الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

بينهما.

ومقتضى الأصل التعيين في المقامين معا ، لترجيح محتمل الأهمية في باب التزاحم على ما يأتي في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى ، وللعلم بحجية ما يحتمل رجحانه من الدليلين والشك في حجية الآخر ، والمرجع فيه أصالة عدم الحجية ، على ما تقدم في تمهيد الكلام في مباحث الحجج.

خاتمة

في جريان الأصول في الحكم الاقتضائي غير الإلزامي

ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره في خاتمة هذا القسم من الأصول ـ وهي التي لم يؤخذ فيها الحالة السابقة ـ شروط العمل بالأصول المذكورة وأهمها الفحص ، واستطرد بعد ذلك إلى الكلام في قاعدة نفي الضرر.

لكن حيث لا يختص وجوب الفحص بالأصول المذكورة ، بل يجري في غيرها ، بل في الطرق أيضا ، كان المناسب ذكره بعد الكلام في مبحث التعارض ، وقد رأينا ذكره في خاتمة مباحث الاجتهاد والتقليد ، لرجوعه إلى بيان وظيفة المكلف عند الشك في وجود الدليل.

كما أن قاعدة نفي الضرر حيث كانت قاعدة فقهية واقعية ـ كقاعدة نفي الحرج وضمان اليد ـ فهي لا تناسب المقام ، لذلك أعرضنا عن ذكرها هنا.

نعم المناسب هنا التعرض لجريان الأصول المذكورة في غير الحكم التكليفي من الأحكام الاقتضائية ، وهي منحصرة بالاستحباب والكراهة ، فنقول ومنه سبحانه العون والتسديد : يقع الكلام هنا في مسائل أربع ، نظير المسائل المتقدمة في التكليف الإلزامي.

٣٦١

المسألة الأولى : في الشك في الحكم الاستقلالي

كالشك في استحباب الغسل لقتل الوزغ وفي كراهة سؤر البقر ، ولا مجال هنا للتمسك بالأدلة المتقدمة العقلية للبراءة والاحتياط. لوضوح اختصاص قاعدتي قبح العقاب بلا بيان ووجوب دفع الضرر المحتمل العقليين باحتمال العقاب والضرر المختصين بالتكليف.

وكذا الحال في بعض الأدلة النقلية ، كقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١). وأدلة الاحتياط التي استدل بها الأخباريون المتضمنة للتحذير من الأخذ بالشبهة خوفا من العقاب والهلكة.

نعم قد يدعى أن إهمال الأحكام الاقتضائية غير الإلزامية وعدم امتثالها وإن لم يستوجب العقاب إلا أنه يقتضي نحوا من الحزازة والبعد عن حظيرة المولى ، بل قد يقتضي نحوا من التبعة ولو في الدنيا ، نظير ما تضمن أن الرجل يترك صلاة الليل فيحبس عنه الرزق.

فلو تم هذا لم يبعد جريان نظير قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأن ما سبق ـ من الحزازة والبعد والتبعة ـ نحو من العقاب لا يحسن إلا مع قيام الحجة الكافية.

بل قد يصحح ذلك شمول مثل حديث الرفع ، لأن ثبوت الأمور المذكورة يستلزم أن يكون في ثبوت الحكم المذكور نحو من الضيق يصدق بلحاظه الرفع ، ويتحقق برفعه الامتنان. وأظهر من ذلك قوله عليه‌السلام في حديث حفص بن غياث : «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم» (٢) ، وقوله عليه‌السلام في معتبر حمزة بن الطيار : «إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم» (٣) ، ونحوه مما تضمن أخذ

__________________

(١) سورة الاسراء الآية : ١٥.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٠.

(٣) الكافي ج : ١ ص : ١٦٤ كتاب التوحيد ، باب حجج الله على خلقه حدث : ٤.

٣٦٢

عنوان الحجية.

بل تقدم منا أن الاستصحاب مطابق عملا للبراءة. وهو لا يختص بالأحكام الإلزامية ، بل يجري في غيرها من الأحكام الاقتضائية بعد كونها أحكاما شرعية مجعولة مثلها.

المسألة الثانية : في الشك في تعيين الحكم مع وحدة المتعلق

كما لو دار الأمر بين استحباب الشيء وكراهته. والظاهر أن ما سبق هناك من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية جار هنا. كما أن ما أشرنا إليه هناك من احتمال ترجيح اقتضاء الترك تقديما لاحتمال المفسدة جار هنا. غايته أنه ليس بنحو الإلزام لعدم كون الحكم المحتمل إلزاميا.

لكن تقدم هناك منع الاحتمال المذكور ، وأن المتعين التخيير ، فيكون المورد من موارد تزاحم الاحتياطين ، وقد سبق في التنبيه الرابع من تنبيهات الفصل الأول أن الترجيح يكون بأهمية التكليف وقوة الاحتمال. لكنه هنا ترجيح غير إلزامي.

