الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

الفرضين السابقين جهة مشتركة ، تثير السؤال عن وجه اختصاصه بعدم الإعادة من بينهما ، بل كان عدم الإعادة واضح الوجه ، لأنه مقتضى استصحاب الطهارة ، وقاعدة الفراغ ، وقاعدة اليقين بناء على حجيتها.

ومن ثم كان ظاهر الصدر إرادة ما يناسب الاستصحاب. بل هو المتعين بناء على ما في العلل من روايته هكذا : «ثم صليت فرأيته فيه» لظهوره في كون المرئي هو الذي ظن إصابته أولا. والظاهر حجية ما في العلل ، لأن نسبته لرواية التهذيب نسبة المبين للمجمل ، وليسا من سنخ المتعارضين بعد إمكان النقل بالمعنى.

الثاني : أن عدم نقض اليقين بالشك إنما يصلح لأن يكون تعليلا لجواز الدخول في الصلاة ظاهرا ، للشك حينه في النجاسة ، لا لعدم وجوب الإعادة واقعا بعد فرض انكشاف وقوع الصلاة مع النجاسة وفقدها للشرط ، بل تكون الإعادة حينئذ نقضا لليقين باليقين.

ويندفع بأن التعليل بالاستصحاب إنما يتم بضميمة صحة الصلاة مع النجاسة عن عذر غير النسيان المعلوم من النصوص والفتاوى ، والذي لا يبعد وضوحه لزرارة ، ولذا اكتفي بالتعليل بالاستصحاب.

فالغرض من التعليل بيان تحقق العذر الذي تصح معه الصلاة واقعا بالاستصحاب في مفروض السؤال ، فرقا بينه وبين الفرض السابق الذي لا يجري فيه الاستصحاب ، وإن اشتركا في الصلاة في النجاسة وعدم وجدانها بالفحص قبل الصلاة.

على أن خفاء وجه التعليل وانطباق كبرى الاستصحاب على المورد ـ لو تم ـ لا يمنع من التمسك بها بعد وفاء الكلام بالدلالة عليها. فلا مخرج عن ظهور الكبرى في الاستصحاب ، ويتعين حجيتها فيه.

٣٨١

هذا كله في الاستدلال بالتعليل الذي تضمنه الصدر. وأما التعليل الذي تضمنه الذيل فقد يشكل الاستدلال به بما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن تفريع عدم نقض اليقين بالشك على احتمال تأخر وقوع النجاسة مانع من حمل اللام على الجنس ، ليكون مشيرا لكبرى الاستصحاب ، لأن ظاهر التفريع بالفاء ترتب ما بعدها على ما قبلها ، ـ نظير ترتب المعلول على العلة ، والحكم على الموضوع ـ ولا ترتب بين الصغرى والكبرى ، وإنما المترتب على الصغرى والذي يصح تفريعه عليها هو النتيجة التي يكون موضوعها مطابقا لموضوع الصغرى ، لا أعم منه ، وذلك يناسب حمل اللام على العهد ، لبيان عدم جواز نقض اليقين الحاصل في المورد بالشك الحاصل فيه ، الذي هو مفاد نتيجة القياس ، لا كبراه.

وحينئذ لا مجال لاستفاد عموم الاستصحاب من القضية المذكورة إلا بضميمة إلغاء خصوصية المورد ، وأنه ليس من شأن اليقين أن ينقض بالشك مطلقا ، كما هو غير بعيد. بل يتعين بلحاظ ورود القضية مورد التعليل ، محافظة على ارتكازية التعليل ، على ما سبق توضيحه في الصحيحة الأولى ، حيث يتعين حينئذ ابتناء التعليل على طىّ كبرى الاستصحاب العامة.

ثم إن هذا الإشكال لا يرد في الصدر بناء على ما أثبته شيخنا الأعظم قدس‌سره من روايته بالواو لا بالفاء. لكن تقدم منا روايته بالفاء تبعا للتهذيب والعلل المطبوعين في النجف الأشرف والوسائل الحديثة. وحينئذ قد يتوجه الإشكال المذكور فيه أيضا. إلا أن حمله على العهد وبيان حكم خصوص المورد لا يناسب ما تضمنه من التأييد جدا.

وحينئذ لا بد إما من كون الصحيح فيه هو العطف بالواو ـ كما أثبته شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ أو يكون ذكر الفاء للتوسع والتسامح في تفريع الكبرى على الصغرى ، وإن كان هو خلاف الظاهر في نفسه. فإن تمّ هذا الأخير لم يبعد كونه

٣٨٢

صالحا للقرينية على إرادة العموم من الذيل ، لأن الظاهر منه الإشارة إلى ما تقدم في الصدر.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن الصحيحة ـ بصدرها وذيلها ـ وافية ببيان عموم الاستصحاب ، إما لوفاء تركيب الكلام له بنفسه ، أو بضميمة لزوم حمل التعليل على كونه ارتكازيا.

ومنها : صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما‌السلام : «قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين؟ قال : يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهد ولا شيء عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ، ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر. ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين ، فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» (١).

وقد يستدل بقوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» الذي هو بلسان كبرى الاستصحاب التي تقدمت في الصحيحتين الأوليين.

