الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

الاستقلالي ، بدعوى أنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك.

لكنه يشكل بأن التفكيك بين الأجزاء وتمام العمل في اعتبار الإطاعة التفصيلية فيه دونها لا يرجع إلى

محصل بعد اتحاده معها خارجا ، فما يعتبر في تمام العمل من القصود يعتبر فيها بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية. إلا أن يفرق بينها تعبدا بدليل شرعي خاص ، وهو مفقود.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في آثار القطع وأحكامه تبعا للأكابر في المقام. ولا يخفى أن جملة مما تقدم لا يختص بالقطع ، بل يجري نظيره في الطرق المعتبرة ، بل الأصول ، كمباحث التجري والقطع الموضوعي والإجمالي. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

٤١
٤٢

المقصد الأول

في مباحث الحجج

وقد سبق أن البحث فيه يكون في تشخيص الحجج وتعيينها. ومن ثمّ كان المناسب التعرض تمهيدا لذلك لأمرين :

الأمر الأول : في إمكان التعبد بغير العلم. إذ مع امتناعه لا مجال للنظر في أدلة جعل الطرق. ويكفي في المقام عدم الدليل على الامتناع ـ الذي هو المعيار في الإمكان القياسي عندهم ـ بلا حاجة لإثبات إمكان الوقوع في الخارج وعدم لزوم محذور منه واقعا ـ الذي هو المعيار في الإمكان الوقوعي عندهم ـ حيث لا يجوز بنظر العقل إهمال الأدلة الدالة على ثبوت الشيء بمجرد احتمال لزوم محذور منه مغفول عنه ، بل هو من سنخ احتمال المزاحم لا يعتني به العقل ما لم يثبت بالدليل.

بل يمكن إثبات إمكان الوقوع وعدم لزوم محذور منه مغفول عنه بأدلة الجعل في مثل المقام مما انحصر فيه الدليل بالأدلة القطعية ـ لما هو المعلوم من لزوم انتهاء أدلة التعبد بغير العلم إلى القطع ـ لملازمة الوقوع للإمكان بالمعنى المذكور.

لكنه راجع إلى عدم الأثر للنزاع في الإمكان ، بل يلزم النظر في أدلة الوقوع ابتداء ، لنهوضها بإثبات الإمكان ، ومع قطع النظر عنها لا أثر للإمكان. وعلى ذلك يكون الغرض الأصلي من الاستدلال على الامتناع نفي الوقوع وإبطال أدلته بنحو يمنع من حصول القطع منها ، والغرض من إبطال دليل الامتناع رفع المنافي لأدلة الوقوع ، ليتسنى إثباته بها.

٤٣

أما لو بلغت أدلة الوقوع حدا من الوضوح يمتنع معه الإذعان بدليل الامتناع ، بل يكون كالشبهة مقابل البديهية ـ كما هو كذلك في المقام ـ فقد يكون الغرض من النظر في أدلة الامتناع توجيه أدلة الوقوع وشرح مفادها ، بنحو لا يلزم منه المحذور ، فهو يرجع إلى حل الشبهة. وكفى بذلك فائدة مهمة.

إذا عرفت هذا فقد نسب للشيخ أبي جعفر ابن قبة دعوى امتناع التعبد بخبر الواحد عقلا. ودليله ـ لو تم ـ جار في جميع الطرق غير العلمية ، بل في مطلق التعبد بغير العلم وإن كان مفاد الأصل. إذ عمدة دليله ـ على ما قرره شيخنا الأعظم قدس‌سره وحكي عن القوانين ـ أنه يستلزم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما وبالعكس.

والمحتمل بدوا رجوع الوجه المذكور إلى أحد محاذير ثلاثة.

الأول : لزوم تفويت ملاكات الأحكام الواقعية ، وهو قبيح ، بل يلزم نقض الغرض الداعي لجعل الأحكام الواقعية ، وإن لم يكن من سنخ الملاك الراجع للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وهو ممتنع مطلقا.

الثاني : لزوم اجتماع الحكمين المتضادين أو المتناقضين ، وهو محال.

الثالث : لزوم التشريع القبيح ، لما يستلزمه من إدخال ما ليس من الدين في الدين ، ونسبة ما لم يصدر من الشارع الأقدس له.

لكن الثالث ظاهر الدفع. إما لأن التعبد الشرعي رافع لقبح نسبة ما يصدر من الشارع له ، ومخرج له عن التشريع ، لاختصاص القبح الواقعي بما إذا كانت النسبة من غير حجة ، ولذا لو استندت للقطع المخالف للواقع فلا قبح واقعا. أو لأن الالتزام بمؤدى الطريق والأصل لا يقتضي الالتزام بأنه الحكم الشرعي الثابت واقعا ، ليلزم نسبة ما لم يصدر من الشارع له ، بل الالتزام بأنه الحكم الذي أدى إليه التعبد الشرعي الظاهري ، وهو مطابق للواقع. ويأتي في الأمر الثاني عند

٤٤

الكلام في مقتضى الأصل المعول عليه عند الشك في الحجية توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.

