الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

وكان احتمال ارتفاع الحكم لرافع خارج عن الموضوع جرى الاستصحاب ، كما لو شك في سقوط التكليف لنسخه ، أو شك في سقوط الدين بالوفاء أو الإبراء. وإن لم يحرز الإطلاق فحيث لا مجال للرجوع للعرف ، لعدم الطريق لهم لمعرفة مثل ذلك ، يتعين التوقف وعدم الرجوع للاستصحاب ، لعدم إحراز الموضوع ، كما لو تردد التكليف بين الموقت والمطلق.

ومنه يظهر حال ما إذا كانت القضية المتيقنة غير شرعية ، ككون الماء كرا ، والثوب أبيض ، ونحو ذلك. فإنه حيث لم يكن للشارع دخل فيها يتعين الرجوع في تعيين موضوعها وفي اتحاده مع موضوع القضية المشكوكة للعرف. ويكون المعيار على تطبيقه الحقيقي ، دون التسامحي ، ودون التطبيق الدقي المغفول عنه عرفا. وإن لم يتسن للعرف تحديد الموضوع أو استيضاح الاتحاد لم يجر الاستصحاب.

الفصل الثاني

في شروط الاستصحاب

والمراد بها كل ما هو خارج عن أركان الاستصحاب المقومة لمفهومه مما كان دخيلا في جريانه وترتب العمل عليه ، سواء كان وجوديا ـ وهو الذي قد يختص باسم الشرط اصطلاحا ـ أم عدميا ـ وهو عدم المانع ـ فإنهما معا محل الكلام في المقام. لكن حيث كان عدم المانع هو عدم ما يكون مقدما على الاستصحاب رتبة في مقام العمل ، وعدم المعارض الراجح أو المكافئ ، فالمناسب إيكاله إلى ما يأتي في مباحث التعارض ، حيث لا ميزة للاستصحاب في ذلك عن بقية الأصول إلا في نكات قليلة يأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى. ونقتصر في الكلام هنا على الشرط وهو ينحصر بترتب الأثر العملي. فنقول :

٤٢١

الاستصحاب ـ كسائر التعبدات الشرعية في موارد الحجج والأصول ـ إنما يصح مع ترتب العمل عليه ، إذ مع عدم ترتب العمل يكون التعبد بمؤداه لاغيا عرفا وعقلا. مضافا إلى ظهور عدم النقض في ذلك ، إذ بعد تعذر حمله على معناه الحقيقي يتعين حمله على عدم النقض عملا.

ولا فرق في ترتب العمل بين ترتبه على المستصحب بلا واسطة ـ كما في استصحاب الحكم التكليفي ـ وترتبه عليه بواسطة ، كما في استصحاب الحكم الوضعي والموضوع الخارجي اللذين يترتب عليهما العمل بواسطة أثرهما وهو الحكم الشرعي. لإطلاق النهي عن نقض اليقين بالشك بعد حمله على النقض العملي. ولخصوص صحاح زرارة وعبد الله بن سنان المتضمنة جريان الاستصحاب في الطهارة الحدثية والخبثية ، اللذين لا يترتب عليهما العمل إلا بواسطة الحكم التكليفي المترتب عليهما.

هذا والمراد بالواسطة ما يكون وجوده لازما لوجود التعبد به.

والملازمة .. تارة : تكون اتفاقية ، كما لو علم إجمالا بوجود أحد أمرين ، فإن عدم أحدهما مستلزم لوجود الآخر.

وأخرى : تكون حقيقة ناشئة عن علاقة بين الأمرين.

وذلك إما لكون الأمر المتعبد به سببا للازم ، كالسفر المستلزم لوجوب الإفطار ، والنار المستلزمة لتلف المال ، أو مسببا عنه ، كحرمة وطء الزوجة البالغة المستلزم لحيضها ، وعدم حيض الجارية المستلزم لعقمها. وإما لكونهما مسببين عن سبب واحد أو سببين متلازمين ، كوجوب الصلاة على المرأة وجواز وطئها المسببين عن بلوغها تسع سنين ، واحتراق الجسم ووجود الدخان المسببين عن النار. ومنشأ الملازمة إما شرعي أو غير شرعي ، كما يظهر من الأمثلة المتقدمة.

٤٢٢

وقد تردد في كلماتهم نهوض الأدلة والأمارات بإثبات الأثر العملي مع الواسطة في جميع موارد الملازمة المتقدمة. أما الأصول ـ ومنها الاستصحاب ـ فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره ومن تأخر عنه عدم نهوضها إلا بإثبات الأثر العملي المترتب مع الملازمة الشرعية في مورد تكون الواسطة مسببة عن مجرى الأصل ، فلا يحرز بالأصل إلا مجراه وما يترتب على مجراه شرعا من أحكام وآثار ، ولو مع تعدد الوسائط ، دون ما يكون سببا لمجراه شرعا ، أو يلازمه بملازمة غير شرعية. وهي المسألة المعبر عنها في كلماتهم بعدم حجية الأصل المثبت.

أما من سبقهم فقد يظهر منهم التوسع في العمل بالأصل ، والتمسك به في بعض موارد الملازمات غير الشرعية. ولعله ناشئ عن الغفلة عن حالها ، لعدم توجههم لذلك ، وعدم اهتمامهم بتحديد كبراه ، وإلا فمن البعيد جدا ذهابهم إلى عموم العمل بالأصل مع الملازمة.

