الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

المبحث الثالث

في الموارد التي وقع الكلام في

تمامية أركان الاستصحاب وشروطه فيها

بعد أن تعرضنا في المبحثين الأولين إلى أدلة الاستصحاب ومفاده ، وتحديد كبراه وأركانه وشروطه ، يقع الكلام في هذا المبحث في تمامية الأركان والشروط في بعض الموارد لخصوصيات فيها أوجبت الخلاف فيها.

وهو يقع في ضمن فصول ..

الفصل الأول

في استصحاب العدم الأزلي

حيث تقدم في ذيل الكلام في الأصل المثبت جريان استصحاب الأمور العدمية ، فيقع الكلام هنا في استصحاب العدم الأزلي ، وهو العدم بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع ، فإن موضوع الأثر قد يكون هو ثبوت العرض للموضوع وانتسابه له بمفاد كان الناقصة ، أو عدم ثبوته كذلك ، كما لو ورد : إذا كانت المرأة قرشية فيأسها من الحيض ببلوغها ستين سنة ، أو : إذا لم تكن قرشية فيأسها ببلوغها خمسين سنة. وحينئذ هل يمكن استصحاب عدم العرض بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، فيستصحب عدم كون المرأة قرشية بلحاظ حال ما قبل وجودها لإحراز أن يأسها ببلوغها خمسين سنة ، لا ببلوغها ستين سنة؟ وجهان : أظهرهما الأول ،

٤٤١

لتمامية أركان الاستصحاب وشروطه ، لليقين بانتفاء النسبة قبل وجود الموضوع والشك في ثبوتها عند تحققه ، فيستصحب العدم المذكور ، ويترتب أثره. وهو المطابق لما هو المرتكز عرفا من أن العدم هو الأصل ، الذي يكفي في البناء عليه عدم الدليل على الثبوت.

هذا وقد منع غير واحد من ذلك. وقد استدل لهم بوجوه نقتصر منها على وجهين :

الأول : أن العدم الأزلي المتيقن مغاير للعدم المشكوك المقارن لوجود الموضوع ، لاستناد الأول لعدم الموضوع ، والثاني لأمر آخر.

وفيه : أن تعدد المنشأ والعلة لا يوجب تعدد المعلول عرفا ، ولا دقة ، بل المعيار في الوحدة استمرار الأمر الواحد وبقاؤه ، وإن استند حدوثه لعلة ، وبقاؤه لعلة أخرى.

الثاني : أن المعتبر في موارد التقييد بالعدم هو العدم النعتي المأخوذ وصفا للموضوع ، والذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول ، التي لا تصدق إلا بعد وجود الموضوع ، ولا يكفي في إحرازها استصحاب مفاد السالبة بانتفاء الموضوع ، إلا بناء على الأصل المثبت. والوجه في كون المعتبر في موارد التقييد هو العدم النعتي : أن تقييد موضوع الحكم بالعرض ـ ومنه الأمر العدمي ـ لا يراد به محض تقارنهما في الزمان ، ليكفي استصحاب العرض بمفاد كان التامة إلى حين وجود الموضوع ، بل يرجع إلى تخصيص الموضوع بخصوص الحصة المتصفة بالعرض ، لاستحالة إطلاق الموضوع مع التقييد بوجود عرضه ، للتدافع بين الإطلاق والتقييد المذكورين ، فإذا كان العرض عدميا لم يكن الاتصاف به إلا بمفاد الموجبة المعدولة المحمول ، التي يكون العدم فيها نعتيا.

٤٤٢

وفيه : أن التقييد بالأمر العدمي على نحوين «أحدهما» : التقييد بمفاد السالبة المحصلة المحمول ، الذي هو نقيض مفاد الموجبة بمفاد كان الناقصة ، كما في قولنا : إذا لم يكن زيد فاسقا فأكرمه ، أو : يجب إكرام العالم الذي ليس بفاسق «ثانيهما» : التقييد بمفاد الموجبة المعدولة المحمول ، الذي يقابل مفاد الموجبة بمفاد كان الناقصة تقابل الملكة وعدمها ، كما في قولنا : إذا كان زيد غير فاسق فأكرمه ، أو : يجب إكرام العالم غير الفاسق. وإرجاع الأول للثاني ، بحيث ينحصر الأمر بالثاني لا وجه له ، بل هو مخالف لمفاد الأدلة.

ومن الظاهر أن ما يتوقف صدقه على وجود الموضوع هو الثاني ، ولا يجري معه استصحاب العدم الأزلي قطعا. أما الأول فهو يصدق قبل وجود الموضوع بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا وجه لمنع جريان الاستصحاب فيه بنحو العدم الأزلي بعد اليقين به سابقا والشك لاحقا ، كما لا وجه لإرجاعه للثاني بعد اختلاف مفادهما.

