الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

بصحيح إسحاق بن عمار وروايتي الخصال والإرشاد ومكاتبة القاساني.

كما قد يؤيد مضمونها بتسالم الأصحاب على الرجوع للاستصحاب في كثير من الشبهات الموضوعية ، بنحو لا يبعد كشفه عن نحو من التسالم على العموم ، وأن الخروج عن ذلك في بعض الموارد لدعوى عدم تمامية شروط الاستصحاب أو تخيل المخرج عنه ، لا لعدم تمامية العموم.

بل لا يبعد ذلك في الشبهة الحكمية ، وأن شيوع الخلاف فيها ناشئ عن بعض الشبهات المانعة من الرجوع له فيها ، ومنها شبهة عدم اتحاد المشكوك مع المتيقن ، التي هي في الشبهات الحكمية أقوى منها في الشبهات الموضوعية ، لا لاختصاص عموم الاستصحاب بالشبهة الموضوعية ابتداء. وإلا فالجهة الارتكازية لا تختص بها. وإن كنا في غنى عن ذلك بعد تمامية دلالة النصوص على العموم.

بقي في المقام أمران :

الأمر الأول : المتيقن من الأدلة المتقدمة لزوم العمل على بقاء المستصحب وترتيب الأثر عليه ، من دون أن تبتني على الكشف عن وجوده ، حيث لا قرينة فيها على ذلك ، بل ظاهر النصوص ـ التي هي عمدة الدليل عليه ـ عدمه بعد ظهورها في الإشارة إلى أمر ارتكازي ، إذ الارتكاز لا يبتني على الطريقية. وبهذا لا يكون الاستصحاب من الطرق ، بل من الأصول العملية كما جرينا عليه في التبويب.

نعم الظاهر أنه من الأصول التعبدية ، وهي المبنية على العمل على أحد طرفي الشك للتعبد الشرعي به والبناء العملي عليه ، كأصالتي الحل والطهارة ، لا على مجرد العمل من دون تعبد بشيء ، كأصالتي البراءة والاحتياط ـ على القول به ـ وقاعدة الاشتغال. لأن ذلك هو المناسب للوجوه الثلاثة المذكورة ، ولا سيما

٤٠١

الأخبار ، لأنها حيث تضمنت عدم نقض اليقين بالشك فمرجعها إلى أن اليقين بالحدوث منشأ للبناء على البقاء شرعا عند الشك ، كما هو منشأ للبناء على الحدوث ذاتا ، ولذا يكون عدم ترتيب أثر البقاء نقضا له.

بل يختلف الاستصحاب عن مثل قاعدة الطهارة والحل من الأصول التعبدية بأن التعبد فيه بالمستصحب بتوسط المحرز له ، وهو اليقين السابق ، فإن اليقين السابق وإن لم يكن كاشفا عن المستصحب ـ ولذا تقدم أن الاستصحاب ليس من الطرق والأمارات ـ إلا أنه محرز له.

أما التعبد في بقية القواعد فهو ابتدائي لا يبتني على وجود المحرز له.

إن قلت : فرض كون اليقين محرز للاستمرار راجع إلى كونه أمارة عليه شرعا وإن لم يكن بنفسه كاشفا عنه ، إذ لا يعتبر في أمارية الأمارة كشفها وإفادتها الظن بنفسها ولو نوعا.

قلت : الذي لا يعتبر في الأمارة هو إدراك الجهة الموجبة لكشفها ، حيث قد تكون خفية على العرف ، ولا يطلع عليها غير الشارع ، أما أصل كاشفيتها فلا بد منها ، وليس المجعول في الأمارة إلا الحجية بعد فرض الكاشفية ، أما في الاستصحاب فليس المجعول إلا المحرزية ، من دون فرض الكاشفية ، لعدم نهوض دليله بها ، كما تقدم.

والمتحصل : أن الاستصحاب ليس من الطرق والأمارات المبنية على الكشف ، بل هو أصل تعبدي إحرازي ، يقتضي العمل تبعا لإحراز اليقين السابق بقاء المتيقن تعبدا.

وقد تقدم الكلام في مفاد الأصول التعبدية عموما والاستصحاب خصوصا عند الكلام في دفع محذور اجتماع الحكمين المتضادين من مبحث إمكان التعبد بغير العلم. فراجع.

٤٠٢

الأمر الثاني : أشرنا آنفا إلى كثرة الأقوال في الاستصحاب وتعدد التفصيلات فيه. وتلك التفصيلات تبتني .. تارة : على الكلام في عموم دليل الاستصحاب وخصوصه وأخرى : على الكلام في تحقق أركانه وشروطه في بعض الموارد. ويأتي الكلام في القسم الثاني في المقام الثالث.

أما القسم الأول فالمناسب بحثه في هذا المقام ، لابتنائه على الكلام في مفاد أدلة الاستصحاب. وهو يختص بالتفصيل بين صورتي الشك في الرافع ، فيجري الاستصحاب والشك في المقتضي ، فلا يجري. وقد اختاره جماعة ، وذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره أن الذي فتح باب ذلك هو المحقق الخونساري في شرح الدروس.