المسألة الثالثة : في الشك في تعيين الحكم مع اختلاف المتعلق.

كما في العلم إجمالا باستحباب أحد أمرين ، أو باستحباب شيء أو كراهة آخر. والظاهر أن ما تقدم في منجزية العلم الإجمالي جار فيه ، لأن المناط فيه حجية العلم الذاتية من دون خصوصية للمعلوم ، واختلاف المعلوم بالإلزام وعدمه إنما يقتضي اختلاف حكم العقل من حيثية الإلزام بالاحتياط وتحسينه من دون إلزام.

كما أن ما سبق في ضوابط سقوط منجزية العلم الإجمالي يجري هنا أيضا. وكذا ضوابط عدم جريان الأصول في الأطراف ، كما يظهر بالتأمل فيها. بل ذكرنا هناك حكم العلم الإجمالي بأحد حكمين اقتضائيين إلزامي وغيره ، كالعلم

٣٦٣

بوجوب شيء واستحباب آخر. فراجع.

المسألة الرابعة» : في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين

كما لو شك في جزئية السورة للنافلة. وقد ذكر بعض مشايخنا قدس‌سره أنه لا مانع من الرجوع فيه لحديث الرفع ، لرفع شرطية الجزء المشكوك في المركب ظاهرا.

لكنه لا يخلو عن إشكال ، لأن المراد بذلك إن كان هو إثبات مجرد عدم استحباب الجزء ضمنا فقد سبق الإشكال في نهوض حديث الرفع بنفي الاستحباب.

وإن كان هو إثبات مشروعية العمل وصحته وتماميته بدونه فمن الظاهر أن حديث الرفع لا ينهض بذلك في المركبات الواجبة فضلا عن المستحبة ، لأن مفاده الرفع لا غير.

نعم لو أريد بالتمامية مجرد حصول ما هو المتنجز الواصل وإن لم يحرز أنه تمام المطلوب لم يحتج في ذلك إلى أدلة البراءة ، للعلم بحصوله بمجرد الشك في جزئية الزائد أو شرطيته وفرض عدم تنجزه.

كما أن الظاهر كفاية ذلك في مقام التقرب والامتثال ، فلا يعتبر إحراز كون المأتي به تمام المطلوب. ولذا أمكن التقرب بالأقل عند تردد الواجب بين الأقل والأكثر ، والتفريق بين الواجب والمستحب في ذلك بلا فارق.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في القسم الأول من الوظيفة العملية عند فقد الحجة ، وهو الذي لم تؤخذ فيه الحالة السابقة ، والذي ينحصر الأصل الجاري فيه بالبراءة والاحتياط والتخيير. والحمد لله رب العالمين.

٣٦٤

القسم الثاني

في الاستصحاب

وينبغي التمهيد له بذكر أمور ..

الأمر الأول : الاستصحاب لغة استفعال من الصحبة. ومن الظاهر مناسبته للمقام ، لمناسبة التعبد ببقاء المشكوك لمصاحبته في الزمان اللاحق ، وادعائها عملا ، حيث قد تستعمل هيئة الاستفعال في البناء على تحقق المادة وادعاء ذلك ، كما في الاستكبار والاستحسان والاستقذار.

أما بحسب الاصطلاح فقد عرف بتعاريف كثيرة. ولعل الأنسب بمفاد النصوص تعريفه بأنه : التعبد الظاهري ببقاء الشيء في زمان الشك ، لليقين بثبوته في الزمان السابق.

وأما بناء على أخذه من حكم العقل أو بناء العقلاء ـ وغض النظر عن مفاد النصوص ـ فكما يمكن تعريفه بما سبق يمكن تعريفه بما هو المنشأ له ، وهو كون الشيء متيقنا سابقا مشكوكا في بقائه لاحقا.

والأول أنسب بإطلاق لفظ الاستصحاب ، لما تقدم من استعمال هيئة الاستفعال بلحاظ ادعاء وجود المادة والبناء عليها ، كما هو المناسب لعدّ بعضهم الاستصحاب من أقسام حكم العقل ، لأن التعبد بالبقاء نحو من الحكم.

والثاني هو المناسب لعدّ بعضهم له من الطرق والأمارات.

والأمر سهل ، لعدم الأثر لتحديد المعنى الاصطلاحي ، بل يلزم النظر في مفاد الأدلة ، ولم يؤخذ في شيء منها عنوان الاستصحاب.

٣٦٥

الأمر الثاني : اشتهر في كلماتهم تعريف المسألة الأصولية بأنها القاعدة الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي الكلي. والظاهر من الحكم الكلي هو الكبرى الشرعية العملية ، كوجوب الصلاة وحرمة الخمر.