وقد استشكل فيه بوجوه عمدتها ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن قوله عليه‌السلام : «قام فأضاف إليها أخرى» إن أريد به الإتيان بالركعة متصلة بما قبلها كان مطابقا للاستصحاب ، إلا أنه جار على مذهب العامة ، ومخالف لما عليه الإمامية من علاج الشك المذكور بركعة مفصولة ـ هي صلاة الاحتياط ـ ولظاهر الفقرة الأولى المتضمنة للإتيان بالركعتين بفاتحة الكتاب ، لوضوح عدم تعين

__________________

(١) الكافي ج : ٣ ص : ٣٥١ في باب السهو في الثلاث والأربع من كتاب الصلاة. وقد أخرج صدر الحديث في الوسائل ج : ٥ باب : ١١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٣ ، وذيله في باب : ١٠ من الأبواب المذكورة حديث : ٣.

٣٨٣

الفاتحة في الأخيرتين من الرباعية ، بل قوله عليه‌السلام : «يركع ركعتين ...» ظاهر في إرادة الصلاة المستقلة ، وإلا كان المناسب أن يقول : «يأتي بركعتين». كما أنه لا يناسب بقية الفقرات الناهية عن إدخال الشك في اليقين وخلط أحدهما بالآخر.

ومن هنا كان الظاهر من قوله عليه‌السلام : «قام فأضاف إليها أخرى» إرادة الإتيان بركعة مفصولة هي صلاة الاحتياط ، كما هو الظاهر في الأمر بالركعتين قبل ذلك ، ويكون قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» تعقيبا عليهما معا ، مع كون المراد باليقين فيه اليقين ببراءة الذمة الحاصل من علاج الشك بصلاة الاحتياط ـ في مقابل البناء على الأكثر والاكتفاء به ، أو على الأقل وإضافة المشكوك له متصلا به ، اللذين يشك في براءة الذمة واقعا بهما ـ أو اليقين بصحة المأتي به ومشروعيته ، مع كون المراد بنقضه بالشك احتمال إبطاله بإضافة الركعة له أو نقصها منه ، أو يراد نقض المتيقن الصحة ـ وهو المأتي به ـ بإبطاله واستئناف الصلاة بسبب الشك ، أو نحو ذلك مما يناسب علاج الشك بصلاة الاحتياط. وحينئذ تكون أجنبية عن الاستصحاب.

هذا وقد أجيب عن ذلك بوجوه الأول : ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس‌سره من أن تطبيق كبرى الاستصحاب إنما هو بلحاظ أصل الإتيان بالركعة ، وأن وجوب فصلها حكم آخر مستفاد من دليل آخر مقيد لإطلاق دليل الاستصحاب المقتضي لترتيب تمام الآثار ، ومنها وصل الركعة ، فلا يلزم في المقام إلا تقييد إطلاق دليل الاستصحاب ، لا إلغاؤه بالمرة ، ليمتنع حمل القضية عليه.

ولا يخفى أن هذا الوجه مبني على كون وجوب الإتيان بما يحتمل نقصه ظاهريا ، مع كونه منوطا واقعا بعدم الإتيان به ، بحيث لو لم يأت به واكتفى بالسلام على ما تيقن برجاء تمامية الصلاة وصادف تماميتها واقعا صحت صلاته.

٣٨٤

كما أن كون دليل فصل صلاة الاحتياط مقيدا لعموم الاستصحاب مبني على كون وجوب الفصل ظاهريا مراعاة لاحتمال تمامية المتيقن ، بحيث لو وصل برجاء النقص وصادف النقص واقعا صحت الصلاة. أما بناء على أن وجوب الإتيان بالركعة المنفصلة واقعي ثانوي ، لتبدل الحكم الواقعي في حال الشك ، فالوجوب المذكور لا يبتني على الاستصحاب ، ولا على تقييد دليله.

إذا ظهر هذا فأعلم أنه يشكل هذا الوجه بعدم ظهور الحديث في بيان وجوب أصل الإتيان بالمشكوك ، بل في بيان وجوب خصوص صلاة الاحتياط المنفصلة ، كما يناسبه ملاحظة صدره ، والنهي عن إدخال الشك في اليقين وعن خلط أحدهما بالآخر ، وشدة تأكيد الحكم والاهتمام بتوضيحه ، مع أن أصل الإتيان بالمشكوك مستغن عن ذلك ، لمطابقته للاستصحاب ، والمرتكزات.

كما أن تأكيد قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» بالفقرات الأخيرة خصوصا قوله عليه‌السلام : «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» لا يناسب تخصيصه في وجوب فصل الركعة جدا.

وأضعف من ذلك دعوى أن قوله عليه‌السلام : «ولا يدخل الشك ...» هو الدليل على التخصيص المذكور.

إذ فيه : أن ظاهر الفقرات المذكورة تأكيد ما قبلها والجري على ما يطابقه ، لا في بيان حكم آخر مناف له ومقيد لإطلاقه.