بقي شيء

وهو أن استصحاب العدم الأزلي إنما يجري لنفي ما هو من عوارض وجود الموضوع في الخارج ، بحيث يمكن نفيه عنه قبل وجوده بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، كبياض الجسم ، وانتساب الشخص لقبيلة خاصة ، ونحوهما. دون ما إذا احتمل كونه من ذاتياته كالإنسانية والحيوانية في الشبح المردد بين الإنسان وغيره ، أو من حدود الوجود الخارجي أو لوازمها ، كالعدد الخاص أو الزوجية في المجموعة المرددة بين الأقل والأكثر ، فإن جميع ذلك لا ينفك عن موضوعه حتى بلحاظ حال ما قبل وجوده ، فلا يقين بعدمه أزلا ، ليمكن استصحابه بلحاظه.

٤٤٣

الفصل الثاني

في استصحاب الأحكام الوضعية

حكي عن الفاضل التوني قدس‌سره القول بعدم جريان الاستصحاب إلا في الأحكام الوضعية. لكن لا بمعنى جريانه في نفس الحكم الوضعي ـ كالسببية والمانعية ونحوهما ـ بل في موضوع الحكم الوضعي ، كالبلوغ الذي هو سبب للتكليف ، والطهارة التي هي شرط للصلاة ، والحيض الذي هو مانع منها. فالتفصيل في الحقيقة بين موضوعات الأحكام الوضعية وغيرها.

وعمدة ما ذكره في وجهه : هو عدم عروض الإجمال والشك في بقاء الحكم التكليفي ـ الذي هو مورد للعمل ـ إلا من جهة الشك في حدوث سببه أو شرطه أو مانعة ، أو بقاء أحدهما ، لوفاء الأدلة بالجهات الأخرى ، فلا يحتاج للاستصحاب.

وهو كما ترى ، لإمكان الشك من جهات أخرى ، لإجمال الأدلة ، كما لو شك في مفهوم السبب وتحديده ، بأن شك مثلا في مقدار السن الذي يتم به البلوغ ، أو شك في كيفية سببية السبب ، وأنه سبب حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط ، أو نحو ذلك ، مما لا مجال معه للاستصحاب في نفس السبب وجودا أو عدما ، فيحتاج لاستصحاب نفس الحكم.

نعم في المقام نزاع آخر ، وهو النزاع في جريان الاستصحاب في نفس الأحكام الوضعية ، كالسببية والشرطية والمانعية والملكية والحجية وغيرها. ومنشؤه النزاع في أن الأحكام الوضعية مجعولة بأنفسها أو منتزعة من الأحكام التكليفية ، فيصح استصحابها على الأول ، ولا يصح على الثاني ، إذ لا حقيقة

٤٤٤

لها ، لتكون موردا للعمل الذي هو الشرط في جريان الاستصحاب. ويظهر الحال في النزاع المذكور مما سبق منا في مقدمة هذا الكتاب من الكلام في حقيقة الأحكام الشرعية.

٤٤٥

الفصل الثالث

في استصحاب الكلي والأمر المردد

من الظاهر أنه لا بد من كون المستصحب بعنوانه العام أو الخاص موردا للأثر. فإذا كان الأثر للعام لزم استصحابه بعنوانه ، وهو المراد باستصحاب الكلي. وإذا كان الأثر للخاص لزم استصحابه بعنوانه ، وهو المراد باستصحاب الفرد. إلا أن الكلام هنا يقع في بعض أقسام استصحاب الكلي والفرد ، لخصوصية فيها مع قطع النظر عما تقدم.

والكلام في ذلك في مقامين :

المقام الأول : في استصحاب الكلي

اعلم أنه بعد فرض كون موضوع الحكم هو الكلي فللشك في بقاء الكلي أقسام ينبغي التعرض لها ولحكمها.

القسم الأول : الشك في بقاء الكلي للشك في بقاء فرده الذي علم بوجوده في ضمنه سابقا. كما لو كان الأثر لوجود الإنسان في الدار ، وعلم سابقا بوجود زيد فيها ، واحتمل خروجه منها.

ولا إشكال هنا في استصحاب الكلي وترتب أثره ، لتمامية أركان الاستصحاب فيه.

القسم الثاني : الشك في بقاء الكلي لتردد الفرد الذي علم بوجوده في ضمنه سابقا بين الطويل المعلوم البقاء والقصير المعلوم الارتفاع. كما لو تردد الإنسان المعلوم وجوده سابقا في الدار بين زيد وعمرو ، وعلم بأنه إذا كان زيدا فهو

٤٤٦

باق ، وإذا كان عمرا فهو قد خرج.

والظاهر هنا ـ كما ذكر غير واحد ـ جريان استصحاب الكلي أيضا ، وترتب أثره وإن لم يحرز به أثر خصوص الفرد الطويل ، لعدم تمامية أركان الاستصحاب فيه.