فالعمدة في المقام المحذوران الأولان. ومن الظاهر أنهما مبنيان على ما عليه أهل الحق من التخطئة ، ولا موضوع لهما على التصويب المنسوب للأشاعرة ، بل ولا على التصويب المنسوب للمعتزلة ، لعدم ثبوت الحكم الواقعي وعدم فعلية ملاكه على خلاف الطرق والأصول الشرعية ، ليلزم تفويت ملاكه أو جعل حكم مضاد له من قيامها. فما يظهر من غير واحد في دفع المحذورين المذكورين بما يناسب التصويب المنسوب للمعتزلة خروج عما هو مفروض الكلام ـ ويظهر التسالم عليه بين أهل الحق ـ من بطلان التصويب بكلا وجهيه. وحينئذ يلزم النظر في المحذورين معا.

المحذور الأول : تفويت الملاكات الواقعية. والظاهر ـ كما ذكره غير واحد ـ أنه لا يلزم لو علم الشارع الأقدس انسداد باب العلم الموصل للواقع ، إما لخطأ القطع الحاصل للمكلف أو لعدم تيسر القطع له وعدم وجوب الاحتياط معه لأصالة البراءة العقلية أو للزوم محذور عقلي من الاحتياط ، بحيث لا يلزم من نصب الطرق والأصول غير العلمية فوت الواقع بقدر أكثر مما يلزم مع عدم نصبها ورجوع المكلف لقطعه أو للأصل مع عدمه.

ودعوى : أن فوت الواقع مع خطأ القطع قهري ، لعدم التفات القاطع إلى خطأ قطعه ، بخلافه مع التعبد بغير العلم ، فإنه تفويت اختياري مستند للشارع فيقبح. كما ترى ، إذ مع فرض فوت الواقع على كل حال بسبب انسداد باب العلم لا معنى لاستناده للشارع الأقدس.

نعم في تمامية ذلك في محل الكلام إشكال ، بل منع ، بعد ملاحظة الطرق والأصول الجارية في الشبهات الموضوعية التي هي معرضة للخطإ الكثير ، ولا سيما مع ما هو المعروف من عدم وجوب الفحص فيها ، ومع جريان

٤٥

جملة منها في موارد قاعدة الاشتغال المقتضية للاحتياط كقاعدتي الصحة والتجاوز والفراغ ، بل وقاعدتي الحل والطهارة وغيرهما. على أن محل الكلام ليس هو تصحيح جعل الطرق والأصول الثابتة الجعل ، كي يكفي احتمال ثبوت المصحح المذكور فيها ، بل إمكان نصب الطرق والأصول غير العلمية مطلقا ولو مع لزوم فوت الواقع منها. ومن هنا لا بد من النظر في دفع المحذور المذكور.

والمذكور في كلامهم وجوه لا مجال لإطالة الكلام فيها. ولا سيما مع ابتناء بعضها على الكلام في حقيقة التكليف المولوي وحقيقة الإرادة التشريعية التي هي المعيار فيه ، وقد سبق منا في مقدمة علم الأصول بعض الكلام في ذلك. والعمدة في المقام وجهان :

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من إمكان الالتزام بتدارك الملاكات الفائتة بمصلحة متابعة الطرق ، فقيام الطرق لا يوجب تبدل الملاكات الواقعية الثابتة لأفعال المكلفين ، ليلزم تبدل أحكامها الواقعية ـ كما هو مقتضى التصويب المنسوب للمعتزلة ـ بل يوجب حدوث مصلحة في نفس سلوك الطرق ومتابعتها يكون بها تدارك ما فات من تلك الملاكات بسبب عمل المكلف على الطرق المذكورة.

لكن لا ملزم بالتدارك ، إذ مع كون الملاك الواقعي أهم من مصلحة متابعة الطريق لا ينفع تداركه بها في قبح تفويته ، ومع كونها هي الأهم ـ كما لعله مفروض كلامه ـ لا يقبح تفويته من أجلها ولو مع عدم التدارك.

على أن ما ذكره يشكل بأن متابعة الطريق لما كانت بفعل المكلف كانت من عناوينه الثانوية ، فيكون فعله واجدا للملاكين ، الملاك الثابت له بعنوانه الأولي المقتضي للحكم الواقعي ، والملاك الثابت له بعنوانه الثانوي وهو كونه متابعة للطريق ، ومع أهمية الثاني يتعين فعلية الحكم التابع له وسقوط الحكم الواقعي عن الفعلية ، وهو راجع للتصويب المنسوب للمعتزلة الذي فر منه ،

٤٦

والذي سبق أن الكلام في المقام مبني على بطلانه.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من أن المصحح لتفويت الملاكات الواقعية هو المصلحة الملزمة بنصب الطرق والتعبد بها ، نظير مصلحة التسهيل ، فنصب الطرق لا يقتضي سلوكها ومتابعتها التي هي من عناوين فعل المكلف الثانوية ليزاحم الملاكات الواقعية ويمنع من فعليتها وفعلية أحكامها ، بل هو نفسه مشتمل على المصلحة الملزمة لتفويت الملاكات الواقعية مع فعليتها وفعلية أحكامها. وذلك يجري في التعبد بالأصول أيضا.