على أن ما تضمنته جملة من النصوص (١) وكلمات الفقهاء من أن علاج الشك إنما يكون بالبناء على الأكثر ، ثم الإتيان بصلاة الاحتياط ، لا يناسب ابتناء الإتيان بالمشكوك على الاستصحاب الذي مقتضاه البناء على الأقل ، بل

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٥ باب : ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

٣٨٥

المناسب لذلك الخروج عن مقتضى الاستصحاب بالبناء على الأكثر والسلام عليه ، مع ابتناء الإتيان بصلاة الاحتياط على تقييد البناء على الأكثر ، لا أن فصلها تقييد للاستصحاب. فالوجه المذكور بعيد جدا.

الثاني : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من حمل تطبيق كبرى الاستصحاب في المقام ـ المقتضي للبناء على الأقل وتتميم الصلاة بالإتيان بالمشكوك ـ على التقية ، من دون أن يمنع ذلك من الاستدلال بالكبرى المذكورة على الاستصحاب ، لأصالة الجهة فيها. نظير ما ورد في قول الإمام الصادق عليه‌السلام للسفاح في أمر الهلال : «ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا ، وإن أفطرت أفطرنا» (١) حيث يستدل به على الرجوع للإمام في الهلال ، وإن كان تطبيقه في المورد تقية.

ويشكل أولا : بأن ذلك قد يتم فيما إذا لم يكن الحمل على التقية منافيا لعموم الكبرى حقيقة ، لخروج المورد تخصصا ـ كما في المثال المتقدم ـ أو لاستغناء حكم المورد عن الكبرى ، كما في صحيحة صفوان والبزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «في الرجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : لا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا» (٢) فإن الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة باطل ذاتا وإن وقع اختيارا ، وإنما علل عليه‌السلام مع ذلك البطلان بالإكراه وحديث الرفع تقية ، لذهاب العامة إلى نفوذ الحلف المذكور ، من دون أن يمنع ذلك من عموم رفع الإكراه أو نحو ذلك مما لا يلزم منه قصور العموم المذكور.

أما إذا كان الحمل على التقية راجعا إلى قصور ذلك العموم عن المورد تخصيصا ـ كما في المقام ـ فهو راجع إلى عدم صدور العموم لبيان الحكم

__________________

(١) الوسائل ج : ٧ باب : ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج : ١٦ باب : ١٢ من أبواب كتاب الأيمان حديث : ١٢.

٣٨٦

الحقيقي ، وعدم تمامية أصالة الجهة فيه ، فالبناء على تمامية العموم في غير المورد يرجع إلى دعوى عموم آخر قاصر عن المورد ، ولا شاهد عليه.

ودعوى : أنه يكفي في الشهادة عليه العموم المذكور في المورد ، المفروض كون تطبيقه على المورد للتقية ، كما هو الحال في كل عموم ثبت تخصيصه في بعض أفراده حيث يكون حجة في الباقي. ممنوعة ، لامتناع تخصيص المورد ، الملزم في مثل ذلك بالبناء على سقوط العموم عن الحجية رأسا ، وعدم تمامية أصالة الجهة فيه ، لعدم وروده لبيان الحكم الحقيقي.

وثانيا : بأن ذلك موقوف على ظهور الحديث في إرادة تتميم الصلاة بالإتيان بالمشكوك متصلا بها ـ كما هو مذهب العامة ، المطابق للاستصحاب ـ وقد سبق المنع منه ، وأن الحديث ظاهر في إرادة الإتيان بصلاة الاحتياط المفصولة عن الصلاة التي وقع الشك فيها ، المخالف للعامة ولمقتضى الاستصحاب ، والملزم بحمل الكبرى على ما يناسب ذلك ، لا على الاستصحاب تقية. ولا سيما مع تأكيد الكبرى المذكورة بالفقرات التالية ، الظاهر في تبني الإمام عليه‌السلام لمفادها واهتمامه به ، والمناسب لسوقه مساق الرد على العامة ، لا لمجاراتهم.

الثالث : ما ذكره بعض مشايخنا قدس‌سره من أن موضوع صلاة الاحتياط التي يكون بها علاج الشك عند الإمامية مركب من أمرين : الشك الوجداني وعدم الإتيان واقعا بالركعة المشكوك فيها. فمع الدوران بين الثلاث والأربع يكون الجزء الأول ثابتا بالوجدان ، والثاني محرزا بالاستصحاب ، فالاستصحاب منقح لموضوع الوظيفة التي يكون بها علاج الشك ، لا مناف لها.

وفيه ـ مع ابتنائه على كون وجوب صلاة الاحتياط ظاهريا ، وعدم مناسبة ابتناء وجوب صلاة الاحتياط على الاستصحاب ، لما في جملة من النصوص

٣٨٧

وكلمات الأصحاب من أن علاج الشك إنما يكون بالبناء على الأكثر ، نظير ما تقدم في الوجه الأول ـ : أن أخذ الشك في موضوع صلاة الاحتياط ينافي عرفا أخذ عدم الإتيان بالركعة واقعا بنحو يحتاج إلى إحرازه بالاستصحاب ، لوضوح أن الشك ينافي الإحراز عرفا وإن لم ينافه حقيقة. ولذا لا ريب في عدم مشروعية صلاة الاحتياط مع قيام البينة على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة ، مع أن البينة تشارك الاستصحاب في إحراز عدم الإتيان بالركعة المشكوكة ، وفي بقاء الشك حقيقة.