وعليه يشكل انطباق ذلك على الاستصحاب ، لأنه وإن جرى في الشبهات الحكمية ـ كنجاسة الماء الذي يزول تغيره من قبل نفسه ـ إلا أن فعلية موضوعه ـ وهو اليقين والشك ـ إنما تكون في الواقعة الشخصية التي يكون حكمها جزئيا لا كليا ، كما هو الحال في الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية.

وليست فتوى المجتهد بالحكم الكلي في ذلك إلا لوجود الضابط العام لتحقق موضوع الاستصحاب في صغرياته غير المنحصرة ، لا لجريان الاستصحاب بالإضافة للقضية الكلية قبل الابتلاء بوقائعها الشخصية. فهو نظير فتواه في موارد الشبهات الموضوعية ذات الضابط العام الشامل لأفراد كثيرة ، كالفتوى بطهارة الماء لو شك في ملاقاته للنجاسة ، حيث يجري الاستصحاب في صغرياتها ، لا في الكبرى ولو لم تكن لها صغرى فعلية. وبالجملة : يشترك الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية والجاري في الشبهات الموضوعية في أن موضوعهما معا هو الموضوع الخارجي الجزئي ومفادهما هو الحكم الشرعي الجزئي وإنما يفترقان في أن منشأ الشك في الشبهة الحكمية اشتباه حال الجعل الشرعي ، وفي الشبهة الموضوعية اشتباه الأمر الخارجي.

نعم لا مجال للإشكال المذكور بناء على ما سبق منا في أول الكتاب من تعريف علم الأصول بأنه القواعد المقررة ليستعان بها على استنباط الأحكام الشرعية ، والوظائف العملية الشرعية والعقلية في موارد الشبهات الحكمية ، حيث يدخل الاستصحاب في القسم الثاني من التعريف وإن لم يكن مفاده حكما كليا.

٣٦٦

وكيف كان فالأمر غير مهم بعد أهمية مسألة الاستصحاب. وترتب الفروع الكثيرة عليها ، حيث يلزم تحريرها هنا إما لكونها مسألة أصولية ، أو لقيامها مقامها في كونها مرجعا في الشبهات الحكمية الذي هو الغرض المهم للأصولي.

بل المناسب عموم الكلام في جريان الاستصحاب للشبهات الموضوعية ، لأنها وإن لم تناسب غرض الأصولي إلا أن أهميتها وكثرة الفروع المترتبة عليها وعدم خصوصية الشبهة الحكمية في كثير من جهات الكلام يقتضي التعميم المذكور.

الأمر الثالث : اختلف في الاستصحاب .. تارة : في كونه أمارة أو أصلا عقلائيا أو تعبديا شرعيا وأخرى : في حجيته وعدمه مطلقا ، أو على تفصيل ناشئ من الاختلاف في عموم دليله وخصوصه ، أو من الاختلاف في تحقق أركانه وشروطه في بعض الموارد. وقد كثرت الأقوال في ذلك حتى حكي عن بعضهم أنها بلغت نيفا وخمسين قولا.

وحيث لا مجال لإطالة الكلام في تفاصيل الأقوال المذكورة فاللازم النظر في الأدلة وتحديد مفادها ، ليتضح منها حال تلك الأقوال تفصيلا أو إجمالا ، مع إهمال ما احتج به لكل منها ، لضيق المجال عن ذلك وقلة الفائدة فيه. ثم ينظر بعد ذلك في الموارد المهمة التي وقع الكلام في تحقق أركانه فيها.

ومن هنا كان المناسب الكلام في مباحث ثلاثة : يبحث في الأول منها عن أدلة المسألة وعن تحديد مدلولها ، ليظهر حاله من حيثية كونه أمارة أو أصلا عاما أو خاصا ، وفي الثاني عن أركانه وشروطه العامة وما يناسب ذلك ، وفي الثالث عن الموارد التي وقع الكلام في تمامية تلك الأركان والشروط فيها.

ثم إن شيخنا الأعظم قدس‌سره استطرد في الخاتمة إلى ذكر حال الاستصحاب مع بعض القواعد من حيثية تقديمها عليه أو تقديمه عليها ، واستوفى الكلام في

٣٦٧

جملة من تلك القواعد. ويحسن بنا متابعته في ذلك ، لأن أهمية تلك القواعد وخروجها عن صلب الكلام في الاستصحاب ومناسبتها له في الجملة يناسب جدا ذكرها في خاتمته.

وسوف نجري على هذا المنهج إن شاء الله تعالى مستمدين منه العون والتوفيق والتأييد والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٣٦٨

المبحث الأول

في أدلة الاستصحاب

وقد استدل عليه بوجوه كثيرة.

وما ينبغي لنا التعرض له أمور ..

الأول : الإجماع المدعى عليه في الجملة من بعضهم. فعن المبادي دعوى إجماع الفقهاء على البناء على بقاء الحكم عند الشك في طروء رافعه ، وعن النهاية دعواه على البناء على بقاء كل شيء عند اليقين بثبوته والشك في رافعه. بل قد يظهر من بعض الأعاظم قدس‌سره وجود مدعي الإجماع على حجية الاستصحاب مطلقا.

