الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

مطابقة المأتي به للمأمور به على ما هو عليه. ولا أثر لها إلا الإجزاء العقلي ، من دون أن يكون لها أثر شرعي ليجري الاستصحاب بلحاظه.

مع أنها بالإضافة إلى المركب التام لا موضوع لها إلا بعد تماميته فلا مجال لاستصحابها قبله ، وبالإضافة إلى الأجزاء السابقة على حدوث ما يشك في مبطليته مراعاة بتمامية المركب ، لفرض الارتباطية بينها وبين بقية الأجزاء ، فلا يعلم حصولها قبله ، كي تستصحب إلا بنحو الاستصحاب التعليقي ، الذي لا يجري على التحقيق.

نعم قد يراد بها قابلية الفعل المأتي به لأن يقع امتثالا ، وهي حينئذ متيقنة قبل حصول ما يشك في مبطليته ، مشكوكة بعده. لكنها بالمعنى المذكور ليست موردا لأثر شرعي ـ بل ولا عقلي ـ ليجري استصحابها.

الثاني : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(١) فإن وجوب المضي في العمل يستلزم صحته وعدم بطلانه بالزيادة.

وفيه أولا : أن الشك في المقام ليس في جواز الإبطال بعد فرض الصحة ، بل في تحقق البطلان بحصول الزيادة ونحوها من ما يشك في مبطليته ، ومع تحقق البطلان لا موضوع لحرمة الإبطال ، فالتمسك بعموم حرمة الإبطال ونحوه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام ، الذي لا إشكال في عدم جوازه.

وثانيا : أنه لا ظهور للآية في إرادة الإبطال بمعنى الإخلال بالعمل وإفساده قبل إتمامه الذي يبتني عليه الاستدلال ، بل بمعنى إحباط العمل بعد تماميته وصلوحه لأن يترتب عليه الجزاء والثواب ، وذلك بالنفاق والشقاق لله تعالى

__________________

(١) سورة محمد الآية : ٣٣.

٣٤١

ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحوهما ، كما يناسبه صدرها وسياقها مع قوله تعالى قبلها : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)(١) ، واستشهاده صلى‌الله‌عليه‌وآله بها لذلك ، كما في موثق أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : لا إله إلا الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الله أكبر ، غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش : يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. فقال : نعم ، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)» (٢).

فالعمدة في تقريب عدم مبطلية الزيادة الأصل بالوجه المتقدم. ولا مجال للخروج عنه إلا بدليل ، كما ورد في الصلاة والطواف ، على تفصيل يذكر في الفقه.

نعم قد يقال : الأصل وإن كان يقتضي عدم مبطلية الزيادة ونحوها مما لم يقم دليل عقلي على قادحيته في العمل ، كما تقدم في أصل المسألة ، إلا أن ذلك قد يشكل في الصلاة ونحوها مما يحرم قطعه وإبطاله على تقدير صحته ، للعمل إجمالا معه إما بصحة العمل المستلزمة لوجوب إتمامه وعدم جواز إبطاله ، وإما ببطلانه المستلزم لعدم الاجتزاء به ووجوب استئنافه. والعلم الإجمالي المذكور حيث كان منجزا فهو يمنع من الرجوع لأصالة البراءة من المانعية المقتضية للاستئناف ، كما يمنع من الرجوع لأصالة البراءة من وجوب الإتمام ، فيتعين

__________________

(١) سورة محمد الآية : ٣٢.

(٢) الوسائل ج : ٤ باب : ٣١ من أبواب الذكر من كتاب الصلاة حديث : ٥.

٣٤٢

الاحتياط بالإتمام ثم الإعادة.

ودعوى : أن أصالة البراءة من مانعية الزيادة ونحوها تقتضي صحة العمل ووجوب إتمامه ، فينحل بذلك العلم الإجمالي.

مدفوعة بأن أصالة البراءة لا تحرز مطابقة العمل للتكليف الواقعي وصحته الذي هو موضوع وجوب الإتمام وحرمة القطع والإبطال واقعا ، وإنما تقتضي المعذرية من احتمال البطلان ، وليس هو موضوع وجوب الإتمام.

ومثلها دعوى التمسك لذلك باستصحاب الصحة. لما تقدم من الإشكال في الاستصحاب المذكور. ومن ثم جرى كثير من الفقهاء رضى الله عنه في عصورنا وما قاربها على لزوم الاحتياط بالإتمام ثم الإعادة في موارد الاحتياط الوجوبي بالبطلان.