والذي يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره أن المعيار في التفصيل المذكور إحراز استعداد المستصحب للبقاء لو لا الرافع ، بحيث يستند احتمال ارتفاع المتيقن لاحتمال حصول الرافع ، سواء أحرز المقتضي له ، كما لو علم بعزم الفاعل على الاستمرار في الفعل واحتمل حصول المزاحم المانع منه ، أم لم يكن محتاجا للمقتضي ، كالعدم الذي له استعداد الاستمرار في نفسه لو لا حدوث مقتضي الوجود. ويشهد بذلك تعبيره عن التفصيل المذكور بالتفصيل بين الشك في الرافع وعدمه. ويناسبه ظهور مفروغيته عن جريان الاستصحاب في العدميات وفي الأحكام الوضعية كالملكية والطهارة والنجاسة ، مع وضوح أنها كالأعدام لا يحتاج بقاؤها للمقتضي ، بل يكفي فيه عدم الرافع.

نعم قد لا يناسب ذلك ما تكرر في كلامهم من لزوم إحراز المقتضي في جريان الاستصحاب ، ولا بعض ما يظهر من وجوه استدلالهم على ما يأتي إن شاء الله تعالى. بل ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره أن حصول ملاك التفصيل في العدميات محتاج إلى تأمل ، وإن لم يستبعد حصوله. لكن لا مجال للخروج بذلك عما تقدم ، فلا بد من حمل المقتضي في كلامهم على ما يعم القابلية المذكورة.

٤٠٣

إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد يستدل على التفصيل المذكور بوجوه ..

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن حقيقة النقض رفع الهيئة الاتصالية المساوق لقطع الأمر المتصل ، كما في نقض الحبل. لكن يعلم بعدم إرادة المعنى المذكور ، لعدم فرض الاستمرار في المتيقن ، بل الشك فيه ، وفرض عدم الاستمرار في اليقين نفسه. إلا أن يراد به اليقين بالحدوث ، الذي لا معنى للنهي عن رفع استمراره وقطعه. وحينئذ يتعين حمله إما على رفع اليد عما من شأنه الثبوت والاستمرار ، لثبوت مقتضيه ، أو على مجرد رفع اليد عما كان ثابتا ، وإن لم يكن من شأنه الاستمرار. والأظهر الأول ، لأنه أقرب للمعنى الحقيقي. فيلزم لأجله رفع اليد عن إطلاق اليقين ، وتقييده بما إذا تعلق بما من شأنه الاستمرار.

وفيه أولا : أن النقض رفع الأمر المستحكم ، ففي لسان العرب : «النقض إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء» ، وقريب منه ما ذكره غيره. ويناسبه استعماله في الكتاب المجيد والعرف في نقض العهد والميثاق ، وعليه جرى قوله تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)(١). وإطلاق نقض الحبل إنما هو بلحاظ إبرامه وتماسكه ، لا بلحاظ اتصاله ، ولذا لا يصدق مع عدم تماسكه. وعليه لا يكفي في صدقه كون الشيء من شأنه البقاء لو لا الرافع ، كالعدم. كما لا يكفي مجرد وجود مقتضي البقاء له ، كجاذبية الأرض ، المقتضية لبقاء الحجر في مكانه ، بل لا بد من استحكامه وإبرامه ، وهو أخص من المدعى.

وأما استعماله في النصوص في مثل نقض الوضوء مما يكون من شأنه البقاء من دون استحكام ، فهو لا يشهد بالاكتفاء بذلك في المعنى الحقيقي ، بل الظاهر ابتناؤه على نحو من التوسع ، نظير استعماله في مثل نقض الصلاة مما

__________________

(١) سورة النحل الآية : ٩٢.

٤٠٤

ليس من شأنه البقاء بنفسه ، بل لا بد فيه من الإبقاء.

وثانيا : أن متعلق النقض في النصوص لما كان هو اليقين فلا بد من ملاحظة الاستحكام فيه ، لا في المتيقن. ودعوى : أن إضافة النقض لليقين باعتبار ما يستتبعه من ترتيب آثار المتيقن ، لا آثار اليقين نفسه ، فهو ملحوظ في المقام طريقا للمتيقن ، لا موضوعا للعمل بنفسه ، ومرجع ذلك إلى أن تعلق النقض باليقين في طول تعلقه بالمتيقن. مدفوعة بأن النقض في المقام وإن كان بلحاظ آثار المتيقن ، إلا أنه لما كان المراد عدم ترتيبها ظاهرا فمتعلق النقض اليقين بنفسه ، ولا يكون متعلقه المتيقن إلا إذا كان بلحاظ عدم ترتيبها واقعا تمردا على الحكم الواقعي. وبعبارة أخرى : عدم ترتيب آثار المتيقن تمردا على الحكم الواقعي نقض للمتيقن ، وعدم ترتيب آثاره ظاهرا وفي مقام الإثبات ـ الذي هو المراد في المقام ـ نقض لليقين نفسه لا للمتيقن.