وقد يوجه عدم اعتبار الأصل المثبت بأن المنصرف من أدلة التعبد الشرعية النظر للكبريات الشرعية وتنقيح صغرياتها ، فلا يحرز الأصل إلا صغرى تلك الكبريات. فإذا كان لمجرى الأصل أثر شرعي ترتب ، كما يترتب الأثر الشرعي لذلك الأثر وأثر أثره وهكذا مهما تعددت الوسائط ، لأن ترتب الأثر الشرعي على موضوعه مفاد كبرى شرعية ، فإذا كان مقتضى الأصل التعبد بموضوع الأثر كان الأصل محرزا لصغرى الكبرى المذكورة ، وبضميمة الكبرى المذكورة يترتب الأثر ، فإذا أحرز الأثر بالأصل فقد أحرزت أيضا الصغرى للكبرى المتضمنة لأثره ... وهكذا.

مثلا : إذا وكل المسافر شخصا على ماله ، ليؤدي منه ما عليه من حقوق وواجبات ، ثم طالت غيبته حتى احتمل موته ، فهناك كبريات شرعية ، الأولى : أنه مع حياة الزوج وعدم طلاقه للزوجة تبقى زوجته في حبالته ، الثانية : أنه مع

٤٢٣

بقاء المرأة في حبالة الزوج يجب عليه الإنفاق عليها ، الثالثة : أنه يجوز أو يجب على الوكيل تفريغ ذمة موكله من الحقوق التي عليه.

وحينئذ فاستصحاب بقاء الزوج حيا غير مطلق لزوجته محرز لصغرى الكبرى الأولى ، وينتج من ذلك بقاء زوجته في حبالته ، وبذلك تحرز صغرى الكبرى الثانية ، وينتج من ذلك وجوب النفقة لها عليه ، فتحرز بذلك صغرى الكبرى الثالثة ، ومقتضاها جواز أو وجوب قيام الوكيل عنه بذلك ، فينفق عليها من ماله.

أما إذا لم تكن الملازمة مقتضى كبرى شرعية ـ كما لو علم في المثال السابق أن المسافر المذكور لو كان حيا لكان عاجزا عن الصوم لشيخوخته حينئذ ، فتجب عليه الفدية ، ويجوز أو يجب على وكيله إخراجها من ماله وأداؤها عنه ـ فلا ينهض الأصل بإحراز اللازم ـ كالشيخوخة في المثال المذكور ـ لانصراف التعبد عنه. وحينئذ لا يترتب أثره الشرعي ـ كوجوب الفدية في المثال السابق ـ لعدم إحراز موضوعه. وأما إحراز الأثر من دون إحراز موضوعه ، بل بمجرد إحراز لازم الموضوع ، نظير الطفرة. فهو ممتنع أيضا ، لعدم كونه أثرا شرعيا للازم المذكور.

لكن يشكل الوجه المذكور بأن لازم ذلك عدم جريان الأصل في الأحكام التكليفية غالبا ، لعدم الأثر الشرعي لها ، ليكون التعبد بها تعبدا بصغرى كبرى شرعية ، بل يختص أثرها غالبا بحسن الطاعة وترك المعصية وهما لازمان لها عقلا. وحيث لا إشكال في جريانه فيها فلا بد أن يكون جريانه مبتنيا على التوسع في العمل المعتبر في جريان الأصل.

ومن هنا فقد يدعى أن مفاد الأصل هو جعل مؤداه ظاهرا لا غير ، حيث قد يدعى حينئذ أن ترتب الآثار الشرعية ـ ولو مع تعدد الواسطة ـ إنما هو لتبعية

٤٢٤

الحكم لموضوعه ، حتى مثل حسن الطاعة ، لأن موضوعه عقلا أعم من التكليف الواقعي والظاهري.

أما غير ذلك من اللوازم فلا مجال لترتبها ، لأنها لازمة للوجود الواقعي لا غير. كما لا مجال لترتب الآثار الشرعية لتلك اللوازم ، لعدم إحراز الأصل للأثر ابتداء ، بل بتبع موضوعه ، والمفروض عدم ترتب الموضوع المذكور.

لكن يظهر ضعفه مما سبق ـ في أوائل مبحث الحجج عند الكلام في مفاد الأصول التعبدية من مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ـ من عدم تضمن الأصول المذكورة جعل حكم ظاهري مباين للحكم الواقعي ، بل ليس مفادها إلا تعبد الشارع بمفادها إثباتا المقتضي للبناء عليه في مقام العمل.

فراجع.

مضافا إلى أن لازم الوجه المذكور عدم جريان الاستصحاب في الموضوع الخارجي ، لعدم كونه قابلا للجعل الشرعي ، وحيث لا إشكال في جريانه فلا بد من كون جعل الأثر هو المصحح لنسبة الجعل إليها بعلاقة الملازمة ، وذلك كما يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بلا واسطة ، يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بواسطة اللازم غير الشرعي ، لاشتراكهما في الملازمة المصححة للنسبة مجازا. وهناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها.

