الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

نعم بملاحظة ما سبق هناك يظهر الضابط في جريان الاستصحاب هنا.

وحاصله : أن المعروض للحكم ـ الذي هو موضوع القضية الحملية الحاكية عنه ـ إن كان جزئيا خارجيا ـ كالثوب والماء الخارجيين المعروضين للنجاسة والملكية ـ امتنع تقييده بالزمان أو الحال أو غيرهما ، بل لا بد من كون ذلك كله ظرفا أو مقارنا له ولحكمه. وحينئذ يجري الاستصحاب في الحكم.

وإن كان المعروض كليا ـ كفعل المكلف الموضوع للأحكام التكليفية ، والكليات الذمية كالدين والعمل المستأجر عليه التي هي موضوع للملكية ـ كان قابلا للتقييد. وحينئذ إن أحرز أو احتمل تقييده بالخصوصية الزمانية أو نحوها امتنع استصحاب الحكم ، لعدم اتحاد موضوع القضية المشكوكة مع موضوع القضية المتيقنة ، أو عدم إحراز الاتحاد. وإن أحرز إطلاقه تعين كون الخصوصية المحتملة دخيلة في الحكم وعلة له ، من دون أن تكون مقومة له ، كما في موارد الشك في الرافع ، ويتعين حينئذ جريان استصحاب الحكم.

إن قلت : احتمال دخل الخصوصية في الحكم مستلزم لاحتمال تقييده بها ، فيمتنع استصحابه بعد ارتفاعها ، لأن الحكم المقيد لا يقبل الاستصحاب ، والمطلق غير متيقن الحصول من أول الأمر.

قلت : لا يكون الإطلاق والتقييد إلا في الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكبروية الإنشائية ، التي سبق أنها ليست موردا للكلام هنا ، وأن الكلام هنا في الحكم الفعلي ، وهو حكم جزئي شخصي لا يقبل الإطلاق ولا التقييد ، بل كل خصوصية تؤخذ في الكبرى الشرعية تكون علة له ، لا يضر تخلفها بوحدته المقومة للاستمرار الذي يحرز بالاستصحاب.

٤٦١

الوجه الثاني : أن استصحاب الحكم في زمان الشك معارض باستصحاب عدمه الأزلي في الزمان المذكور ، لأن العدم الأزلي وإن علم بانتقاضه بجعل الحكم في الجملة مرددا بين الانقطاع والاستمرار ، إلا أن المتيقن هو انتقاضه في الحصة الأولى من الزمان ، وهي زمان اليقين ، دون الحصة الثانية ، وهي زمان الشك. بل مقتضى الاستصحاب بقاء العدم الأزلي المذكور في زمان الشك ، وبه يعارض استصحاب الحكم الثابت في زمان اليقين إلى زمان الشك.

ويندفع بأنه مع تقييد الموضوع بالزمان أو الحال المتيقن لا يجري استصحاب ثبوت الحكم ، كما سبق ، بل يجري الاستصحاب العدمي لا غير ، ومع عدم تقييده بأن يكون الموضوع واحدا متحققا في الحالين يجري استصحاب ثبوت الحكم ، ولا يجري الاستصحاب العدمي ، لانتقاض العدم الأزلي لحكم الموضوع المذكور بثبوته في الزمن السابق ، والشك إنما هو في استمراره في الزمان اللاحق ، الذي هو مقتضى الاستصحاب الوجودي ، لا في وجود آخر ، ليجري استصحاب عدمه أولا.

إن قلت : جعل الحكم في زمان الشك أمر مشكوك مسبوق بالعدم ، ومقتضى الاستصحاب عدمه. فيقال : لم يكن الحكم مجعولا في هذه الحصة من الزمان ، فيستصحب العدم المذكور.

قلت : الأثر العملي إنما يترتب على الأحكام الشرعية ، كالوجوب والحرمة والطهارة والنجاسة ، لا على جعلها بما هو فعل حقيقي للجاعل. فلا يجري استصحاب عدم الجعل ، لعدم الأثر لمتعلقه ، إلا بناء على الأصل المثبت.

على أن من المعلوم أن الحكم المستمر لا يستند وجوده في كل آن إلى

٤٦٢

جعل مباين لجعله في الآن الآخر ، بل يكفي فيه جعل واحد يبتني على استمرار الحكم المجعول ، فمع كون مقتضى الاستصحاب الوجودي استمرار الحكم المجعول في الزمان المشكوك يترتب أثره ، ولا يمنع منه العلم بعدم الجعل الخاص بالزمان المشكوك ، فضلا عن استصحابه. فلاحظ.

٤٦٣

الفصل السادس

في استصحاب أحكام الشرائع السابقة

تمهيد

لا إشكال في إمكان نسخ الأحكام الشرعية والعرفية ووقوعه.