اللهم إلا أن يقال : العلم الإجمالي المذكور ـ لو تم ـ لا يقتضي المنع من الزيادة ، ولا ينجز احتمال مبطليتها قبل الإتيان بها ، بل هو مترتب على الإتيان بها ، فالزيادة شرط في حدوث العلم الإجمالي المذكور ، وحيث كان الظاهر عموم حديث : «لا تعاد ...» لصورة الجهل بمبطلية العمل ، ولا يختص بالإتيان بالمبطل سهوا فهو يقتضي عدم قادحية الزيادة في المقام ، للإتيان بها جهلا بمبطليتها بعد عدم صلوح العلم الإجمالي لتنجيز احتمال مبطليتها قبل الإتيان بها. وحينئذ تحرز صحة الصلاة معها ، ووجوب المضي فيها ، إما لعدم مبطليتها ذاتا أو من جهة تحقق العذر فيها ، ولا مجال مع ذلك لفرض العلم الإجمالي المذكور.

نعم لو كان احتمال مبطلية الزيادة قبل الإتيان بها منجزا ـ كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص ـ لم يبعد قصور حديث : «لا تعاد ...» عنه ، واتجه فرض العلم الإجمالي المذكور. ولعله عليه يبتني الاحتياط المذكور من الفقهاء رضى الله عنه.

٣٤٣

كما يتجه ذلك أيضا بناء على اختصاص الحديث المذكور بالسهو وعدم شموله للجهل.

هذا كله بناء على عموم دليل حرمة القطع لما إذا احتمل بطلان العمل بنحو يقتضي الاحتياط. وأما بناء على قصور دليل حرمة القطع عن ذلك ، لأن تجنب صعوبة التكرار مع الرغبة في الاحتياط من جملة الأغراض العقلائية المسوغة للقطع ، فلا مجال لفرض العلم الإجمالي حتى في الموردين المذكورين ، بل ليس في المقام إلا احتمال بطلان العمل بما يحتمل قادحيته ، ولا مانع من الرجوع فيه للأصل. فتأمل جيدا.

التنبيه الثالث : في تعذر بعض ما يعتبر في الواجب الارتباطي

إذا تعذر بعض ما يعتبر في المكلف به ، ودار الأمر بين عموم اعتباره لحال تعذره ـ المستلزم لسقوط التكليف به تبعا لتعذر قيده ـ واختصاصه بحال القدرة عليه ـ المستلزم للتكليف بما عدا المتعذر ـ فهل الأصل يقتضي الأول أو الثاني؟. والكلام في ذلك في مقامين :

المقام الأول : في مقتضى القاعدة الأولية بالنظر للأدلة الاجتهادية أو الأصول العملية.

فاعلم أن في المقام صورتين :

الأولى : أن يكون لدليل اعتبار الأمر المتعذر إطلاق يشمل حال التعذر ، كما في مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلا بطهور» (١). وحينئذ يكون مقتضى الإطلاق المفروض سقوط الواجب بتعذره. ومعه لا مجال لاستصحاب التكليف بما عدا المتعذر ـ بالوجه الذي يأتي ، لو تم في نفسه ـ لكونه محكوما للإطلاق المذكور.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الوضوء حديث : ١.

٣٤٤

ودعوى : أن سقوط وجوب المركب بمقتضى الإطلاق المفروض لا ينافي وجوب الناقص بدلا عنه أو لكونه الميسور منه. مدفوعة بأن محل الكلام هو احتمال وجوب الناقص بالعنوان الذي وجب به التام ـ كالصلاة والحج والصيام ـ لا بعنوان آخر ، فإذا كان مقتضى الإطلاق سقوط التكليف بالعنوان المذكور بتعذر ما تضمن الإطلاق اعتباره فيه فاحتمال وجوب الناقص بعنوان آخر خارج عن محل الكلام. نعم لو فرض حصول الاحتمال المذكور ، فيظهر حال الوظيفة فيه مما يأتي.

الثانية : أن لا يكون لدليله إطلاق ، كما هو الظاهر في مثل الطمأنينة في الصلاة. وحينئذ إن كان للتكليف بالباقي إطلاق يشمل صورة تعذر الأمر المذكور لزم الاقتصار في جزئية المتعذر على حال القدرة عليه ، والبناء على بقاء التكليف بالباقي مع تعذره. وإن لم يكن للتكليف بالباقي إطلاق بالنحو المذكور يلزم الرجوع للأصل العملي.

ومن الظاهر أن مقتضى الأصل بدوا براءة الذمة من التكليف بالناقص. إلا أنه قد يدعى لزوم الخروج عنه والبناء على ثبوت التكليف بالناقص لأحد وجهين :

الأول : استصحاب وجوب الباقي المتيقن قبل تعذر الأمر المتعذر. لكنه يشكل بأن المعلوم سابقا هو وجوبه ضمنا في ضمن التكليف بالتام ، وهو معلوم الارتفاع ، غايته أنه يحتمل حدوث الوجوب الاستقلالي له خلفا له ، والأصل عدمه.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من أن وجوب الباقي المشكوك متحد مع وجوب التام المتيقن سابقا ، لوجوده في ضمنه ، وليس الاختلاف بينهما إلا في الحدود ، وهو لا يوجب تعدد المحدود.