والتحقيق : أن الوجه فيما ذكروه هو ما سبق من أن مفاد الأصول التعبدية تعبد الشارع بمفادها إثباتا ، المقتضي للبناء عليه في مقام العمل ، فإن ذلك كما يجري في الأحكام التكليفية يجري في الأحكام الوضعية والموضوعات الخارجية. غايته أنه في الأحكام التكليفية يقتضي العمل على مقتضاها بلا واسطة بحكم العقل ، لأنه يكفي في المعذرية والمنجزية عقلا. أما في الأحكام

٤٢٥

الوضعية والموضوعات الخارجية فهو يقتضي العمل بتوسط أثره الشرعي ـ مهما تعددت الوسائط ـ لأن التعبد من قبل الشارع بالشيء يقتضي عرفا التعبد بأثره الشرعي. أما لازمه غير الشرعي فلا مجال للبناء على تعبد الشارع به تبعا لتعبده بالملزوم ، لأنه أجنبي عنه. كما لا مجال لإحراز تعبده بالأثر الشرعي للازم المذكور بعد عدم تعبده بموضوعه. ومن هنا تعين البناء على عدم جريان الأصل المثبت.

هذا وقد يستدل على عدم اعتبار الأصل المثبت بأنه لا يظهر أثر جريانه إذا كانت الواسطة غير الشرعية موردا لأصل موافق ، كما في استصحاب عدم النار المستلزم لعدم التلف وعدم الضمان ، حيث يغني الأصل الموافق ـ كاستصحاب عدم التلف ، أو عدم الضمان ، أو أصالة البراءة من وجوبه في المثال المتقدم ـ عن الأصل المثبت ، وإنما يظهر أثره فيما إذا لم يكونا موردا لأصل موافق ، كما في استصحاب بقاء النار المستلزم للتلف والضمان.

والالتزام باعتبار الأصل المثبت في مثل ذلك مستلزم لسقوطه غالبا بالمعارضة ، لجريان الأصل المعارض في الواسطة أو الأثر ، فكما يكون مقتضى استصحاب النار ـ بناء على اعتبار الأصل المثبت ـ إحراز التلف والضمان ، كذلك يكون مقتضى استصحاب عدم التلف وعدم الضمان عدم بقاء النار ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويرجع لأصالة البراءة من وجوب الضمان.

وتنحصر فائدة الأصل المثبت فيما إذا لم تتم أركان الاستصحاب المعارض في اللازم ولا في أثره. وهو نادر. ولعله إلى هذا نظر من استدل على عدم اعتبار الأصل المثبت بلزوم التعارض في جانب الثابت والمثبت ، كما حكاه شيخنا الأعظم قدس‌سره.

٤٢٦

لكنه يندفع بأنه حيث لا إشكال في عدم معارضة الأصل الجاري في الأثر الشرعي للأصل الجاري في ذي الأثر ، لما يأتي في محله من حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، أمكن البناء على ذلك في الأثر غير الشرعي ، لو قيل باعتبار الأصل المثبت. وحينئذ لا تتم المعارضة إلا فيما إذا لم يكن أحد المتلازمين أثرا للآخر لا شرعا ولا خارجا ، كما لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين النجسين ، حيث يكون مقتضى استصحاب نجاسة كل منهما ـ بناء على اعتبار الأصل المثبت ـ طهارة الآخر ، فيتم التعارض حينئذ ، ويظهر أثر اعتبار الأصل المثبت في مورد يكون أحد المتلازمين أثرا للآخر ، كما هو كثير.

بقي في المقام أمور ..

الأمر الأول : قد يستثنى من عدم اعتبار الأصل المثبت موارد ، عمدتها ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن الواسطة التي يستند إليها الأثر حقيقة إذا كانت خفية ، بحيث يغفل عنها ويعد أثرها عرفا أثرا للمستصحب لم يبعد نهوض الاستصحاب بإحراز أثرها المذكور.

وقد مثل قدس‌سره لذلك بأمرين الأول : استصحاب بقاء رطوبة أحد المتلاقيين إذا كان أحدهما نجسا لإحراز انفعال الآخر به ، مع أن انفعاله من آثار سراية النجاسة الملازمة لبقاء الرطوبة الثاني : استصحاب بقاء شهر رمضان وعدم دخول شهر شوال يوم الشك لإحراز كون اليوم الثاني عيدا ، ليترتب عليه أحكامه ، من الصلاة والفطرة وغيرها ، مع كون التلازم بين الأمرين خارجيا لا شرعيا.

ويشكل أولا : بأنه لا ضابط لخفاء الواسطة ، إذ لا يتضح الفرق بين الاستصحابين المذكورين واستصحاب بقاء الماء في الحوض لإحراز طهارة ما وقع فيه ، التي هي من آثار لازمه الخارجي ، وهو إصابة الماء له ، وكذا

٤٢٧

استصحاب بقاء حياة المورث إلى حين إسلام الوارث ، لإحراز إرثه منه ، الذي هو من آثار لازمه وهو موته بعد إسلامه ، مع أنه قدس‌سره التزم بعدم جريان الأصلين المذكورين ، لأنهما من الأصل المثبت.

بل لا يحتمل من أحد توهم خفاء الواسطة في مثل آثار العيد ، إذ لا ريب في نسبتها عرفا لموضوعها الشرعي وهو العيد ، لا لكون شهر رمضان من اليوم السابق ، فلا بد من كون منشأ البناء على ذلك أمرا آخر ، على ما يأتي الكلام فيه في استصحاب الزمان إن شاء الله تعالى.