وقد يستشكل فيه بوجهين :

أحدهما : أن الكلي الطبيعي لا وجود له إلا بوجود فرده ، فموضوع الأثر حقيقة هو الفرد الذي يوجد الكلي ضمنه ، فمع عدم جريان الاستصحاب في الفرد ـ لعدم تمامية ركني الاستصحاب فيه ، لتردده بين مشكوك الحدوث ومعلوم الارتفاع ـ لا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي.

ويندفع بأن المستصحب ليس هو الكلي بنفسه لا في ضمن فرد ، بل الكلي في ضمن الفرد المعلوم الحدوث. وعدم تمامية ركني الاستصحاب في الفرد المذكور بكل من خصوصيتيه الفرديتين لا ينافي تماميتها في ذلك الفرد بما هو فرد للكلي وبعنوانه الذي صار به موضوعا للأثر.

نظير ما لو تردد الكلي في القسم الأول بين فردين كل منهما محتمل البقاء ، كما لو علم سابقا بوجود زيد أو عمرو في الدار واحتمل بقاؤه فيها على كلا التقديرين ، حيث لا ريب في جريان استصحاب بقاء الإنسان في الدار ، وإن لم يتم ركنا الاستصحاب في كل من الفردين بخصوصيته ، لعدم اليقين بدخوله فيها.

ثانيهما : أن الشك في بقاء الكلي لما كان مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، كان استصحاب عدم حدوث الفرد المذكور حاكما على استصحاب الكلي ، ومانعا من ترتب العمل عليه.

ويندفع بأن الفرد والكلي متحدان حقيقة ، ومختلفان عنوانا ، من دون

٤٤٧

ترتب بينهما خارجا ، فضلا عن أن يكون بينهما ترتب شرعي ، فلا وجه لحكومة الأصل الجاري في الفرد على الأصل الجاري في الكلي ، بل يتعين العمل بالأصل الجاري في الكلي بعد كونه موضوعا للأثر ، من دون أن يمنع منه الأصل الجاري في الفرد الطويل بخصوصيته.

القسم الثالث : الشك في بقاء الكلي لاحتمال وجود فرد آخر غير المتيقن مع العلم بارتفاع المتيقن ، كما لو علم بوجود الإنسان سابقا في الدار في ضمن زيد ، وعلم بخروج زيد ، لكن احتمل بقاء الإنسان لوجود عمرو فيها.

والمعروف هنا المنع من جريان الاستصحاب. والعمدة في وجهه : أن وجود الكلي الطبيعي وإن كان بوجود فرده ، إلا أن وجوده في ضمن الأفراد المتعددة ليس وجودا واحدا له ، بل تتعدد وجوداته بتعدد أفراده ، فلا يكون الوجود المشكوك بقاء للمتيقن ، بل يكون مباينا له ، فيمتنع الاستصحاب.

إن قلت : هذا إنما يتم بالإضافة للوجود الحقيقي المستند للعلل التكوينية الخارجية ، دون الوجود الانتزاعي السعي المنسوب للكلي بما هو على سعته ، من دون نظر إلى تخصصه ، وهو صرف الطبيعة ، فإنه لا تكثر فيه بتعدد الأفراد ، بل يتحقق بصرف الوجود ـ الذي يصدق مع الواحد والمتعدد ـ ولا ينعدم إلا بعدم جميع الإفراد. وحينئذ يتعين جريان استصحاب الكلي في المقام بلحاظ وجوده السعي المذكور ، الذي لا يتعدد بتعدد الأفراد.

قلت : لا مجال لاستصحاب الكلي بلحاظ الوجود السعي المذكور ، لأنه أمر انتزاعي ليس له ما بإزاء في الخارج ، ولا يكون غالبا محطّ الآثار والأغراض ، وليس محطها إلا الوجود المحدود المتكثر بتكثر الأفراد ، حيث يكون ذلك قرينة عرفية على أن موضوع الأحكام الشرعية هو الوجود المحدود ، لا الوجود السعي ، ولذا كان المرتكز عرفا أن كل فرد موضوع مستقل يستند الأثر له ، فلو

٤٤٨

تكثرت الأفراد كان السبب متكثرا. فإن تعدد الحكم كان كل منها مؤثرا له ، وإن اتحد كان مستندا لأسبقها وجودا وكان الباقي لاغيا ، ولا يكون السبب في ذلك واحدا ، وهو الوجود السعي غير القابل للتكثر.

