المشروط بنفسه لو مضى محله بخروج وقته ، أو بالدخول فيما يترتب عليه.

فمن شك في أن انحناءه كان بقصد الركوع أو لتناول شيء من الأرض لا مجال لإحرازه القصد للركوع بعد الانتصاب من الانحناء والفراغ عنه ، بل لا بد في إحرازه الركوع من مضي محله بالدخول في السجود المترتب عليه. ومن شك في أنه قد قصد بصلاته العصر لا مجال لإحرازه ذلك بالفراغ عنها ، بل لا بد

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٥.

٥٠٩

من خروج وقتها حين الشك المذكور.

كما أن جريان القاعدة في الشرط لا يقتضي إحرازه مطلقا ومن جميع الجهات ، بنحو يترتب عليه جميع آثاره ، بل بنحو يترتب عليه خصوص الآثار التي يصدق المضي بالإضافة إليها ، كصحة العمل السابق ، لأن ذلك هو المنصرف من إطلاق أدلة القاعدة.

وعلى ذلك لو شك في الشرط في أثناء العمل فالقاعدة وإن كانت بإحراز الشرط بالإضافة إلى الأجزاء الماضية وإحراز صحتها ، إلا أنها لا تصحح الاستمرار فيه ، فضلا عن الدخول في عمل آخر مشروط بذلك الشرط. فلاحظ.

الأمر الثالث : اقتصر في أكثر النصوص العامة والخاصة على عدم الاعتناء بالشك الذي مضى محله ، وهو بنفسه لا يقتضي كون مفادها أصلا تعبديا يقتضي التعبد بالتمامية والإتيان بالمشكوك ، نظير التعبد بالطهارة والحل في مورد قاعدتي الطهارة والحل ، فضلا عن أن يكون أصلا إحرازيا يقتضي التعبد بالتمامية والإتيان بالمشكوك تبعا لوجود المحرز لها ، نظير التعبد بالحالة السابقة في الاستصحاب ، تبعا لليقين السابق بها. بل هو أصل عملي محض ، نظير أصل البراءة المتمحض في عدم الاعتناء باحتمال التكليف.

نعم قد يستفاد كونه أصلا تعبديا من بعض النصوص الخاصة المتضمنة للتعبد بالركوع عند مضي محل الشك فيه ، كصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله المتقدم عند الكلام في معيار مضي المحل ، وصحيح حماد : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا. فقال : قد ركعت ، امضه» (١) وغيرهما.

بل قد يستفاد من قوله عليه‌السلام في صحيح زرارة المتقدم عن مستطرفات

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٢.

٥١٠

السرائر : «فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلا بيقين» أن الحائل من سنخ المحرز لوجود المشكوك ، فيكون أصلا إحرازيا كالاستصحاب ، لا تعبديا محضا كقاعدتي الحل والطهارة.

أما لو تم ابتناء القاعدة على ظهور حال العامل في تمامية عمله ـ كما يناسبه التعليل بالأذكرية والأقربية للحق في بعض النصوص ـ فتكون من الأمارات. لكن عرفت في الأمر السابق المنع من ذلك ، ومن تحكيم التعليل المذكور. فلا مخرج عن ما ذكرنا.

وكيف كان فلا ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب ، سواء كانت أصلا ـ عمليا أو تعبديا أو إحرازيا ـ أم أمارة. لأن المتيقن من مورد نصوصها جريانها في مورد جريان الاستصحاب المخالف ، كاستصحاب عدم تحقق العمل ، أو عدم تحقق جزئه أو شرطه ، حيث تكون نصا في تقديمها عليه.

بل لو فرض تقديم الاستصحاب عليها لم يبق لها مورد إلا مع موافقة الاستصحاب لها ، كما لو شك في صحة العمل للشك في تحقق شرطه ـ كالطهارة ـ وكان مقتضى الاستصحاب تحققه ، ومع عدم جريان الاستصحاب لتعاقب الحالتين. وهو في معنى إلغائها عرفا ، لقلة المورد الأخير جدا ، وإغناء الاستصحاب الموافق لها في الأول عنها.