وثانيا : بما يستفاد من غير واحد. وحاصله : أن النظر العرفي إذا رجع إلى فهم العرف من الكبرى الشرعية أن موضوع الأثر هو الأمر المستصحب ، لا الواسطة ، فلا إشكال في العمل عليه ، لأن المرجع في فهم القضايا والكبريات الشرعية هو العرف ، ويخرج المورد حينئذ عن الأصل المثبت. أما إذا رجع إلى التسامح في نسبة الأثر بعد

فرض كون موضوع الأثر هو الواسطة ، فلا وجه للتعويل عليه بعد خروجه عما يستفاد من كبرى الاستصحاب ، وهو التعبد بالمستصحب المستتبع للتعبد ب آثاره لا غير ، ولا عبرة بالتسامح العرفي في نسبة الأثر الراجع للتسامح في تطبيق كبرى الاستصحاب ، كما تقدم نظيره في بحث موضوع الاستصحاب.

الأمر الثاني : من الظاهر أن الأمور الدخيلة في موضوعات الآثار الشرعية قد أخذت في لسان الأدلة بعناوينها العامة الكلية ، كالبلوغ المأخوذ في موضوع التكليف ، والاستطاعة المأخوذة في موضوع وجوب الحج ، والطهارة المأخوذة قيدا في كثير من الواجبات والمستحبات ، والنجاسة المأخوذة في حرمة الأكل.

ومن الظاهر أن الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما يكون

٤٢٨

للأفراد الخاصة التي ينطبق عليها الكلي ، ويكون ترتب الأثر عليها بتوسطه ، وليس هذا من الأصل المثبت ، لوضوح أن أخذ الكلي في موضوع الأثر إنما هو بلحاظ حكايته عن أفراده الخارجية ، فهي الموضوع في الحقيقة لأفراد الأثر التي يراد ترتيبها بالاستصحاب.

نعم لا بد في استصحاب الفرد من استصحابه بحيثيته العنوانية المأخوذة في موضوع الحكم ، فلا بد من سبق اليقين به بالحيثية المذكورة ، ولا يكفي استصحابه بذاته مع قطع النظر عن الحيثية المذكورة وإن كانت ملازمة له. فإذا كان موضوع الأثر هو العالم أو الأبيض فلا بد من استصحاب العالم الخاص أو الأبيض الخاص ، ولا يكفي استصحاب زيد بمفهومه الخاص وإن كان ملازما للعالم أو الأبيض.

وعليه لا بد من إحراز منشأ انتزاع العنوان المأخوذ في موضوع الحكم ، لتوقف اليقين بخصوصية العنوان عليه ، من دون فرق في ذلك بين العنوان الذاتي ـ كالإنسان ـ والعرضي الحقيقي ـ كالأبيض ـ أو الاعتباري ـ كالزوج ـ أو غيرها مما يفرض كونه دخيلا في موضوع الأثر.

ومن هنا قد يشكل الأمر في استصحاب صغريات بعض العناوين المأخوذة في قضايا غير شرعية من أجل إحراز آثار شرعية ثابتة في كبريات شرعية لعناوين أخرى لا تحرز بالاستصحاب. كما لو نذر الرجل أن يتصدق في كل يوم ما دام ولده حيا ، فشك في حياة ولده في يوم ، حيث قد يشكل استصحاب حياة ولده لإحراز وجوب التصدق ، بأن حياة الولد ليست موضوعا لوجوب التصدق في كبرى شرعية ، بل هي لازمة عقلا لكون التصدق وفاء بالنذر ، الذي هو موضوع الكبرى الشرعية ، من دون أن يستصحب كون التصدق في ذلك اليوم وفاء بالنذر ، لعدم سبق اليقين بذلك.

ومثل النذر في ذلك اليمين والعهد. وكذا الشرط والعقد ، كما لو استحق

٤٢٩

زيد على عمرو منفعته يوم الجمعة بإجارة أو شرط ، ثم شك في بقاء يوم الجمعة في ساعة ، فإن استصحاب بقاء يوم الجمعة لإثبات ملكيته لمنفعة تلك الساعة لا يكون إلا بتوسط صدق عنوان الوفاء بالعقد أو الشرط ، من دون أن يكون يوم الجمعة بنفسه موضوعا لملكية المنفعة المذكورة في كبرى شرعية ، لأن موضوع الكبرى الشرعية الوفاء بالشرط.

ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على مانعية توسط العناوين المذكورة فيها من العمل بالأصل. كيف؟! ولازمه عدم جريان استصحاب الطهارة مثلا لإحراز وقوع الصلاة وفاء عن النذر أو الإجارة أو نحوهما ، فإن ترتب صحة الصلاة على الطهارة وإن كان مستفادا من كبرى شرعية ، مثل : «لا صلاة إلا بطهور» (١) ، إلا أن ترتب امتثال الأمر بالوفاء بالنذر أو العقد أو نحوهما عليها ليس إلا بتوسط صدق عنوان الوفاء بها عقلا بعد أن كان موضوع النذر أو العقد أو نحوهما هو الصلاة المشروعة المشروطة بالطهارة.

وعلى ذلك لا بد من النظر في وجه عدم إخلال توسط مثل هذه العناوين في العمل بالأصل ، وخروجه عما تقدم في الأصل المثبت.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس‌سره في وجهه أن الحكم في الكبريات الشرعية لم يرد على عنوان الوفاء إلا لمحض الحكاية عن الأفراد الخاصة التي هي مجرى الأصل من دون أن يكون دخيلا في الحكم ، بل هو منتزع منها ، ولم يؤخذ في موضوع الكبريات الشرعية إلا لكونه جامعا لشتات تلك الأفراد مانعا من دخول غيرها ، كما هو الحال في كل عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في ملاك الحكم ، كعنوان المقدمية والضدية ونحوهما.