نعم قد يستفاد من الأدلة كون الموضوع الشرعي هو الكلي بما له من الوجود السعي ، لمناسبات وقرائن خاصة مخرجة عما سبق ، كعنوان الجدة واليسار الموضوع لبعض الأحكام ، فإنه متقوم بملكية الشخص للمال من دون ملاحظة خصوصية الأموال ، فيستمر عرفا مع تعاقبها ، لأن المناسبات الارتكازية تقتضي بأن اعتباره لأجل كونه منشأ للقدرة والمكنة التي لا تقوم بخصوصياتها ، ولا تتكرر بتعددها ولا بتعاقبها. وحينئذ لا مانع من استصحاب الكلي فيستصحب يسار الشخص وجدته للمال مثلا بما لها من الوجود السعي المستمر ولو مع تعاقب الأموال ، وإن علم بخروج شخص المال الذي كان عنده سابقا عن ملكيته.

وأظهر من ذلك ما إذا كان الموضوع معنى بسيطا قائما بالأفراد أو ملازما لها ، كعنوان القبيلة ، كما إذا قيل : إن كان الحكم لآل فلان وجبت الصدقة في كل جمعة ، بأن يراد بذلك استحقاقهم الحكم قانونا ، أو استسلام الناس لهم إذ المعنى المذكور لا يتوقف على فعلية وجود الحاكم منهم ، بل يصدق لو مات الحاكم منهم قبل تعيين غيره. فيتجه استصحاب بقاء الحكم لهم ، ولو مع العلم بعدم بقاء الحاكم المتيقن سابقا. بل ليس هذا من استصحاب الكلي ، لأن العنوان الذي هو موضوع الأثر شخصي.

بقي في المقام أمران :

أولهما : أنه لا يفرق فيما ذكرنا بين كون الفرد المحتمل مقارنا للفرد المتيقن المعلوم ارتفاعه ـ بأن اجتمع معه في الوجود ثم بقي بعده ـ وكونه مترتبا

٤٤٩

عليه ، بأن لم يجتمعا معا ، بل حدث المحتمل عند ارتفاع المتيقن من دون أن يتخلل العدم بينهما.

ودعوى : أنه في الصورة الأولى يحتمل بقاء الكلي بعين الوجود السابق المتيقن ، لا بوجود آخر ، لفرض احتمال وجود الفرد الآخر من أول الأمر.

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم بلحاظ الوجود السعي للكلي ، أما الوجود الحقيقي المتكثر ـ الذي سبق أن الاستصحاب إنما يصح بلحاظه ـ فلا مجال لذلك فيه ، لوضوح أن الوجود المتيقن للكلي قد علم بارتفاعه ، وإنما يحتمل بقاء الكلي في فرد لا يقين بوجوده سابقا.

ثانيهما : أن شيخنا الأعظم قدس‌سره قد حكم بجريان الاستصحاب فيما إذا كان الفرد المشكوك مباينا للفرد المتيقن حقيقة ، لكن العرف يتسامح فيه فيعده متحدا معه واستمرارا لوجوده وبقاء له. وذلك منه قدس‌سره للبناء على الاكتفاء في موضوع الاستصحاب بالتسامح العرفي ، الذي سبق منا المنع منه عند الكلام في موضوع الاستصحاب.

نعم مثّل قدس‌سره لذلك بما إذا علم بوجود السواد الشديد ثم علم بتبدله إما بسواد أضعف أو بالبياض. أو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشك وتردد الأمر بين زوالها وتبدلها بمرتبة أضعف ، وحكم في المثالين بجريان استصحاب السواد ، وكثرة الشك.

لكن الظاهر أن الاتحاد في المثالين المذكورين ونحوهما حقيقي لا تسامحي ، لأن المرتبة الضعيفة موجودة في ضمن المرتبة الشديدة بذاتها ، وإن اختلفت عنها بحدّها ، فتبدل حدود الأمور المشككة لا يوجب تبدل ذواتها ، ليكون من تبادل الفردين ، بل هو من سنخ تبدل الحالات الزائدة على الذات لا يمنع من صدق البقاء عليها حقيقة بلحاظ بقاء ما به الاشتراك بعينه ، فالمقام من القسم الأول لاستصحاب الكلي الذي تقدم عدم الإشكال في جريانه.

٤٥٠

المقام الثاني : في استصحاب الأمر المردد

لا بد في استصحاب الكلي ـ بما له من الأقسام المتقدمة ـ من كون موضوع الأثر هو الجهة الجامعة بين الأفراد بما لها من الحدود المفهومية مع اجتماع ركني الاستصحاب فيها ـ من اليقين والشك ـ بتلك الحدود. وعليه يبتني عدم جريان الاستصحاب في موردين :

الأول : المفهوم المردد ، بأن كان الشك في بقاء المفهوم الكلي ـ الذي هو موضوع الأثر ـ ناشئا من تردده وإجماله ، كما إذا تردد مفهوم العادل بين مجتنب الكبيرة فقط ومجتنب جميع الذنوب ، وكان زيد مجتنبا للجميع ثم ارتكب الصغيرة. فإنه لا مجال حينئذ لاستصحاب عدالته وإن اجتمع اليقين والشك في صدق عنوان العادل عليه ، لأن موضوع الآثار ليس هو صدق العنوان وصحة إطلاقه ، بل منشأ انتزاع العنوان والواقع الذي يحكي عنه ، فلا بد من اجتماع ركني الاستصحاب في منشأ انتزاعه ، والمفروض عدمه في المقام ، لأن المعنى الأول معلوم البقاء والمعنى الثاني معلوم الارتفاع ، وكل منهما لا يعلم بأنه موضوع الأثر.