والظاهر رجوعه إلى رفع الحكم بعد ثبوته ، نظير فسخ العقد ، وحلّ النذر ، فإن للحكم نحوا من الوجود الاعتباري تابعا لمن بيده جعله واعتباره ، فكما كان له تشريعه وجعله كان له رفعه ونسخه ، كما يشهد بذلك الرجوع للمرتكزات العرفية.

نعم إذا كان جاعل الحكم حكيما فلا بد من غرض عقلائي له في جعل الحكم ونسخه. ويكفي في ذلك ثبوت المصلحة في نفس جعل الحكم على نحو الإطلاق لا في متعلقه ، ثم انتهاء أمد تلك المصلحة. بل إن أمكن في حقه الجهل أمكن أن يكون مصحح جعل الحكم تخيل وجود المصلحة في نفس الحكم أو في المتعلق ، ومصحح النسخ انكشاف الخطأ له في ذلك.

هذا وقد يدعى رجوع النسخ إلى التخصيص في الأزمان ورفع اليد عن إطلاق دليله أو عمومه الأزماني المقتضي لاستمراره.

لكنه يشكل أولا : بأن الحكم المنسوخ قد يختص بواقعة واحدة لا استمرار لها ، كأمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده. وأن دليله قد يكون لبيا أو لفظيا نصا في العموم لا يقبل التخصيص. وأنه قد يكون الزمان الذي يرفع فيه الحكم أكثر بكثير من الزمان الذي بقي فيه ، فلو رجع للتخصيص لزم تخصيص الأكثر

٤٦٤

المستهجن.

وثانيا : بأن المرتكز كون النسخ رفعا واقعيا للحكم ، لا كشفا عن حال دليله في مقام الظاهر. ولذا لا إشكال في عدم سقوط دليل الحكم عن الحجية لو علم من أول الأمر بورود النسخ عليه من دون أن يعلم وقته ، مع أن العام يسقط عن الحجية لو علم من أول الأمر بعدم إرادة عمومه وتخصيصه في الجملة.

ومثله ما قد يدعى من رجوع النسخ إلى الكشف عن حال الحكم ، وأنه صوري من أصله أو باستمراره ، لعدم ثبوت الملاك فيه على نحو ما جعل فهو مخالف لأصالة الجهة في دليل الحكم.

لاندفاعه أولا : بما سبق من أن دليل الحكم الذي يطرأ عليه النسخ قد يكون لبيا ، ولا موضوع معه لأصالة الجهة. وبما سبق أيضا من أن لازم ذلك سقوط دليل الحكم عن الحجية لو علم بورود النسخ عليه ولم يعلم وقته ، لسقوط أصالة الجهة فيه حينئذ بالعلم المذكور.

وثانيا : بأن مجرد خلوّ الحكم عن الملاك لا يجعله صوريا ، بل لا يكون صوريا إلا إذا انحصر الغرض منه بإظهار جعل الحكم من دون أن يقصد جعله ، بحيث لو علم المكلف بحاله انكشف له عدم كونه موردا للعمل. وخلوّ الحكم عن الملاك لا يخرجه عن كونه موردا للعمل ، بل غاية الأمر أن يكون جاعل الحكم مخالفا لمقتضى الحكمة ، أو مخطئا في تخيل ثبوت الملاك.

على أن المراد بهذين الوجهين إن كان هو شرح حقيقة النسخ مطلقا حتى مع عدول الحاكم عن حكمه ، لانكشاف الخطأ له في تشخيص الملاك الداعي لجعل الحكم لو كان ممن يمكن في حقه الخطأ. فلا ريب في عدم نهوضهما بذلك ، لتوقفهما على التفات الحاكم لعدم مطابقة حكمه للملاك الواقعي ، ولا مجال لهما مع اعتقاده ـ ولو خطأ ـ بمطابقة حكمه على إطلاقه للملاك. بل لا

٤٦٥

يخرج النسخ منه حينئذ عما ذكرنا.

وإن كان المراد بهما شرح حقيقة النسخ من خصوص من لا يبتني نسخه على انكشاف الخطأ له ـ كالشارع الأقدس ـ فرارا عن محذور حكمه على خلاف ما يعلمه من الملاك. أشكل بأنه لا ملزم بخروج نسخه للحكم عن حقيقته ، إذ يكفي في دفع المحذور المذكور ثبوت المصلحة في نفس جعل الحكم على نحو الإطلاق ، وإن لم يتم ملاكه في المتعلق ، كما ذكرناه آنفا. ومن هنا لا مخرج عما ذكرناه في حقيقة النسخ.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن الأصل عدم النسخ. وهو أصل قائم بنفسه لا يبتني على الاستصحاب. ولذا يجري مع الشك في نسخ كبرى الاستصحاب.