وفيه : أن جميع العناوين المذكورة في الكبريات الشرعية إنما يراد بها

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الوضوء حديث : ١.

٤٣٠

الحكاية عن المصاديق ، ولا خصوصية لعنوان الوفاء في ذلك ، لكن ذلك لا ينافي دخلها في الحكم بنحو يلزم إحرازها بالأصل ، بحيث لا بد من إحراز المصداق بالأصل من حيثيتها ، لا بذاته ، كما تقدم.

وأما ما ذكره من أن عنوان الوفاء منتزع من الأفراد المذكورة ، فإن أراد به أن تعلق الحكم به بلحاظ وجوده الخارجي الذي لا يكون إلا بوجود الفرد. فهو يجري في كل عنوان يؤخذ في كبريات الأحكام الشرعية. وإن أراد به سوقه لمحض الحكاية عن الأفراد من دون أن يكون دخيلا في الحكم ، وليس الدخيل في الحكم إلا الأفراد بعناوينها الخاصة ، فيكفي إحرازها بالأصل بنفسها من دون حاجة إلى إحرازه ـ كما يناسبه تنظيره بالمقدمية والضدية ـ فهو خروج عن ظواهر الأدلة ، بل عما هو المقطوع به منها من دخله فيه ، كسائر العناوين المأخوذة في القضايا الشرعية ، بل مطلق القضايا الحقيقية.

كيف؟! ولازمه عدم جريان الأصل في نفس وجوب الوفاء أو موضوعه أو شرطه أو مانعة ، كحصول النذر ، وحلّ الأب أو الزوج له ونحوهما مما يرجع إلى كبرى وجوب الوفاء. ولا مجال لقياسه بعنوان المقدمية والضدية ، لوضوح عدم أخذها في موضوع الحكم في أدلة شرعية ، وإنما استفيد ثبوت الحكم الشرعي لهما بحكم العقل الذي لا نظر له إلا إلى المصداق بنفسه ، وليست المقدمية أو الضدية إلا جهة تعليلية أو انتزاعية.

فلعل الأولى أن يقال : لا يتوقف جريان الأصل على أن يكون مجراه مأخوذا في كبرى شرعية ، بل يكفي كونه موضوعا للأثر الشرعي ـ ليدخل في ما تقدم من أن التعبد بالموضوع يستتبع التعبد بأثره ـ سواء كان ذلك مفاد الكبرى الشرعية ـ كاستصحاب زوجية المرأة لإحراز وجوب الإنفاق عليها ، أو عدم حلّ الزوج لليمين لإحراز نفوذه ـ أم مستفادا من انطباق الكبرى على الصغرى ، كما في المقام ونحوه مما كانت الصغرى فيه قضية ، وكان المستفاد من الكبرى

٤٣١

نفوذها وجعل مضمونها شرعا ، حيث يرجع ذلك إلى قيام الأثر شرعا بالموضوع المأخوذ في القضية المذكورة بخصوصياتها العنوانية ، فإذا أحرز ذلك الموضوع ترتب أثره.

وذلك لأن مفاد كبرى وجوب الوفاء بالنذر والعقد والشرط مثلا هو إمضاء مفاد النذور والعقود والشروط الواقعة من المكلفين ، وجعل مضمونها شرعا ـ تبعا لإنشائه من موقعها ـ بخصوصياته المجعولة في القضية المنشأة ، فالقضية التي يتضمنها النذر والعقد والشرط وإن كانت مجعولة لمنشئها بدوا ، إلا أنها بسبب نفوذها المستفاد من كبرى الأمر بالوفاء تكون مجعولة شرعا ، كالكبريات الشرعية ، والآثار التي تتضمنها تبعا لموضوعاتها آثار شرعية يجري الاستصحاب بلحاظها. بل هي في الحقيقة بسبب الإمضاء المذكور كبريات شرعية ، كسائر القضايا المجعولة شرعا ، وتشاركها في آثارها.

وبذلك يظهر أنه لا حاجة إلى توسط عنوان الوفاء بين المستصحب والأثر ، بل المستصحب بنفسه موضوع للأثر شرعا ، فيخرج عن الأصل المثبت.

الأمر الثالث : تقدم أن استصحاب الحكم التكليفي إنما يجري بلحاظ ترتب العمل عليه بلا واسطة ، وأن استصحاب الحكم الوضعي أو الموضوع الخارجي إنما يجري بلحاظ ترتب أثره الشرعي بضميمة الملازمة العرفية بين التعبد بالشيء والتعبد بأثره.

ومن هنا قد تشكل الاستصحابات العدمية في موردين :

الأول : استصحاب عدم التكليف ، حيث قد يستشكل فيه بوجهين :

أحدهما : أن عدم التكليف ليس مجعولا شرعا ، فإن المجعول هو الأحكام الخمسة دون عدمها ، وإلا كانت الأحكام عشرة.

وقد دفع ذلك المحقق الخراساني قدس‌سره بأن عدم التكليف وإن لم يكن

٤٣٢

حكما شرعيا إلا أنه تابع للشارع ، لأن سلطنته على جعل الحكم تستلزم سلطنته على عدمه ، وهو كاف في جريان الاستصحاب بعد عموم النهي عن نقض اليقين بالشك.