وعلى ذلك فالمصحح لإسناد النقض لليقين ما فيه من الاستحكام في الكشف وشدة الوضوح ، حتى كان ترتب العمل عليه ذاتيا ، فهو نظير الإرادة والعزم مما يصح إسناد النقض إليه بنفسه ، لا بلحاظ استحكام متعلقه. ولا يفرق في ذلك بين أفراده عرفا. غايته أن النقض في المقام تسامحي ، لما سبق عند الكلام في رواية الخصال من توقف النقض الحقيقي على وحدة متعلق الناقض والمنقوض.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من توقف صدق نقض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك قد تعلق به اليقين في زمان حدوثه ، لكون المتيقن مرسلا بحسب الزمان ، بحيث يكون من شأنه البقاء لو لا الرافع ، أما لو كان محدودا بحدّ خاص ، فلا يقين فيما بعد ذلك الحدّ لينقض بالشك.

وفيه أولا : أن مرجع ذلك إلى حمل انتقاض اليقين على انتقاضه حقيقة ،

٤٠٥

الذي هو بمعنى ارتفاعه بعد وجوده ، ولا ريب في عدم إرادة ذلك ، لخروجه عن اختيار المكلف ، وعدم استناده للشك ، بل لسببه. بل المراد نقض المكلف له عملا بعدم ترتيب الأثر عليه. نعم تقدم أن النقض العملي في المقام تسامحي ، لتوقف النقض العملي الحقيقي على وحدة الناقض والمنقوض.

وثانيا : أن ذلك لا يقتضي اعتبار تحقق مقتضي البقاء ، بل سبق اليقين بالبقاء لليقين بعلته التامة ولو خطأ ، فلو اعتقد المكلف في أول الأمر باستمرار المتيقن ثم تزلزل قطعه وشك في المقتضي جرى الاستصحاب ، وإن شك من أول الأمر بالاستمرار ولو لاحتمال طروء الرافع مع القطع بتحقق المقتضي لم يجر الاستصحاب. وهو كما ترى خروج عن المدعى.

الثالث : ما قد يرجع إليه كلام شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أن المصحح لإسناد النقض في أدلة الاستصحاب إلى اليقين مع ارتفاعه حقيقة هو الملازمة الادعائية بين اليقين بالحدوث واليقين بالبقاء ، المتفرعة على ادعاء الملازمة بين نفس الحدوث والبقاء ، فعدم ترتيب أثر البقاء نقض حقيقي لليقين الادعائي ونقض ادعائي لليقين الحقيقي بالحدوث ، ولا يصح عرفا ادعاء الملازمة المذكورة مع عدم إحراز مقتضى البقاء ، لعدم المنشأ لها ، وإنما صح ادعاؤها مع إحرازه لعدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع.

وفيه : أن ابتناء إسناد النقض لليقين على الملازمة المذكورة لا يخلو عن خفاء ، ولا شاهد عليه في النصوص. كما لم يتضح ابتناء الملازمة ـ لو تمت ـ على عدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع. لوضوح أن عدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع يرجع إلى قاعدة المقتضي ، التي هي قاعدة أخرى في قبال الاستصحاب ، ولو تمت لم يحتج معها لليقين بالحدوث الذي هو ركن الاستصحاب. وأخذ موضوعها ـ وهو إحراز المقتضي ـ قيدا في موضوعه ـ وهو اليقين بالحدوث ـ مخالف لإطلاق نصوصه.

٤٠٦

ومن هنا كان المتعين البناء على عموم الاستصحاب ، عملا بإطلاق نصوصه ـ التي سبق أنها عمدة الدليل عليه ـ بعد عدم وضوح ما يوجب الخروج عن الإطلاق المذكور. نعم لو كان الدليل عليه السيرة أو الإجماع تعين الاقتصار على المتيقن منهما ، وهو الشك في الرافع أو بعض أقسامه.

٤٠٧

المبحث الثاني

في أركان الاستصحاب وشروطه

والكلام في ذلك يقع في فصلين ، يبحث في الأول عن أركانه المقومة لمفهومه ، حسبما استفيد من الأدلة المتقدمة ، وفي الثاني عن ما يعتبر في جريانه من الشروط الخارجة عن مفهومه.

الفصل الأول

في أركان الاستصحاب

مما تقدم في تعريف الاستصحاب وشروطه يتضح أن للاستصحاب أركانا ثلاثة :

الأول : اليقين بتحقق الشيء سابقا.

الثاني : الشك في بقائه واستمراره.

الثالث : الحكم ببقائه تبعا للأمرين الأولين. لكن الثالث عبارة عن مفاد الاستصحاب الذي تقدم التعرض له عند الكلام في مفاد أدلته بما يغني عن الكلام فيه هنا.

واللازم هنا الكلام فيما يتعلق بالأولين ، وهو يقع في ضمن أمور ..

الأمر الأول : لا إشكال في أن ظاهر اليقين بدوا في تعريف الاستصحاب ، ونصوصه وكلمات الأصحاب هو اليقين الحقيقي ، الذي هو صفة نفسية تقابل الظن والشك والوهم. وذلك قد لا يناسب ما هو المعلوم منهم من البناء على جريان استصحاب مؤدى الطرق والأمارات من دون يقين بثبوت مؤداها. بل

٤٠٨

جريان استصحاب مؤدى الأصول التعبدية ، كما لو شك في تنجس الثوب بعد تطهيره بماء غير متيقن الطهارة ، بل محكوم بها ظاهرا ، للاستصحاب أو لقاعدة الطهارة.