ولذا كان المستفاد من نصوص العلاج أن موضوع صلاة الاحتياط هو الشك لا غير. وغاية ما يدعى أنه موضوع لوجوبها ظاهرا لا واقعا. وحينئذ لا يحتاج إلى الاستصحاب لإحراز عدم الإتيان بالركعة.

بل حمل قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» على بيان موضوع صلاة الاحتياط ، مع قوله عليه‌السلام : «ولا يدخل الشك ...» لبيان كيفيتها ، ثم تأكيده بقوله : «ولا يخلط ...» ، ثم تأكيد الأول بقوله عليه‌السلام : «ولكنه ينقض ...» تكلف يوجب انحلال الكلام وعدم تناسقه. ومن ثم لا يتم الوجه المذكور.

على أنه لو غض النظر عما سبق في دفع هذه الوجوه فهي إنما تنهض ببيان إمكان إرادة الاستصحاب من الفقرة المذكورة ، ولا تنهض بتقريب ظهورها فيه ، لتنهض الصحيحة بالاستدلال بحيث يستغنى بها عن غيرها. ومجرد اشتمال بعض نصوص الاستصحاب على العبارة المذكورة لا يكفي في ذلك. كما يظهر مما يأتي عند الكلام في حديث الخصال.

ومنها : صحيحة إسحاق بن عمار : «قال لي أبو الحسن الأول عليه‌السلام : إذا شككت فابن على اليقين. قلت : هذا أصل؟ قال : نعم» (١).

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٢.

٣٨٨

وقد يستدل بها بتقريب أنها تقتضي لزوم العمل باليقين والبناء على مقتضاه عند الشك ، الذي هو مفاد الاستصحاب. وليست مختصة بالشك بالركعات ، ليرد على الاستدلال بها ما سبق. غاية ما يلزم تخصيصها ـ كسائر عمومات الاستصحاب ـ في الشك في الركعات ، لوجوب التسليم فيه على الأقل. وليس ذلك محذورا.

وفيه : أن الصحيحة إنما تضمنت الأمر بالبناء على اليقين ، وهو في نفسه لا يخلو عن إجمال. ولعل الأقرب للمعنى الحقيقي هو لزوم ابتناء العمل على اليقين ، المساوق لما تضمن لزوم كون العمل عن بصيرة ، وعدم التعويل على الظنون والشبهات.

وإذا فرض عدم إرادة ذلك ، فكما يمكن حملها على الاستصحاب ـ بتنزيل اليقين على اليقين بالحدوث ، والشك على الشك في البقاء ـ يمكن حمله على قاعدة اليقين ـ بتنزيل اليقين على اليقين الزائل ، والشك على الشك الذي يخلفه في مورده ـ أو على وظيفة الشك في الركعات ، بتنزيل اليقين على اليقين بما يوجب براءة الذمة ، أو اليقين بالركعات المتيقنة المشروعية ، على ما تقدم شرحه في الصحيحة السابقة. وبعد عدم المعين لإرادة الاستصحاب ـ من قرينة حالية أو مقالية ـ يتعين البناء على الإجمال.

بل ظاهر مثل الصدوق ممن ذكر الحديث في أحكام الخلل في الصلاة كون وظيفة الشك في الركعات متيقنة من موردها ، كما يناسبه ورود المضمون المذكور في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج وعلي عن أبي إبراهيم عليه‌السلام : «في السهو في الصلاة. قال : تبني على اليقين ، وتأخذ بالجزم ، وتحتاط بالصلوات كلها» (١). وحينئذ يبعد حمله على الاستصحاب جدا.

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ باب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٢.

٣٨٩

ومنها : ما في الخصال بسنده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنه قال في حديث الأربعمائة : من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فإن الشك لا ينقض اليقين» (١).

وليس في سنده من لم ينص على توثيقه إلا القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد. ويستفاد توثيقهما من ابن قولويه ، لروايته عنهما في كتابه كامل الزيارات. معتضدا أو مؤيدا بحكم الصدوق في الفقيه بترجيح زيارة الحسين عليه‌السلام التي روياها. قال رضي الله عنه بعد ذكر تلك الزيارة : «وقد أخرجت في كتاب الزيارات وفي كتاب مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنواعا من الزيارات ، واخترت هذه لهذا الكتاب ، لأنها أصح الروايات عندي من طريق الرواية وفيها بلاغ وكفاية» (٢). ويعتضد توثيق القاسم برواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه ، وهو الذي أخرج البرقي من قم ، لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، مؤيدا برواية غيره من الأجلاء عنه. كما يعتضد توثيق الحسن بن راشد الذي هو مولى المنصور بكونه من رجال تفسير القمي ، وبرواية ابن أبي عمير عنه ، مؤيدا برواية غيره من الأجلاء عنه.

ولا يقدح في وثاقة الحسن تضعيف النجاشي للحسن بن راشد الطفاوي. فإن الظاهر تعددهما ، لأن الطفاويين بطن من العرب ، فالرجل منسوب لهم بالنسب أو الولاء فكيف يتحد مع مولى المنصور العباسي ، ولا سيما وأن مولى المنصور من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام والطفاوي في طبقة أصحاب الرضا عليه‌السلام. كما لا يقدح في وثاقتهما معا تضعيف ابن الغضائري والعلامة لهما. إذ لا اعتماد على تضعيف ابن الغضائري. لما هو المعروف من إغراقه في

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ٦. والخصال ص : ٥٨٤ طبع النجف الأشرف.

