الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

من عنوان ، وإنما يحرز في الصورة الأولى كونه مستمرا حين الحادث الآخر بتوسط العلم بأمد ذلك الحادث ، لا لوفاء الاستصحاب بذلك ابتداء ، بل ليس مفاد الاستصحاب إلا التعبد ببقاء المستصحب وامتداده للزمان الخاص بذاته ، لا بعنوانه المنتزع من حدوث الحدث فيه.

وبعبارة أخرى : الاستصحاب متمحض في التعبد باستمرار المستصحب وبقائه في عمود الزمان ، ولا ينهض بالتعبد بالنسبة بينه وبين غيره. وإنما تستفاد النسبة من إحراز حال ذلك الغير زائدا على الاستصحاب ، كما لو علم بتاريخه.

ويترتب على ذلك أنه لو كان منشأ الشك هو الجهتين معا ـ كما هو الحال في المقام ـ فالاستصحاب إنما ينفع في إبقاء المشكوك وامتداده في عمود الزمان تعبدا ، ولا ينهض بإحراز خصوصية وجوده في زمان الحادث الآخر إذا لم تكن من شئون امتداده.

ففي المثال المتقدم يحكم بعدم موت الابن يوم الخميس ، للشك في امتداده إليه ، ويترتب عليه أثره ، كالإنفاق على زوجته من ماله وعدم بدئها بالعدة في اليوم المذكور. ولا يحرز عدم موت الابن حين موت الأب ، لعدم إحراز موت الأب في اليوم المذكور ، والشك في الخصوصية المذكورة ينشأ من الشك في امتداد عدم موت الابن والشك في تقدم موت الأب معا ، والاستصحاب لا ينهض بالتعرض للجهة الثانية.

الصورة الثانية : أن يجهل تاريخ أحد الحادثين دون الآخر. كما لو علم بموت الأب ليلة الجمعة وتردد موت الابن بين يوم الخميس ويوم الجمعة. ولا إشكال في جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ ، حيث يحرز في المثال المذكور عدم موت الابن ليلة الجمعة التي هي زمان موت الأب ، المقتضي لميراثه من أبيه.

٤٨١

كما أن الظاهر عدم جريانه في معلوم التاريخ ، لا في عمود الزمان ، لفرض العلم بتاريخه ، ولا بالإضافة إلى زمان الآخر بخصوصيته وعنوانه ، للوجهين السابقين في مجهول التاريخ. أما الثاني فظاهر ، بل هو هنا أولى بالمنع من جريان الاستصحاب ، كما يتضح بملاحظة تقرير الوجه المذكور.

وأما الأول فلاحتمال كون زمان الشك ـ وهو زمان حدوث مجهول التاريخ ـ منفصلا عن زمان اليقين بزمان اليقين بانتقاض الحالة السابقة. ففي المثال المتقدم لو أريد استصحاب عدم موت الأب حين موت الابن أشكل باحتمال انطباق زمان الشك الذي يراد إحراز المستصحب فيه ـ وهو زمان موت الابن ـ على يوم الجمعة ، فينفصل عن زمان اليقين بعدم موت الأب ـ وهو يوم الخميس ـ بزمان اليقين بموته ، وهو ليلة الخميس. فلاحظ.

المقام الثاني : في الحادثين المتضادين

وليس الغرض هنا إحراز عدم أحدهما حين حدوث الآخر ـ كما سبق في المقام ـ للقطع به بعد فرض التضاد ، بل تشخيص الوظيفة الفعلية لو علم أو احتمل استمرار أحدهما لو لا الرافع ، المستلزم لكون مقتضى الوظيفة العملية البناء على بقاء المتأخر منهما ، ولزوم العمل عليه. والجهل بالمتأخر منهما هو المنشأ للجهل بالباقي منهما. حين إرادة تشخيص الوظيفة ولذلك أيضا صورتان :

الصورة الأولى : أن يجهل تاريخ كل منهما. كما لو علم بإصابة البول للأرض أما في يوم الخميس أو الجمعة ، وبإصابة المطر لها في أحد اليومين إما قبل إصابة البول أو بعدها.

والمعروف هنا ـ كما قيل ـ جريان الاستصحاب في كل منهما ذاتا لتمامية ركنيه من الشك واليقين ، وسقوطه بالمعارضة ، لاستلزامه التعبد ظاهرا

٤٨٢

بالضدين ، الراجع للتعبد بالنقيضين ، وهو ممتنع كجعلهما واقعا.