وقد يستشكل في ذلك أيضا ـ كما يستفاد من بعض الأعيان المحققين وغيره ـ برجوعه إلى التزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعية وملاك نصب الطرق ، لامتناع استيفاء كلا الملاكين ، بل استيفاء الثاني مانع من استيفاء الأول ، فمع أهمية الملاكات الواقعية يتعلق الغرض الفعلي للمولى بجعل الأحكام الواقعية على طبقها ، ويمتنع نصب الطرق المخالفة لها ، لما فيه من تفويت تلك الملاكات ونقض الغرض الفعلي ، ومع أهمية ملاك نصب الطرق يلزم رفع اليد عن الملاكات الواقعية وسقوط أحكامها عن الفعلية ، وهو خلاف المفروض وراجع للتصويب.

وبعبارة أخرى : تعلق الغرض والإرادة الفعليين على طبق الأحكام الواقعية ينافي نصب الطرق المؤدية إلى خلافها بعين التنافي بين إرادة الشيء وإرادة ما يمنع عنه.

لكن الظاهر اندفاع ذلك بوجهين :

أحدهما : أن فعلية الملاك في الفعل التي تقتضي السعي لتحصيله إنما هي ببلوغه مرتبة من الأهمية يكون بها الفعل الواجد له مما ينبغي حصوله ، بحيث لو حصل لكان في محله مرغوبا في حصوله بلحاظ ذاته ولحاظ الجهات المقارنة له ، ولو لم يحصل كان مأسوفا عليه يتمنى حصوله بلحاظ ذاته وبلحاظ

٤٧

تلك الجهات.

وحينئذ فامتناع الجمع بين الغرضين وتعذر استيفائهما معا في الخارج إنما يمنع من فعليتهما معا في حق الشخص الواحد ، فيما إذا كانا في عرض واحد ، راجعين معا إلى مقام الثبوت أو إلى مقام الإثبات والتحفظ على الواقع ، كما إذا تعذر الجمع بين حفظ المال وحفظ الصحة ، أو بين حفظ كرامة الشاهد المقتضي لقبول شهادته وإن احتمل معها فوت الواقع ، والاهتمام بحفظ الواقع المقتضي للاحتياط فيه وعدم الاكتفاء بغير العلم.

أما إذا كان أحدهما راجعا إلى مقام الثبوت ، والآخر إلى مقام الإثبات والتحفظ على الواقع ، فلا مانع من فعليتهما معا ، كما لو لم يكن بينهما تزاحم ، من دون أن يكون احتمال فوت الملاك الراجع إلى مقام الثبوت لأجل الملاك الراجع إلى مقام الإثبات والتحفظ منافيا لفعلية الملاك الراجع إلى مقام الثبوت بالمعنى المذكور للفعلية.

مثلا : إذا اقتضى علاج المرض استعمال الدواء على رأس كل ساعة ولم يمكن إحراز ذلك كاملا إلا بشراء المنبه ، وكان شراؤه مجحفا بالمريض ، فقد يكون العلاج المذكور من الأهمية بنحو يلزم بتحمل الإجحاف المذكور ، وقد لا يبلغ ذلك إما لعدم أهمية المرض كثيرا ، أو لعدم استلزام الإخلال بالموعد في بعض المرات تعذر العلاج ، بل عدم كماله ، وحينئذ لا يقدم المريض على شراء المنبه وإن احتمل الإخلال بالموعد في بعض الوقائع من دون أن يخرج استعمال الدواء في الموعد فيها عن الفعلية ، ولذا لو حصل صدفة بلا علم بالوقت كان وافيا بالغرض الفعلي ، كما لو حصل مع العلم بالوقت ، بخلاف ما لو كان استعماله في الموعد في بعض الوقائع مستلزما لمحاذير ثبوتية ، كالتعرض للبرد المضر بالبدن من جهة أخرى أو الضرر المالي المجحف في نفس العلاج ، كغلاء الدواء ونحوهما مما يمنع من فعلية الغرض فيه ثبوتا ،

٤٨

بحيث لو وقع لم يكن مطابقا للغرض الفعلي على نحو غيرها من الوقائع غير المزاحمة من تلك الجهة.

وكذا لو كان التأكد من حفظ المال موقوفا على استئجار حارس له ، وكان استئجاره مجحفا بالمالك ، فإن عدم استئجاره لا ينافي فعلية ملاك حفظ المال ، بحيث لو بقي ولم يسرق مع عدم الحارس لكان مرغوبا في بقائه ، بخلاف ما لو كان بقاء المال مستلزما ثبوتا لتعرض المالك لضرر مهم ، حيث يخرج ملاك حفظه عن الفعلية ويرغب في تلفه والتخلص منه.

نعم قد يكون التزاحم بين الملاكين وفعلية ملاك مقام الإثبات مستلزما لضعف ملاك مقام الثبوت من دون أن يسقط عن الفعلية.