(٢) الفقيه ج : ٢ ص : ٣٦٠ طبع النجف الأشرف.

٣٩٠

الطعن ، أو لعدم ثبوت نسبة الكتاب المتداول له ، ولا على تضعيف العلامة لتأخر عصره وأخذه عمن سبقه ، حيث يقرب متابعته للتضعيف المنسوب لابن الغضائري.

وأما الدلالة فقد تقرب بأن الحديث وإن اشتمل على الترتب بين اليقين والشك ، وهو مردد بدوا بين قاعدة اليقين ـ التي يكون الترتب فيها بين الوصفين نفسهما مع اتحاد متعلقهما ـ والاستصحاب ـ الذي يكون الترتب فيه بين متعلقي الوصفين ، من دون ترتب بين الوصفين نفسهما ـ إلا أن الثاني أقرب. بل هو المتعين بعد كونه هو الأمر الارتكازي الصالح للتعليل ، وتداول التعبير عنه بالعبارة المذكورة في النصوص الأخر ، وظهور الكلام في وجود اليقين حين المضي والعمل ، الذي يختص بالاستصحاب. دون قاعدة اليقين التي يتزلزل اليقين فيها ويخلفه الشك. فلا بد من تنزيل الترتيب على الترتيب بين المتعلقين ، أو على الغالب من كون اليقين بالحدوث أسبق حصولا من الشك في البقاء.

لكن في بلوغ ذلك حدا يوجب ظهور الحديث ونهوضه بالاستدلال إشكال. وتوضيح ذلك : أن ظاهر النهي عن نقض شيء بشيء ـ كالنهي عن نقض خبر زيد بخبر عمرو ـ اعتبار أمرين : الأول : تنافي مضمونيهما ، المتوقف على اتحاد موضوعهما ومتعلقهما من جميع الجهات. الثاني : تحقق المنقوض في زمان الناقض ، وعدم ارتفاعه معه ، إذ نقض الطريق فرع تمامية اقتضائه للعمل ، ولا اقتضاء له مع ارتفاعه. ولذا لا يصدق نقض خبر زيد بخبر عمرو إذا اختلف مضمونهما ، أو عدل زيد عن خبره حين إخبار عمرو على خلافه.

إلا أنه يتعذر الجمع بين الأمرين معا في النهي عن نقض اليقين بالشك ، لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد في زمان واحد ، بل لا بد من رفع اليد عن أحدهما.

٣٩١

ومن الظاهر أن رفع اليد عن الأول إنما يصح مع فرض نحو من الاتحاد بين المتعلقين يصحح التوسع بإطلاق النقض ، إذ مع فرض التباين بينهما من جميع الجهات يكون إطلاق النقض مستهجنا.

وحينئذ فكما يمكن حمله على الاستصحاب ـ بلحاظ اتحاد متعلق الوصفين ذاتا واختلافهما زمانا ـ يمكن حمله على قاعدة المقتضي والمانع. وربما يرجع إليه ما في حديث الإمام زين العابدين مع الزهري في ردع الإنسان عن توهم الرفعة على غيره ، حيث قال عليه‌السلام : «فقل : أنا على يقين من ذنبي ، وفي شك من أمره ، فما لي أدع يقيني لشكي» (١). كما يمكن حمله على بيان عدم رفع اليد عن الحجة باللاحجة ، فإن متعلق اليقين والشك وإن كان مختلفا ذاتا ، لتعلق اليقين بقيام الحجة على الشيء ، وتعلق الشك بوجوده بنفسه ، إلا أن ذلك لا يمنع من إطلاق العلم بالشيء توسعا ، بتنزيل العلم بالحجة على الشيء منزلة العلم به. بل قد يطلق الشك على ما ليس بحجة ، فيتحد المتعلق حقيقة.

أما رفع اليد عن الثاني ـ وهو تحقق المنقوض في زمان الناقض ـ مع المحافظة على الأول ، فهو يقتضي الحمل على قاعدة اليقين لا غير.

وبهذا يكون التعبير المذكور صالحا لجميع الوجوه ، وليس مرددا بين الاستصحاب وقاعدة اليقين فقط. لاشتراك جميع هذه الوجوه في الاحتياج للعناية المصححة ، وفي حسن إرادته من العبارة بعد إعمال العناية. وحمله على الاستصحاب في نصوصه لقرينة المورد لا يستلزم ظهوره فيه في مثل هذا الحديث المجرد عن القرينة ، حتى مثل فهم الأصحاب ـ الذي قد يكون من القرائن الخارجية ـ لعدم ثبوت فهمهم الاستصحاب من الحديث المذكور.

وأما اشتهار التعبير عن الاستصحاب بالعبارة المذكورة أو ما يجري

__________________

(١) مجموعة ورام ج : ٢ ص : ٨٩ طبع النجف الأشرف.

٣٩٢

مجراها في العصور المتأخرة فقد يكون لاشتهار التمسك له فيها بالنصوص المتقدمة ، ولا يكشف عن ظهور مثل هذا اللسان في الاستصحاب في عصر صدور الحديث الشريف. ولا سيما بعد ما تقدم من إطلاق مثل هذا اللسان في صحيحة زرارة الثالثة ، وصحيح ابن الحجاج وعلي ، وما في حديث الإمام زين العابدين عليه‌السلام مما لا يناسب إرادة الاستصحاب جدا.