لكن ذهب غير واحد إلى عدم جريان الاستصحاب ذاتا ، لوجوه كثيرة عمدتها عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، نظير ما تقدم في المقام الأول. وإن اختلف عنه بأن منشأ عدم إحراز الاتصال هناك هو تردد زمان الشك بين زمانين متصل بزمان اليقين ومنفصل عنه. أما منشؤه هنا فهو تردد زمان اليقين بين زمانين متصل بزمان الشك الذي يراد ترتيب الأثر فيه ومنفصل عنه.

ففي المثال السابق لا تردد في زمان الشك في الطهارة والنجاسة ، بل هو يوم السبت وما بعده ، حيث يراد معرفة الوظيفة العملية فيه بالإضافة إلى الأرض من جواز السجود عليها والتيمم بها ، أو عدمهما وطهارة ملاقيها أو نجاسته.

وإنما التردد في زمان اليقين ، فزمان اليقين بالطهارة مردد بين يومي الخميس والجمعة ، فإن كان هو يوم الخميس كان منفصلا عن يوم السبت بيوم الجمعة.

ولا يراد بالاستصحاب جرّ المستصحب ـ وهو الطهارة ـ منه إلى يوم السبت مارا بيوم الجمعة ، للقطع بعدم بقائه كذلك ، بل لو كان زمان اليقين هو يوم الخميس فالأمر المتيقن سابقا منتقض يوم الجمعة ، بل المراد بالاستصحاب إبقاء الطهارة من زمان اليقين ـ على تردده ـ ليوم السبت ولو كان بنحو الطفرة ، وقد سبق عدم نهوض الاستصحاب بذلك. وهكذا الحال في زمان اليقين بالنجاسة.

ومن هنا كان الظاهر عدم جريان الاستصحاب ذاتا.

الصورة الثانية : أن يجهل تاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الآخر. كما لو علم بإصابة الأرض بالبول يوم الجمعة وبإصابة المطر لها ليلة الجمعة أو ليلة السبت. ولا إشكال في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ذاتا.

وأما في مجهول التاريخ فهو يبتني على ما تقدم في الصورة الأولى ،

٤٨٣

وحيث سبق منا عدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ذاتا تعين عدم جريانه هنا ، وانفرد الاستصحاب في معلوم التاريخ بالجريان والعمل.

أما لو لم يتم ما ذكرنا فالمتعين جريان الاستصحاب فيه ، ومعارضته للاستصحاب في معلوم التاريخ ، كما أصر عليه بعض مشايخنا قدس‌سره. لكن بعده عن الذوق العرفي في تطبيق كبرى الاستصحاب مؤيد لما سبق منا.

٤٨٤

الفصل التاسع

في استصحاب حكم المخصص

إذا ورد عام مستمر الحكم ومخصص له في بعض الأفراد ، وكان المتيقن منه بعض الأزمنة فبعد انتهاء ذلك الزمان لو شك في حكم الفرد هل يرجع لعموم العام أو لاستصحاب حكم الخاص؟. مثلا : بعد تخصيص عموم نفوذ العقود بدليل خيار الغبن ، وخيار الزوجة في فسخ النكاح بجنون الزوج ونحوهما ، لو شك بسبب إجمال الخاص في أن الخيار على الفور أو التراخي ، فهل المرجع في الزمان الثاني هو عموم نفوذ العقود المطابق عملا لفورية الخيار ، أو استصحاب الخيار الموافق عملا للتراخي؟

ومن الظاهر أن الكلام ليس في رفع اليد عن العموم بالاستصحاب ـ لما يأتي في مبحث التعارض من تقديم العموم وسائر الأدلة على الاستصحاب وجميع الأصول ـ بل في حجية العموم بعد انتهاء أمد التخصيص ، لترفع به اليد عن الاستصحاب.

كما أن محل الكلام ما إذا كان العام متكفلا بإثبات الحكم في جميع الأزمنة ، دون ما إذا لم يتعرض إلا للحدوث ، وكان الحكم بالبقاء لأمر خارج عن العموم ـ كاستعداد الحكم بذاته للبقاء ، أو الاستصحاب ـ فإنه خارج عن محل الكلام ، لعدم كون ارتفاع الحكم في الزمان اللاحق عن تمام الأفراد ، فضلا عن بعضها ، منافيا للعام بوجه.

كما هو الحال في عموم ما دل على تنجس الجسم بملاقاة النجاسة ، وعموم ما دل على تحقق الزوجية بالعقد على المرأة ، فإن بقاء النجاسة

٤٨٥

والزوجية ليس مقتضى العمومين المذكورين ، بل لاستعدادهما ذاتا للبقاء ، أو للاستصحاب.