وعلى ذلك حيث كان ملاك نصب الطرق في المقام في طول ملاك الأحكام الواقعية وراجعا للتحفظ عليها ، فتعذر الجمع بينهما وأهمية ملاك نصب الطرق وإن تعرضت للخطإ وتفويت الواقع لا ينافي فعلية الملاكات وفعلية الأحكام الواقعية التابعة لها.

ثانيهما : أنه سبق عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية أن قوام التكليف هو الإرادة التشريعية المتقومة بالخطاب بداعي جعل السبيل ، وأنها مخالفة سنخا للإرادة الحقيقية التكوينية التي هي عبارة عما يستتبع السعي لتحصيل المراد ، وأنهما قد يجتمعان ، بأن تتعلق بفعل المكلف إرادة المولى التكوينية والتشريعية معا ، وحينئذ لا بد من تحقق الإطاعة من المكلف مع قدرة المريد ، حيث تعين على المولى تهيئة أسباب الإطاعة ، بإيصال الحكم للمكلف ، وحمله على إطاعته بالترغيب أو الترهيب أو التوفيق أو الهداية أو غيرها. وقد يفترقان ، فلا يلزم تحقق الإطاعة من المكلف ، بل قد تتعلق الإرادة بمخالفة التكليف بتهيئة أسبابها من الخذلان أو نحوه ، من دون أن يخل ذلك بصدق التكليف.

٤٩

وحينئذ نقول : لا بد في الملاك الثابت لفعل المكلف ، المصحح لتعلق الإرادة التشريعية به ، والمستتبع للتكليف ، من أن يبلغ مرتبة الفعلية في حق المكلف ، بحيث ينبغي له تحصيله بموافقة التكليف ، فمع بلوغه المرتبة المذكورة يتعين جعل التكليف تشريعا وفعليته. ولا ملزم مع ذلك ببلوغه مرتبة الفعلية في حق المولى ، بحيث ينبغي له تحصيله بتهيئة أسباب الإطاعة ، بل ذلك إنما يلزم مع تعلق إرادته التكوينية به زائدا على الإرادة التشريعية ، وقد سبق إمكان افتراقهما.

وبذلك يظهر أن نصب الشارع الطرق الموجبة لفوت الأحكام الواقعية ، لمصلحة تقتضي ذلك ، كمصلحة التسهيل ، لا ينافي فعلية تلك الأحكام وفعلية ملاكاتها ، ليلزم التصويب ، ولا يستلزم نقض الغرض ، لأن المعتبر في فعلية الحكم فعلية الملاك في حق المكلف ، لا فعليته في حق المولى وتعلق غرضه بحفظه ، كي ينافي تفويته له بنصبه للطرق المذكورة. ومن هنا كان ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره وافيا بدفع المحذور.

المحذور الثاني : اجتماع الحكمين المتضادين. وهو لازم في صورة عدم إصابة الطرق والأصول للواقع ، كما يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين مع إصابتهما له.

ودعوى : أنه مع التماثل يتعين التأكد وثبوت حكم واحد بمرتبة شديدة.

مدفوعة أولا : بأن لازم ذلك أن الحكم الواقعي إن كان منجزا بمطابقة الحكم الظاهري له لزم تأكد الثواب والعقاب بالطاعة والمعصية ، بحيث يكونان أشد من الثواب والعقاب الثابتين مع القطع بالحكم الواقعي الذي لا يستتبع حكما ظاهريا ، وإن لم يكن منجزا لزم كون الثواب والعقاب على الحكم الظاهري. وكلاهما كما ترى.

وثانيا : بأن التأكد بين الحكمين المتماثلين إنما يكون مع اتحادهما

٥٠

سنخا ، وحينئذ يلزم مع التخالف والتضاد ترتب آثار اجتماع الحكمين المختلفين بعنوانين ، فيقدم الإلزامي على غيره ، والاقتضائي على غيره ، ويقع التزاحم بينهما لو كانا مختلفين اقتضاء ، فيقدم الأهم ويتساقطان مع عدم المرجح. ومن الظاهر عدم الالتزام بذلك في المقام. فالتحقيق أنهما مختلفان سنخا ، فلا يتأكد أحدهما بالآخر مع التوافق ، ولا يتزاحمان مع التضاد.

ومن هنا لا بد من ملاحظة ذلك في المقام عند الكلام عن كيفية الجمع بينهما مع التماثل والتضاد. وقد كثر النقض والإبرام في العصور المتأخرة في توجيه الجمع بين الحكمين ، وتضمنت كلماتهم ـ على شدة الاختلاف بينها ـ وجوها كثيرة يبتني جملة منها على أمور ..

الأول : الترتب بين الحكمين ، لأخذ الجهل بالحكم الواقعي في موضوع الحكم الظاهري.

الثاني : عدم ترتب العمل على الأحكام الواقعية بسبب الجهل بها.

الثالث : عدم صدور الأحكام الظاهرية عن المصالح والمفاسد في المتعلقات ، بل عن مصلحة في نفس جعل الحكم.