لكن لا مجال للتعويل على مثل هذه الدعاوى في مثل هذه المسألة التي كثرت فيها الأقوال واختلفت فيها مباني الاستدلال. نعم الظاهر تحقق الإجماع على الرجوع إليه في خصوص بعض الفروع في الشبهات الموضوعية التي هي غالبا مورد النصوص ، كالشك في الطهارة بعد النجاسة أو الحدث ، أو العكس. إلا أنه لا يناسب اهتمام الأصولي به.

الثاني : بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم ، كما ادعاه العلامة قدس‌سره في محكي كلامه. بل ربما ادعي اختلال النظام بدونه. كما قد يقال : إنه أمر فطري لكل ذي شعور ، ولا يختص بالإنسان ، حيث تطلب الحيوانات الماء والكلاء من مواضعها المعهودة لها ، وتطلب الاستقرار والأمان في مواضعها التي قد ألفتها.

هذا وقد اختلفت كلماتهم .. تارة : في ثبوت البناء المذكور وعدمه ، مطلقا أو على تفصيل وأخرى : في حجيته على تقدير ثبوته.

٣٦٩

أما الأول فهو غير ظاهر ، لأن المهم في المقام هو بناؤهم على العمل عليه بما أنه أمر يصح الاعتماد عليه في مقام التنجيز والتعذير ـ المستتبعين للعقاب والثواب ـ في مورد الالتفات والشك ، نظير أصالة الظهور وأصالة عدم الخطأ والغفلة. ولا يكفي العمل عليه غفلة عن احتمال تبدل الحال ، لعدم ما يثيره ، أو للاطمئنان بعدم تبدله ، لغلبة أو نحوها ، أو للاحتياط في موافقة احتمال الواقع ورجاء تحصيله.

إذا عرفت هذا فالمتيقن من بناء العقلاء وسيرتهم أو سيرة كل ذي شعور إنما هو العمل على طبق الحالة السابقة لأحد الوجوه المتقدمة التي لا تنفع في المطلوب ، لا العمل عليه بالنحو المهمّ في المقام. من دون فرق في ذلك بين الشك في المقتضى والغاية والرافع. حيث لا طريق لنا لتحصيل اليقين ببنائهم على الرجوع للاستصحاب فيها جميعا أو في بعضها في مقام التعذير والتنجيز ، بنحو يتحصل لهم سيرة معتد بها صالحة للاحتجاج.

نعم لا إشكال في بنائهم عليه في الجملة في مقام التعذير والتنجيز في خصوص بعض الموارد ، كموارد الشك في السلامة والشك في النسخ ، وعدول صاحب الرأي عن رأيه ، وفي القرينة الصارفة عن ظاهر الكلام وغير ذلك. إلا أن ذلك لخصوصية الموارد المذكورة مع قطع النظر عن الاستصحاب ، فلا يكشف بناؤهم عليها عن بنائهم على الرجوع للاستصحاب الذي هو محل الكلام.

وأما الثاني ـ وهو حجية بناء العقلاء لو تمّ في المقام ـ فيظهر الكلام فيه مما تقدم في ذيل الكلام في أصالة عدم الحجية من التمهيد للكلام في مباحث الحجج ، فقد ذكرنا أن بناء العقلاء وسيرتهم إذا كانا ناشئين عن مرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وغرائزهم التي فطرهم عليها ـ كما هو المدعى في المقام ـ كانا تمام المقتضي للحجية ، من دون حاجة للإمضاء ، بل لا بد في رفع اليد عن

٣٧٠

مقتضاهما من ثبوت ردع الشارع عنها. وليس هناك ما يصلح للردع إلا عموم الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم ، وتقدم عند الكلام في أصالة عدم الحجية عدم ثبوت العموم المذكور ، ولا سيما بنحو ينهض بالردع عن الطرق أو الأصول العقلائية الإحرازية التي منها المقام.

الثالث : الأخبار. وهي عمدة أدلته ، وعليها اعتمد المتأخرون ، واهتموا بتقريب دلالتها وتحديد مدلولها. وقد استدل عليه بنصوص كثيرة.

منها : صحيحة زرارة : «قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب [فقد. يب] وجب الوضوء.

قلت : فإن حرك على [إلى. يب] جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجىء من ذلك أمر بيّن ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض [ينقض. يب] اليقين أبدا بالشك ، وإنما تنقضه [لكن ينقضه. يب] بيقين آخر» (١).

ولا يمنع من صحة الاستدلال بها إضمارها بعد ذكر الأصحاب لها في الكتب المعدة لجمع أحاديث المعصومين عليهم‌السلام. ولا سيما بعد كون الراوي لها زرارة ، الذي هو من أعيان أصحابهم الراوين عنهم عليهم‌السلام ، حيث لا يحتمل من مثله استفتاء غير الإمام عليه‌السلام ، ولا سيما مع اشتمال الرواية على التفريع والتدقيق.