والوجه فيه بناء العقلاء عليه في أمور معاشهم ومعادهم ، حيث لا ريب بعد ملاحظة عملهم وارتكازيتهم في بنائهم في الأمور التشريعية ـ قانونية كانت أو شخصية ـ على بقائها ما لم يثبت رفعها. وإلا لاضطرب نظم التشريع ، لعدم الضابط لاحتمال النسخ ، فقد يتوجه المكلّف له ولا يتوجه له المشرع ليتصدى لرفعه ، بل قد لا يتسنى له رفعه لو توجه له. فلو كان البناء على التعويل على الاحتمال المذكور لزم فوت الغرض من التشريع واضطرب نظامه. وأدنى نظر في سيرة العقلاء الارتكازية في التكاليف الشخصية ، والقوانين الوضعية الدنيوية ، والتشريعات الدينية ـ على اختلاف الأديان ـ يوجب وضوح ذلك.

وكفى بهذه السيرة حجة بعد وضوح كونها ارتكازية عامة لم يثبت الردع عنها. بل يعلم بإمضاء الشارع الأقدس لها ، بملاحظة اتفاق العلماء ـ قولا وعملا ـ وسيرة المتشرعة ـ بما هم أهل دين ـ على ذلك ، من دون أن يبتني ذلك على أخبار الاستصحاب ، لعدم توجههم للاستدلال بها إلا في العصور المتأخرة.

٤٦٦

على أن المراد بالاستصحاب إن كان هو استصحاب عدم نسخ الحكم ، لأنه أمر حادث مسبوق بالعدم. فهو يبتني على الأصل المثبت ، لأن الأثر للحكم الشرعي ، وترتيب بقاء الحكم على عدم نسخه ـ كترتب حدوثه على جعله وارتفاعه على نسخه ـ ليس شرعيا ، بل خارجيا.

وإن أريد استصحاب نفس الحكم بلحاظ اليقين به سابقا والشك في بقائه تبعا لاحتمال نسخه ، فهو قليل الفائدة ، لأنه إنما ينفع في خصوص الوقائع التي يطرأ فيها احتمال النسخ بعد العلم بفعلية الحكم فيها تبعا لتمامية موضوعه ، كما لو احتمل يوم الجمعة نسخ غسلها بعد فعلية استحبابه.

أما الوقائع التي يطرأ فيها احتمال النسخ قبل فعلية الحكم فيها وقبل تمامية موضوعه ، فلا مجال لاستصحاب الحكم الذي يحتمل نسخه ، لعدم العلم بثبوته سابقا ، بل يعلم بعدمه تبعا لعدم فعلية موضوعه ، فيكون مقتضى الاستصحاب عدمه.

نعم قد يقال : إنه وإن لم يجر استصحاب الحكم الفعلي مع عدم تمامية الموضوع ، إلا أنه يمكن استصحاب ما يستفاد من القضايا الكبروية التشريعية التي هي بلسان القضايا التعليقية أو الحقيقية الراجعة إليها. وقد ذكروا لذلك عدة وجوه نقتصر منها على وجهين :

الأول : أن المستصحب حينئذ السببية والملازمة بين الموضوع والحكم ، فإن لها نحوا من التحقق وإن لم يوجد طرفاها ، فيقال مثلا : كانت الجنابة سببا لحرمة المكث في المسجد فهي كما كانت.

ويشكل بأن السببية والملازمة ونحوهما من الأحكام الوضعية ليست أحكاما حقيقية مجعولة ليتم ركنا الاستصحاب فيها ، بل هي منتزعة من ترتب الأحكام على موضوعاتها ، مع كون مورد العمل هو تلك الأحكام ـ المفروض

٤٦٧

عدم فعليتها بعد ، لعدم تمامية موضوعاتها ـ كما فصلنا الكلام في ذلك في المسألة الثالثة من المقام الثاني في الأحكام الوضعية من مقدمة علم الأصول.

مع أنها لو كانت لها حقائق مجعولة فهي ليست بنفسها موردا للعمل ، بل بتوسط لازمها ، وهو فعلية الحكم تبعا لفعلية موضوعه ، ومن الظاهر أن التلازم بينهما ليس شرعيا ، بل خارجي ، فجريان الاستصحاب فيها يبتني على الأصل المثبت.

الثاني : أن للحكم الإنشائي التي تتضمنه الكبريات الشرعية نحوا من الوجود والتحقق يترتب عليه العمل عند فعلية موضوعه ، وبلحاظ ما له من التحقق أمكن نسخه. وحينئذ يمكن استصحابه عند الشك في نسخه ، لليقين بوجوده ، والشك في رفعه.

ويندفع بأن الحكم المذكور وإن كان له نحو من التحقق ، إلا أنه ليس موردا للعمل بنفسه ، بل بلحاظ مطابقته للأحكام الانحلالية التابعة لفعلية كل فرد فرد من الموضوع الكلي الذي تضمنته القضية الكبروية. فالحكم الحقيقي الذي تناله يد الجعل ، والذي هو مورد العمل عقلا وشرعا ليس هو الحكم الإنشائي ، بل الأحكام الفعلية الانحلالية المذكورة ، والتلازم بينه وبينها خارجي ، لا شرعي.