كما لا يكشف عن ظهوره في الاستصحاب بين قدماء الأصحاب بعد ما في كلام غير واحد من إطلاقه على ما يناسب قاعدة اليقين. قال في النهاية في حكم الشك في الوضوء : «فإن انصرف من حال الوضوء وقد شك في شيء من ذلك لم يلتفت إليه ومضى على يقينه» وقال في الغنية : «فإن نهض متيقنا لتكامله لم يلتفت إلى شك يحدث له ، لأن اليقين لا يترك بالشك». وحكي نحوه عن السرائر ، بل قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء».

وأما قرينة ارتكازية التعليل ، فهي إنما تنفع في تعيين المراد من التعليل بعد الفراغ عن تعيين الحكم المعلل ، لا في مثل المقام مما لم يعين فيه نفس الحكم المعلل.

على أنه لا مجال لإنكار ارتكازية قاعدة اليقين فيما لو لم يكن ارتفاع اليقين ناشئا من انكشاف خطأ الاستناد لمستنده ، بل من الجهل بحال المستند لنسيانه ، فإن البناء على مقتضى اليقين ارتكازي لمشابهته لقاعدة الصحة. كما أن قاعدة المقتضي والمانع لا تقصر في الارتكازية عن الاستصحاب. بل قاعدة عدم نقض الحجة باللاحجة أقوى ارتكازية من الجميع ، فإنها قاعدة عقلية قطعية يكثر تسامح الناس فيها وخروجهم عنها باعتمادهم على الشبه والظنون ، فيحسن الردع عن ذلك بالإرشاد للقاعدة والتنبيه عليها.

٣٩٣

وأما ما تقدم من ظهور الحديث في فعلية اليقين حين المضي والعمل ، فهو إنما يمنع من الحمل على قاعدة اليقين ، ولا يعين الاستصحاب ، لاشتراك بقية القواعد المتقدمة معه في ذلك. على أن ظهوره في ذلك لا يقصر عن ظهوره في تنافي اليقين والشك لاتحاد موضوعهما من جميع الجهات ، الملزم بالحمل على قاعدة اليقين لا غير.

وبالجملة : الظاهر عدم نهوض الحديث للاستدلال على الاستصحاب ، بل هو مردد بينه وبين القواعد المشار إليها من دون قرينة معينة ، فيلزم البناء على إجماله.

هذا وربما يقال : عدم القرينة على تعيين شيء من هذه الوجوه يقتضي الحمل على ما يعمها جميعا ، أخذا بعموم المجاز.

وفيه أولا : أن الحمل على عموم المجاز إنما يتعين بعد العلم بإرادة معنى مجازي وتحديده مع الشك في تقييده ، لأن التقييد خلاف الأصل ، كما في المعنى الحقيقي ، بخلاف ما إذا كان الكلام صالحا للمعاني المجازية المتعددة مع احتمال إرادة ما يعمها ، لأن الجامع بينهما نجده معنى مستقل بنفسه في قبال خصوصيات المعاني يحتاج إلى قرينة تعينه مثلها.

وثانيا : أن الحمل عليه موقوف على وجود جامع عرفي بين المعاني المجازية ، ليمكن ظهور الكلام فيه ، وهو غير حاصل في المقام. كما لعله ظاهر. ومما ذكرنا في حديث الخصال يظهر الحال في مرسل المفيد قدس‌سره في الإرشاد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه ، فإن اليقين لا يدفع بالشك» (١) ، لتقارب لسان الحديثين ، فما يجري في أحدهما

__________________

(١) ذكر ذلك في الفصل الذي عقده لكلامه عليه‌السلام في الحكمة والموعظة ص : ١٥٩ طبع النجف الأشرف سنة ١٣٨١ ه‍.

٣٩٤

يجري في الآخر.

ومنها : ما رواه الصفار عن علي بن محمد القاساني ـ كما في التهذيب ـ أو القاشاني ـ كما في الاستبصار ـ قال : «كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين لا يدخل فيه الشك. صم للرؤية ، وأفطر للرؤية» (١).

وقد يشكل السند باشتراك علي بن محمد بين القاشاني الذي ضعفه الشيخ والقاساني الذي يظهر من النجاشي توثيقه.

وأما الدلالة فقد استوضحها غير واحد ، بل قال شيخنا الأعظم قدس‌سره :

«والإنصاف أن هذه الرواية أظهر ما في الباب من أخبار الاستصحاب». وكأن وجه أظهريتها من الصحيحتين الأوليين : أن الكبرى فيها ظاهرة في العموم ، لعدم سبق ما يوهم العهد ، بخلاف الصحيحتين ، على ما سبق.