٥١١

الفصل الثالث

في قاعدة الصحة

وهي من القواعد المشهورة المعول عليها. ومرجعها إلى عدم الاعتناء باحتمال الفساد في عمل الغير ، بل يبني على صحته وترتب الأثر المطلوب عليه.

وقد تعرض شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره للاستدلال عليها ببعض الآيات والنصوص الآمرة بالقول الحسن في الناس ، وحسن الظن بهم ، وحمل فعل المؤمن على الأحسن ، وعدم اتهامه ، ونحو ذلك.

لكنه ـ مع اختصاصه بالمؤمن ـ أجنبي عن المقام ، لظهوره في الحمل على ما يناسب إيمان الفاعل من الحسن الفاعلي ـ الراجع لقصده الخير والحسن ، دون الشر والقبيح ـ دون الحسن الفعلي ـ الراجع لحسن عمله واقعا ـ فضلا عن الصحيح التام الذي يترتب عليه الأثر المطلوب منه ـ في مقابل الفاسد ـ وإن لم يكن حسنا ، كالطلاق والظهار.

ومثله الاستدلال بعمومات النفوذ ، كعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وصحة التجارة عن تراض ، ونحوهما. إذ فيه ـ مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما كان نفوذه مقتضى العموم ـ : أن العمومات المذكورة لما كانت مخصصة ، وكان الشك في صحة العقد الخاص مسببا عن الشك في دخوله في عنوان المخصص ، لم يصح التمسك بالعموم فيه ، لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية ، خصوصا إذا كان مقتضى الأصل الموضوعي دخوله في عنوان المخصص ، كاستصحاب كون المطلقة حائضا حين الطلاق ، أو عدم سماع

٥١٢

الشاهدين لصيغته. حيث لا إشكال في أن الأصل الموضوعي حاكم على عموم العام.

وكذا الاستدلال بالغلبة وظهور حال المسلم أو الفاعل في تحري الوجه الصحيح ، لأنه موضوع الآثار ، ومحط الأغراض المطلوبة. لاندفاعه بعدم وضوح الغلبة والظهور المذكورين بلحاظ ما هو شايع من تسامح عامة الناس وغفلتهم ، أو جهلهم بما يعتبر شرعا في الصحة. على أن حجية الغلبة والظهور المذكورين في المقام تحتاج إلى دليل. ولو تم كان بنفسه دليلا على القاعدة ، بلا حاجة إلى توسطهما.

فالظاهر أن العمدة في المقام سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم بمقتضى ارتكازياتهم على ترتيب آثار الصحة في عمل الغير ، وعدم التعويل على احتمال فساده. وحيث كانت هذه السيرة ارتكازية كفى في العمل عليها عدم ثبوت ردع الشارع الأقدس عنها ، بلا حاجة إلى إحراز إمضائه لها ، نظير ما تقدم في اليد. على أنه يكفي في إحراز إمضائها الإجماع وسيرة المتشرعة.

أما الإجماع فيستفاد من تتبع فتاواهم في أبواب الفقه ، خصوصا مسائل التنازع والقضاء ، حيث يظهر منهم التسالم على الرجوع لهذا الأصل على أنه ارتكازي ، بنحو يمتنع عادة الخطأ منهم في ذلك مع كثرة الابتلاء به في جميع العصور وفي كثير من الأمور.

لكن استشكل فيه بعض مشايخنا قدس‌سره .. تارة : بأنه يتعذر عادة الاطلاع على فتاوى العلماء في جميع موارد جريان الأصل المذكور من العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم.

وأخرى : بأنه لا يحرز كونه إجماعا تعبديا ، ليكشف عن قول المعصوم ، لاحتمال ابتنائه على بعض الوجوه المستدل بها في المقام ، فاللازم النظر فيها.