إذا عرفت هذا فالظاهر حجية العام بعد انتهاء أمد التخصيص ـ بنحو يمنع من الرجوع لاستصحاب حكم المخصص ـ إلا في موردين الأول : ما إذا كان الاستمرار قيدا في متعلق الحكم ، بأن تؤخذ أجزاء الزمان فيه بنحو المجموعية والارتباطية ، كوجوب الصوم في تمام النهار مع وحدة التكليف والمكلف به في اليوم الواحد.

إذ مع ارتفاع الحكم عن بعض الأفراد في بعض الأزمنة ، وثبوت التخصيص فيه ، يخرج الفرد عن العام رأسا بعد أن كان مفاد العام ثبوت الحكم للمجموع بنحو الارتباطية ، المفروض منافاة الخاص لها بدلالته على عدم ثبوت الحكم للفرد في بعض الأزمنة. وحينئذ يتعين الرجوع في بقية الأزمنة لأمر آخر غير العموم ، من الاستصحاب ـ لو كان جاريا في نفسه ـ أو غيره.

نعم لو فرض الجمع بين العام والخاص برفع اليد عن الارتباطية بالإضافة إلى مورد التخصيص تعين حجية العام في الباقي ، نظير موارد قاعدة الميسور. لكنه محتاج إلى عناية خاصة ، ولا ضابط لذلك ، بل هو موكول لنظر الفقيه.

الثاني : ما إذا لم يكن مفاد العام مجرد ثبوت الحكم للفرد في جميع الأزمنة ، بل بنحو يتفرع ثبوته في الزمان اللاحق على ثبوته في الزمان السابق ، لابتنائه على الاستمرار منه إليه ، بحيث يكون الحكم عابرا من الزمان السابق للاحق. إذ مع دلالة الخاص على عدم ثبوت حكم العام في الزمان السابق لا يكون ثبوته في الزمن اللاحق مقتضى العام ، بل لا بد فيه من الرجوع فيه لأمر آخر من استصحاب أو غيره.

لكن الشأن في إحراز ذلك إثباتا ، لاحتياجه إلى عناية خاصة ، ولا ضابط لاستفادتها من الأدلة ، بل هي موكولة لنظر الفقيه.

٤٨٦

الفصل العاشر

في جريان الاستصحاب في الأمور اللغوية

اشتهر في كلمات أهل الاستدلال الرجوع لكثير من الأصول العدمية في الأمور اللغوية ونحوها مما يتعلق بالكلام ، كأصالة عدم النقل وعدم التخصيص وعدم القرينة ونحوها. وربما يتوهم ابتناؤها على الاستصحاب.

لكن الظاهر أنها أصول عقلائية مستقلة بنفسها مع قطع النظر عن كبرى الاستصحاب الشرعية ، ولذا لا ريب في جريانها في نفس أدلة الاستصحاب المتقدمة. بل لا مجال لتوهم ابتنائها على الاستصحاب بعد عدم كون مفادها بعنوانه موردا لأثر عملي شرعي في كبريات شرعية. غاية الأمر أنها بمقتضى سيرة العقلاء تطابق موارد تشخيص الظهور أو حجيته ، وهو لا يكفي في جريان الاستصحاب بعد عدم أخذ خصوصية مفادها بعنوانه شرعا في موضوع الحجية.

والحمد لله رب العالمين.

٤٨٧

خاتمة

يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث التعارض أن الأدلة تتقدم على الاستصحاب وغيره من الأصول. والمناسب هنا التعرض ـ تبعا لمشايخنا قدس‌سره ـ لبعض القواعد الجارية في الشبهات الموضوعية التي تقدم على الاستصحاب.

لأهميتها في أنفسها ، ولمناسبة الكلام فيها للكلام في الاستصحاب ، وإن لم تكن من المسائل الأصولية ، لعدم نهوضها بإثبات حكم شرعي كلي ، بل تختص بالشبهات الموضوعية. ويكون الكلام في ذلك في ضمن فصول ..

الفصل الأول

في قاعدة اليد

وهي من القواعد الظاهرية المشهورة. ومرجعها إلى أن اليد تنهض بإحراز ملكية صاحبها لما تحت يده. ويدل على ذلك أمور ..

الأول : النصوص الكثيرة. وهي على طوائف ..