نعم لا موقع للإشكال بناء على أن مفاد الاستصحاب ليس إلا التعبد ببقاء الأمر الحادث في فرض الشك فيه ، فيكون الحكم بالبقاء في الاستصحاب مترتبا على الثبوت الواقعي ولازما له ، وإن لم يتيقن به ، نظير حجية الخبر المنوطة بعدالة المخبر. وليس أخذ اليقين بالثبوت والحدوث في أدلته إلا لكونه طريقا محضا يحرز معه موضوع الحكم بالبقاء والتعبد الظاهري به ، لا لكونه دخيلا في الموضوع ثبوتا ، فتقوم مقامه الطرق ، كما تقوم مقام القطع الطريقي في سائر الموارد.

وإلى هذا يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن موضوع الاستصحاب ثبوت الشيء ، فلا بد من إحرازه بالعلم أو الظن المعتبر. ويناسبه تعريف الاستصحاب بأنه إبقاء ما كان.

لكن المبنى المذكور مخالف لظاهر أخذ اليقين في النصوص السابقة ، وما تضمنته من عدم نقضه بالشك. أما البناء على ذلك في الأحكام الواقعية التي تقتضي المناسبات الارتكازية أو الجمع بين الأدلة تبعيتها للواقع ـ نظير قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) ـ فهو لا يستلزم البناء عليه فيما نحن فيه ونحوه من موارد الأحكام الظاهرية ، الراجعة إلى مقام الإحراز ، والتابعة للعلم ونحوه ارتكازا ، بعد ظهور الأدلة في أخذ اليقين ، كما سبق. ومن ثم لا بد من توجيه استصحاب مؤدى الطرق والأمارات والأصول التعبدية.

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٨٧.

٤٠٩

ولعل الأولى في ذلك أن يقال : اليقين وإن كان دخيلا في موضوع الاستصحاب ـ كما ذكرنا ـ إلا أن الظاهر أنه لم يؤخذ بما هو صفة خاصة ، بل بما هو وصول للواقع وإحراز له ، لما أشرنا إليه غير مرة من أن قضية عدم نقض اليقين بالشك التي تضمنتها أدلته قضية ارتكازية لا تعبدية ، وموضوعها ارتكازا هو اليقين بالنحو المذكور ، لا بما هو صفة خاصة. فتقوم مقامه الطرق والأصول التعبدية.

ويؤيد ذلك تسالم الأصحاب على جريان الاستصحاب في المقام ، بنحو يظهر منه كون ذلك مقتضى ارتكازاتهم الأولية غير المبتنية على التعمل والاستدلال. وقد تقدم في الفصل الثالث من مباحث القطع ما ينفع في المقام.

الأمر الثاني : الظاهر أن المراد بالشك في نصوص المقام ما يقابل اليقين ، فيعم الظن والوهم ، لأنه معناه لغة ، كما في جمهرة اللغة ، ومختار الصحاح ، ولسان العرب ، والقاموس ، ومجمع البحرين. بل في الأخير : أنه المنقول عن أئمة اللغة.

وهو المنسبق منه عرفا ، والظاهر من موارد استعماله في الكتاب المجيد ، كما يناسبه مقابلته بالإيمان والعلم في قوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ)(١) وقوله سبحانه : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ)(٢) ، وتعقيبه بالبيان في قوله عزّ اسمه : (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(٣) ، وجعله موضوعا للسؤال في قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ

__________________

(١) سورة سبأ الآية : ٢١.

(٢) سورة النساء الآية : ١٥٧.

(٣) سورة يونس الآية : ١٠٤.

٤١٠

الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)(١) ، ووصفه بالريب في مثل قوله سبحانه : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(٢).

ويؤيده ظهور بعض نصوص قاعدة التجاوز (٣) ، والشك في ركعات الصلاة (٤) في إرادته ، لمقابلته باليقين وفرض صورة الظن معه فيها ... إلى غير ذلك.

ومنه يظهر ضعف ما في مفردات الراغب من أنه اعتدال النقيضين وتساويهما. والظاهر أن ذلك اصطلاح متأخر قد اشتبه عليه بالمعنى اللغوي ، نظير جعل الوهم والظن متقابلين.

ومن ثم لا مجال لحمل نصوص المقام وغيرها عليه. ولا سيما مع ما في المقام من مقابلته باليقين بنحو يظهر منه استيفاء الأقسام وانحصار الأمر بهما ، وتضمنها حصر الناقض لليقين باليقين ، وعدم الاعتناء باحتمال النوم عند تحريك شيء إلى جنب الإنسان وهو لا يعلم ، الذي يوجب غالبا الظن بالنوم ، والاكتفاء في العمل على اليقين السابق باحتمال وقوع الدم على المصلي في أثناء الصلاة ، الذي هو ضعيف جدا. بل صرح بتطبيق الشك مع الظن بإصابة الدم للثوب في صحيحة زرارة الثانية.

الأمر الثالث : ظاهر الأدلة المتقدمة كون موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك الفعليين المتفرعين على الالتفات للواقعة ، لا التقديريين الراجعين إلى كون المكلف بحيث لو التفت لتيقن وشك ، وإن لم يحصل له اليقين والشك لغفلته. وهو الحال في سائر الموضوعات المأخوذة في أدلة الأحكام الواقعية

__________________

(١) سورة يونس الآية : ٩٤.