مع أن التأمل قاض بعدم دخل ذلك كله في تصحيح الجمع بين الحكمين المتضادين والمتماثلين ، ولذا لا يصح اجتماع الحكمين الواقعيين المتضادين ولو مع الترتب بينهما ـ بأخذ أحدهما في موضوع الآخر ـ أو مع الجهل بأحدهما أو بهما معا ، أو مع صدور أحدهما أو صدورهما معا عن مصلحة في نفس الحكم لا في المتعلق. ومن ثم كان الدليل على الحكم الواقعي دليلا على نفي الحكم المضاد له بأي نحو فرض. مضافا إلى الإشكال في تفاصيل الوجوه المذكورة بما يضيق الوقت عن استيعابه.

ولنقتصر في المقام على ما هو المختار لنا بعد النظر في كلمات الأعلام والتأمل في حقيقة الحكمين ، فنقول بعد التوكل على الله تعالى وطلب

٥١

التسديد منه :

الكلام في الوظائف الظاهرية يكون ..

تارة : في موارد الطرق والأمارات.

وأخرى : في موارد الأصول التعبدية المتضمنة للتعبد بأحد طرفي الاحتمال ، كالاستصحاب وأصالتي الحل والطهارة وقاعدتي الفراغ والفراش وغيرها.

وثالثة : في بقية الأصول مما يتضمن بيان الوظيفة العملية من دون تعبد بشيء كأصالتي البراءة والاحتياط.

فهنا مقامات ..

المقام الأول : في الطرق والأمارات

وقد تقدم في مقدمة علم الأصول عند الكلام في حقيقة الحجية أن مرجع اعتبار الطرق والأمارات ليس إلى وجوب العمل على طبقها ظاهرا ـ ليكون الوجوب المذكور حكما لعمل المكلف مماثلا لحكمه الواقعي أو منافيا له ـ بل إلى جعل حجيتها شرعا ، وأن الحجية من الأحكام الوضعية المجعولة بنفسها ، وليست منتزعة من وجوب العمل بالطريق أو جوازه ، ومن الظاهر أن حجية الطريق لا تضاد الحكم الواقعي ، ولا تماثله ، بل هي مباينة له سنخا وموضوعا واقعة في طوله ، ولا موضوع معها للإشكال المذكور.

المقام الثاني : في الأصول التعبدية

والظاهر من جملة من كلماتهم أن مفاد أدلتها جعل حكم ظاهري شرعي في مواردها ، بل هو صريح بعضها ، قال المحقق الخراساني قدس‌سره في حاشيته على الرسائل : «وأما الأصول التعبدية ... فهي أحكام شرعية فعلية حقيقية ، بداهة أن : كل شيء حلال ، إباحة فعلية وترخيص حقيقي في الاقتحام في الشبهة من الشارع ، كالترخيص في المباحات الواقعية. والتفاوت بين الترخيصين بكون

٥٢

موضوع أحدهما الشيء بعنوانه الواقعي وموضوع الآخر بعنوان كونه مجهول الحكم لا يوجب التفاوت بينهما بالحقيقة والصورة ، كما لا يخفى». ومن ثم يقع الإشكال في الجمع بين الحكمين.

لكن ارتكاز التنافي بين جعل الحكم في ظرف الشك مع إطلاق موضوع الحكم الواقعي ـ المستفاد من الغاية التي تضمنتها الأدلة المذكورة ، لظهورها في أن العلم بالواقع طريق محض لا دخل له في الحكم الواقعي أصلا ـ مانع من ظهور الأدلة المذكورة في جعل الحكم في ظرف الشك ، بل هي ظاهرة لأجل ذلك في التعبد بالحكم أو الموضوع عند الشك فيهما الراجع إلى البناء على تحققهما إثباتا في مقام العمل ، كالبناء عليهما مع قيام الحجة عليهما ، بل ومع العلم بهما. غاية الأمر أن البناء المذكور لازم للعلم تكوينا بلا حاجة للجعل ، وفي موارد الطرق متفرع على جعل حجية الطريق ، أما هنا فهو تابع للتعبد بمؤدى الأصل ابتداء.

وإن شئت قلت : ليس في المقام نوعان من الحكم واقعي وظاهري على الموضوع الواحد ، ليشكل الجمع بينهما ، بل الحاكم .. تارة : يجعل الحكم على موضوعه ثبوتا.

وأخرى : يعبد به أو يعبد بموضوعه ـ المستلزم عرفا للتعبد به ـ بنحو يقتضي البناء على أحدهما إثباتا في مقام العمل بعد الفراغ عن مقام الثبوت وفي رتبة متأخرة عنه ، والأول هو مفاد أدلة الأحكام الشرعية الواقعية ، والثاني هو مفاد أدلة الأصول المذكورة.

بل ذلك كالصريح من دليل الاستصحاب ، لعدم التعرض فيه لما يوهم جعل المستصحب أو أحكامه ، بل لم يتضمن إلا لزوم العمل على مقتضى اليقين السابق ، وحيث لا يتضمن اليقين جعل المتيقن ، بل الإذعان بثبوته ، كان مفاد الاستصحاب البناء على الثبوت لا غيره.