الأولى : ما تضمن أن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه (١) ، مع ما هو المعلوم والمصرح به في بعض النصوص (٢) من أن صاحب اليد هو المدعى عليه. وكذا ما تضمن أن المنكر إذا رد اليمين على المدعي فنكل فلا حقّ له (٣). فإن المستفاد من هذه النصوص ونحوها كون اليد في نفسها محرزة للملكية ، وإن احتيج معها لليمين في خصوص مورد التخاصم ، ولذا لا يكلف

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى وغيرها.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٣ ، ١٢ ، ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.

(٣) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٧ ، ٨ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.

٤٨٨

بها قبله أو بعد عدول المدعي عن دعواه.

بل هو كالمصرح به في صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث فدك : «إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر : أتحكم [تحكم] فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين. قال : فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ... ، فسكت أبو بكر. ثم قال عمر : يا علي دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حججك ...» إلى أن قال : «وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : البينة على من ادعى واليمين على من أنكر] ادعي عليه [» (١) حيث لا بد من حمله على الملكية الظاهرية التي يمكن معها الدعوى وطلب البينة.

الثانية : ما تضمن حلية جوائز السلطان ومعاملتهم إلا أن يعلم حرمة المال بعينه (٢) ، وما تضمن جواز النزول على وكيل الوقف المستحل لما في يده إذا كان له مال آخر (٣). حيث يستفاد منها عدم صلوح تعرضهم للحرام وابتلائهم به لإسقاط حجية اليد ، مع المفروغية عن حجيتها في نفسها.

الثالثة : صحيحا محمد بن مسلم المتضمنان أن ما يوجد من الورق مدفونا في الدار المعمورة فهو لأهلها (٤). وكذا صحيح جميل بن صالح

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ٣. وتفسير القمي ج : ٢ ص : ١٥٦.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٢ باب : ٥١ ، ٥٢ ، ٥٣ من أبواب ما يكتسب به.

(٣) الوسائل ج : ١٢ باب : ٥١ من أبواب ما يكتسب به حديث : ١٥.

(٤) الوسائل ج : ١٧ باب : ٥ من أبواب اللقطة حديث : ١ ، ٢.

٤٨٩

المتضمن أن من وجد دينارا في صندوقه الذي لا يدخل غيره فيه يده فهو له (١). لوضوح أن عدم إدخال الغير يده لا يستلزم ملكيته له ، لاحتمال أخذه له بلا حق ، أو نسيانه لصاحبه ، أو غير ذلك. فلا بد من استناد الحكم بملكيته له لليد.

الرابعة : صحيح العيص ومعتبر حمزة بن حمران المتضمنان جواز شراء المملوك من السوق وإن ادعى الحرية (٢) ، حيث لا وجه لرفع اليد عن دعوى المملوك الحرية المطابقة للأصل لو لا حجية يد البائع.

الخامسة : بعض النصوص المتفرقة ، كموثق يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة. قال : ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شيء منه فهو له» (٣).

وموثق حفص بن غياث عنه عليه‌السلام : «قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال : نعم. قال الرجل : أشهد أنه في يده ، ولا أشهد أنه له ، فلعله لغيره. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلعله لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ، ويصير ملكا لك ، ثم تقول بعد الملك : هو لي ، وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (٤). وربما كان هناك بعض النصوص الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها. وفيما سبق كفاية.

هذا وأكثر هذه النصوص لا ينهض بإثبات عموم يرجع إليه في مورد

__________________

(١) الوسائل ج : ١٧ باب : ٣ من أبواب اللقطة حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٣ باب : ٥ من أبواب بيع الحيوان حديث : ١ ، ٢.

(٣) الوسائل ج : ١٧ باب : ٨ من أبواب ميراث الأزواج حديث : ٣.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ٢.

٤٩٠

الشك. نعم يمكن استفادة العموم من صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان المتقدم في الطائفة الأولى ومن موثق حفص ، لظهورهما في التصدي لبيان حكم اليد ، ولا سيما الموثق.

الثاني من أدلة المسألة : الإجماع ، حيث يستفاد من كلمات العلماء مفروغيتهم عن الحكم في أبواب الفقه المتفرقة ، خصوصا ما ذكروه في مبحث التداعي من أنه لو اختلف المتداعيان في عين وكانت في يد أحدهما كلف الآخر بالبينة.