٣٤٥

فيندفع ـ مضافا إلى اختصاصه بما إذا كان التعذر بعد فعلية التكليف بالتام ، لتحقق الشروط المعتبرة فيه من الوقت أو غيره ـ بأن اختلاف الحدود إنما لا يوجب تعدد المحدود إذا رجع إلى اختلاف مرتبة الوجود الواحد بالشدة والضعف ، كالسواد الخفيف الموجود في ضمن السواد الشديد ، لا في مثل اختلاف الوجوبين باختلاف حدود متعلقيهما ، لاحتياج كل منهما لجعل مستقبل يباين جعل الآخر ، لتقوم التكليف بمتعلقه بما له من الحدود الملحوظة للجاعل ، فمع اختلاف الحدّين لا بد من اختلاف الجعل والتكليف المجعول.

نعم قد يتمسك باستصحاب الوجوب الاستقلالي فيما إذا كان الناقص متحدا مع التام عرفا ، لعدم أهمية الأمر المتعذر ، بحيث يعدّ وجوده من حالات المركب بنظر العرف ، لا مقوّما له ، ليكون تعذره مستلزما لتعدد الموضوع. لكنه يبتني على الاكتفاء بالتسامح العرفي في موضوع الاستصحاب ، نظير ما جرى عليه غير واحد في استصحاب كرية الماء. وهو ممنوع ، على ما يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

الثاني : أصالة البراءة من جزئية المتعذر حال تعذره ، بدعوى : أن المقام من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويندفع بأن الجزئية والشرطية حيث لم يكونا من الأحكام المجعولة ، بل هما منتزعان من وجوب المركب الذي أخذ فيه المشكوك ، وهو مما يقطع بارتفاعه بسبب التعذر ، فلا معنى لجريان البراءة منه ، بل ليس في المقام إلا الشك في وجوب الباقي ، ودليل البراءة لا يثبته ، بل ينفيه عملا ، ويقتضي السعة منه.

بل لو فرض جريان البراءة من الجزئية والشرطية في نفسهما فلا مجال له في مثل المقام ، حيث لا أثر لها إلا الإلزام بالناقص ، لمنافاته للامتنان الذي هو

٣٤٦

منصرف أدلة البراءة. ومن هنا لا مخرج في المقام عن أصل البراءة من التكليف بالناقص الذي أشرنا إليه آنفا.

المقام الثاني : في مقتضى القاعدة الثانوية بعد الفراغ عما تقدم في المقام الأول.

ولا إشكال في الاكتفاء بالميسور في كثير من فروع الفقه في الطهارة والصلاة والحج وغيرها ، وإنما الإشكال في ثبوت عموم يقتضي الاكتفاء به يكون هو المرجع عند الشك ، وهو ما يسمى بقاعدة الميسور ، التي وقع الكلام فيها بين الأصحاب.

وعمدة ما يستدل به لها النصوص المتضمنة لوجوب الميسور ، وهي النبوي : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» وما عنه عليه‌السلام أيضا : «ما لا يدرك كله لا يترك كله».

بدعوى : ظهورها في لزوم تبعيض العمل الارتباطي بحسب الميسور من أجزائه وشرائطه ، فتكون حاكمة على إطلاق دليل اعتبار الأمر المتعذر الشامل لحال تعذره لو فرض ثبوته. ومقتضى ذلك وجوب الميسور في صورة ثبوت الإطلاق لدليل اعتبار الأمر المتعذر ، فضلا عما إذا لم يكن لدليله إطلاق.

وينبغي الكلام في هذه النصوص .. تارة : في السند وأخرى : في الدلالة.

أما السند فهو ظاهر الضعف في جميعها ، لعدم ذكر الأصحاب لها في كتب الحديث المعروفة ، وإنما ورد الأول مسندا في كتب العامة على اختلاف مضامينه الآتية. وذكرت بأجمعها مرسلة في محكي عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الاحسائي ، الذي لم يعرف بالضبط وانتقاء الحديث في الكتاب المذكور ، حتى طعن فيه صاحب الحدائق ، مع ما هو المعلوم من حاله من عدم

٣٤٧

شدة اهتمامه بصحة أسانيد الأخبار.

قال في رد مرفوعة زرارة الواردة في تعارض الخبرين والمذكورة في الكتاب المذكور : «مع ما هي عليه من الرفع والإرسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور».