هذا ولا يخفى أن الإشكال والدفع مبنيان على أن مفاد الأصول التعبدية ـ ومنها الاستصحاب ـ جعل الحكم المماثل ظاهرا. وقد أشرنا في أوائل هذا الفصل إلى ضعف المبنى المذكور ، وأن مفادها هو التعبد بالمؤدى ولزوم البناء عليه ، وهو لا يختص بالأحكام الشرعية ، ولا بما يكون تحت سلطان الشارع ، بل يجري حتى في الأمور الخارجية التي لا دخل للشارع بها.

غايته أنه لا بد من ترتب العمل عليه ، وهو حاصل في المقام ، إذ كما يترتب العمل على استصحاب التكليف ، بلحاظ أن التعبد الشرعي بالتكليف كاف في المنجزية المستتبعة للزوم موافقته عقلا ، كذلك يترتب على استصحاب عدم التكليف ، بلحاظ أن التعبد بعدم التكليف كاف في المعذرية المستتبعة لعدم وجوب موافقته عقلا.

ثانيهما : ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن العمل إنما يترتب على استصحاب عدم التكليف بلحاظ ملازمة عدم التكليف للإذن والترخيص في الفعل أو الترك ، فيبتني على الأصل المثبت.

لكنه مبني على أصالة الحظر عقلا ، وأن الرافع لاستحقاق العقاب هو الترخيص ، فلا معذرية إلا بإحرازه. وهو خلاف التحقيق ، بل الأصل الإباحة عقلا ، وأن استحقاق العقاب مشروط بمنع الشارع ، فإحراز عدم التكليف وعدم المنع الشرعي كاف في المعذرية. فلاحظ.

الثاني : استصحاب عدم الموضوع للحكم الشرعي ، سواء كان أمرا خارجيا ـ كالقتل ـ أم شرعيا ـ كالنجاسة ـ لأن الأثر ليس للعدم المستصحب ، بل للوجود ، غاية الأمر أن عدم الموضوع ملازم واقعا لعدم ترتب حكمه ، فيبتني

٤٣٣

على الأصل المثبت. نعم لو كان العدم بنفسه مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي أمكن استصحابه ليترتب حكمه.

ويندفع بأنه كما يكون التعبد بوجود الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد بحكمه ، كذلك يكون التعبد بعدم الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد بعدم حكمه ، وكما لا يبتني العمل في الأول على الأصل المثبت ، لا يبتني عليه في الثاني.

الأمر الرابع : لا يعتبر في خروج الأصل عن كونه مثبتا كون مجراه تمام الموضوع الشرعي للأثر الشرعي ، أو تمام المنشأ للعمل عقلا ، بل يكفي دخله فيه بعنوانه بنحو من أنحاء الدخل ، جزءا كان أو شرطا أو مانعا أو غير ذلك.

ويكفي في وجه ذلك تطبيق كبرى الاستصحاب في صحيحتي زرارة على الطهارة الحدثية والخبثية مع وضوح أن المستصحب لا يكفي في ترتب الأثر المهم ، وهو صحة الصلاة ، بل لا بد معه من شروط وأجزاء أخر لا يحرزها الاستصحاب المذكور ، بل لا بد من إحرازها بالوجدان ، أو بأصل آخر.

ومن هنا تكرر في كلامهم أنه لا بأس بضم الوجدان للأصل في إحراز موضوع الأثر ، ولا يكون الأصل مثبتا بعد كون المستصحب بعنوانه دخيلا في الأثر.

وإنما يكون مثبتا إذا كان الدخيل في الأثر هو العنوان اللازم أو المنتزع من جملة أمور بعضها مجرى الأصل ، كما لو كان موضوع الأثر هو وجود عشرة رجال في الدار ، وعلم بدخول تسعة وشك في وجود زيد معهم بعد العلم بسبق وجوده فيها ، فإن استصحاب بقائه لا ينفع في ترتب الأثر المذكور بعد عدم دخله بعنوانه فيه ، وإنما الدخيل عنوان العشرة اللازم للمستصحب. وكذا لو كان

٤٣٤

موضوع الأثر هو ارتفاع زيد على عمرو في المكان ، وعلم بسبق وجود زيد في المكان العالي ثم علم بدخول عمرو في المكان الأسفل بعد احتمال خروج زيد من مكانه ، فإن استصحاب بقاء زيد في مكانه لا يكفي في ترتب الأثر المذكور بعد عدم دخله فيه بعنوانه ، وإنما الدخيل عنوان الارتفاع في المكان اللازم للمستصحب.

الأمر الخامس : يكفي في جريان الاستصحاب أن يكون لبقاء المستصحب أثر في مقام العمل ، سواء كان تعلق العمل به حين الشك في البقاء ـ كما في استصحاب طهارة الثوب لإحراز مشروعية الدخول في الصلاة به ـ أم بعده ـ كما في موارد الشك في تأخر الحادث ـ أم حين اليقين بالحدوث ـ كما في استصحاب بقاء الدم ثلاثة أيام لترتيب آثار الحيض بمجرد رؤيته ـ أم قبله ، كما لو وجب تهيئة الطعام للزائر إن كان يبقى إلى الظهر ، وعلم يوم الخميس بمجيئه صباح الجمعة وشك في بقائه إلى الظهر. فإن استصحاب بقائه إلى الظهر موجب لتنجز وجوب تهيئة الطعام ، ولو بإعداد مقدماته المفوتة.