الثالث : سيرة المتشرعة الملتزمين بالدين. وهي أوضح من أن تحتاج للإثبات ، كاتصالها بعصر المعصومين عليهم‌السلام ، كما يشير لذلك موثق حفص المتقدم. ولا يقدح في الاستدلال بها ابتناؤها على سيرة العقلاء الآتية ، ولذا لا تختص بالمتدينين ، بل ولا بالمسلمين. إذ هو لا يمنع من كشفها عن رضا الشارع الأقدس ، وإلا لزمه النكير عليها والردع عنها ، ولو صدر ذلك منه لشاع وذاع بسبب كثرة الابتلاء بالحكم ، فارتدع عن ذلك المتدينون ولم تقم سيرتهم المذكورة.

الرابع : سيرة العقلاء على اختلاف مللهم ونحلهم وأمصارهم وعصورهم. وهي سيرة ارتكازية عامة ناشئة عن إدراكهم بمقتضى فطرتهم نحوا من المناسبة بين اليد والحكم بالملكية ظاهرا ، وليست ناشئة من مجرد التباني عند فئة معينة لأسباب طارئة. ومثل هذه السيرة لا تحتاج للإمضاء ، بل يكفي عدم ظهور الردع عنها ، كما يظهر مما تقدم في آخر الكلام في أصالة عدم الحجية. على أنه لا ينبغي الريب في إمضائها بلحاظ الأدلة المتقدمة.

ومن هنا كانت هذه القاعدة من الضروريات التي لا تحتاج لتكلف الاستدلال لو لا بعض الخصوصيات والنكات التي قد ينفع فيها سطر الأدلة

٤٩١

واستيعابها ، على ما قد يتضح بما يأتي إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في أمور ..

الأمر الأول : قد أخذت اليد بعنوانها في بعض النصوص المتقدمة. وهي وإن كانت لغة الجارحة المعروفة ، إلا أن المعيار فيها في المقام كون الشيء في حوزة الشخص ، بنحو يكون من توابعه الملحقة به ، لا لكونه تحت يده الحقيقية ، كالدرهم المقبوض باليد. لتحققها في ما يمتنع الاستيلاء عليه بها ، كالضياع والعقار وقطعان الماشية.

كما لا يكفي فيها القدرة والسيطرة على الشيء ، لوضوح عدم كون السلطان صاحب يد على أموال رعيته ، وإن كان أقدر منهم عليها.

وكذا لا يكفي كون الشيء في حوزة الإنسان إذا كان استيلاؤه عليه مبنيا على قيامه مقام غيره. ولهذا لا تنسب اليد للوكيل على المال ولا للولي وإن كان في حوزتهما ، بل تنسب للموكل والمولى عليه ، لكون المال من توابعهما عرفا ، لا من توابع الوكيل والولي.

ويناسب ذلك كله ما في صحيح عثمان وحماد المتقدم ، فإنه عليه‌السلام قد فرض نفسه صاحب يد على فدك من دون أن يقبضها بيده ، بل جعل الوكيل عليها ، وكان السلطان والقدرة لغيره. كما أنه عليه‌السلام تعرض لفرض كون اليد للمسلمين ، مع أن فعليه يدهم عليه إنما تكون باستيلاء وليهم الذي يقوم مقامهم. بل هو المناسب لجميع أدلة المقام بعد تنزيلها على بعض ، وتحكيم سيرتي المتشرعة والعقلاء عليها.

هذا والمرجع في تحقيق اليد وتشخيص صغرياتها هو العرف ، لاختلاف الأموال والموارد في ذلك اختلافا فاحشا. وربما يكون الشيء الواحد محققا لليد في حالة دون أخرى ، كالاستيلاء على مفتاح الدار ، فإنه يكفي في حصول

٤٩٢

اليد مع عدم وجود من يسكنها أو يتصرف فيها ، ولا يكفي مع أحدهما ، بل صاحب اليد هو الساكن أو المتصرف ، لتبعية الدار لهما في هذا الحال ، لا للمستولي على المفتاح.

الأمر الثاني : الظاهر أن الملكية المحرزة باليد هي ملكية المال ، لا محض السلطنة على التصرف ولو بوكالة أو ولاية أو إباحة. ويقتضيه ـ مضافا إلى المرتكزات العقلائية ـ ظاهر النصوص المتقدمة ، بل صريح جملة منها. وعليه يحكم بملكية صاحب اليد لما تحت يده وإن لم يدعها لموت أو نحوه ، كما هو مقتضى إطلاق صحيحي محمد بن مسلم الواردين في المال المدفون في الدار العامرة ، وصريح صحيح جميل وموثق يونس.