٥١٣

فإن تمت كانت هي الدليل دون الإجماع. وإن لم تتم لم ينفع الإجماع في الاستدلال.

ويندفع الأول بأنه يمكن مع الاطلاع على فتاواهم في الموارد المتفرقة استفادة العموم منهم من تصريحهم به في بعض الموارد ، بنحو يظهر منه عدم الخصوصية لتلك الموارد ، وإرادة القاعدة الارتكازية التي جرت عليها سيرة العقلاء ، فيكشف عن إمضاء السيرة المذكورة بما لها من عموم ارتكازي ، بحيث يحتاج الخروج عنه إلى دليل.

كما يندفع الثاني بأن كثرة الابتلاء بالمسألة ، وظهور التسالم فيها ، مع مطابقة الحكم بالصحة للمرتكزات العقلائية ، كاشف عن جري الشارع الأقدس على طبق تلك المرتكزات وعدم إعراضه عنها ، تمت الوجوه المذكورة في كلماتهم أو لم تتم.

ولا سيما مع إرسالهم الأصل المذكور إرسال المسلمات ، وعدم الاستدلال له إلا عابرا ببعض الوجوه التي هي ليست من القوة بنحو يناسب التسالم المذكور ، حيث يكشف ذلك عن ابتناء التسالم على سيرة العقلاء الارتكازية ، وعن إمضائها.

وأما سيرة المتشرعة فيكفي في وضوحها ملاحظة حالهم في أمور معاشهم ومعادهم ، كالعقود والإيقاعات المالية ـ كالبيع والوقف ـ وغيرها ـ كالنكاح والطلاق ـ والواجبات الكفائية ـ كواجبات الأموات ـ والأفعال التسبيبية ـ كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية ـ وصلاة الإمام بالإضافة للمأمومين ، وصلاة بعض المأمومين بالإضافة لبعضهم ممن يتوقف عليها اتصاله بالإمام ، وصلاة من مات وصيامه بالإضافة لوليه ، وغير ذلك مما يعلم ببناء المتشرعة فيه على الصحة في عمل الغير.

٥١٤

ولو لا ذلك لاضطرب أمرهم ، واختل نظامهم ، ولزم الهرج والمرج ، ونحو ذلك مما لو كان لبان ، ولكثرت الأسئلة والبيانات من الشارع الأقدس ، وحيث لم يحصل شيء من ذلك كشف عن اتصال هذه السيرة بعصور المعصومين «صلوات الله عليهم» ، وإقرارهم لها ، بنحو يصحح الركون إليها والاستدلال بها.

ثم إنه حيث كان ظاهر الإجماع وسيرة المتشرعة المذكورين في البناء على الصحة ليس محض التعبد الشرعي ، بل الجري على مقتضى سيرة العقلاء الارتكازية المستدل بها آنفا كان مقتضاهما إمضاءها ، فيكون المتبع في عموم الحكم وخصوصه على مقتضاها ما لم يثبت الردع عنها في بعض الموارد.

ولا يقدح خلافهم في بعض الموارد لشبهة ترجع إلى توهم قصور السيرة ، أو ثبوت المانع من العمل بها ، إذا اتضح بطلان الشبهة المذكورة. وذلك لأن مرجع الإمضاء المذكور إلى أن الأمر الارتكازي ـ الذي عليه تبتني سيرة العقلاء ـ من شأنه أن يعمل عليه لو لا المانع ، فموضوعه مقتض للحجية حتى عند المخالف في بعض الموارد ، فمع ظهور بطلان شبهة المخالف يتعين العمل عليه بمقتضى الإمضاء المذكور.