كل ذلك لعموم دليل الاستصحاب ، بعد تحقق أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء وترتب العمل الرافع للغوية. وعلى ذلك يبتني ما ذكره غير واحد من جريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة.

ودعوى : انصراف عموم الاستصحاب لصورة فعلية المشكوك ولو بلحاظ مورد النصوص. مدفوعة بمنع الانصراف المذكور. ولا سيما بعد كون القضية ارتكازية شاملة للجميع. كيف ولازم ذلك اختصاصه بالصورة الأولى ، وعدم جريانه في الصورة الثانية ، للعلم بارتفاع المشكوك ـ وهو عدم الحادث ـ فيها حين إرادة ترتيب الأثر. وإلحاقها وحدها دون الأخيرتين بالصورة الأولى تحكم بعد اختصاص المورد بالصورة الأولى ، واشتراك الجميع في الدخول تحت العموم الارتكازي.

٤٣٥

الأمر السادس : اشتهر في كلام المتأخرين الفرق بين الأمارة والأصل في الحجية في لازم المؤدى ، كما أشرنا إليه آنفا.

وقد تصدى غير واحد لبيان وجه الفرق بينهما في ذلك. فقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره لذلك وجها طويلا أسهب في ذكر مقدماته. وحاصله : أن مفاد أدلة اعتبار الأمارة تتميم كشفها وجعلها علما تعبدا بالإضافة إلى المؤدى ، فتترتب عليها آثار العلم به ، فكما كان العلم الحقيقي بشيء مثبتا لآثاره ولوازمه وملزوماته مهما تعددت الوسائط ، فكذلك قيام الأمارة عليه. بخلاف الأصل فإن أدلة اعتباره لا تقتضي إلا التعبد بمؤداه ، دون لوازمه ، من دون أن تقتضي تتميم كشفه وجعله علما ، ليشارك العلم في ذلك.

وفيه أولا : أنه ليس مفاد دليل اعتبار الأمارة تتميم كشفها ولا جعلها علما تعبدا ، بل مجرد جعل حجيتها ، كما تقدم في مقدمة علم الأصول ، ويأتي في مباحث التعارض عند الكلام في وجه تقديم الطرق على الأصول إن شاء الله تعالى.

وثانيا : أن إثبات العلم بالشيء لجميع آثاره ولوازمه إنما هو بضميمة التلازم خارجا بين العلم بالشيء والعلم بلازمه مع الالتفات للملازمة ، والتلازم المذكور مختص بالعلم الحقيقي ، دون العلم التعبدي المدعى ، بل هو تابع لدليل التعبد ، فمع فرض اختصاصه بالمؤدى لا وجه للتعدي للازمه.

ولذا لا إشكال في إمكان التفكيك في حجية الأمارة بين المتلازمات ، لاختصاص دليل الحجية ببعضها ، كما في الظن بالقبلة الذي لا يلزم من حجيته حجية الظن بالوقت وإن استلزمه ، وكما في الإقرار.

أما المحقق الخراساني قدس‌سره فقد ذكر أن الأمارة لما كانت مبنية على الحكاية فهي كما تحكي عن المؤدى تحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وآثاره ،

٤٣٦

ومقتضى إطلاق دليل حجيتها لزوم تصديقها في تمام ما تحكي عنه ، بخلاف الأصل ، فإن اعتباره لا يبتني إلا على محض التعبد الملزم بالاقتصار على مورده وهو المؤدى ، والتعدي إلى أثره الشرعي إنما هو بضميمة الملازمة بين التعبد بالشيء والتعبد بأثره ، فيلزم الاقتصار على مورد الملازمة المذكورة ، وهو الأثر الشرعي.

وما ذكره راجع إلى إمكان حجية الأمارة في لازم مؤداها تبعا لإطلاق دليل حجيتها. وهو في محله لو فرض تمامية الإطلاق بأن يستفاد منه حجية الأمارة في تمام ما تكشف عنه ، ولو بضميمة الملازمة بين الظن بالشيء والظن بلازمه.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك أولا : لأن مبنى حجية الأمارة غالبا على إفادتها للظن نوعا ، وربما تكون اللوازم شخصية اتفاقية ، وليست لوازم نوعية لتكشف الأمارة عنها نوعا.

وثانيا : لأنه لو فرض كاشفيتها عنها بالوجه المعتبر فيها ، إلا أنه قد لا يكون لدليل حجيتها إطلاق يقتضي حجيتها في تمام ما هي كاشفة عنه وموجبة للظن به ، بل يؤخذ في دليل حجيتها عناوين وجهات خاصة لا تنطبق على اللوازم. فحجية الإقرار تختص بالحق الثابت على المقر ، وحجية اليد تختص بالملكية ... إلى غير ذلك مما يختص بجهة خاصة من دون أن يعم اللازم.

ولو فرض عموم دليل الحجية للازم في مورد كانت حجة فيه بلا كلام ، وخرج عما نحن فيه ، إذ لا يراد بالمؤدى إلا ما قام الدليل على حجية الأمارة فيه ، وإلا فلا معنى لكون الملكية مؤدى لليد لو لا حجيتها عليها. ومحل الكلام إنما هو استفادة حجية الأمارة في اللازم لمحض ملازمته لما هي حجة فيه ، لا لقيام الدليل على حجيته فيه بالخصوص ، وإثبات ذلك في غاية الإشكال ، بل المنع.