على أنها قد أسندت للإمام الباقر عليه‌السلام في الحدائق ومحكي الفوائد للسيد بحر العلوم والفوائد المدنية للأسترآبادي. وإن لم يظهر لنا مأخذ ذلك بعد روايتها مضمرة في التهذيب والوسائل.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ١.

٣٧١

ولا ريب في دلالتها على الرجوع للاستصحاب في موردها ، وإنما الكلام في دلالتها على عموم الرجوع إليه كما استدل بها عليه غير واحد ، ثم في تحديد ذلك العموم.

وتوضيح ذلك : أن قوله عليه‌السلام : «وإلا ...» لما كان راجعا إلى جملة شرطية تقديرها : وإن لم يجئ من ذلك أمر بيّن ... فقد وقع الكلام في جزاء الشرطية المذكورة ، والمذكور في كلماتهم احتمالات ثلاثة.

الأول : أن يكون محذوفا مقدرا ، نظير قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١) وقوله سبحانه : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)(٢) وقوله عزّ اسمه : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(٣) وغيرها.

والتقدير في المقام : وإلا فلا يجب عليه الوضوء ، لأنه على يقين من وضوئه ....

الثاني : أن يكون هو قوله عليه‌السلام : «فإنه على يقين من وضوئه» ، بأن تكون جملة انشائية قصد بها بيان لزوم ترتيب أثر اليقين بالوضوء مع الشك المذكور.

الثالث : أن يكون هو قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك أبدا» ، ويكون قوله عليه‌السلام : «فإنه على يقين من وضوئه» توطئة لذلك.

أما الوجه الثالث فلم أعثر على من التزم به ، وإنما ذكر احتمالا في كلامهم. ولا مجال له ، لأن توطئة الحكم راجعة إلى تعليله وبيان موضوعه ، نظير قولنا : إن جاء زيد فحيث كان عالما بالفقه يجب إكرامه ، وهو لا يناسب عطف الجملة الثانية على الأولى في الصحيحة ، بل يقتضي تصدير الأولى بما

__________________

(١) سورة آل عمران الآية : ٩٧.

(٢) سورة يوسف الآية : ٧٧.

(٣) سورة التحريم الآية : ٤.

٣٧٢

يناسب سوقها لتمهيد الثانية وربطهما بما يقتضي تفريع الثانية عليها ، كما في المثال المذكور.

ومن هنا لا يهم الكلام في مفاد الصحيحة على الوجه المذكور ، وإن كان الظاهر أن مقتضاه عموم جريان الاستصحاب لجميع موارد الشك في الوضوء ، لأن موضوع الشرطية وإن كان هو خصوص الشك في النوم ، المناسب لكون ذلك هو موضوع الحكم في الجزاء بعدم انتقاض اليقين ، إلا أن توطئة ذلك الحكم بقوله عليه‌السلام : «فإنه على يقين من وضوئه» راجع إلى أن موضوع عدم النقض بالشك هو مطلق عدم اليقين بالوضوء ، كما يظهر بملاحظة المثال الذي سبق التنظير به.

وأما التعميم لليقين بغير الوضوء فلا وجه له إلا دعوى : أن المناسبات الارتكازية تقتضي إلغاء خصوصية الوضوء ، ولا سيما مع إشعار قوله : «أبدا» في عدم شأنية اليقين للانتقاض بالشك. إلا أن ذلك لو تم لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة. والأمر سهل بعد ما سبق من عدم تمامية الوجه المذكور.

وأما الوجه الثاني فهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدس‌سره بعد أن استشكل في الوجه الأول بما يأتي ، وأصرّ أيضا على أن مقتضاه عموم جريان الاستصحاب ، بدعوى عدم دخل التقييد بالوضوء في الحكم ، وإنما ذكر لخصوصية مورد السؤال ، بل ذكر أنه لا مجال لاحتمال دخل خصوصيته ، كي يقال : إنه يكفي الاحتمال في سقوط الاستدلال.

ويشكل ما ذكره من وجهين : الأول : أن الوجه المذكور بعيد في نفسه جدا أولا : لأن حمل قوله عليه‌السلام : «فإنه على يقين ...» على الإنشاء ، لبيان لزوم ترتيب أثر اليقين بالوضوء ، بعيد عن ظاهره جدا ، إذ لم يعهد جعل اليقين بنفسه وادعائه بمثل هذا التركيب.

٣٧٣

وثانيا : لأن مرجع ذلك إلى عدم وجوب الوضوء المبين أولا من دون زيادة فائدة ، فهو تكرار مستهجن.

وثالثا : لأن ذلك لا يناسب قوله بعد ذلك : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك».