وهكذا الحال في جميع الأمور الارتكازية التي ثبت إمضاء الارتكاز فيها ، فإنه يتعين العمل عليها حتى في موارد الخلاف لشبهة طارئة إذا ثبت بطلان تلك الشبهة ، نظير حجية الظواهر وحجية خبر الثقة في بعض موارد الخلاف ، كحجية الظواهر في حق من لم يقصد بالإفهام ، وحجية ظواهر الكتاب المجيد ، وحجية خبر الثقة غير الإمامي ، وغير ذلك.

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في أمور ..

٥١٥

الأمر الأول : لما كان المقصود إثبات الصحة والتمامية له هو العمل الخارجي بلحاظ مطابقته للماهية المقصودة ذات الأثر ، فلا بد في تحقق موضوع القاعدة من إحراز قصد الماهية بالعمل ، ولا يكفي تحقق صورته من دون أن تقصد منه ، فالغسل الذي يتصف بالصحة والفساد والذي تقتضي القاعدة صحته هو الذي يقصد به الغسل المطهّر من الحدث أو الخبث. أما ما لا يقصد به ذلك فهو لا يتصف بالصحة والفساد ، ولا يكون موضوعا للقاعدة في المقام.

من دون فرق بين ما يتوقف ترتب الأثر عليه على قصد العنوان منه ـ كالوضوء والغسل ـ وغيره كالتطهير من الخبث. لأن عدم توقف ترتب الأثر منه على قصده لا ينافي توقف دخوله في موضوع القاعدة على القصد المذكور.

وعلى ذلك لا مجال لجريان قاعدة الصحة مع احتمال عدم القصد بالفعل للماهية ذات الأثر الخاص ، لعدم إحراز موضوعها.

نعم لو أحرز القصد بالنحو المذكور واحتمل الفساد في العبادة ، لعدم قصد التقرب بالوجه المعتبر فيها ـ ولو لاحتمال قصد الرياء المحرم ـ اتجه جريان قاعدة الصحة ، لتمامية موضوعها بقصد العنوان ، وليس قصد التقرب إلا كسائر الشروط الزائدة عليه ، والتي تنهض القاعدة بالبناء على الصحة من جهتها.

كما ظهر بذلك أنه لو تردد نوع الفعل المقصود بين الصحيح والفاسد لم تنهض القاعدة بإحراز القصد للصحيح. كما لو اختلف دافع المال وآخذه في أن دفعه كان بعنوان القرض الربوي ـ بشرط الاشتراك في الربح ـ أو بعنوان المضاربة ، أو ترددت الصلاة المأتي بها بين فريضة قد صلاها المكلف وأخرى لم يصلها. فإن القاعدة لا تنهض بإحراز المضاربة في الأول ، والصلاة التي لم يصلها في الثاني.

٥١٦

وكذا الحال لو أحرز نوع العمل ، وترددت بعض أركانه المقومة له بين ما يصح به العمل وما يبطل ، كالثمن والمثمن والزوج والزوجة ، فإن قاعدة الصحة لا تنهض بإحراز ما يصح به العمل. فإذا اختلف الزوج والأب في أنه زوجه بنته التي رضعت معه ، أو أختها التي لم ترضع معه لم تنهض أصالة الصحة بإثبات الثاني.

كل ذلك لأن أصالة الصحة إنما تحرز الصحة بعد الفراغ عن تحقق العمل الذي هو مورد الأثر والقصد إليه بحدوده ، دون ما إذا شك في أصل القصد للعمل المذكور أو لحدوده.

الأمر الثاني : وقع الكلام بينهم في أن مفاد القاعدة هو الحمل على الصحة الواقعية ، أو الصحة بنظر الفاعل. لكن لما كان موضوع الأثر ومحط الغرض هو الصحة الواقعية ، فلا معنى لاحتمال كون مفاد القاعدة هو الصحة بنظر الفاعل.