ودعوى : انجبارها باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره. ممنوعة جدا ، غاية الأمر موافقتهم لها في الجملة ، وهي لا تصلح للجبر ، ما لم يثبت اعتمادهم عليها وتسالمهم على الرجوع لها ، ولا مجال لدعواه بعد عدم تعرض القدماء لها في مقام الاستدلال فيما أعلم ، وإلا لما اقتصر على نسبتها للكتاب المذكور مع ما هو عليه من الوهن.

بل لم يجروا عليها في كثير من فروع العبادات ، فضلا عن غيرها ، كما يشهد به تتبع كلماتهم في الصوم وكثير من فروع الطهارة والصلاة والحج ، فإنهم وإن تنزلوا في كثير من الموارد عن بعض المراتب ـ كالقيام في الصلاة ، والمباشرة في كثير من فروع الطهارة والحج ـ بل وعن بعض الأجزاء والشروط رأسا ـ كالسورة والطمأنينة والقبلة والطهارة الخبثية ـ إلا أنهم لم يتنزلوا عن كثير من الأجزاء والشروط ، فلا مجال عندهم للتبعيض في ركعات الصلاة وجملة من مناسك الحج ، واشتهر عندهم عدم صحة الصلاة من فاقد الطهورين.

فمن القريب جدا أن يكون اجتزاؤهم بالناقص في كثير من الفروع لعدم إطلاق دليل الأمر المتعذر ، أو لأدلة خاصة ، كالإجماع ، والسيرة ، وارتكاز المتشرعة ، والأخبار الكثيرة الواردة في كثير من تلك الفروع ، والتي قد يتعدى الفقيه منها لفهم عدم الخصوصية لمواردها ، أو لنحو ذلك مما لا مجال معه

٣٤٨

لدعوى اعتمادهم في تلك الفروع على هذه الأخبار ، وانجبار ضعفها بذلك.

وأما الدلالة فهي لا تخلو عن قصور في الجميع.

أما الأول ـ وهو النبوي ـ فلأن «من» وإن كانت ظاهرة في التبعيض ، إلا أن التبعيض يكون .. تارة : بلحاظ الوحدة النوعية ، فيكون البعض هو الفرد من الكلي ، فيرجع الحديث للاكتفاء بالميسور من الأفراد ، ويكون أجنبيا عما نحن فيه وأخرى : بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الأمور المتكثرة ، فيكون البعض هو الجزء من الكل ، وهو الذي ينفع في محل الكلام.

ومن الظاهر أنه لا مجال لحمل الحديث عليهما معا ، لعدم الجامع العرفي بينهما بعد اختلاف الجهة المصححة للتبعيض. كما لا قرينة على حمله على الثاني. بل لا مجال له بعد احتياجه إلى نحو من العناية في فرض الشيء المأمور به مركبا ذا أجزاء ، بخلاف الأول ، لأن المأمور به لا ينفك عن كونه كليا ذا أفراد. ومن ثم كان الحمل عليه مناسبا لإطلاق الشيء في الحديث.

ولا سيما بلحاظ قرب أخذه مما في مجمع البيان مرسلا (١) ، ورواه العامة ، فعن مسلم والنسائي والترمذي في صحاحهم عن أبي هريرة قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم. ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (٢).

إن قلت : الحمل على إرادة التكرار لا يناسب عمل الأصحاب ، ولا سيرة

__________________

(١) مجمع البيان المجلد الثاني ص : ٢٥٠.

(٢) التاج الجامع للأصول ج : ٢ ص : ١٠٨.

٣٤٩

المسلمين على الاكتفاء بالمرة ، بل هو خلاف المقطوع به في مورد الحديث ، وهو الحج.

قلت : ليس ذلك قرينة عرفية على الحمل على المعنى الثاني بعد أن كان خلاف الظاهر في نفسه. بل يتعين الحمل على الاستحباب مع الحفاظ على المعنى الأول. ولعله الظاهر مما سبق في رواية العامة ، كما يناسبه ظهور عدم الاستطاعة في عدم الصبر على الاستمرار على الإطاعة الذي هو محذور مع الوجوب قد يوجب توقعه الرأفة بعدم تشريعه ، لا عدم الاستطاعة الحقيقية الذي هو ليس محذورا مع الوجوب ، ولا يمنع توقعه من تشريعه ، إذ يتعين حينئذ حمل الأمر بالإتيان بالشيء بقدر الاستطاعة على استمرار المكلف عليه ما لم يضق به ذرعا ، وذلك يناسب الاستحباب.

كما أنه مقتضى الجمع بينه وبين ما عن عوالي اللآلي عن الشهيد عن ابن عباس قال : «لما خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحج قام إليه الأقرع بن حابس فقال : في كل عام؟ فقال : لا ، ولو قلت لوجب ، ولو وجب لم تفعلوا ، إنما الحج في العمر مرة واحدة ، فمن زاد فتطوع» (١) ونحوه ما عن أبي داود والنسائي وأحمد والحاكم (٢).