إذ المراد باليقين فيه إن كان هو اليقين التعبدي بجعل هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، فعدم نقضه بالشك لازم لفرضه. مضافا إلى ما فيه من التفكيك بين اليقين ومقابله ، وهو الشك ، الذي لا إشكال في كون المراد منه الحقيقي. وإن كان هو اليقين الحقيقي السابق بجعلها مفسرة لما قبلها ، فهو لا يخلو عن تكلف. مع ما فيه من التفكيك بين اليقينين في الجملتين ، بحمل الأول على التعبدي ، والثاني على الحقيقي.

الثاني : أن ما ذكره من استفادة التعميم ـ بناء على الوجه المذكور ـ لا يرجع إلى محصل ، فإن اليقين بالوضوء ـ على هذا الوجه ـ ليس موضوعا للحكم ليمكن إلغاء خصوصية الوضوء ، بل هو بنفسه محكوم به ، فعمومه لعموم موضوعه ، وحيث كان موضوع الجزاء تابعا لموضوع الشرط تعين اختصاص الحكم بالشك في النوم. وبعبارة أخرى : مقتضى الوجه المذكور أن مرجع الشرطية إلى قولنا : وإن لم يجئ من النوم أمر بين فهو بحكم المتيقن بالوضوء ، ولا إشكال في عدم دلالة الجملة حينئذ على العموم. ولو فرض القطع بالعموم كان هو الحجة عليه ، لا الشرطية المذكورة.

ومن هنا كان الأظهر هو الوجه الأول في الجملة ، وهو الذي أصر عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره وجماعة ممن تأخر عنه.

وقد استشكل فيه بعض الأعاظم قدس‌سره بأن لازمه التكرار في الجواب وبيان الحكم المسئول عنه مرتين ، لأن الحكم بعدم الوضوء قد ذكر أولا بقوله : «لا حتى يستيقن ...» وهو لا يخلو عن حزازة. ودعوى : أنه لا تكرار مع حذفه وإقامة

٣٧٤

العلة مقامه. مدفوعة بأن المحذور ليس في تكرار ذكره صريحا ، بل في تكرار بيانه ، وحذفه وإقامة العلة مقامه لا ينفك عن قصده بالبيان.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأستاذ قدس‌سره بأن تكرار الحكم بعدم إعادة الوضوء ليس مقصودا بالبيان بنفسه ، ليكون منشأ للحزازة في البيان ، بل للتمهيد لبيان علته والاستدلال عليه ، وهو كاف في رفع اللغوية والحزازة.

وما ذكره وإن كان كافيا في الجواب عن الإشكال ، إلا أن الظاهر أن دعوى حذف الحكم لا يخلو عن تسامح للمحافظة على القواعد النحوية من كون الجزاء جملة واحدة ، وإلا فالتأمل قاض بكون الجزاء كلتا الجملتين ، وقد سيقتا للتنبيه لعلة الحكم لسدّ حاجة المخاطب للقناعة بالحكم ، أو لمعرفة الضابط العام في أمثاله ، فكأنه قيل : وإن لم يجئ من ذلك أمر بين فليلتفت إلى أنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك. فالجزاء هو علة الحكم بنفسها ، وما هو المقصود من ذكرها استيضاح الحكم ورفع الاستيحاش منه ، لا الحكم بنفسه ، ليلزم التكرار.

على أن علوّ متن الصحيحة ، وقوة ظهوره في سوق القضيتين مساق التعليل للحكم والاستدلال عليه ، ملزمان بالبناء على هذا الوجه وعدم التعويل على مثل الإشكال المذكور في الخروج عنه ، بل هو كالشبهة في مقابل البديهة ، حيث يكشف ذلك إجمالا إما عن عدم لزوم التكرار ، أو عدم لزوم الحزازة منه ، ولا سيما مع ما سبق من وهن الوجهين الآخرين جدا ، وعدم مناسبتهما للتركيب المذكور.

وحينئذ يلزم النظر في مفاد الصحيحة بناء على هذا الوجه ، فنقول : صلوح الجملتين لتعليل الحكم والاستدلال عليه إنما هو بلحاظ كونهما قياسا من الشكل الأول منتجا للمطلوب ، ومقتضى عموم كبرى القياس المذكور ،

٣٧٥

وهي قوله : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك» جريان الاستصحاب مطلقا من دون خصوصية الشك في بقاء الوضوء ، فضلا عن خصوصية الشك في النوم.

إن قلت : هذا موقوف على كون اللام في «اليقين» الذي تضمنته الكبرى المذكورة للجنس ، لا للعهد بلحاظ اليقين الذي تضمنته الصغرى ، وإلا كان مختصا باليقين بالوضوء.