لكنه موقوف على حمل اليقين على اليقين بالحالة السابقة ، والشك على الشك في الحالة اللاحقة ، وعدم الدخول على عدم رفع اليد عن الأمر المتيقن ، ولا ملزم بشيء من ذلك بعد عدم كونه المعنى الحقيقي المتعين من دون قرينة ، وعدم القرينة المعينة له من بين المعاني غير الحقيقية الأخرى. بل كما يمكن الكناية عن ذلك يمكن الكناية عن أن ما يعتبر فيه اليقين لا يدخل فيه الشك ، فيكون مساوقا لما ورد من أن شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا يؤدى بالتظني (٢) ونحو ذلك ، فيكون مطابقا للاستصحاب ، وإن لم يبتن عليه.

ومنها : صحيح عبد الله بن سنان : «سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر : إني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيرده

__________________

(١) الوسائل ج : ٧ باب : ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان حديث : ١٣.

(٢) الوسائل ج : ٧ باب : ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان حديث : ١٦.

٣٩٥

علىّ ، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه ، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه» (١). وحيث لم يقتصر عليه‌السلام في التعليل على الشك في التنجيس الذي هو موضوع قاعدة الطهارة ، بل أضاف إليه سبق الطهارة ، كان ظاهرا في الاستصحاب ، نعم هو مختص باستصحاب الطهارة ، والظاهر التسالم على جريانه بنحو يستغني عن الصحيح.

لكن قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع». لكنه غير ظاهر ، إذ لا مجال لدعوى عدم الفصل بعد ما حكاه هو قدس‌سره من التفصيل منهم بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي الكلي والجزئي ، والتفصيل بين أقسام الشك في الرافع. على أنه لا يكفي مجرد عدم القول بالفصل ، بل لا بد معه من القول بعدم الفصل الراجع للإجماع على الملازمة بين المورد وغيره ، ولا مجال لإثبات ذلك.

اللهم إلا أن يقرب ظهور الصحيح في العموم بأن ورود مقدمتي استصحاب الطهارة مورد التعليل مناسب لإلغاء خصوصية الطهارة في الحكم ، حفاظا على ارتكازية التعليل ، نظير ما تقدم في صحيحة زرارة الأولى.

لكنه يشكل بأن التعليل لم يتضمن كبرى عدم نقض اليقين بالشك الارتكازية ، بل مجرد تحقق موضوع استصحاب الطهارة ، المقتضي لجريان استصحابها. ولعله بلحاظ وضوح جريان الاستصحاب المذكور شرعا ، المصحح للتعليل به مع غض النظر عن الجهة الارتكازية فيه المقتضية للتعميم. فلاحظ.

__________________

(١) الوسائل ج : ٢ باب : ٧٤ من أبواب النجاسات حديث : ١.

٣٩٦

ومنها : ما تضمن من النصوص التعبد بالحل والطهارة. وحيث كان الكلام فيها على نهج واحد تقريبا كان المناسب جمعها في مقام واحد. وهي موثق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ...» (١).

وموثق عمار عنه عليه‌السلام في حديث قال : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» (٢).

وحديث حماد عنه عليه‌السلام : «الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر» (٣).

وقد اختلفوا في مفاد هذه النصوص على أقوال كثيرة ، لترددها ـ بعد النظر في كلماتهم ـ بين قاعدة الحل والطهارة الواقعية للأشياء بعنوانها الأولي ، وقاعدة الحل والطهارة الظاهرية للأشياء بعنوان كونها مشكوكة الحكم ، واستصحابهما. وقد اختلفوا بين من جمع بين القواعد الثلاث ، ومن جمع بين اثنتين منها ، ومن خصها بواحدة منها ، على اختلاف بين الأخيرين في تعيين المراد منها من غير المراد.

وقد ذهب المحقق الخراساني قدس‌سره في حاشيته على الرسائل إلى الجمع بين القواعد الثلاث بدعوى : أن النصوص بصدرها قد تضمنت الحكم على الأشياء والماء بالحل والطهارة ، وظاهر ذلك كون موضوع الحكم هو الشيء والماء بعنوانهما الأولي ، لا بعنوان ثانوي آخر ، كمشكوك الحكم. وبعمومها الأفرادي تكون دالة على قاعدة الحل والطهارة الواقعيتين.

وبإطلاقها الأحوالي تقتضي عموم الحكم بالحل والطهارة لجميع

__________________

(١) الوسائل ج : ١٢ باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج : ٢ باب : ٣٧ من أبواب النجاسات حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الماء المطلق حديث : ٥.

٣٩٧

الأحوال ، ومنها حالة الشك فيهما ، وهو مفاد قاعدتي الحل والطهارة الظاهريتين.

كما أن مقتضى الغاية في الذيل استمرار الحكم المذكور إلى حين العلم بالحرمة والنجاسة ، الذي هو مفاد استصحاب الحل والطهارة.

وفيه أولا : أن مجرد إطلاق الحكم الأحوالي بنحو يشمل حال الجهل لا يجعله ظاهريا ، بل هو عبارة أخرى عما عليه الإمامية «أعز الله كلمتهم» من اشتراك الحكم الواقعي بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.

أما الحكم الظاهري فهو متقوم زائدا على ذلك بالتعبد في مقام العمل بأحد طرفي الشك في رتبة متأخرة عن ثبوت الحكم الواقعي تأخر مقام الإثبات عن مقام الثبوت ، من دون أن يتضمن جعل الحكم ، فهو مختلف عن الحكم الواقعي سنخا ورتبة ، ولا ينهض الإطلاق الأحوالي للحكم الواقعي بإثباته.