٥٣

ولا سيما مع عموم دليله للحكم الشرعي والموضوع الخارجي معا ، مع وضوح امتناع جعل الثاني شرعا. وحمل جعله على جعل حكمه تكلف ، لا يناسب وحدة دليل الجعل في الأمرين جدا ، بخلاف ما لو حمل على ما ذكرنا ، لإمكان التعبد بالمعنى المذكور في الحكم والموضوع معا.

كما أن ما تضمن التعبد بالعنوان وإن كان بعضه واردا في الحكم الشرعي القابل للجعل ـ كقاعدتي الطهارة والحل ـ وبعضه واردا في الموضوع الخارجي ـ كقاعدتي التجاوز والفراش ـ إلا أن حمله بقسميه على جعل المؤدى والحكم به مستلزم للتفكيك بين القسمين بحمل الأول على جعل نفس العنوان المحمول والثاني على جعل أحكامه ، وهو لا يناسب وحدة لسان الدليل في القسمين أو تقاربهما فيه ، بخلاف حملهما معا على التعبد بالعنوان بالمعنى الذي ذكرنا.

بل ما ذكرنا هو مقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، فإن الجهل بالحكم أو الموضوع لما كان يقتضي التحير في مقام العمل من حيثيتهما كان المناسب رفع التحير المذكور ، وذلك بورود أدلة الأصول لبيان التعبد بالواقع المجهول ، لأنه هو الرافع للتحير ، لا لجعل حكم آخر ، إذ الجهل بنفسه لا يقتضي الحاجة لذلك ، لتنصرف الأدلة له.

وبذلك افترقت أدلة الأصول ـ التي موضوعها الجهل بواقع يترتب عليه العمل الذي هو سبب للتحير ـ عن غيرها من القضايا التي لم يؤخذ الجهل في موضوعها ، إذ لا مورد في الأخيرة للتحير الذي يحتاج معه للتعبد في مقام العمل ، بل لا موضوع معها للتعبد بعد عدم فرض واقع مجهول ، فيتعين حملها على جعل الحكم ثبوتا ، بخلاف أدلة الأصول ، لما ذكرنا.

ومن هنا يظهر عدم التنافي بين الحكم الواقعي ومفاد الأصل التعبدي ، بل الثاني في طول الأول متفرع عليه تفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت ، مع

٥٤

التباين بينهما موضوعا وسنخا.

المقام الثالث : في الأصول غير التعبدية

وهي التي تتضمن بيان الوظيفة العملية من دون تعبد بواقع مجهول. وتنحصر ظاهرا بالبراءة والاحتياط.

وقد يشكل الأمر فيها بلحاظ أنها حيث لا تتضمن التعبد بالواقع المجهول ، بل ببيان الوظيفة العملية في الواقعة ابتداء ، الذي هو نحو من الحكم الشرعي في الواقعة ، فمقتضى الوظيفة فيها إن خالف مقتضى الحكم الواقعي عملا لزم اجتماع الضدين ، وإن وافقه لزم اجتماع المثلين.

لكن لا موقع للإشكال بناء على عدم تضمنها الحكم شرعا بالإلزام أو الترخيص في مورد الشك ، بل مجرد بيان أهمية التكليف المجهول عند الشارع بنحو يقتضي حفظه على تقدير ثبوته ، أو عدم أهميته كذلك ، حيث يكفي الأول في تنجز التكليف عقلا كما لو وصل التكليف أو عبدنا الشارع به ، والثاني في عدم تنجزه وثبوت المعذرية عنه عقلا. لوضوح أن أهمية التكليف بالنحو المذكور وعدمها من شئون التكليف الواقعي المحتمل ، من دون أن يكون حكما آخر مضادا له أو مماثلا له.

وأما بناء على تضمنها الحكم بذلك فالحكم المذكور لا يضاد الحكم الواقعي ولا يماثله ، بل هو مخالف له سنخا وفي طوله ـ لا بلحاظ أخذ الجهل به في موضوعه ـ بل لأنه راجع لمقتضى الوظيفة فيه على تقدير الجهل به من سعة تقتضي البراءة ، أو كلفة تقتضي الاحتياط. كما أنه تابع لأهميته ، لا لملاك مستقل عنه ، نظير حكم العقل الظاهري بالبراءة والاحتياط ، حيث لا يكون مخالفا للحكم المولوي الواقعي ، ولا موافقا له ، وليس هو كحكمه بالتحسين والتقبيح الواقعيين.

غايته أن حكم الشارع بأحد الأمرين إن كان مخالفا لمقتضى حكم العقل

٥٥

الظاهري كان واردا عليه رافعا لموضوعه ، وإن كان موافقا له كان إمضاء له وبيانا لعدم جعل الرافع له.

ولأجل ذلك كان عدم التضاد والتماثل بين الأحكام الواقعية والحكمين المذكورين أمرا ارتكازيا جليا عند العقلاء ، مع وضوح التماثل والتضاد عندهم بين الأحكام الواقعية بنفسها ، وبين الأحكام الظاهرية كذلك.