كما أنه لو علم بعدم ملكية صاحب اليد لما تحت يده لم يحكم بسلطنته على التصرف فيه ما لم يدع السلطنة أو يظهر من حاله البناء عليها. لقبول قول صاحب اليد فيما تحت يده وإن لم يكن مالكا.

الأمر الثالث : لا إشكال في حجية اليد على ملكية صاحبها وإن كانت مسبوقة بملكية الغير ومتوقفة على تجدد سببها ، كالشراء أو الالتهاب منه.

لإطلاق بعض النصوص المتقدمة ، بل هو المتيقن من موارد بعضها ـ كصحيح حماد وعثمان وغيره ـ ومن بقية أدلة الحجية المتقدمة.

لكن الظاهر اختصاصه بما إذا لم ينكر المالك السابق ملكية صاحب اليد وحصول سببها ، كما صرح به جماعة. لقصور أدلة حجية اليد المتقدمة عن الصورة المذكورة. أما الإجماع وسيرة المتشرعة والعقلاء فظاهر. وأما النصوص فقد سبق أن أكثرها لا عموم له ، وأن ما يستفاد منه العموم صحيح عثمان وحماد وموثق حفص ، والظاهر قصورهما عن المقام.

أما الصحيح فلظهوره في أن اليد الحجة التي يكون صاحبها منكرا لا

٤٩٣

تسقط بدعوى الخصم ولا يكلف صاحبها البينة ، كما هو مقتضى السؤال والاستشهاد فيه بالنبوي الشريف ، من دون أن يكون واردا لبيان حجية اليد ، ليكون مقتضى إطلاقه عموم حجيتها للمقام.

وأما الموثق فهو وإن كان ظاهرا في عموم حجية اليد ، ولذا يجوز الشهادة اعتمادا عليها ، إلا أنه ظاهر في المفروغية عن حجيتها ، ولا منشأ للمفروغية ظاهرا إلا سيرة العقلاء الارتكازية عليها ، فهو وارد مورد الإمضاء لها ، لا للردع عنها بتوسيع الحكم بحجية اليد على خلافها ، فمع قضاء السيرة المذكورة بعدم حجية اليد في مورد لا ينهض الموثق بحجيتها فيه ، كما هو الحال في المقام ، لما هو المرتكز من أن له إنكار ما ادعاه صاحب اليد من فعل السبب المملك له.

نعم الظاهر اختصاص ذلك بما إذا كان المنكر لملكية صاحب اليد ولحصول سببها هو المالك الأول الذي يدعي صاحب اليد تملكه للمال منه ، لما سبق. ولا يعم ما إذا كان المنكر غيره ممن تترتب ملكيته للعين على بقائها في ملك المالك الأول ، كالوارث والموصى له ، ونحوهما. لعدم تعلق السبب به ليقبل قوله فيه.

غاية الأمر أن مقتضى استصحاب بقاء العين في ملك الأول انتقالها له ، ومبنى اليد على إلغاء الاستصحاب. ولذا تقدم عدم الإشكال في حجيتها مع سكوت المالك السابق.

ويؤكد ذلك صحيح عثمان وحماد المتقدم ، لما هو المعلوم من أنه «صلوات الله عليه» ليس بصدد إنكار ملكية المسلمين لما خلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بزعم عدم توريث الأنبياء عليهم‌السلام ، بل بصدد إنكار مطالبة الصديقة «صلوات الله عليها» بالبينة وإهمال يدها التي كانت في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون إنكار منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ، ولا تكذيب.

٤٩٤

الأمر الرابع : صرح غير واحد بعدم حجية اليد غير المالكية إذا احتمل صيرورتها مالكية بتجدد سبب الملك لصاحبها سواء كانت اليد بحدوثها عدوانية كيد الغاصب ، أم غير عدوانية كيد الأمين. وقد وقع الكلام بين المتأخرين في توجيه ذلك.

والظاهر أن العمدة فيه قصور أدلة حجية اليد عن الصورة المذكورة ، وعمدتها السيرة الارتكازية ، التي تقدم في الأمر السابق تنزيل النصوص عليها ، لأن المرتكز عرفا أن انقلاب اليد عن حالها هو الذي يحتاج إلى دليل.

ومثله ما إذا احتمل تعدد اليد بارتفاع اليد غير المالكية وحصول يد أخرى مالكية لصاحب اليد الأولى. لنظير الوجه المتقدم ، فإن المرتكز عرفا أن تجدد اليد هو الذي يحتاج للدليل.