نعم لا بد من حمله على ما يكون مشروعا في نفسه بنحو الاستغراق ، كالحج والصدقة ، فيكون مسوقا لبيان معنى ارتكازي عقلي ، وهو حسن الاستزادة من الخير والإكثار منه مهما أمكن ، لا لبيان سقوط الارتباطية بالتعذر الذي هو معنى تعبدي محض. ولذا يصدق بلا تكلف على مثل الصدقة بالميسور ومساعدة المؤمن.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج : ٨ باب : ٣ من أبواب الحج حديث : ٤.

(٢) التاج الجامع للأصول ج : ٢ ص : ١٠٩.

٣٥٠

بل إذا دار الأمر بين حمل الكلام على أمر ارتكازي عرفي وأمر تعبدي كان المتعين الأول ، لأن أنس الذهب به يوجب انصراف الكلام إليه وظهوره فيه ما لم تقم قرينة صارفة عنه ، معينة للثاني.

هذا وقد يدفع الاستدلال بالحديث على القاعدة ، بأنه لا دليل على كون «من» تبعيضية ، بل قد تكون بمعنى الباء أو بيانية أو زائدة.

لكنه يشكل بأن ورود «من» بمعنى الباء وإن حكي عن يونس مستشهدا عليه بقوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)(١). إلا أن من القريب جدا كونها في الآية ابتدائية ، لبيان المنشأ ، نظير قولنا : جرى الماء من الميزاب ، فكأن النظر يصدر من الطرف ، ومنه ينشأ. مع أنه لو سلم كونها بمعنى «الباء» فهي بمعنى «باء» الاستعانة أو الآلة ، لا «باء» التعدية ، ليناسب المقام.

كما أنه لا يبعد رجوع البيانية التي يراد بها بيان جنس ما قبلها ـ نظير خاتم من حديد ـ إلى الابتدائية ـ التي لا مجال لها في المقام ـ أو التبعيضية التي يحاول المدعي الفرار منها ، فكأن المراد : خاتم ناشئ من حديد ، أو بعض منه. مع أنها تختص بما إذا كان ما بعدها جنسا لما قبلها ـ كالمثال المتقدم ـ دون مثل المقام مما وقعت فيه بين الفعل ومتعلقه ، إذ لم يعهد إرادة الجنس حينئذ ، كي يكون المراد هنا : إذا أمرتكم بشيء فأتوا بجنسه ما استطعتم.

وأما زيادة «من» في غير ما إذا كان مدخولها نكرة مسبوقة بنفي أو نهي ، فهي وإن قيل بها في مثل قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)(٢) إلا أن الظاهر رجوعها فيه للتبعيضية ، وأن المراد الأمر بتبعيض النظر. إما بلحاظ المنظور ، لأن المنهي عنه هو النظر لبعض الأمور ، كالأجنبية ، أو بلحاظ المرتبة

__________________

(١) سورة الشورى الآية : ٤٥.

(٢) سورة النور الآية : ٣٠.

٣٥١

في مقابل الإشباع وملء العين بالمنظور ، كما لعله الأقرب.

وكيف كان فزيادتها في الآية بعيدة ، وفي الحديث أبعد ، لأن «أتى» لا تتعدى للمأتي به بنفسها. ومن ثم يتعين كونها في الحديث للتبعيض. ويتعين دفع الاستدلال بما سبق ، من كون التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية.

وأما الحديث الثاني فالوجه في قصور دلالته أن عدم سقوط الميسور بالمعسور يمكن بدوا أن يحمل على أحد أمرين الأول : بيان قضية تعبدية ، وهي أن تعذر بعض أجزاء المركب الارتباطي لا يوجب سقوط التكليف به رأسا ، بل يبقى التكليف بالميسور منه ، لاختصاص الارتباطية بحال القدرة على الكل ، فيكون شارحا للارتباطية في المركبات الشرعية ، وحاكما على أدلتها ، ودليلا على قاعدة الميسور التي هي محل الكلام.

الثاني : الإرشاد لقضية ارتكازية عقلائية ، وهي أن تعذر بعض مراتب المطلوب الانحلالي لا يوجب سقوطه رأسا ، بل يبقى الميسور من مراتبه مطلوبا ينبغي تحصيله ، ولا يحسن التفريط فيه وإهماله ، فيكون أجنبيا عما نحن فيه ، ولا يشمل المركبات الارتباطية إلا بعد الفراغ عن اختصاص الارتباطية فيها بحال القدرة وقصورها عن حال التعذر.

وحيث لا قرينة على الأول يتعين الحمل على الثاني ، لما سبق عند الكلام في الحديث الأول من أنه إذا دار الأمر بين حمل الكلام على معنى تعبدي وحمله على معنى ارتكازي فالمتعين الثاني.