نعم لا يعتبر اليقين والشك التفصيليان ، بل يكتفى بالإجمالي منهما ، لإطلاق دليلهما ، كما لو علم بوجود منشأ انتزاع العنوان الذي هو موضوع الأثر على إجماله ، وشك في بقائه كذلك. مثلا إذا علم بأن زيدا عادل ـ بأي معنى فرض ـ وشك في صدور ذنب منه يخرجه عن العدالة ، فإنه يصح استصحاب عدالته على إجمالها ، لأن المشكوك عين المتيقن وإن كان مجملا.

الثاني : الفرد المردد ، بأن لا يكون الأثر للكلي الجامع بين الفردين ، بل للفرد بما له من الحدود الواقعية المميزة له عن غيره ، ولا يكون بتلك الحدود موردا لليقين والشك التفصيليين ، ولا الإجماليين ، وإن كان العنوان الحقيقي أو الانتزاعي المنطبق على الفردين موردا لهما ، كعنوان «أحدهما» أو

٤٥١

عنوان «العالم».

كما لو نذر المكلف بأن يتصدق كلما اشغل زيد الدار يوما ، وحلف أيضا أن يتصدق كلما اشغلها عمرو يوما ، وعلم بدخول أحدهما يوم الجمعة ، وأنه إن كان زيدا فهو باق يوم الأحد ، وإن كان عمرا فهو خارج يوم السبت ، فإنه لا مجال لاستصحاب اشغال الدار من قبل أحدهما ، أو العالم ـ لو كانا معا عالمين ـ على إجماله إلى يوم الأحد من أجل وجوب التصدق لذلك اليوم ، لعدم تمامية ركني الاستصحاب في كل من الخصوصيتين ، والجامع المشترك بينهما الذي هو مورد لليقين والشك ليس موردا للأثر. بل استصحاب عدم دخول زيد الدار بضميمة العلم بعدم بقاء عمرو فيها يوم الأحد يقضي بعدم وجوب الصدقة لذلك اليوم.

نعم لو علم بدخول أحدهما إجمالا واحتمل بقاء الداخل منهما على كلا التقديرين اتجه استصحاب بقاء الداخل على إجماله ، لما سبق من عموم اليقين والشك للإجماليين.

٤٥٢

الفصل الرابع

في استصحاب الأمور التدريجية

وهي الأمور التي توجد تدريجا بتعاقب أجزائها ، بحيث لا يوجد جزء منها إلا بعد انعدام جزء آخر ، كالكلام والقراءة والسير والحركة والأكل وجريان الماء وغيرها.

وقد يستشكل في جريان الاستصحاب فيها بعدم اجتماع ركنيه فيها ، لأن ما علم حدوثه سابقا من أجزائها معلوم الارتفاع ، وغيره مشكوك الحدوث ، فالأصل عدمه ، ولا يمكن فيها فرض أمر واحد معلوم الحدوث مشكوك البقاء.

لكنه يندفع بأن بقاء كل شيء بحسبه ، وبقاء الأمور التدريجية إنما هو بتعاقب أجزائها ، حيث يصح عرفا نسبة الوجود للأمر التدريجي بما أنه أمر واحد بلحاظ تعاقب أجزائه بالنحو المذكور. فإذا كان موضوع الأثر هو الأمر المذكور بما له من وحدة اعتبارية ، الذي لا وجود له إلا بهذا النحو ، تعين جريان استصحابه ، لتمامية ركنيه فيه بلحاظ الوحدة المذكورة ، وإن لم يتم ركناه في كل جزء بنفسه. وليس ذلك مبنيا على التسامح العرفي في البقاء ، الذي سبق منا عدم التعويل عليه ، بل هو مبني على البقاء الحقيقي لما يفهم من الأدلة أنه موضوع الأثر ، حيث لا بقاء له إلا بهذا النحو.

ومنه يظهر عدم الفرق بين ما تكون وحدته عرفا باتصال أجزائه حقيقة وعدم تخلل العدم بينها أصلا ـ كجريان الماء من الميزاب ـ وما تكون وحدته بتقارب أجزائه في الوجود مع تخلل العدم بينها دقة ـ كالكلام وتقاطر الماء والمطر ـ لأن المعيار احتمال بقاء موضوع الأثر العملي بالنحو الذي من شأنه أن

٤٥٣

يوجد عليه ، وهو حاصل في الكل.