قلت : لا مجال للعهد في المقام ، لأن اليقين في الصغرى قد أخذ في الحكم لا في الموضوع ، ومن الظاهر أن الحكم تابع لموضوعه سعة وضيقا ، وحيث كان موضوع الصغرى هو موضوع جملة الشرط ، وهو الشك في النوم ، فاليقين المحكوم به هو اليقين بالوضوء في مورد الشك في النوم ، لا مطلقا ، فلو كانت اللام للعهد كان موضوع القضية الثانية هو خصوص اليقين المذكور ، وخرجت عن كونها كبرى عامة واردة مورد الاستدلال ، بل تكون عين الدعوى وتكرارا لها من دون فائدة.

وغاية ما يمكن في توجيه دعوى اختصاص الكبرى باليقين بالوضوء هو كون اليقين في الكبرى مقيدا بالوضوء بقرينة تقييده به في الصغرى ، مع كون اللام جنسية ، ليشمل الشك من غير جهة النوم ، كي تصلح لأن تكون كبرى للصغرى المذكورة. إلا أنه لا مجال له ، لأنه تقييد للإطلاق من غير ملزم. ومجرد تقييده في الصغرى لا يقتضيه.

إن قلت : شرط القياس تكرر الأوسط في القضيتين ، وحيث كان المتكرر هنا هو اليقين فلا بد من إلغاء القيد المذكور في الصغرى ، أو المحافظة عليه وجعله قرينة على التقييد في الكبرى ، وليس الأول بأولى من الثاني ، ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

قلت : لا بد من البناء على إلغاء القيد المذكور في الصغرى ، لا بمعنى عدم

٣٧٦

كونه مقصودا بالبيان ـ فإنه خلاف المقطوع به ـ بل بمعنى كونه مذكورا مراعاة للمورد من دون أن يكون دخيلا في الاستدلال حفاظا على الإطلاق في الكبرى ، كما يظهر بملاحظة النظائر ، كقولنا : زيد ضارب عمرا ، والضارب يقتص منه ، و : علي عالم بالنحو ، والعالم في هذا الزمان يجب إكرامه ، و : زيد مدرس للفقه ، والمدرس يجب تشجيعه ، و : هذا الكتاب مفيد للمبتدئ والكتاب المفيد يلزم نشره ... إلى غير ذلك.

هذا مضافا إلى ما أشار إليه غير واحد من أن التعميم هو المناسب لكون التعليل ارتكازيا ، لعدم خصوصية الوضوء في الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق ، فلو أخذت فيه كان التعليل تعبديا ، وهو خلاف ظاهر التعليل ، لأنه مسوق لتقريب الحكم إلى ذهن السامع ، خصوصا من مثل الإمام عليه‌السلام الذي لا يكلف بالاستدلال.

إن قلت : هذا لا يناسب ما تقدم من إنكار السيرة الارتكازية على الاستصحاب ، إذ وجود الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق يستلزم جري العقلاء عليها في أمورهم.

قلت : لا تتوقف ارتكازية التعليل على بلوغ الارتكاز حدا يقتضي العمل بنفسه ، ليكون ملازما للسيرة ، بل يكفي فيه إدراك العقلاء للجهة المناسبة للجعل الشرعي ، التي يكون العمل عليها مقبولا عندهم ، وإن لم يكن لازما لو لا الجعل ، ليستلزم قيام السيرة عليه.

فمثلا : إذا قال المولى : زر زيدا لأنه أحسن إليك ، فالتعليل المذكور ارتكازي ، إلا أنه ليس بنحو يستلزم السيرة الارتكازية على استحقاق المحسن للزيارة ، بحيث تنهض السيرة بإثباته وتكشف عن الجعل المولوي من دون حاجة لثبوت الأمر به من المولى. وكذا تعليل اعتصام ماء البئر وطهارته بزوال

٣٧٧

التغير بأن له مادة ، فإنه وإن كان ارتكازيا إلا أن الارتكاز المذكور لا يكفي في استكشاف الحكمين ، بنحو يخرج به عن عمومات الانفعال واستصحاب النجاسة لو لا الجعل الشرعي ... إلى غير ذلك.

ومن ثم لا نلتزم بأن مفاد التعليل في المقام إمضاء بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب ، ليكون قاصرا عما لو علم بعدم عملهم به ، كما لو ظن بانتقاض الحالة السابقة ، بل هو حكم تعبدي للشارع الأقدس يتمسك بإطلاق دليله في المورد المذكور وإن كان ارتكازيا في الجملة ، بلحاظ أن في الجري على مقتضى اليقين السابق جهة ارتكازية تناسب جعله في مقام ضرب القاعدة العملية عند الشك.

والحاصل : أنه لا ينبغي التأمل في ظهور الكبرى المذكورة في عموم الرجوع للاستصحاب من دون خصوصية للشك في انتقاض الوضوء ، كما هو مقتضى إطلاق اليقين المناسب للارتكاز ، ولا يصلح التقييد في الصغرى لرفع اليد عن ذلك.