وأما ما قيل من أن الأصل في بيانات الشارع الأقدس المولوية لا الإرشاد. فهو مختص بما إذا علم المراد من الكلام وشك في صدوره بداعي الإرشاد أو المولوية ، كما لو دار الأمر بينهما في بعض الأوامر والنواهي التي يحتمل صدورها للإرشاد للآثار الوضعية دون المولوية ، وكما قيل في بعض الأوامر

٣٥٢

بالاحتياط في الشبهة البدوية. أما مع تردد الكلام بين معنيين أحدهما تعبدي والآخر ارتكازي قد أنس به الذهن فاللازم الحمل على الثاني وإن لزم منه الإرشاد.

وعلى ذلك يكون الحديث أجنبيا عما نحن فيه ، وواردا في أفعال الخير المفروغ عن كونها انحلالية بلحاظ الميسور من مراتبها الفاقد لبعض الأجزاء أو الخصوصيات الكمالية ، ردعا عما قد يحصل من كثير من الناس ـ بل أكثرهم ـ من التسامح عن الميسور حينئذ والتفريط فيه ، لعدم الاعتداد به ، فمن لا يستطيع إشباع جائع لا يعينه بتمرة ومن لا يستطيع الصلاة التامة من قيام لا يغتنمها بالمراتب الدنيا منها ، معتذرا بالعسر ، غافلا أو متسامحا في اغتنام الميسور.

ومنه يظهر الحال في الحديث الثالث ، إذ بملاحظة ما سبق يتضح لزوم حمله على الإرشاد للقضية الارتكازية المذكورة بعد الفراغ عن انحلال الطلب ، لا على بيان حال التكاليف الشرعية بالمركبات الارتباطية ، لبيان سقوط الارتباطية فيها بالتعذر ، لينفع فيما نحن فيه.

ولذا كان المرتكز إباؤه هو والثاني عن التخصيص ، وعمومهما للمراتب القليلة بعد فرض الانحلالية ، كشق التمرة بالإضافة إلى إشباع الفقير. مع أنه لو كان المراد بهما قاعدة الميسور التي هي محل الكلام فمن الظاهر أنها قاعدة تعبدية قابلة للتخصيص ، بل ثبت تخصيصها في كثير من الموارد. كما أنها مختصة عندهم بما إذا كان الميسور مقدارا معتدا به من المركب.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أنه لا مجال لإثبات عموم قاعدة الميسور من هذه النصوص ، وأنه لا بد من إقامة الدليل عليها في الموارد المتفرقة من دون عموم ينهض بها.

وعلى ذلك لا مجال للكلام في عمومها للمستحبات وللشروط وغير

٣٥٣

ذلك مما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره. نعم المعنى الارتكازي الذي تقدم حمل النصوص عليه لا إجمال فيه ، وهو شامل للأمرين. والله سبحانه وتعالى العالم. ومنه نستمد العون والتسديد.

المبحث الثاني

في دوران التكليف بين التعييني والتخييري

والمراد التخيير الشرعي الراجع إلى أخذ خصوصية كل من أطراف التخيير في المكلف به شرعا ـ كما في الكفارة المخيرة ـ لا التخيير العقلي الراجع إلى التكليف شرعا بالماهية ، والمقتضي لتخيير العقل بين أفرادها ، فإن الكلام فيه قد سبق في المسألة الثانية من المبحث الأول.

ومحل الكلام في المقام ما إذا علم بالتكليف بشيء وشك في أن التكليف به تعييني ، فلا يسقط امتثاله إلا به ، أو تخييري بين أمور هو أحدها ، فيكفي واحد منها في امتثاله ، نظير دوران الأمر في الكفارة بين المخيرة والمرتبة ، لأن ذلك هو المناسب لمبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لاشتراكه معه في وجود القدر المتيقن في مقام الامتثال ، دون بقية صور الدوران بين التعيين والتخيير الآتية في التنبيه الرابع ، فإنها خارجة عن محل الكلام.

كما أن الكلام في المقام يبتني على ما هو المختار في حقيقة الواجب التخييري من أنه عبارة عن التكليف بأحد الأطراف على أن يكون متعلق التكليف كل منهما بخصوصيته بنحو يقتضي التخيير بينهما في مقام العمل والاكتفاء بكل منهما بنحو البدلية ، على ما تقدم توضيحه في مباحث الأمر والنهي.

٣٥٤

إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن المرجع في المقام هو الاحتياط ، لأن التعييني وإن كانت موجبة للضيق ، إلا أنها ليست أمرا وجوديا مجعولا ولو أتتبع ، بل هي منتزعة من عدم جعل العدل ، ومن الظاهر أن جعل العدل محتاج إلى مئونة زائدة لا يقتضيها دليل البراءة ، فكما يكون التخيير محتاجا إلى مئونة العدل في مقام الإثبات ، ولذا كان خلاف إطلاق الأمر ، كذلك هو محتاج إلى مئونة بيان العدل في مقام الثبوت ، ولا مجال مع ذلك لإثباته بأدلة البراءة ، كحديث الرفع ونحوه. بل لو لا ورودها في مقام الامتنان لنهضت برفعه. ومن هنا يتعين العمل على التعيين ، لوجوب إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم في البين.