نعم قد يكون البقاء تسامحيا فيما لو علم بانعدام الشيء في أمد قليل فيما تكون وحدته باتصال أجزائه ـ كجريان الماء ـ وفي أمد أكثر مما يغتفر فيما تكون وحدته بتقارب أجزائه ـ كتقاطر الماء ـ ثم احتمل عوده. ولا يجري الاستصحاب حينئذ. بل الظاهر خروجه عن محل كلامهم.

هذا والظاهر جريان الاستصحاب المذكور حتى مع العلم بانتهاء أمد المقتضي الأول والشك في البقاء لاحتمال تجدد مقتض آخر ، كما لو علم بحدوث الداعي للمتكلم لقراءة سورة خاصة ، واحتمل استمراره في القراءة لتجدد مقتض آخر لقراءة سورة أخرى. لأن تعدد المقتضي لا ينافي وحدة المعلول إذا لم يتخلل العدم بين أجزائه.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من منع جريان الاستصحاب حينئذ لتعدد الوجود عرفا. فهو ممنوع جدا ، كما ذكرنا ذلك في نظائره.

ومثله ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من الإشكال في استصحاب الأمر التدريجي مع الشك في مقدار الموضوع ، كما لو شك في جريان الماء للشك في مقدار الماء الجاري ، فضلا عما إذا كان للشك في تعدد الموضوع ، كما لو علم بانتهاء الماء الأول وشك في كون تقاطر ماء آخر يخلفه. لعدم الشك في جريان ما علم بجريانه سابقا ، بل في جريان ماء آخر غير ما علم بجريانه ، نظير القسم الثالث من استصحاب الكلي. ويختص جريان الاستصحاب بما إذا علم بقاء الموضوع وشك في بقاء العرض التدريجي ، كما لو علم ببقاء الماء الأول ، وشك في انقطاع جريانه.

وجه الإشكال : أنه بعد فرض عدم دخل خصوصية الموضوع في الأثر ، وقيام الأثر بالأمر التدريجي بنفسه ، فالمتعين جريان الاستصحاب ، لأن تعدد

٤٥٤

الموضوع لا يوجب تعدد الأمر التدريجي بعد فرض اتصاله بتعاقب أجزائه ، فإذا كان موضوع الأثر جريان الماء في الساقية ، فتعدد الماء لا ينافي وحدة الجريان واستمراره.

بقي شيء

وهو أنه حيث تقدم جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية ، فالمتعين جريان الاستصحاب في الزمان بما له من عناوين خاصة ـ كاليوم والليل والشهر ـ إذا كانت موردا للأثر. كما يجري أيضا في الحدود الزمانية ـ كالزوال وغياب الشمس وطلوع الفجر ـ إذا كانت موردا للأثر أيضا ، فيستصحب عدمها ، كما هو الحال في سائر الحوادث المسبوقة بالعدم. وإنما المهم الكلام هنا في أمرين :

الأمر الأول : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن استصحاب الزمان إنما ينفع فيما إذا كان موضوع الأثر هو وجوده بمفاد كان التامة ، دون ما إذا كان موضوعه ظرفية الزمان زائدا على وجوده بمفاد كان الناقصة. فإذا كان الواجب مثلا هو الصوم والنهار موجود أمكن استصحاب النهار لإحراز الامتثال بالصوم المقارن له. أما إذا كان الواجب هو الصوم في النهار فاستصحاب النهار لا يحرز ظرفيته للصوم الواقع في الزمان المشكوك حاله ، لأن الظرفية أمر زائد على وجود النهار قائم به وبالصوم لا وجود له قبل وجودهما معا ، واستصحاب النهار لا يحرزها إلا بناء على الأصل المثبت ، لاستلزام بقاء النهار حين الصوم وقوع الصوم فيه. فهو نظير استصحاب بقاء الخيمة منصوبة ـ لو شك في تقويضها ـ لإحراز كون الصلاة في مكانها صلاة في الخيمة.

كما أن استصحاب بقاء النهار لا يحرز كون الزمان الخاص الذي يقع فيه الصوم نهارا ، إلا بناء على الأصل المثبت ، نظير استصحاب بقاء الكرّ في الحوض لإحراز كرية الماء الموجود فيه.

٤٥٥

ومن هنا يشكل أمر الاستصحاب في الموقتات مما كان ظاهر الأدلة أخذ الزمان فيه ظرفا للحكم الشرعي أو لمتعلقه.