ثم إن الظاهر أن عدم حجية اليد في محل الكلام لا يتوقف على دعوى المالك الأول وإنكاره ملكية صاحب اليد ـ كما تقدم في الأمر السابق ـ بل يجري في حق كل من علم بسبق عدم ملكية صاحب اليد حين حدوثها ، أو قامت عنده حجة على ذلك ، من دون حاجة إلى إنكار المالك.

نعم لو ادعى صاحب اليد حصول سبب الملكية وصيرورة يده مالكية قبل قوله إذا لم يكذبه المالك ولم تكن يده بحدوثها عدوانية ، لما يأتي من قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده.

أما إذا كانت عدوانية ففي قبول قوله إشكال. والأظهر تبعا للمرتكزات عدمه. كما لا يقبل قوله في الإذن في التصرف ونحوه مما لا يجتمع مع عدوانيته.

الأمر الخامس : الظاهر بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية أن اليد من سنخ الأمارة على الملكية لا مجرد كونها محرزة لها ، كالأصل الإحرازي.

وكيف كان فلا ريب في تقديمها على الاستصحاب ، سواء كان المراد به استصحاب عدم الملكية أم استصحاب عدم تحقق سببها من بيع أو نحوه. فإن

٤٩٥

ذلك هو المتيقن من أدلتها ، لورود أكثر النصوص المتقدمة في مورد استصحاب عدم الملكية ولو أزلا.

بل لو لم تقدم عليه لزم اختصاصها بصورة عدم جريانه ـ كما في صورة العلم بسبق الملكية وسبق عدمها مع الجهل بالتاريخ ـ وصورة جريان استصحاب الملكية ، وهو في معنى إلغاء حجية اليد عرفا ، لندرة الصورة الأولى ، وإغناء الاستصحاب المذكور عنها في الثانية.

الأمر السادس : ينفذ تصرف صاحب اليد فيما تحت يده وإن لم يكن مالكا إذا لم يحرز عدوانيته ، كما إذا احتمل كونه وليا على المالك أو مأذونا من قبله ، ما لم يكذبه المالك.

وكذا يقبل قوله فيما تحت يده حتى لو كان معتديا ، فإذا ادعى كون ما تحت يده ملكا لشخص خاص أو وقفا ، أو رهنا ، أو غير ذلك قبل قوله ما لم يثبت كذبه.

نعم لا يقبل قوله في صيرورته مالكا أو مأذونا ، كما تقدم في الأمر الرابع. وهذه اليد غير اليد التي هي محل الكلام في هذا الفصل ، والتي هي أمارة على الملكية.

٤٩٦

الفصل الثاني

في قاعدة التجاوز والفراغ

وهي من القواعد المشهورة المعول عليها في مقام العمل. ومرجعها إلى أنه لا يعتنى بالشك في العمل إلا أن يكون في المحل قبل صدق التجاوز والفراغ.

ويدل عليها عموما جملة من النصوص ، كموثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» (١).

وصحيح زرارة : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة قال : يمضي. قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبّر. قال : يمضي ... ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» (٢).

وصحيح إسماعيل بن جابر : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض. كل شيء شك فيه مما قد تجاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (٣).

ولا يصلح الصدر في الصحيحين لتخصيص عموم الذيل فيهما بأفعال الصلاة ، لأن المورد لا يخصص الوارد ، ولا سيما إذا كان العموم ارتكازيا.

وما في مستطرفات السرائر عن كتاب حريز عن زرارة عن أبي

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ٤ باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٤.

٤٩٧

جعفر عليه‌السلام : «قال : إذا جاء [جاءك] يقين بعد حائل قضاه ، ومضى على اليقين ، ويقضي الحائل والشك جميعا ، فإن شك في الظهر فيها بينه وبين أن يصلي العصر قضاها ، وإن دخله الشك بعد أن يصلي العصر فقد مضت ، إلا أن يستيقن ، لأن العصر حائل فيما بينه وبين الظهر ، فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلا بيقين» (١).

وصحيح زرارة والفضيل عنه عليه‌السلام : «فإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل ، فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن» (٢).

فإن مقتضى التعليل ـ المشار إليه في الأخير والمصرح به فيما قبله ـ عموم عدم الاعتناء بالشك مع الحائل. وهناك بعض النصوص الأخر قد تنفع في المقام لا مجال لإطالة الكلام فيها.

ويكفي في استفادة العموم ما تقدم المؤيد بجملة من النصوص المختصة ببعض الموارد ، كموثق بكير أو صحيحه : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ.

قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» (٣) ، وغيره مما ورد في الشك في الوضوء (٤) وفي أفعال الصلاة (٥).