وفيه : أن احتياج التخيير إلى مئونة بيان العدل في مقام الإثبات ، ولذا كان منفيا بالإطلاق ، لا يستلزم احتياجه إلى مئونة زائدة في مقام الثبوت بنحو لا ينهض به الأصل. للفرق بن المقامين بأن التخيير مبني على نحو من التقييد في الأمر بالإضافة إلى كل من الطرفين بخصوصه ، وهو خلاف ظاهر الإطلاق في مقام الإثبات. أما في مقام الثبوت والجعل فكل من التعيين والتخيير مبني على نحو من الجعل مباين للآخر ، وليسا مشتركين في مقام الجعل في شيء واحد يكفي في التعيين مع تقوّم التخيير بقيد وجودي زائد ، ليكون مبنيا على كلفة زائدة في مقام الثبوت.

على أن احتياج التخيير للكلفة في مقام الجعل والثبوت ـ لم تم ـ لا يمنع من جريان البراءة من التعيين لو فرض كونه مستلزما لزيادة في التكليف ، نظير تقييد التكليف بقيد خاص ، كالوقت ، فإنه لا إشكال في احتياجه إلى زيادة مئونة في مقام الجعل والثبوت ، مع أنه مطابق للأصل ، لأن إطلاق التكليف مستلزم لزيادة فيه يدفعها الأصل.

٣٥٥

ومن هنا فالظاهر ابتناء الكلام في المقام على وجود متيقن في مقام الجعل صالح للتنجيز والموافقة القطعية ـ لينحل به العلم الإجمالي ـ وعدم وجود متيقن بالنحو المذكور.

وقد ادعى بعض مشايخنا وجود المتيقن في البين ، وهو التكليف بأحد الأطراف بعنوانه الانتزاعي ، الذي يقطع بموافقته وامتثاله بأي طرف من الأطراف ، وأن الشك إنما هو في التقييد بالخصوصية ، والمرجع فيه البراءة ، كما هو الحال في الدوران بين التعيين والتخيير العقلي ، الذي يشك معه في أخذ الخصوصية زائدا على العنوان المتيقن التكليف.

أقول : عنوان أحد الأمرين ليس منتزعا من خصوصية فيهما مشتركة بينهما تصلح لأن تكون موردا للتكليف ، بل هو منتزع من نفس الخصوصيتين على ما هو عليه من التباين ، فهو لا يحكي عنهما إلا كذلك ، ولذا لا يكون كل منهما مشتملا على خصوصية زائدة على المطلوب خارجة عنه ، كما هو الحال في مورد التخيير العقلي ، حيث تكون خصوصية كل فرد خارجة عن المطلوب.

ومن ثم ذكرنا في محله أن الوجوب التخييري عبارة عن التكليف بمصداق أحد الأمرين بنحو الترديد والبدلية ، وليس عنوان «أحدهما» إلا حاكيا محضا عنهما. ولذا يشيع استبداله بالعطف ب «أو» التي مفادها معنى حرفي لا يكون موردا للتكليف.

وعليه ليس الفرق بين الوجوب التعيني والتخييري إلا في المتعلق وفي كيفية التعلق ، فالتعيين متعلق بالجامع الصالح للامتثال بالأفراد المتكثرة بنحو يقتضي تحقيق الجامع المذكور على كل حال ، والتخييري متعلق بالأطراف رأسا على ما هي عليه من التباين ، لكن بنحو يقتضي الإتيان بأحدها لا غير.

إذا عرفت هذا ظهر أنه لا مجال لدعوى وجود المتيقن في المقام ، وهو

٣٥٦

التكليف بالجامع الذي هو عنوان أحد الأمرين ، إذ لا معنى لتعلقه به مع فرض التعيين ، لعدم كون الخصوصية قيدا زائدا في العنوان المذكور ، بل هي بنفسها مورد للتكليف التعييني.

كما أن الجامع المذكور ليس منتزعا من أمر في الخصوصية يجب ضمنا بتبع وجوبها ، ليدعى وجوبه على كل حال في مورد التردد بين التعيين والتخيير ، بل لا يؤخذ الجامع المذكور إلا في مقام الحكاية عن كلتا الخصوصيتين اللتين هما موضوع التكليف التخييري ، بل لا يحتاج إليه في الغالب ، لإمكان الإشارة للخصوصيتين بوجه آخر ، كالعطف ب «أو».