(٢) سورة هود الآية : ١١٠.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٨.

(٤) راجع الوسائل ج : ٥ باب : ١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

٤١١

والظاهرية ، التي يكون مفادها قضايا حقيقية ، فإن مفادها فعلية الحكم في فرض فعلية الموضوع.

بل قد تضمنت بعض النصوص المتقدمة أخذ فعلية اليقين والشك في صغرى الاستصحاب ، كقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الأولى : «وإلا فإنه على يقين من وضوئه ...» ، وفي صحيحته الثانية : «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ...» ، وفي رواية الخصال : «من كان على يقين فشك ...» ، وفي رواية الإرشاد : «من كان على يقين فأصابه شك ...».

هذا وقد جعل شيخنا الأعظم قدس‌سره ثمرة ذلك صحة صلاة من سبق منه اليقين بالحدث لو علم من نفسه أنه لو التفت قبل الصلاة لشك في الطهارة واستصحب الحدث ، بخلاف ما إذا تحقق منه الشك وجرى الاستصحاب فعلا ثم غفل وصلى ، وعلم من نفسه بعد الصلاة أنه لم يتوضأ بعد الشك.

بدعوى : أنه حيث لا يجري الاستصحاب قبل الصلاة في الفرض الأول ، لعدم فعلية الشك ، تجري قاعدة الفراغ المقدمة على الاستصحاب الجاري حينئذ ، كما في سائر مواردها. أما في الفرض الثاني فحيث جرى الاستصحاب ، لفعلية الشك ، امتنع جريان قاعدة الفراغ ، لأن مجراها الشك الحادث بعد الفراغ ، دون الشك الموجود قبله.

لكن الظاهر عدم ابتناء صحة الصلاة وعدمها في الفرضين على جريان الاستصحاب مع الالتفات وعدم جريانه مع الغفلة ، بل على عموم قاعدة الفراغ وعدمه. فمع عمومها يتعين البناء على صحة الصلاة حتى لو جرى الاستصحاب مع الغفلة ، لتقدم قاعدة الفراغ على الاستصحاب. ومع قصورها يتعين عدم الاجتزاء بالصلاة حتى لو لم يجر الاستصحاب ، إذ يكفي في عدم الاجتزاء حينئذ قاعدة الاشتغال.

على أن جريانه قبل الصلاة في الفرض الثاني لا أثر له بعد فرض تجدد

٤١٢

الغفلة قبل الصلاة ، لعدم جريانه مع الغفلة ، ووقوع الصلاة من دون استصحاب ، كما في الفرض الأول.

ثم إنه لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ في الفرض الأول. وأما في الفرض الثاني فقد سبق من شيخنا الأعظم قدس‌سره توجيه عدم جريانها فيه بأن مجراها الشك الحادث بعد الفراغ ، لا الموجود قبله. وهو كما ترى ، لارتفاع الشك الأول لفرض الغفلة حين الصلاة ، والشك الحاصل بعدها ليس بقاء لذلك الشك ، بل هو شك آخر ، وإن اتحد منشؤهما.

اللهم إلا أن يدعى انصراف إطلاق دليل القاعدة عن الشك المذكور مما سبق مثيله قبل العمل. وكأنه يبتني على دعوى اختصاص القاعدة بما إذا لم يعلم المكلف من نفسه الغفلة عن منشأ الشك اللاحق ، التي لو تمت جرت في الفرض الأول أيضا ، فلا تجري فيه القاعدة لو علم المصلي بعد الفراغ بأنه قد غفل عن إحراز الطهارة حين الصلاة.

ولذا لا ريب ظاهرا في جريان القاعدة حتى في الفرض الثاني لو احتمل المكلف بعد الفراغ أنه لم يدخل في الصلاة حتى تذكر سبق الطهارة ، وخطأ الاستصحاب الذي جرى في حقه عند حصول الشك ، مع وضوح المماثلة أيضا بين ذلك الشك والشك الحادث بعد الصلاة.

وعلى ذلك لو لم تتم الدعوى المذكورة ، وبني على عموم القاعدة لما إذا علم المكلف من نفسه الغفلة عن منشأ الشك الحاصل بعد الفراغ ، فالبناء على جريانها في الفرض الثاني مطلقا قريب جدا.

الأمر الرابع : المنساق من دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن واستمراره إلى زمن الشك ، لا محض وجوده في زمن الشك بعد سبق اليقين به ، لأن الجهة الارتكازية التي أشير إليها في التعليل المتقدم تناسب ذلك جدا. بل هو المناسب لفرض النقض ، فإن صدقه حقيقة موقوف على اتحاد مفاد

٤١٣

الناقض مع مفاد المنقوض من جميع الجهات حتى الخصوصية الزمانية ، كما سبق ، وقرينة المقام إنما تقتضي التسامح في الخصوصية الزمانية بإرادة الشك في البقاء بعد اليقين بالحدوث مع المحافظة على وحدة الوجود وعدم تعدده ، لعدم الملزم بالخروج عنها. ومن هنا لا بد من أمرين :

الأول : اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، ولا يكفي مجرد تأخره عنه ، ولو بمثل الطفرة ، لعدم صدق البقاء معه. بل لعله مقتضى تعقيب الشك لليقين بالفاء في صحيحة زرارة الثانية وروايتي الخصال والإرشاد ، لظهورها في اتصال الشك باليقين من حيثية متعلقهما.