نعم ذكر بعض الأعيان المحققين قدس‌سره أن الحكم الحقيقي الذي هو مورد العمل هو الحكم الكبروي المذكور ، وأن فعلية الموضوع ظرف محركية الحكم عقلا ، لا ظرف فعلية الحكم الذي هو مورد العمل.

وبهذا يختلف التكليف المشروط ـ الذي إليه ترجع الكبريات الشرعية المجعولة بنحو القضية الحقيقية ـ عن التكليف المطلق الذي يخاطب به تبعا لفعلية موضوعه ، لانتزاع الثاني من الإرادة الفعلية ، وانتزاع الأول من الإرادة

٤٦٨

المنوطة. كما يختلفان أثرا ، لمحركية الثاني عقلا بمجرد الخطاب ، وعدم محركية الأول إلا بفعلية موضوعه خارجا.

لكنه يشكل بأن المرتكزات العرفية قاضية باتحاد الحكم المطلق والحكم المشروط سنخا ، وانتزاعهما معا عن الإرادة الفعلية الحاصلة للحاكم حين التفاته لفعلية تمام ما هو الدخيل في الغرض والملاك ، والتي تكون مقارنة للخطاب بالحكم المطلق ولفعلية موضوع الحكم المشروط.

وليس الخطاب بالثاني إلا لضبط موارد الأحكام الفعلية الانحلالية ، من دون أن يكون بنفسه موردا للعمل ، بل ليس الحكم الحقيقي الذي هو مورد للعمل إلا الحكم الفعلي المذكور. كما أن ذلك هو ظاهر الأدلة الشرعية التي تضمنت أخذ الأحكام في موضوعاتها ـ كالزوجية والملكية والحرية والوجوب والحرمة ـ حيث لا يراد منها في تلك الأدلة إلا الأحكام الفعلية التابعة لفعلية موضوعاتها ، لا الأحكام الكبروية الإنشائية التابعة للإنشاء.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه وقع الكلام بينهم في أنه هل يتجه البناء على بقاء أحكام الشرائع السابقة عند الشك في نسخها في شريعتنا ـ كما هو الحال في سائر موارد الشك في النسخ ـ لما سبق من الاستصحاب ، أو أصالة عدم النسخ ، أو لا؟. وقد منع من ذلك غير واحد.

والمذكور في كلماتهم وجوه ..

أحدها : تعدد الموضوع ، لاختلاف المخاطبين بالشرائع السابقة عن المخاطبين بهذه الشريعة ، فأهل هذه الشريعة غير مشمولين بدوا بتلك الأحكام ، ليكون مقتضى أصالة عدم النسخ ، أو الاستصحاب بقاءها في حقهم.

ويندفع بأن الظاهر أخذ عناوين المكلفين في تلك الأحكام بنحو القضية الحقيقية المنطبقة على أهل هذه الشريعة النافذة عليهم لو لم يطرأ النسخ. وإلا

٤٦٩

لامتنع النسخ ، لأنه رفع الحكم مع تحقق موضوعه ، لا انتهاء أمده لارتفاع موضوعه.

ثانيها : ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره. وهو أنه يعلم بنسخ جميع أحكام الشريعة السابقة بشريعتنا ، حتى الأحكام الموافقة لأحكامها ، وأن تضمن هذه الشريعة لبعض الأحكام الموافقة لأحكام تلك الشريعة لا يرجع إلى بقاء تلك الأحكام أو إمضائها ، بل إلى تشريع الحكم المماثل بعد انتهاء أمد جعله في الشريعة السابقة ، كما يقتضيه ما دل على نسخ هذه الشريعة لها.

وفيه : أنه لا معنى لنسخ الحكم الإلهي بمثله. ومجرد اختلاف الشريعتين لا يصححه مع وحدة الحاكم. وما تضمن نسخ شريعتنا لما قبلها لا يراد به نسخ جميع أحكامها بها ، بل مجرد هيمنتها عليها ، بحيث تخضع أحكام الشريعة السابقة للنسخ بها.

ثالثها : أن العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام تلك الشرائع مانع من الرجوع في مورد الشك فيه للاستصحاب أو لأصالة عدم النسخ.

وفيه : أنه لا أثر للشك في النسخ في مورد الجهل بحكم الشريعتين معا ، ولا في مورد العلم بحكم هذه الشريعة مع الجهل بحكم الشريعة السابقة ، لوجوب العمل على حكم هذه الشريعة سواء كان باقيا من الشريعة السابقة أم ناسخا لحكمها.