وثانيا : أنه لا مجال لحمل الغاية على الاستصحاب. لوضوح أن مفاد الغاية استمرار الحكم المجعول المغيى نظير استمرار الحكم باستمرار موضوعه. أما استصحاب الحكم فهو عبارة عن الحكم باستمراره ظاهرا بعد الفراغ عن أصل ثبوته واقعا ، وفي رتبة متأخرة عن ذلك ، ولا يكفي فيه استمرار الحكم المجعول المستفاد من الغاية الذي هو من شئونه وتابع لسعة موضوعه ، فإن كل حكم يستمر باستمرار موضوعه ، وليس ذلك من الاستصحاب في شيء.

ومن ثم كان الظاهر حمل النصوص على قاعدتي الحل والطهارة الظاهريتين لا غير ، لأن ظاهر أخذ عنوان الشيء في الحكم وإن كان هو ثبوت الحكم له بذاته ، المناسب لكون الحكم المجعول واقعيا ، إلا أن جعل الغاية العلم بالحرمة والنجاسة مناسب لكون موضوع الحكم ليس هو الشيء بذاته ،

٣٩٨

بل بعنوان الجهل بحكمه ، المتأخر رتبة عن جعل الحكم الواقعي ، والملزم بكون المجعول هو الوظيفة العملية عند الشك فيه ، وأن الحكم ليس بالحل والطهارة ، بل بالتعبد بهما والبناء عليهما عملا في ظرف الشك فيهما الذي هو مفاد قاعدتي الحل والطهارة الظاهريتين ، دون الواقعيتين.

نعم لا يبعد التفكيك بين الصدر والذيل ، بحمل الأول على الطهارة الواقعية ، والثاني على الطهارة الظاهرية في خصوص حديث حماد المختص بالماء ، بتقريب : أن حمل الصدر فيها على بيان الطهارة الظاهرية موجب لإلغاء خصوصية الماء ، وتقييده بخصوص الماء المشكوك ، مع كون خصوصيته كعمومه الأفرادي ارتكازيا ، فأنس الذهن بذلك موجب لاستحكام ظهور الصدر في بيان عموم طهارة الماء بحسب أصله واقعا ، الملزم برفع اليد عن ظهور الغاية في كونها غاية للحكم المذكور في الصدر ، وتنزيلها على كونها غاية للعمل على الحكم المذكور وترتيب الأثر عليه ، فكأنه قيل : الماء كله طاهر ، فليعمل على ذلك حتى يعلم أنه قذر.

وذلك شايع في الاستعمالات الشرعية ، نظير قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١) وقوله عليه‌السلام في موثق عمار بعد أن سئل عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب : «كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلا أن ترى في منقاره دما» (٢).

لوضوح أن غاية جواز الأكل والشرب واقعا هو طلوع الفجر ، لا تبينه ، وغاية جواز الشرب من سؤر الطير واقعا هو وجود الدم على منقاره ، لا رؤيته ، وليس التبين والرؤية إلا غاية للجواز الظاهري عند الشك في طلوع الفجر

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٨٧.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ٤ من أبواب الأسئار حديث : ٢.

٣٩٩

ووجود الدم.

وحينئذ لا بد أن يكون فرض العلم بكونه قذرا في الصحيح للعلم لطروء ما ينجسه ، لا للعلم بكونه من القسم الذي هو نجس من أصله ، لأنه خلاف فرض العموم الأفرادي الارتكازي في الصدر. ولا يلزم من ذلك إلا رفع اليد عن إطلاق الصدر الأحوالي ، وحمله على بيان الطهارة بحسب أصل الماء ، مع المحافظة على خصوصيته ، وعلى عمومه الأفرادي.

وهذا بخلاف الموثقين ، فإن الحكم بالحل والطهارة فيهما وارد على عنوان الشيء ، وليس لعنوانه خصوصية ارتكازية تقتضي الحلية والطهارة الواقعيتين ، كما لا يكون عمومهما لجميع أفراده ارتكازيا ، بل هو مما يقطع بعدمه ، لما هو المعلوم من اشتمال الأشياء على الحرام والنجس. بل لو لا فرض الحرام والنجس لم يحسن جعل الحل والطهارة واعتبارهما. كما لا يناسب فرض العلم بالحرمة والنجاسة في الذيل.

وحمله على خصوص الحرمة الطارئة بسبب ثانوي لا يوجب المحافظة على عمومه الأفرادي ، لأن العناوين الثانوية داخلة في عنوان الشيء بعين دخول العناوين الذاتية ، فيشملها العموم الأفرادي المفروض ، بخلاف مثل عنوان الماء ، فإن تبادل العناوين العرضية على أفراده لا يوجب تعدد الفرد بل تعدد حال الفرد الواحد.

ومن جميع ما سبق يظهر ضعف بقية الأقوال في المقام. فلا حاجة للتعرض لها تفصيلا ومناقشتها. كما ظهر أن النصوص المذكورة أجنبية عن الاستصحاب.

هذه هي النصوص المستدل بها على الاستصحاب. وقد ظهر أن عمدتها صحيحتا زرارة الأوليان المؤيدتان بصحيحة عبد الله بن سنان. بل قد تؤيدان

٤٠٠