بل لازم العموم جريان استصحاب الحالتين المتضادتين المعلومتي التاريخ في زمان الشك المتأخر عنهما وتعارضهما ، فلو كان زيد عادلا يوم الجمعة ، وفسق يوم السبت ، وشك في حاله يوم الأحد جرى استصحاب عدالته وفسقه ، لا خصوص فسقه ، لمشاركته للعدالة في اليقين بها سابقا والشك لاحقا.

ومنه يظهر لزوم إحراز الاتصال في جريان الاستصحاب ، ولا يكفي احتماله ، لتردد زمان الشك بين المتصل بزمان اليقين والمنفصل عنه ، إذ مع الاحتمال يكون التمسك بعموم الاستصحاب من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام الذي لا يصح بلا كلام. ويأتي ما يتعلق بذلك في استصحاب مجهولي التاريخ ، إن شاء الله تعالى.

الثاني : اتحاد المشكوك مع المتيقن في جميع الخصوصيات المقومة له وحيث كان موضوع اليقين والشك هو النسبة التي هي مفاد القضية لزم اتحاد القضية المشكوكة ـ التي هي موضوع الأثر ومورد العمل ـ مع القضية المتيقنة في تمام الخصوصيات المقومة لها من موضوع ومحمول وغيرهما. بل لا بد من

٤١٤

إحراز الاتحاد ، ولا يكفي الشك فيه ، لما تقدم في نظيره. وهذا في الجملة ظاهر لا خفاء فيه.

نعم إحراز اتحاد القضيتين في الخصوصيات المذكورة متفرع على تعيين ما تقوم به النسبة المتيقنة وتحديده ، كي يكون معيارا في الاتحاد المذكور. وهي المسألة المهمة في المقام التي عليها يبتني الكلام في جريان الاستصحاب في كثير من الموارد. وقد أطلقوا عليها مسألة موضوع الاستصحاب.

والعنوان المذكور وإن اختص بالموضوع المقابل للمحمول ، الذي يكون نسبة المحمول إليه نسبة العرض إلى موضوعه ، إلا أن ملاك الكلام يجري في جميع ما يقوّم النسبة ، كما سبق. ولعل وجه تخصيصهم الكلام بالموضوع كثرة الفروع المبتنية عليه بنحو أوجب انصرافهم إليه وإغفالهم غيره ، وإن عمّه الكلام ، كما يظهر من بعض كلماتهم. ومن ثم رأينا مجاراتهم في ذلك لينتظم كلامنا مع كلامهم ، والاكتفاء في التعميم بما ذكرناه هنا من عموم الملاك.

ولا يخفى أن الموضوع في كلامهم .. تارة : يراد به كل ما هو دخيل في ثبوت الحكم الشرعي وفعليته ، الذي تكون نسبته له نسبة العلة للمعلول ، كالوقت لوجوب الصلاة ، والاستطاعة لوجوب الحج ، والتغير لنجاسة الماء ، والملاقاة لنجاسة الجسم ، والزوجية لوجوب الإنفاق ، وغيرها.

وأخرى : يراد به خصوص ما هو المعروض للأمر المحكوم به والمتعلق له ـ سواء كان ذلك الأمر المحكوم به شرعيا أم خارجيا ـ وهو الذي يحمل الحكم عليه ، وتكون نسبته إليه نسبة المحمول للموضوع في القضية الحملية ، كالماء وسائر الأجسام المعروضة للنجاسة ، والصلاة والصوم والحج المعروضة للوجوب ، والجسم المعروض للبياض ، والماء المعروض للكرية ، وغيرها.

وكلامهم وإن كان مضطربا ومشتبها بين المعنيين ، إلا أن الغرض من

٤١٥

تحديد الموضوع لما كان هو تحصيل الضابط لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، بحيث تكون بقاء لها ، تعين كون المعيار في المقام على المعنى الثاني ، لأنه المقوم للقضية ، والذي يكون تعدده موجبا لتعددها ، ووحدته شرطا في وحدتها واستمرارها. ولا أثر لاختلاف العلة في ذلك.

وحيث اتضح ذلك فاللازم التعرض لأمور يتم بها الكلام في المقام.

أولها : أن الشك في العنوان المأخوذ في الكبريات الشرعية التي تقع موردا لعمل المكلف .. تارة : يتعلق بمفهومه ، كالشك في مفهوم الحج والصلاة والصعيد والغناء وأخرى : يتعلق بتطبيقه مع وضوح مفهومه ، كالشك في تحقق البيع والإقالة والطلاق ببعض الألفاظ الخاصة ، والشك في صدق الماء مع امتزاجه بشيء من الخليط. وفي كليهما يتعين الرجوع للشارع مع تعرضه للجهة المشكوك فيها.