وإنما ينحصر الأثر له في موارد العلم بحكم الشريعة السابقة مع الجهل بحكم هذه الشريعة ، ومن الظاهر قلة الموارد المذكورة ، ولا يعلم إجمالا بتحقق النسخ في بعضها ، ليمنع من الرجوع فيها لأصالة عدم النسخ أو للاستصحاب.

هذه هي الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وقد ظهر ضعفها.

٤٧٠

نعم روى في الكافي عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل يتضمن أن الأنبياء عليهم‌السلام بعثوا في أول أمرهم بالدعوة للتوحيد وأنه لم تشرع لأممهم الأحكام إلا بعد فترة من بعثتهم ، قال عليه‌السلام بعد بيان حالهم : «ثم بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بمكة عشر سنين ، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله إلا أدخله الله الجنة بإقراره ، وهو إيمان التصديق ، ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك ، إلا من أشرك بالرحمن ... فلما أذن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخروج من مكة إلى المدينة بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصيام شهر رمضان. وأنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض ، وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها ، وأنزل في بيان القاتل ...» (١).

وهو صريح في عدم تشريع التكاليف ونحوها إلا بعد الهجرة ، وأن الدين في أوائل البعثة لم يكن إلا الشهادتين ، ولا يلزم المسلم بسواهما ، وإنما يندب لمكارم الأخلاق ، وهو مستلزم لنسخ جميع أحكام الشرائع السابقة الإلزامية ونحوها ، وليس تشريع الأحكام الموافقة لها أو المخالفة لها إلا بعد فترة طويلة.

وهو وإن كان ضعيف السند ، إلا أنه مؤيد أو معتضد بصحيح أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث إسلام أبي ذر رضي الله عنه ، حيث تضمن دخوله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإقراره أمامه بالشهادتين ووعده الطاعة له ، ثم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا رسول الله يا أبا ذر انطلق إلى بلادك ... وكن بها حتى يظهر أمري ...» (٢) ونحوه

__________________

(١) الكافي ج : ٢ ص : ٢٨ باب : ١٧ من كتاب الإيمان والكفر حديث : ١.

(٢) أمالي الصدوق في المجلس الثالث والسبعين ص : ٤٣٢ طبعة النجف الأشرف. والبحار ج : ٢٢ ص : ٤٢١ باب كيفية إسلام أبي ذر وسائر أحواله من تتمة أبواب سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حديث : ٣٢.

٤٧١

مرسل اللؤلؤي (١).

على أن ذلك هو الموافق للاعتبار ، لابتداء الدعوة للإسلام بين أقوام مشركين غالبا ، وليسوا أهل دين ، وهم يجهلون أحكام الشرائع السابقة ، ولم يألفوا العمل بها ، وظروف الدعوة لا تناسب فرض تلك الأحكام ، ولا غيرها من الأحكام العملية ، بل لا بد أولا من تركيز الدين ـ كعقيدة ـ واستحكام أصوله في النفوس والمجتمع ، والاعتراف به كحقيقة ثابتة قبل فرض سيطرته العملية في الحياة بتشريع أحكام العبادات والمعاملات.

ولا سيما وأن أحكام الشرائع السابقة لم تكن من الوضوح بحدّ يمكن معه الرجوع إليها والعمل بها ، لأن معتنقي تلك الشرائع قد حرّفوا أحكامها وضيعوا معالمها وكتموا كثيرا منها ، ولا يتيسر العلم بها إلا من طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يعرف عنه أنه تصدى لبيانها لأتباعه ليعملوا عليها. ولذا كانت التشريعات الإسلامية بلسان التأسيس لا بلسان النسخ والتعديل لأحكام الشرائع السابقة.

بل لا إشكال ظاهرا في تأخر تشريع كثير من مهمات الفرائض ـ كالصلاة والزكاة والصوم ـ مع وجود نظائرها في الشرائع السابقة من دون أن يعمل عليها المسلمون قبل تشريعها في الإسلام.

ومن هنا كان من القريب جدا نسخ الشرائع السابقة بجميع أحكامها العملية ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم تأسيس الشريعة تدريجا بعد مرور فترة خالية من الأحكام قد ترك فيها الناس على ما كانوا عليه في الجاهلية من أعراف وعادات في نظام الحياة.

نعم أهل تلك الشرائع ملزمون بأحكامها في الفترة المذكورة ، إما ظاهرا بمقتضى أصالة عدم النسخ قبل قيام الحجة عندهم على الإسلام ، أو واقعا ،

__________________

(١) روضة الكافي حديث : ٤٥٧ ص : ٢٩٧. والبحار في ذيل الحديث السابق.

٤٧٢

لقاعدة الإلزام التي هي قاعدة ثانوية تقتضي ثبوت الحكم بعنوان ثانوي ، لا بمقتضى التشريع الأولي.