وقد تصدى غير واحد ممن تأخر عنه لدفع الإشكال المذكور ، وأكثر الوجوه التي ذكروها راجع إلى إنكار الظرفية الزمانية. ولعل أيسرها عرضا ما ذكره سيدنا الأعظم قدس‌سره من أن العناوين الزمانية لما كانت منتزعة من حوادث خاصة ، كوجود الشمس في القوس النهاري الذي ينتزع منه النهار ، ووجود القمر في الدور الخاص الذي ينتزع منه الشهر ، ونحوهما ، فمن الظاهر أن الحوادث المذكورة كسائر الحوادث التدريجية ـ كسير زيد وجريان النهر ـ لا معنى لكونها ظرفا لفعل المكلف الذي هو حادث مثلها ، بل لا بد من رجوع التقييد بها إلى أخذ محض وجودها بمفاد كان التامة من دون نظر لظرفيتها.

نعم الأمد الموهوم ظرف لجميع الحوادث حتى ما كان منشأ للعناوين الخاصة ، كحركة الشمس. إلا أنه لم يؤخذ التقييد به في شيء من الأدلة.

لكنه يشكل بأن العناوين المذكورة وإن كانت منتزعة من حوادث خاصة واقعة في الأمد الموهوم ، إلا أنها لا تحكي عن نفس الحوادث ، بل عما تقارنه من الأمد الموهوم المفروض كونه ظرفا. فليس النهار مثلا شروق الشمس ، بل الأمد الموهوم المقارن للشروق ، وكذا الحال في سائر العناوين الزمانية ، كالشهر والليل ونحوها ، فيعود الإشكال.

ولعل الأولى أن يقال : لا حقيقة للظرفية الزمانية إلا وجود الحادث مقارنا للزمان ، وليست هي كالظرفية المكانية مبنية ـ زائدا على ذلك ـ على اشتمال الظرف على المظروف ودخول المظروف في الظرف ، الذي هو أمر حقيقي زائد على وجودهما واقترانهما.

ولذا لا إشكال في أن تقييد الحادث بحصة من الزمان ـ كاليوم والشهر ـ لا

٤٥٦

يراد به كون الحصة المذكورة أوسع منه ومشتملة عليه ، فإذا وجب إيقاع الصوم في النهار وجب استيعاب الصوم له ، ولا يكتفى بصوم ما عدا طرفيه ، وإذا وجب إيقاع الصلاة في نصف النهار الثاني كفى البدء بها عند أول جزء منه ، والانتهاء منها عند آخر جزء منه.

كما لا فرق عرفا بين التقييد بالعنوان الزماني بما يظهر في الظرفية ـ مثل صم في النهار ـ والتقييد بحديه بما يقتضي محض المقارنة بمثل قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) ، حيث يناسب ذلك رجوع أحدهما للآخر. فلاحظ.

الأمر الثاني : أن استصحاب الشهر السابق وعدم الشهر اللاحق في يوم الشك لا ينفع في إحراز كون اليوم المذكور آخر الشهر السابق ، ولا كون اليوم الآتي أول الشهر اللاحق ، ولا ما بعده من الأيام معنونة بعنوانها العددي. فاستصحاب بقاء شهر ذي القعدة يوم السبت مثلا لا يحرز كونه آخره ، ولا كون يوم الأحد أول شهر ذي الحجة ، ولا كون يوم الأحد الآتي ثامنه يوم التروية ... وهكذا. بل جميع هذه العناوين ونحوها لوازم المستصحب ، فلا يحرزها الاستصحاب المذكور إلا بناء على الأصل المثبت.

وقد سبق من شيخنا الأعظم قدس‌سره توجيه ذلك بخفاء الواسطة ، الذي جعله من مستثنيات الأصل المثبت ، وسبق الإشكال فيه كبرويا وصغرويا.

ويظهر من بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس‌سرهما توجيهه بأن أول الشهر وإن كان هو اليوم الذي يوجد الهلال في ليلته واقعا ، إلا أنه بهذا المعنى ليس موضوعا للأحكام الخاصة من وجوب الصوم والإفطار وغيرهما ، بل

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٨٧.

٤٥٧

موضوعها ـ حسبما يستفاد من الأدلة ـ هو الأول بمعنى يوم ليلة الرؤية ، أو ما يكون بعد مضي ثلاثين يوما من الشهر السابق ، فمع عدم الرؤية يتعين ترتيب آثار الأول والثاني ونحوهما على ما يطابق تمامية الشهر بلا حاجة للاستصحاب.

لكنه كما ترى ، إذ لا مجال للخروج عن مفهوم الأول والثاني ونحوهما مما هو موضوع الأحكام الخاصة عن معناه العرفي التابع لوجود الهلال واقعا ، لعدم الدليل عليه. كيف؟ ولازمه عدم مشروعية الاحتياط في الأحكام المذكورة لو احتمل ذلك ، ولا يظن التزام أحد به.