ومع عدمه فمقتضى الإطلاق المقامي لدليل الكبرى الشرعية الإيكال للعرف فيهما. لأنه بعد فرض كون الكبرى عملية ، وتوقف العمل بها على إحراز صغراها في الخارج ـ المتفرع على تحديد المفهوم ثم انطباقه على ما في الخارج ـ فخطاب الشارع للعرف بها ، مع إهماله التعرض لذلك ، ظاهر في إيكال تطبيقها لهم حسبما يتيسر لهم ، ويصلون إليه بالوجه المتعارف بينهم. وإرادة خلاف ذلك تحتاج إلى عناية وتنبيه ، ولا مجال للبناء عليها بدونه.

نعم لا بد من كون تطبيق العرف للمفهوم على ما في الخارج حقيقيا بنظرهم ، ولا مجال للاكتفاء بتطبيقاتهم التسامحية المبنية على نحو من المجاز وإعمال العناية ، لخروجها عن ظاهر الإطلاق ، حيث لا يعولون عليها في خطاباتهم. ومن هنا أفتى الفقهاء بعدم التسامح في موارد التحديد ، كالأوزان والمسافات ونحوها.

٤١٦

كما لا مجال للبناء على أن المعيار هي التطبيقات الواقعية المبنية على البحث والتدقيق المغفول عنه عند العرف بحسب طبعهم وما يتعارف بينهم ، لخروجه عن مقتضى الإطلاق المقامي المشار إليه. بل المتعين الاكتفاء بتطبيقات العرف الحقيقية ، وإن ابتنت على إغفال التدقيق المذكور. ومن ثم لا إشكال ظاهرا في جواز امتثال التكليف بصاع الحنطة مثلا بما يكون منها مخلوطا بقليل من التراب أو التبن بالوجه المتعارف ، وإن كان دون الصاع دقة. وكذا في سائر موارد الاستهلاك.

أما لو لم يتيسر للعرف تحديد المفهوم أو تشخيص المصداق ، لخفاء الحال عليهم في مورد ، فاللازم التوقف عن العمل فيه بدليل الكبرى الشرعية ، والرجوع لمقتضى الأصول والقواعد الأخر.

ثانيها : من الظاهر أنه لا إجمال في مفهوم النقض في أدلة الاستصحاب بعد ما تقدم من لزوم حملها على إرادة الشك في الاستمرار ، حيث لا يراد بالنقض إلا رفع اليد عن استمرار الشيء عند الشك فيه ، إلا أنه حيث كان ذلك موقوفا على اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة المتوقف على اتحاد موضوعهما كان صدق النقض موقوفا أولا : على تعيين موضوع القضية المتيقنة ، وثانيا : على إحراز اتحاد القضية المشكوكة معها فيه.

وعلى هذا يتعين الجري في كلا الأمرين على ما ذكرناه في الأمر السابق ، فيرجع في تعيين موضوع القضية المتيقنة إلى ما يستفاد من الأدلة الشرعية حسبما يفهمه العرف منها ، بضميمة القرائن الحالية والمقالية ونحوها. فإن لم تف ببيانه أو لم تكن القضية شرعية ، بل خارجية ـ كقضية : الماء كر ، وزيد حي ـ تعين الرجوع في تحديد الموضوع للعرف حسبما يدركونه بطبعهم. وإن لم يتيسر لهم في مورد تعيينه لزم التوقف وعدم جريان الاستصحاب ، لعدم إحراز موضوعه.

٤١٧

وكذا الحال في اتحاد موضوع القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة. إلا أنه حيث لم يتصد الشارع لبيان الاتحاد تعين الرجوع فيه للعرف لا غير. ويكون المعيار فيه على ما سبق من البقاء الحقيقي العرفي ، دون البقاء الحقيقي الدقي ، كالاتحاد في موارد الاستحالة ، حيث يكون المستحال إليه بقاء للمستحيل ومتحدا معه دقة ، وإن كان متولدا منه مباينا له عرفا ، ودون البقاء العرفي التسامحي المبني على نحو من العناية والمجاز الملتفت إليه عرفا.

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من أن المستفاد من نصوص الاستصحاب ـ بلحاظ التطبيقات الواردة فيها ـ ابتناء اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة على التسامح العرفي ، وإلا فلا اتحاد بينهما بلحاظ حقيقة اختلاف الزمان. ففيه : أن التسامح في الاتحاد بإلغاء خصوصية الزمان وإرادة البقاء لا يستلزم عقلا ولا عرفا التسامح في صدق البقاء بلحاظ اختلاف حدود القضية من غير حيثية الزمان.

ثالثها : أن الموضوع بمعنى معروض الحكم ومتعلقه ـ الذي سبق أنه محل الكلام ـ يختلف باختلاف القضايا المتيقنة ، حيث يكون .. تارة : جزئيا ، كالماء الموضوع للطهارة والكرية ، والثوب الموضوع للبياض والملكية ، والمرأة التي هي موضوع للزوجية ونحو ذلك وأخرى : كليا كالدينار المملوك في الذمة ، والعمل المستأجر عليه.