وبما ذكرنا يظهر أنه لو غض النظر عما ذكرنا في المقامين الأولين وبني على رجوع جعل الطرق والأصول التعبدية إلى الأمر والترخيص بالعمل على مفادها لزم حمل الأمر والترخيص المذكورين على أنهما من سنخ الحكم بالاحتياط والبراءة في طول الأحكام الواقعية ، وليسا راجعين إلى حكم شرعي في قبال الحكم الواقعي ، فرارا من محذور التضاد والتماثل بين الحكمين. إلا أنا في غنى عن ذلك هناك بما سبق ، وإنما نحتاج إليه في هذا المقام لا غير.

الأمر الثاني : في مقتضى الأصل الذي يرجع إليه عند الشك في الحجية.

لا إشكال ـ في الجملة ـ في أن الأصل عدم الحجية فيما شك في حجيته.

إلا أن الظاهر اختلاف الكلام باختلاف آثار الحجية المترتبة عليها.

وتوضيح ذلك : أنهم ذكروا للحجية أثرين :

الأثر الأول : ما يرجع لمقام العمل بمؤدى الحجة ، وهو المنجزية والمعذرية بالإضافة إلى الأحكام الواقعية المستتبعان للعمل عليها. وهو الأثر المهم في المقام لمناسبته لعلم الأصول. ولا ريب في كونه حكما عقليا محضا.

كما لا ريب في أنه مع الشك في الحجية لا يحكم العقل بها ، وأن ما هو المعذر والمنجز فعلا هو ما ثبت حجيته والتعبد به من قبل المولى.

ومن ثم فقد يستشكل في التمسك بأصالة عدم الحجية مع الشك فيها ، لأنه يكفي في عدم العمل بمشكوك الحجية الشك في حجيته الحاصل بالوجدان ، بلا حاجة إلى التعبد بعدم الحجية الذي هو مفاد الأصل ، بل يلغو

٥٦

ذلك.

لكن الظاهر أن اعتبار وصول الحجية في ترتب الأثر المذكور ليس لكون الوصول مقوما لمقتضى الأثر وموضوعه ثبوتا ، بل لكونه شرطا في فعليته إثباتا ، مع كون تمام المقتضي والموضوع هو التعبد الشرعي الواقعي. نظير اعتبار وصول التكليف في ترتب الأثر عليه ، وهو لزوم الإطاعة ، مع كون تمام الموضوع والمقتضي له بنظر العقل هو التكليف الواقعي بنفسه ، من دون أن يكون وصوله دخيلا فيه ثبوتا.

وحينئذ فعدم العمل بالطريق مع الشك في حجيته إنما يكون بملاك عدم حصول شرط المعذرية والمنجزية ، بخلاف عدمهما مع إحراز عدم الحجية ، فإنه بملاك إحراز عدم المقتضي لهما ، ومثل هذا الاختلاف كاف في الأثر المصحح للتعبد ارتكازا. ومن ثمّ جرى استصحاب عدم التكليف ، مع أن الشك في التكليف كاف في البراءة منه وعدم وجوب العمل عليه عقلا.

هذا وقد يستدل على عدم حجية ما شك في حجيته بإطلاق ما دل على عدم الاعتماد على غير العلم كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(١) ، وما دل على عدم الاعتماد على الظن وأنه لا يغني عن الحق شيئا ، ونحو ذلك.

لكن لم يتضح ورود الآية الشريفة فيما نحن فيه من عدم الاعتماد على غير العلم في مقام العمل ، بل لعل المراد بها بيان حرمة التعبد والتدين والفتوى من غير علم تكليفا ، كما يناسبه ذيلها. وحسن علي بن جعفر أو صحيحه عن أخيه عن آبائه عليهم‌السلام في حديث أنه قال : «ليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأن الله

__________________

(١) سورة الاسراء الآية : ٣٦.

٥٧

عزوجل يقول : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١)».

على أنها لو دلت على ذلك فهي ـ ككثير من الأخبار المتضمنة أنه لا عمل إلا بعلم ، وأن من عمل على غير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه (٢) ـ منصرفة إلى من لا يعلم لا بالواقع ولا بالحجية ، ولو لأنه مقتضى الجمع بينه وبين ما دل على حجية كثير مما لا يفيد العلم ، فإن الجمع بذلك أقرب من الجمع بتخصيص العموم المذكور ، فإنه آب عن التخصيص عرفا ، لانصرافه إلى بيان معنى ارتكازي. فهو نظير ما ورد من أن العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا. وحينئذ لا تنهض ببيان عدم حجية ما لا يفيد العلم واقعا ، ليتجه الاستدلال بعمومه مع الشك في الحجية.

وأما ما تضمن عدم الاعتماد على الظن فهو وإن كان ظاهرا في عدم حجيته في مقام العمل ، إلا أنه إنما يدل على عدم حجية الظن بما هو ظن ، ولا ينافي حجية بعض ما يوجب الظن نوعا بخصوصيته ، كخبر الثقة.