مضافا إلى سيرة العقلاء الارتكازية على عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محل المشكوك ، حيث لا مجال لإنكارها بعد التأمل في المرتكزات ، وملاحظة مبانيهم في موارد قاعدة الصحة ، التي يجمعها مع هذه القاعدة جامع ارتكازي واحد ، وهو عدم تعلق الشك بمقام العمل ، إما لمضيه ـ كما في المقام ـ أو لعدم

__________________

(١) الوسائل ج : ٣ باب : ٦٠ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج : ٣ باب : ٦ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٧.

(٤) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٤٢ من أبواب الوضوء.

(٥) راجع الوسائل ج : ٤ باب : ١٣ من أبواب الركوع ، وج : ٥ باب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

٤٩٨

كون الشاك هو العامل ، كما في موارد قاعدة الصحة. فلاحظ.

هذا وقد يدعى أن النصوص المتقدمة لا تتضمن قاعدة واحدة ، بل ثلاث قواعد مختلفة المفاد.

الأولى : قاعدة التجاوز. ومرجعها إلى التعبد بوجود المشكوك بمفاد كان التامة عند تجاوز محله والدخول في غيره.

ويدل عليها صحيحا زرارة وإسماعيل.

الثانية : قاعدة عدم الاعتناء بالشك في وجود الشيء بعد مضي وقته ومحله.

ويدل عليها ما في مستطرفات السرائر وصحيح زرارة والفضيل.

الثالثة : قاعدة الفراغ. ومرجعها إلى التعبد بصحة الموجود وتماميته إذا حصل الشك في صحة بعد الفراغ منه.

ويدل عليها موثق محمد بن مسلم ، حيث فرض فيه مضي موضوع الشك المستلزم لوجوده ، حيث يتعين معه حمل الشك فيه على الشك في صحته. كما يدل عليها ما تقدم من موثق بكير أو صحيحه الوارد في الشك في الوضوء وغيره مما ورد في الموارد الخاصة.

وربما ترجع الأوليان إلى قاعدة واحدة تتضمن عدم الاعتناء بالشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة عند مضي محله والتجاوز عنه. أما الثالثة فلا مجال لرجوعها لها ، لاختلافها معها موضوعا ومفادا.

لأن موضوع تلك القاعدة الشك في وجود المشكوك بمفاد كان التامة بعد مضي محله ، ومفادها التعبد بوجوده. أما موضوع قاعدة الفراغ فهو الشك في صحة الموجود بمفاد كان الناقصة ـ مع الفراغ عن وجوده ـ بعد مضيه بنفسه ،

٤٩٩

وذلك بالفراغ عنه ، ومفادها التعبد بصحته وتماميته.

لكن من القريب رجوع الكل إلى قاعدة واحدة مفادها عدم الاعتناء بالشك بعد مضي محله. بأن يراد بالشك في الشيء في موضوعها مطلق الشك في شئونه التي يهتم بها مما يقتضي الرجوع والتدارك ، ويراد بمضي الشيء الأعم من مضيه بنفسه ومضي محله. لوجود الجامع الارتكازي بين القاعدتين.

وتعددهما مع وجود الجامع المذكور يحتاج إلى عناية في البيان ، وهو لا يناسب تشابه ألسنة النصوص ، بسبب اشتمال كلتا الطائفتين من النصوص المتقدمة ـ وما جرى مجراها من النصوص الواردة في خصوص بعض الموارد ـ على عنوان الشك في الشيء ، وعلى ما يقتضي مضي محل الشك من المضي والتجاوز والخروج والفراغ ونحوها.

ولو أريد بكل طائفة منها إحدى القاعدتين بخصوصيتها لكان المناسب التعرض لموضوعها بوجه مميز له عن موضوع الأخرى ، ولا يتكل على القرائن المتصيدة من المورد ونحوه لتحديده.

بل قد لا تنهض قرينة بتحديده ، كما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الرجل يشك بعد ما ينصرف من صلاته. قال : فقال : لا يعيد ، ولا شيء عليه» (١). حيث لم يبين فيه أن المراد من الشك بعد الانصراف من الصلاة هو الشك في وجود جزئها أو شرطها ، أو الشك في صحتها.

كما أنه قد اشتمل في بعض النصوص على أحد جزئي موضوع كلتا القاعدتين ، كصحيحة الآخر عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : كلما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد» (٢) ، لظهور قوله عليه‌السلام : «كلما شككت فيه» في

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٢.

٥٠٠