ومن هنا لا مجال لاستصحاب أحكام تلك الشرائع في حق المسلمين بعد أن ثبت عندهم نسخ تلك الشرائع بالإسلام وأقروا بذلك.

٤٧٣

الفصل السابع

في الاستصحاب التعليقي

وقع الكلام بينهم في استصحاب مفاد القضية الشرطية من أجل إحراز فعلية الجزاء عند تحقق الشرط لو احتمل طروء ما يمنع من حصول الجزاء ، أو علم بطروء ما يحتمل كونه مانعا منه.

مثلا لو احتمل حصول العاصم للماء القليل ـ كالاتصال بالمادة الكثيرة ـ أو علم بحصول ما يحتمل كونه عاصما ـ كالاتصال بمادة دون الكر ـ فهل يمكن أن يقال : كان هذا الماء لو لاقى النجاسة لتنجس فهو كما كان ، من أجل البناء على نجاسته بالملاقاة؟.

وقد منع من ذلك غير واحد ، لأن الحكم في القضية التعليقية الشرطية لا وجود له قبل وجود ما علق عليه ، كي يستصحب ، بل المستصحب عدمه ، لسبق اليقين به قبل وجود ما علق عليه.

كما أنه قد تصدى غير واحد لتقريب جريان الاستصحاب في ذلك بالوجوه التي ذكرت لتقريب جريان الاستصحاب مع الشك في نسخ الحكم بالإضافة للوقائع المتجددة ، والتي تقدم منها وجهان ، وتقدم منها دفعهما.

هذا وظاهرهم ابتناء الكلام في هذه المسألة على تلك المسألة ، فإن جرى الاستصحاب هناك جرى هنا ، وإلا لم يجر.

لكن الظاهر اختلاف المقام عما سبق ، وأن عدم جريان الاستصحاب هناك ـ للزوم كون الأمر المستصحب فعليا ـ وإن كان مستلزما لعدم جريانه هنا ـ

٤٧٤

لعدم الفعلية أيضا ـ إلا أن جريانه هناك لا يستلزم جريانه هنا. لأن مرجع الوجوه المذكورة هناك إلى جريان الاستصحاب في السببية المنتزعة من الحكم ، أو في الحكم الإنشائي الكلي الذي هو مفاد الكبرى الشرعية. وكلاهما لا ينفع هنا.

أما السببية فلأنه لم يحرز سابقا أن تمام سبب الجزاء هو الشرط المتحقق حال الشك ـ كملاقاة النجاسة في المثال المتقدم ـ ليحرز باستصحاب سببية ترتب الجزاء عليه ، بل يعلم كونه جزء السبب وجزؤه الآخر الخصوصية التي يحتمل تخلفها ـ كعدم الاتصال بالمادة في المثال المتقدم ـ أو يحتمل كونه جزء السبب والجزء الآخر هو الخصوصية المفقودة ـ كعدم نزول المطر القليل في المثال المتقدم ـ ومن الظاهر أن إحراز السببية الأعم من التامة والناقصة لا ينهض بإحراز المعلول.

وأما الحكم الإنشائي الكلي فليس موضوعه هو الأمر الخارجي المحفوظ في حالتي اليقين والشك ـ كالماء القليل الخارجي في المثال المتقدم ـ بل موضوعه العنوان الكلي ـ كعنوان الماء القليل ـ مع العلم بأخذ الخصوصية التي يحتمل فقدها قيدا فيه ، أو احتمال أخذ الخصوصية التي يعلم بفقدها قيدا فيه.

ففي المثال المتقدم لا يعلم بأن موضوع الحكم الإنشائي بالانفعال هو مطلق الماء القليل المنطبق قهرا على الماء الخارجي المفروض ، بل يعلم أن موضوعه هو خصوص الماء القليل غير المتصل بالمادة ، أو يحتمل كون موضوعه هو خصوص الماء القليل الذي لم يتصل بمادة وإن كانت دون الكر.

وعلى كلا الحالين لا يحرز انطباقه على الماء المفروض ، ليكون استصحاب الحكم الكلي الإنشائي محرزا لانفعاله.

ومن ثم كان جريان الاستصحاب التعليقي أولى بالمنع من جريان استصحاب الحكم عند الشك في نسخه ، وإن سبق منا المنع من الثاني أيضا في

٤٧٥

غالب الموارد.

نعم قد يوجه جريان الاستصحاب التعليقي في محل الكلام بأن الموضوع الخارجي حيث كان سابقا واجدا لجميع ما يعلم أو يحتمل دخله في الحكم عدا الشرط المفقود تصدق بالإضافة إليه قضية شرطية قابلة للاستصحاب.