ولعل الأولى أن يقال : لا ينحصر الدليل في المقام بعمومات الاستصحاب ، ليدعى عدم نهوضه بإثبات اللوازم المذكورة. بل الظاهر من بناء العرف والمتشرعة كون الأصل في الشهر الهلالي التمامية بنحو تحرز جميع العناوين المذكورة تبعا لذلك. والمستفاد من نصوص إناطة الصوم والإفطار بالرؤية الجري على ذلك ، فهي واردة لبيان انحصار الخروج عن مقتضى الأصل العرفي المذكور بالرؤية ، والردع عن توهم الخروج عنه بغيرها.

ولذا جرى العرف والمتشرعة على ذلك في جميع المناسبات العرفية والدينية قبل ظهور الإسلام وبعده ، من دون نظر لعمومات الاستصحاب. فهو من موارد الأصل المثبت التي دل الدليل عليها بالخصوص ، وقد تقدم في آخر الكلام في الأصل المثبت أنه أمر ممكن في نفسه.

٤٥٨

الفصل الخامس

في استصحاب الحكم الشرعي

وليس المراد به الحكم الكبروي الإنشائي ، الذي هو مفاد القضية الشرطية أو الحقيقية الراجعة إليها ، فإنه يأتي الكلام في استصحابه في الفصلين الآتيين.

بل المراد به الحكم الفعلي التابع لفعلية موضوعه ، سواء كان الشك في بقائه للشبهة الموضوعية ، كما لو شك في بقاء نجاسة الماء للشك في وقوع المطر عليه ، أو شكت المرأة في بقاء وجوب الصلاة عليها لاحتمال طروء الحيض عليها في أثناء الوقت قبل أن تصلي ، أم للشبهة الحكمية ، كما لو شك في طهارة الماء النجس المتمم كرا بطاهر ، أو في وجوب قضاء الموقت إذا فات وقته ، أم للشبهة المفهومية ، كما إذا شك في طهارة المتنجس بغسله في الماء الذي يحتمل كونه كرا للشك في تحديد الكر ، أو شك في بقاء وجوب الصوم بعد سقوط القرص قبل ذهاب الحمرة المشرقية ، للشك في تحديد النهار شرعا بأحد الأمرين.

وقد استشكل في جريان الاستصحاب فيه من وجهين :

الوجه الأول : عدم اتحاد المشكوك مع المتيقن ، لأن المتيقن هو الحكم المقيد بالزمان الخاص أو الحال الخاص المفروض انقضاؤه ، فاستصحاب الحكم لما بعده إثبات لحكم آخر مباين له ، وليس هو من الاستصحاب في شيء. وهذا بخلاف الأمور الخارجية كالعدالة والبياض ، فإنها لا تقبل التقييد إذ لا معنى للتقييد في التكوينيات ، بل ليس الزمان المتيقن إلا ظرفا لها من دون أن

٤٥٩

يكون قيدا مقوما لها ، فلا مانع من استصحابها والحكم ببقائها في زمان الشك.

ومن هنا رجع شيخنا الأعظم قدس‌سره في المقام إلى ما جرى عليه في غيره ـ وتبعه فيه جماعة ـ من الاكتفاء بالتسامح العرفي في صدق البقاء ، فإذا كان الزمان بنظر العرف مقوما للمتيقن وقيدا فيه يمتنع استصحابه ، وإذا كان بنظرهم ظرفا غير مقوم له يجري الاستصحاب.

مثلا : إذا شك في وجوب تدارك الموقت بالقضاء بعد خروج الوقت أمكن استصحاب وجوبه بعد الوقت ، لعدم كون الوقت مقوما للواجب عرفا ، وإن كان هو قيدا له دقة.

كما أنه إذا تعذر بعض أجزاء الواجب ، فإن كان المتعذر مقوما له عرفا لم يجر الاستصحاب لإثبات وجوب الميسور ، وإن لم يكن مقوما له عرفا كان مقتضى الاستصحاب وجوب الميسور.

فيقال : كان الشيء الفلاني واجبا فهو كما كان ، وإن كان مقتضى النظر الدقي أن المتيقن هو وجوب التام والمشكوك وجوب الناقص ، وهما متباينان.

أو يقال : كان الميسور واجبا تبعا لوجوب التام فهو كما كان ، وإن كان مقتضى النظر الدقي التباين ، لأن وجوب الميسور المتيقن تبعا للمقام ضمني ، ووجوبه المحتمل بعد تعذر المقام استقلالي. على ما أشرنا إليه في التنبيه الثالث من تنبيهات مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

وهكذا الحال في نظائر ذلك من موارد التسامح العرفي في اتحاد المشكوك مع المتيقن.

لكن تقدم منا في تحقيق موضوع الاستصحاب أنه لا مجال للتعويل على التسامح العرفي ، بل لا بد من كون المشكوك بقاء حقيقيا للمتيقن بعد الرجوع للأدلة في تعيينه وتحديده.

٤٦٠