بل لا بد من رجوع النزاع المذكور إلى النزاع في عموم القاعدة لما إذا أخطأ الفاعل فيما يعتبر في الصحة الواقعية وتشخيص ما هو الصحيح ، بعد المفروغية عن أن مفاد القاعدة هو الصحة الواقعية لا غير ، فيقع الكلام حينئذ في أن القاعدة هل تجري لو احتمل صحة عمله لاحتمال واجديته لشروط الصحة صدفة أو احتياطا منه؟ كما لو كان المطلّق يرى أنه يكفي في عدالة الشاهدين ترك الكبائر ، وأراد أن يتزوج مطلقته من يرى أنه لا بد فيها من ترك الصغائر أيضا ، إذا احتمل صحة طلاقه بإشهاده مجتنب الكبيرة والصغيرة صدفة أو احتياطا.

وقد صرح غير واحد بعدم جريان القاعدة حينئذ ، كما قد يظهر ذلك من كل من استدل على القاعدة بالغلبة وظهور حال المسلم أو الفاعل ، لظهور اختصاصهما ـ لو تما ـ بصورة علم الفاعل بالصحيح ، وعدم خطئه فيه.

٥١٧

وقد يستدل عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ بعدم وضوح ثبوت السيرة ـ التي سبق أنها دليل القاعدة ـ في الفرض المذكور.

لكن تقدم المنع من الاستدلال على القاعدة بالغلبة والظهور المذكورين. كما أنه لم يتضح ابتناء سيرة العقلاء أو المتشرعة على ملاحظتهما معيارا في البناء على الصحة ، بحيث يقصر الحكم بها عن غير موردهما.

بل الظاهر ثبوت سيرة العقلاء ـ التي سبق أنها دليل القاعدة ـ في المقام ، كسيرة المتشرعة. كيف والإلزام عدم جريان القاعدة في حق المخالفين ، لكثرة مخالفتهم لنا في الفروع بنحو ظاهر من الصدر الأول ، مع القطع بجريانها في حقهم ، لكثرة الابتلاء بأعمالهم في عصور الأئمة عليهم‌السلام ، فلو لم تجر القاعدة فيها لظهر ذلك وبان ، وكثر السؤال عنه ، والتنبيه عليه منهم «صلوات الله عليهم». بل لاختل نظام أمر المؤمنين ووقعوا في أعظم الحرج. وحيث لم يحصل شيء من ذلك كشف عن عموم سيرتهم تبعا لسيرة العقلاء.

كما هو الحال في السيرة الفعلية بين المؤمنين أنفسهم ، حيث لا إشكال في جريهم على مقتضى هذه القاعدة في أعمالهم من دون توقف أو فحص ، مع وضوح اختلاف أفراد الطائفة المحقة في الاجتهاد والتقليد اختلافا فاحشا.

بل لو لا ذلك لم تجر القاعدة مع الجهل بحال الفاعل ، وأن نظره ـ المستند لاجتهاده أو تقليده ـ مصيب موافق لنظر من يكون عمله موردا لابتلائه ، أو مخطئ مخالف لنظره ، لاشتراكه مع فرض العلم بخطإ الفاعل في عدم المحرز لصحة العمل من ظهور حال أو نحوه ، مع أنه لا ريب في جريانها في حقه بمقتضى السيرة ، لغلبة عدم تيسر المعرفة بحال الفاعل وكيفية تشخيصه ، فلو بني على التوقف في جريان قاعدة الصحة في عمله لزم الهرج والمرج ، نظير ما ذكرنا عند الاستدلال بالسيرة على أصل القاعدة.

٥١٨

ودعوى : أن جريان قاعدة الصحة في حق مجهول الحال يبتني على أصالة الصحة في تشخيصه وعدم خطئه في اعتقاده.

مدفوعة بأن أصالة الصحة في الاعتقاد وعدم الخطأ فيه قد تتم في الأمور الحسية أو القريبة من الحس ، كتشخيص العدالة صغرويا ، دون الأمور الحدسية المبنية على الاجتهاد والحدس البعيد عن الحس ، كتشخيص مفهوم العدالة وحدودها كبرويا.