٤٣٧

نعم مؤدى الكلام والخبر هو مضمونه المحكي به المسوق له وإن لم يكن حجة فيه.

ومن هنا قد ينزل ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره على خصوص ما كان مبنى طريقيته على حكايته وأدائه للمراد وإبرازه له ـ كالخبر ونحوه ـ دون ما يبتني على مجرد الكاشفية ، كاليد بالإضافة إلى الملكية. بدعوى : أن مثل ذلك كما يحكي عن المؤدى يحكي عن لازمه ، فإطلاق دليل وجوب التصديق فيه يقتضي تصديقه في تمام ما يحكي عنه وإن كان مدلولا التزاميا له.

لكنه يشكل أيضا أولا : بأنه قد لا يكون لدليل الحجية إطلاق في وجوب التصديق ، لأخذ عنوان خاص فيه لا ينطبق على تمام ما يحكي عنه ، كالإقرار ، فإن مفاد دليل حجيته جوازه على المقرّ ، وهو لا يقتضي إلا إلزامه بثبوت الحق عليه ، لا تصديقه في غيره مما يحكي عنه الخبر وإن كان هو المؤدى المطابقي له.

وثانيا : بأن موضوع التصديق لما كان هو الخبر والنبأ والشهادة ونحوها ، اختص بما يكون مخبرا عنه ، وقد ساق المتكلم الكلام لبيانه وإن كان مدلولا التزاميا ، دون غيره من اللوازم الواقعية التي لم يقصد المتكلم بيانها بالكلام.

ومن ثم لا مجال للبناء على عموم حجية الأمارة في اللازم.

نعم قد يتجه ما ذكروه في الخبر ، لأن الأدلة وإن اشتملت على عنوان التصديق والنبأ والخبر ونحوها مما يختص بما يقصد المتكلم الإخبار عنه ، إلا أن المستفاد منها لما كان هو إمضاء سيرة العقلاء الارتكازية على العمل بخبر الثقة ، والجري على ما جروا عليه من عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب أو الخطأ ، كان اللازم الرجوع في سعة موضوع الحجية إلى العقلاء ، وحيث كان بناؤهم على التعويل على الخبر في اللوازم ـ وإن لم يقصد المتكلم الإخبار عنها

٤٣٨

ـ للتعويل عليه في المؤدى ، كان اللازم البناء على عموم حجيتها شرعا أيضا ، وعدم الجمود على عنوان التصديق ونحوه.

لكن ذلك مختص بخبر الثقة ونحوه ، دون غيره مما لا تبتني حجيته على إمضاء سيرة العقلاء ، بل على حكم الشارع تعبدا بتصديق الخبر في خصوص مورد ، كتصديق المرأة في العدة والحيض (١) ، وتصديق البائع في الكيل (٢) وغير ذلك. فضلا عن ما لم يشتمل دليله على عنوان التصديق ـ كالإقرار ـ أو كانت حجيته ببناء العقلاء في أمر خاص ـ كاليد التي هي أمارة على الملكية ـ فإن اللازم في جميع ذلك الرجوع لمقتضى الأدلة سعة وضيقا ، ولا ضابط لذلك.

وبهذا يظهر أن البناء على حجية الاستصحاب بما أنه موجب للظن نوعا ، ببناء العقلاء ، بحيث يكون من الأمارات لا يستلزم حجيته في لازم مؤداه ـ وإن كان ظاهر بعضهم ذلك ـ لإمكان اقتصار العقلاء في العمل بالظن المذكور على خصوص مؤداه ، وهو بقاء الأمر المتيقن سابقا ، دون لوازمه.

تلخيص وتتميم

قد ظهر من جميع ما تقدم أن التعبد بالشيء بنفسه في الأمارة والأصل لا يقتضي التعبد بلوازمه غير الشرعية ، ولا بما يترتب عليها من الآثار الشرعية ، إلا أن يدل الدليل عليه بالخصوص ، لعموم دليل الحجية للوازم ، كما تقدم في بعض الأمارات ، وذلك قد يحصل في بعض الأصول ، كما لعله يأتي. وكذا إذا ورد التعبد في خصوص مورد ينحصر فيه الأثر بذلك ، حيث يتعين الالتزام به دفعا للغوية ، بخلاف ما إذا كان الدليل هو الإطلاق ، حيث ترتفع اللغوية فيه

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١٥ باب : ٢٤ من أبواب العدد من كتاب الطلاق.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٢ باب : ٥ من أبواب عقد البيع وشروطه.

٤٣٩

بتنزيله على خصوص الموارد التي يكون للأمر المتعبد به أثر شرعي بلا واسطة أو بواسطة أثر شرعي.

كما أن إطلاق التعبد بالشيء يقتضي التعبد بجميع آثاره الشرعية بضميمة الملازمة العرفية التي تقدم التعرض لها آنفا. إلا أن هذا لا يمنع من العمل بالدليل الخاص إذا اقتضى التفكيك بين الآثار المذكورة وعدم التعبد ببعضها ، مثل ما قيل من ثبوت الضمان بشهادة رجل وامرأتين بالسرقة دون الحدّ. بل قد يقوم الدليل على التفكيك بين أجزاء المؤدى في الحجية ، كما تضمنت النصوص ثبوت الوصية بشهادة أربع نساء ، وثبوت ربع منها بشهادة امرأة واحدة بها فلاحظ. والحمد لله رب العالمين.

٤٤٠