فالماء في المثال المتقدم حيث كان قليلا يعلم بعدم اتصاله بالمادة حتى ما دون الكر ، ولا يتوقف انفعاله إلا على إصابة النجاسة له ، تصدق بالإضافة إليه قضية شرطية قابلة للاستصحاب ، فيقال : كان هذا الماء إن أصابته نجاسة تنجس ، فهو كما كان. ولا يمنع من استصحابه احتمال حصول ما يعلم بمانعيته من الانفعال ، وهو اتصاله بالمادة الكثيرة ، أو العلم بحصول ما يحتمل مانعيته ، كاتصاله بمادة دون الكر. لابتناء الاستصحاب على إهمال مثل هذا الاحتمال.

لكنه يندفع أولا : بعدم اليقين سابقا بصدق الشرطية المذكورة على إطلاقها ، بل مقيدة بعدم طروء ما يعلم أو يحتمل مانعيته من تحقق الجزاء ، فالذي يصدق في المثال المتقدم قولنا : كان هذا الماء إن أصابته نجاسة وهو غير متصل بالمادة ولو كانت دون الكر تنجس ، ومن المعلوم أن الشرطية المقيدة معلومة البقاء ، ولا تنفع في إحراز تنجس الماء في محل الكلام.

وثانيا : بأن الشرطية المذكورة ليست شرعية ، بل هي منتزعة من جعل الحكم منوطا بجميع ما أخذ فيه. وليس المجعول شرعا في مقام الإنشاء إلا الحكم الكبروي على الماء الكلي مع تمام ما أخذ فيه من قيود وشروط. كما أن المجعول الفعلي هو الحكم الجزئي على الماء الجزئي الواجد لجميع ما أخذ في الحكم الكبروي الإنشائي. وكلاهما لا ينفع في المقام ، لعدم إحراز انطباقه على مورد الشك.

٤٧٦

الفصل الثامن

في أصالة تأخر الحادث

من الظاهر أن الاستصحاب كما ينهض بإحراز استمرار الحالة السابقة في زمان الشك مع الشك في أصل انتقاضها ، كذلك ينهض بإحرازه مع العلم بانتقاضها والشك في تقدمه وتأخره ، فكما يجري استصحاب حياة زيد مع الشك في موته ، يجري استصحاب حياته في زمان الشك مع العلم بموته والجهل بوقته ، فإذا علم بموت زيد أما في يوم الخميس أو في يوم الجمعة فمقتضى الاستصحاب حياته يوم الخميس.

نعم لا ينهض الاستصحاب المذكور بإحراز الحدوث في الزمان المتأخر ، فلو أسلم الوارث ليلة الجمعة في المثال السابق لم ينهض الاستصحاب بإحراز موت زيد يوم الجمعة ، ليترتب أثر موته حين إسلام الوارث ، وهو ميراثه منه ، فإن حياته يوم الخميس مع فرض موته في أحد اليومين وإن كانت تستلزم موته يوم الجمعة ، إلا أنه لا ترتب بينهما شرعا ، فالانتقال من أحدهما للآخر يبتني على الأصل المثبت.

هذا وقد وقع الكلام بينهم فيما لو علم بحدوث حادثين وشك في المتقدم والمتأخر منهما. ولذلك صورتان الأولى : أن يمكن اجتماعهما في الوجود ، كإسلام الوارث وموت المورث ، وموت الأب وموت الابن الثانية : أن يمتنع اجتماعهما في الوجود ، بل يخلف أحدهما الآخر ، لتضادهما ، كالطهارة والحدث ، حيث يتعين حينئذ بقاء المتأخر منهما وترتب أثره ، دون المتقدم.

فالكلام في مقامين :

٤٧٧

المقام الأول : في الحادثين غير المتضادين

ولا ينبغي التأمل في جريان استصحاب عدم كل منهما في زمان الشك ذاتا بلحاظ عمود الزمان ، من دون نظر لإضافة زمان الشك للحادث الآخر ، لتمامية ركني الاستصحاب فيهما معا.

فإذا علم بموت الأب والابن وتردد الأمر بين موت الأب يوم الخميس والابن يوم الجمعة والعكس جرى استصحاب حياة كل منهما وعدم موته إلى يوم الجمعة. غاية الأمر أنه يعلم بكذب أحدهما ، فيجري عليهما ما يجري على الأصلين المعلوم كذب أحدهما. وهذا كله ظاهر.

وإنما المهم الكلام في استصحاب عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر على إجماله بما هو زمان خاص من أزمنة الشك وبعنوانه الخاص من أجل إثبات أثره ، كميراثه منه. ومن الظاهر أن للشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر صورتين :

الصورة الأولى : أن يجهل تاريخ الحادثين ، كالمثال المتقدم. وظاهر شيخنا الأعظم قدس‌سره جريان الاستصحاب في كل منهما ذاتا ، وأنه يجري عليهما ما يجري على الأصلين المعلوم كذب أحدهما.