مع أنه ظاهر في الإشارة إلى أمر ارتكازي عقلائي لا تأسيسي للشارع تعبدي ، ولذا ورد مورد الذم والتبكيت للكفار والاحتجاج عليهم ، ولا يحسن الاحتجاج عليهم بالقضايا التعبدية الصرفة ، فيختص بالظنون غير المعتمدة عند العقلاء.

نعم قد يستدل بإطلاق أدلة الأصول المتضمنة عدم رفع اليد عنها إلا بالعلم ، فإن مقتضى الحصر المذكور عدم ترتب العمل على غير العلم ، بل لزوم العمل بمقتضى الأصل ، وهو راجع لعدم حجيته في مقام العمل.

لكن الظاهر ولو بضميمة أدلة حجية الحجج غير العلمية أن أخذ العلم في

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٦.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي.

٥٨

أدلة الأصول ليس لخصوصيته خاصة ، بل بما هو طريق فيقوم مقامه سائر الطرق ، ومرجع ذلك إلى أن الغاية مطلق الطريق ، بل مطلق الإحراز ولو بالأصل ، فلا ينافي طريقية غير العلم وحجيته شرعا ، لينهض بالاستدلال في المقام. ويأتي في الفصل الأول ما ينفع المقام.

الأثر الثاني : جواز التدين بمؤدى الحجة ونسبته للمولى والفتوى بمضمونه تكليفا. وليس هو أثرا مهما في المقام ، لعدم دخله بمقام العمل بالحجة ، بل هو حكم فرعي خارج عن محل الكلام.

ويقتضيه ـ مضافا إلى الآية المتقدمة بالتقريب المتقدم ـ قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(١) ، والنصوص الكثيرة الدالة على حرمة الفتوى والتدين بغير علم ، وما تضمن أن القضاة أربعة ثلاثة منهم في النار وهم من يقضي بالباطل وهو لا يعلم ، ومن يقضي به وهو يعلم ، ومن يقضي بالحق وهو لا يعلم ، وما تضمن من أن حق الله على العباد الوقوف عند ما لا يعلمون (٢). مضافا إلى الإجماع المعتضد بالمرتكزات المتشرعية.

والمستفاد من مجموع الأدلة أن موضوع الحرمة هو عدم العلم بالواقع ولا بقيام الحجة ، فيحرم واقعا التدين والفتوى بالشيء ولو مع ثبوته واقعا ، ومع العلم بأحدهما يجوز واقعا التعبد والفتوى بالشيء ولو مع عدم ثبوته واقعا.

وبذلك يظهر أن أصالة عدم الحجية لا أثر لها في المقام ، إذ يكفي في حرمة التدين والفتوى الشك في الحجية الحاصل بالوجدان بلا حاجة إلى التعبد بعدمها بالأصل ، وهذا بخلاف مقام العمل بالحجة ، حيث سبق عدم لغوية

__________________

(١) سورة الحاقة الآية : ٤٤ ـ ٤٧.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي.

٥٩

الأصل المذكور وترتب العمل عليه. فلاحظ.

كما ظهر أنه لا مجال للتمسك بما دل على عدم جواز التدين والفتوى بغير علم لإثبات عموم عدم حجية غير العلم بتقريب : أن ملازمة جواز التدين والفتوى للحجية تقتضي عدمها عند عدمهما. لاندفاعه بأنه حيث كان المراد من عدم العلم هو عدم العلم لا بالواقع ولا بالحجية فهو لا ينهض ببيان موارد عدم الحجية الواقعية. وقد تقدم عند الكلام في الأثر الأول ما ينفع في المقام. فراجع.

بقي في المقام أمران :

الأول : أشرنا قريبا إلى دعوى الملازمة بين الحجية وجواز التعبد بمؤدى الحجة والتدين به ونسبته للمولى والفتوى به. وظاهرها جواز التعبد به ونسبته للمولى على أنه الحكم الواقعي ، كما لو علم به.

وهو لا يخلو عن إشكال لانصراف دليل الحجية إلى خصوص مقام العمل بالحجة ، لأنه الغرض المهم منها ، لا إلى جواز نسبة الحكم للمولى مع عدم العلم به. ولا سيما مع كون غالب الطرق عقلائية ، وظاهر أدلتها إمضاء طريقة العقلاء في العمل بها ، لوضوح عدم بناء العقلاء على ترتيب غير العمل عليها ، بل حتى ما كان منها تعبديا محضا لا ظهور لأدلته إلا في جعل الحجية له على نحو حجية الطرق العقلائية ، لا بنحو زائد على ذلك.

وعلى ذلك لا بد في البناء على جواز التدين والنسبة اعتمادا على الحجة من دليل آخر غير دليل الحجية ، كما قد يدعى ورود بعض النصوص به ، فيخرج بها عما دل على عدم جواز النسبة والتعبد والفتوى بما لا يعلم مما تقدمت الإشارة إليه. وإن كان الظاهر عدم نهوضها بذلك. وللكلام مقام آخر.

ومن هنا فالظاهر عدم جواز التدين بالمؤدى والنسبة له إلا على أنه الحكم الظاهري والوظيفة العملية التي أذن الشارع في الجري عليها ، فإنه معلوم

٦٠