ومنها : صحيحة أخرى لزرارة : «قلت [لأبي جعفر عليه‌السلام : إنه. ع] أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شيء من مني ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له الماء ، فأصبت [الماء. ع [وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ، ثم إني ذكرت بعد [ذلك. يب] قال : تعيد الصلاة وتغسله.

قلت : فإني [فإن. ع] لم أكن رأيت موضعه و [قد. ع] علمت أنه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته. قال : تغسله وتعيد.

قلت [قال. ع] : فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت [فرأيته. ع] فيه [بعد الصلاة. ع] قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟ [ولم ذاك. ع] قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ،

٣٧٨

فشككت [نظافتك ، ثم شككت. ع] فليس لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله. قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه [قد. يب] أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك [طهارته. قال. ع] قلت : فهل علي إن شككت في أنه أصابه أن انظر فيه [فأقلبه. ع]؟ قال : لا ، ولكنك إنما تريد [بذلك. ع] أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك قلت : إن [قال : فإن. ع] رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة. قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته [فيه. ع] ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت [الصلاة. يب] وغسلته ، ثم بنيت على الصلاة ، لأنك [فإنك. ع] لا تدري لعله شيء أوقع [وقع. ع] عليك ، فليس ينبغي [لك. ع] أن تنقض اليقين بالشك [بالشك اليقين. ع]» (١).

ولا يضر إضمارها في التهذيب بعد روايته لها عن زرارة بطريق صحيح ، بضميمة ما تقدم في الصحيحة الأولى ، وبعد روايتها في العلل عن أبي جعفر عليه‌السلام بطريق صحيح أيضا.

ثم لا يخفى أن الاستدلال بها بلحاظ التعليل في صدرها وذيلها بالقياس المتضمن لكبرى الاستصحاب ، الظاهر في العموم بالتقريب المتقدم في الصحيحة الأولى. وأما قوله عليه‌السلام : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك». فهو وإن كان مطابقا لمفاد الاستصحاب إلا أنه مختص بمورده ، والتعدي عنه إنما يكون بإلغاء خصوصيته عرفا تبعا للمناسبات الارتكازية التي يغني عنها عموم التعليل المذكور.

هذا وقد يستشكل في الاستدلال بصدرها من وجهين :

__________________

(١) أخذناها بتمامها من التهذيب ج : ١ ص : ٤٢١. طبع النجف الأشرف. ومن العلل باب : ٨٠ ص : ٣٦. طبع النجف الأشرف. وخرجها في الوسائل متفرقة في ج : ٢ باب : ٧ حديث : ٢ وباب : ٣٧ حديث : ١ وباب : ٤١ حديث : ١ وباب : ٤٢ حديث : ٢. كل ذلك في أبواب النجاسات.

٣٧٩

الأول : أنه لا ملزم بحمل اليقين بالطهارة على اليقين بتحققها في الزمان السابق على إصابة النجاسة المحتملة ، وحمل الشك على الشك في بقائها في زمان الإصابة المحتملة ، ليكون من موارد الاستصحاب ، ويلزم حمل الكبرى عليه.

بل قد يكون المراد باليقين بالطهارة هو اليقين حين الصلاة الحاصل بسبب الفحص وعدم الوجدان ، ومن الشك هو الشك في وجوده حينها أيضا الحاصل من رؤيته بعدها ، حيث قد يكون ذلك سببا في تزلزل اليقين المذكور وتبدله بالشك ، للتردد بين سبق النجاسة المرئية ـ وعدم استيعاب الفحص ـ وتجددها بعد الصلاة ـ نظير ما تضمنه الذيل ـ فيكون المورد من موارد قاعدة اليقين ، ويلزم حمل الكبرى على القاعدة المذكورة ، وتخرج عن محل الكلام.

ويندفع بأن حصول اليقين من الفحص محتاج إلى عناية لم يشر إليها. ولا سيما مع سبق فرض عدم الوجدان بالفحص مع اليقين بالإصابة في قوله : «علمت أنه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه». بل المنسبق منه بقاء الشك ، وإلا فاليقين المسبب عن الفحص المستوعب لا يتزلزل غالبا برؤية النجاسة بعد ذلك مع فرض إمكان تجددها بعد الصلاة.

كما أن كون رؤيته بعد الصلاة مثيرا لاحتمال رؤيته بعدها بنحو يقتضي تزلزل اليقين ، وتبدله بالشك ـ ليكون من صغريات قاعدة اليقين ـ محتاج إلى عناية أيضا ، ولذا نبه له الإمام عليه‌السلام في الذيل ، فعدم تنبيه السائل عليه ظاهر في عدمه.

على أن ظاهر سؤال زرارة عن العلة لعدم الإعادة في الفرض المذكور هو مشاركته للفرضين السابقين ـ اللذين حكم فيهما بإعادة الصلاة ـ في وقوع الصلاة حال النجاسة. ولو كان المفروض فيه الشك في ذلك لما كان بينه وبين

٣٨٠