ومنه فعل المكلف المتعلق للأحكام التكليفية ، كالصلاة والحج وشرب الخمر والزنى وغيرها ، لوضوح أن التكليف يرد على الماهيات ذات الأفراد الكثيرة ، وليس وجود الفرد في مقام الامتثال والعصيان إلا مسقطا للتكليف ، كما يكون تسليم الفرد في مقام الوفاء مسقطا للدين. ونسبة التكليف لبعض الأمور الجزئية ، كنسبة التحريم للمرأة الخاصة ، ووجوب الإكرام لزيد ، لا يخلو عن تسامح ومجاز ، لرجوعه للنسبة بلحاظ حال المتعلق. فالمرأة حرام نكاحها ،

٤١٨

وزيد واجب إكرامه ، وليست الأمور الجزئية في مثل ذلك إلا قيودا لموضوع التكليف مع كون الموضوع كليا.

ويترتب على ذلك أن موضوع الحكم إذا كان كليا فهو قابل للتقييد ، فتكون الحصة الواجدة للقيد مباينة للحصة الفاقدة له ، ولازم ذلك تعدد القضيتين المأخوذتين فيهما.

أما إذا كان جزئيا فمن الظاهر أنه لا يقبل التقييد بشيء من الحالات المتواردة عليه ، بل هو محفوظ بوحدته مهما اختلفت تلك الحالات ، فإن كان بعضها دخيلا في الحكم ـ كملاقاة النجاسة للماء ، وتغيره بها ، والعقد على المرأة ، وطلاقها ، وحيازة المال ، وشرائه ، وغير ذلك ـ كان شرطا أو علة للحكم خارجا عن موضوعه ، لا قيدا مقوما للموضوع.

نعم قد يكون قيدا للموضوع في الكبرى الشرعية ، فيقال : الماء المتغير نجس ، والأرض التي يحوزها الإنسان ملك له ، والمرأة التي يعقد عليها زوجته. إلا أن الحكم في الكبرى حينئذ إنشائي متعلق بالموضوع الكلي القابل للتقييد ، وليس هو موردا للأثر والعمل ، بل مورد الأثر والعمل ـ الذي يجري فيه الاستصحاب ـ هو الحكم الجزئي الفعلي المتعلق بالأمر الجزئي غير القابل للتقييد ، المحفوظ في حالتي وجود القيد المأخوذ في الكبرى وعدمه.

رابعها : أن الموضوع .. تارة : يكون أمرا واحدا ، لكون الأمر المحمول عليه في القضية حقيقيا ، كالكرية والطهارة القائمتين بالماء ، والعدالة والحرية القائمتين بزيد. وأخرى : يكون متعددا ، لكون الأمر المحمول عليه إضافيا قائما بأكثر من واحد ، كالأخوة القائمة بالأخوين ، والزوجية القائمة بالزوجين ، والتكليف القائم بالمكلّف والمكلّف والمكلّف به ، والدّين القائم بالدائن والمدين والمال المستحق.

٤١٩

إذا عرفت هذا فاللازم النظر في القضية الفعلية المتيقنة التي هي مورد الأثر ، ويراد استصحابها. فإن كانت شرعية لزم النظر في موضوعها واحدا كان أو متعددا ، فإن كان جزئيا ـ كالإنسان المعروض للتكليف ، والمرأة المعروضة للزوجية ، والماء المعروض للنجاسة ـ فاختلاف حالاته لا يمنع من الاستصحاب ، لأنه لا يوجب تعدده وإن احتمل دخلها في التكليف. إلا أن يكون الطارئ موجبا لانعدامه عرفا وإن كان باقيا دقة ، كما في موارد الاستحالة والاستهلاك ، لما سبق من عدم الاعتداد بالبقاء الدقي ، ولا بالبقاء العرفي التسامحي.

وإن كان الموضوع كليا ، كالمال الذي تنشغل به الذمة في الدين ، والفعل الذي يكون موردا للتكليف والإجارة. فإن علم بتقييده بقيد مفقود حين الشك ، واحتمل التكليف بالفاقد حينئذ ، ولو لأنه الميسور ، فلا مجال للاستصحاب ، لتعدد الموضوع حقيقة. خلافا لما يظهر من بعض كلماتهم من الرجوع له ، اكتفاء منهم بالتسامح العرفي ، إما في نفس موضوع القضية المتيقنة بفرضه الأعم من واجد القيد وفاقده ، تغافلا عن أخذ القيد ، وإما في اتحاد فاقد القيد مع واجده تنزيلا له منزلته ، وقد سبق أنه لا تعويل على التسامح في المقامين.

ومثله التسامح في اتحاد الحكم المحمول على الموضوع ، فيقال : كان هذا الناقص واجبا فهو كما كان ، مع إغفال أن وجوبه المتيقن في الزمان السابق ضمني ارتباطي بالإضافة إلى وجوب التام الواجد للقيد المفقود ، وهو معلوم الارتفاع ، ووجوبه المشكوك في الزمان اللاحق استقلالي غير متيقن سابقا ، بل متيقن العدم. لأنه لا عبرة بالاتحاد التسامحي ، لما تقدم من أن ما يجري في الموضوع يجري في المحمول وفي جميع أجزاء القضية المستصحبة.

وإن احتمل تقييد الموضوع بالقيد المفقود لزم الرجوع لأدلة الحكم الشرعي ونحوها كالأمارة على الدّين ، فإن أحرز منها إطلاق متعلق الحكم ،

٤٢٠