ومن ثم لا مجال لابتناء جريان أصالة الصحة في حق مجهول الحال على أصالة الصحة في تشخيصه واعتقاده ، بل هي تبتني على عموم السيرة ابتداء ، دفعا لاختلال النظام ، المناسب لعمومها في حق من يعلم بخطئه في اعتقاده إذا احتمل صحة عمله ، بعين الملاك المذكور ، كما سبق.

الأمر الثالث : سبق في الأمر الأول أنه لا بد في جريان قاعدة الصحة من إحراز تحقق القصد بالفعل الخارجي إلى الماهية ذات الأثر الخاص ، والقصد إلى أركانها ، كالثمن والمثمن والزوج والزوجة وغيرها. وربما قيل : إنه لا بد مع ذلك من إحراز قابلية الموضوع وأهلية الفاعل.

وكلامهم في تحديدهما في غاية الإشكال والاضطراب ، كالإشكال في دليل أخذ الشرط المذكور في جريان القاعدة ، بعد عموم القاعدة ارتكازا.

نعم لا ينبغي التأمل ـ بعد الرجوع للمرتكزات ـ في توقف جريان القاعدة على إحراز سلطنة الفاعل على الفعل ، ولا تجري مع عدم إحرازها ، فلو باع رجل عينا ، وشك في صحة البيع ، لم تجر قاعدة الصحة ما لم يحرز سلطنته على البيع ـ بملك أو وكالة أو نحوهما ـ ولو لكون تلك العين تحت يده بحيث تنهض اليد بإحراز سلطنته عليها.

ولذا لا ريب عندهم في أن من باع مثلا عينا تحت يده مدعيا تملكها من

٥١٩

غيره أو كونه وكيلا عن مالكها صح البيع ظاهرا ما دامت يده حجة على دعواه ، فإذا سقطت يده عن الحجية بإنكار المالك السابق التمليك أو التوكيل بطل البيع ظاهرا ، ولم تجر قاعدة الصحة فيه بحيث تقتضي تقديم قول البائع لموافقته للأصل.

الأمر الرابع : الظاهر أن مفاد القاعدة ـ بعد التأمل في الجهات الارتكازية المبتنية عليها ـ هو التعبد بصحة الموجود وتماميته ، فتتنقح بسببها صغريات الكبريات الشرعية التكليفية والوضعية ، لا مجرد عدم الالتفات للشك في مقام العمل ، والعمل بما يطابق احتمال الصحة من دون بناء عليها وتعبد بها. فهي قاعدة تعبدية ـ كقاعدتي الحل والطهارة ـ لا عملية محضة.

بل من القريب كونها قاعدة إحرازية لما سبق من تقريب ذلك في القاعدة السابقة ، بضميمة ما سبق هناك عند الاستدلال بالسيرة من رجوع القاعدتين لجامع ارتكازي واحد. فتأمل جيدا.

هذا ولو ابتنى التعبد بالصحة فيها على ملاحظة الغلبة ، أو ظهور حال المسلم أو الفاعل في تحري الوجه الصحيح ، لكانت من الأمارات. لكن تقدم في الأمر الثاني المنع من ابتنائها على ملاحظتهما.

وكيف كان فلا ريب في تقدمها على الاستصحاب ، سواء أريد به استصحاب عدم تحقق شرط الصحة ـ كالطهارة في الصلاة ، والعلم بالعوضين في البيع لو شك في صحة الصلاة والبيع من جهتهما ـ أم استصحاب عدم ترتب الأثر على الفعل ، كاستصحاب الحدث ، وعدم انتقال المبيع عند الشك في صحة الوضوء والبيع.

كل ذلك لأنها لو لم تقدم على الاستصحاب لزم إلغاؤها عرفا وإهمال دليلها ، لغلبة ابتلائها بالاستصحاب المذكور ، بحيث لا يمكن عرفا الاقتصار

٥٢٠