لكن منع من ذلك غير واحد ، لدعوى قصور دليل الاستصحاب بدوا عن ذلك. والمذكور في كلامهم وجهان :

الأول : عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. فقد تقدم عند الكلام في أركان الاستصحاب أنه لا بد من إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بحيث يحرز أن المشكوك استمرار للمتيقن ، ولا يكفي تقدم زمان المتيقن على زمان المشكوك مع انفصالهما بزمان آخر ، نظير الطفرة ، بل ولا مع احتمال الانفصال.

٤٧٨

ولا مجال لإحراز الاتصال في المقام ، لأن عدم أحد الحادثين حين حدوث الآخر وإن كان مشكوكا فيه بعد اليقين به سابقا ، إلا أنه لما كان الشيء معلوم الحدوث في الجملة ـ قبل الحادث الآخر أو بعده ـ فمن المحتمل أن يكون زمان حدوثه الإجمالي فاصلا بين زماني الشك واليقين المفروضين.

مثلا : لما فرض في المثال السابق تردد زمان كل من موت الأب وموت الابن بين الخميس والجمعة ، فزمان اليقين بعدم موت الابن هو يوم الأربعاء ، وهو إنما يكون متصلا بزمان الشك المفروض ـ وهو زمان موت الأب ـ إذا كان الزمان المذكور هو يوم الخميس أما إذا كان هو يوم الجمعة كان منفصلا عنه بيوم الخميس. وعلى ذلك لا يجري استصحاب عدم موت الابن إلى حين موت الأب. وكذا الحال في العكس.

إن قلت : إن كان زمان موت الأب يوم الخميس ، فهو متصل بزمان اليقين بعدم موت الابن ، وإن كان يوم الجمعة كان متصلا بزمان الخميس المتصل به ، وذلك كاف في صحة الاستصحاب فيه ، إذ لا يعتبر في استصحاب المتيقن في زمان ليترتب عليه الأثر اتصال ذلك الزمان بنفسه بزمان اليقين ، بل يكفي اتصاله بزمان شك مثله متصل بزمان اليقين ، فإذا علم بالطهارة صباحا ، وشك في انتقاضها ضحى أمكن استصحابها إلى الظهر ، لاتصاله بالضحى المتصل بزمان اليقين.

فالمقام نظير ما لو علم بنجاسة الجسم صباحا ، وشك في تطهيره ، وعلم بملاقاته برطوبة ضحى أو ظهرا ، حيث يجري استصحاب نجاسته إلى زمان الملاقاة المردد بين الضحى المتصل بنفسه بزمان اليقين والظهر المتصل بالضحى الذي هو متصل بزمان اليقين.

قلت : إنما يكفي اتصال زمان الشك الذي هو مورد الأثر بزمان شك

٤٧٩

متصل بزمان اليقين إذا أريد بالاستصحاب جره منه إليه ، لا من زمان اليقين ابتداء إليه ، كما في مثال الطهارة المتقدم ، حيث يكون الغرض من استصحابها إلى وقت الظهر البناء على بقائها من الصبح إلى الضحى إلى الظهر ، لا على انتقالها من الصبح إلى الظهر ابتداء نظير الطفرة.

وعليه يجري الاستصحاب في مثال الملاقاة المذكور ، لوضوح أن زمان الملاقاة لو كان هو الظهر كان المقصود بالاستصحاب التعبد ببقاء النجاسة إليه من الصبح بعد عبورها على الضحى.

أما في المقام فلا يراد باستصحاب عدم موت الابن إلى حين موت الأب ـ المردد بين الخميس والجمعة ـ إلا البناء على عدم موت الابن في زمان موت الأب بعنوانه ـ على ما هو عليه من التردد ـ من دون أن يتضمن البناء على بقائه إلى زمان موت الأب مطلقا ، بحيث لو كان هو يوم الجمعة لكان عابرا إليه من يوم الخميس ، للقطع بعدم بقاء حياة الابن وعدم موته إلى يوم الجمعة ، بل هو منتقض في أحد اليومين المذكورين.

الثاني : أن الشك في بقاء الشيء في زمان الآخر .. تارة : يكون للشك في مقدار ذلك الشيء ، كما لو علم بأن موت الأب كان ليلة الجمعة ، وشك في أن موت الابن كان يوم الخميس أو يوم الجمعة. وأخرى : يكون للشك في تقدم ذلك الشيء الآخر وتأخره ، كما لو علم بموت الابن ليلة الجمعة وشك في أن موت الأب يوم الخميس أو يوم الجمعة.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأول. أما في الثاني فالظاهر عدم جريان الاستصحاب هنا ، فلا يستصحب في المثال عدم موت الابن حين موت الأب. لأن المنساق من أدلة الاستصحاب المناسب لارتكازية مضمونه هو التعبد ببقاء المشكوك واستمراره وطول أمده ، لا تحققه في زمان الشك بما له

٤٨٠