وبالجملة : لا مجال لدعوى وجود متيقن في مقام الجعل صالح للموافقة القطعية ، لينحل به العلم الإجمالي المفروض ، ويتجه الرجوع للبراءة من الزائد الذي يقتضيه التعيين. ومن هنا كان الرجوع للبراءة في غاية الإشكال ، بل مقتضى العلم الإجمالي المذكور هو الاحتياط بالاقتصار على الطرف الذي يعلم بالتكليف به تعيينا أو تخييرا ، لإحراز الامتثال. والله سبحانه وتعالى العالم بحقيقة الحال ، وهو ولي العصمة والسداد.

بقي في المقام تنبيهات ..

الأول : قد يتعذر المتيقن عند الدوران بين التعيين والتخيير ، كما لو تعذر الصيام ودار الأمر بين وجوبه تعيينا فيسقط التكليف بتعذره والتخيير بينه وبين الصدقة فتتعين مع تعذره الصدقة. وحينئذ هل الأصل يقتضي البراءة أو الاحتياط بالإتيان بالعدل كالصدقة في المثال المتقدم؟.

لا يخفى أن في المقام صورتين : الأولى : أن يكون التعذر قبل فعلية التكليف المردد. ولا ينبغي الإشكال في جريان البراءة من التكليف المردد المذكور ، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في حدوث التكليف رأسا.

٣٥٧

إلا أن يحصل علم إجمالي منجز ، كما لو وجب القضاء مثلا بتعذر المكلف به في الوقت ، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب العدل ـ كالصدقة في المثال المذكور ـ في الوقت أو القضاء في خارجه ، وحينئذ يلزم الخروج عنه بالجمع بين الأمرين.

الثانية : أن يكون التعذر بعد فعلية التكليف المردد ، وربما يدعى هنا وجوب الاحتياط بالإتيان بما يحتمل كونه عدلا ، بناء على ما سبق من وجوب الاحتياط عند الدوران بين التعيين والتخيير ، لفرض عدم انحلال العلم الإجمالي وتنجزه ، فيلحقه حكم تعذر البعض المعين من أطراف العلم الإجمالي بالتكليف بعد حصوله الذي تقدم في ذيل التنبيه الرابع من تنبيهات مسألة الدوران بين المتباينين أن العلم الإجمالي فيه لا يسقط عن المنجزية.

وفيه : أنه لا معنى لتنجز احتمال الوجوب التخييري حين العلم بالتكليف ، ليلحقه حكم تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي بعد تنجزه ، لأن مفاد الوجوب التخييري السعة غير القابلة للتنجيز ، بل ليس المنجز إلا احتمال الوجوب التعييني المفروض سقوطه بطروء التعذر. ووجوب ما يحتمل كونه عدلا بعد التعذر محتاج إلى منجز ، وهو مفقود في المقام.

نعم لو فرض علم المكلف قبل طروء التعذر بأن التعذر سوف يطرأ ، تحقق له علم إجمال تدريجي إما بوجوب المبادرة إلى المتيقن قبل تعذره أو بوجوب فعل البدل المحتمل بعد التعذر ، فيلزم الخروج عن العلم الإجمالي المذكور بالمبادرة إليه قبل تعذره ، وفعل البدل بعد تعذره على تقدير عدم المبادرة ، بخلاف ما إذا كان غافلا عن التعذر حتى فاجأه ، حيث لا يحصل له العلم الإجمالي المذكور إلا بعد التعذر ، فلا يصلح للتنجيز ، لخروج أحد طرفيه بالتعذر عن الابتلاء.

٣٥٨

التنبيه الثاني : قد يعلم بوجوب شيء وبسقوطه بفعل شيء آخر ، ويتردد الأمر في ذلك الآخر بين كونه عدلا للواجب ، بأن يكونا واجبين تخييرا ، وكونه مسقطا له مع وجوب ذلك الواجب تعيينا ، نظير الطلاق المسقط لوجوب الإنفاق. ومن الظاهر أنه لا أثر للشك المذكور مع القدرة على ذلك الواجب ، للعلم بوجوبه وإجزائه وإجزاء الآخر عنه على كل حال. وإنما يظهر الأثر عند تعذر ذلك الواجب ، حيث يتعين فعل الآخر لو كان عدلا له مع كون الوجوب تخييريا ، ولا يجب فعله إذا كان مسقطا له مع كون وجوبه تعيينيا ، لعدم وجوب فعل المسقط ، كما تقدم في التنبيه الثالث من تنبيهات مبحث تقسيم الواجب إلى تعييني وتخييري.

ولا ينبغي الإشكال بأن المرجع في ذلك البراءة ، لعدم المنجز لوجوب ذلك المسقط الذي يحتمل كونه عدلا للواجب المتعذر.

هذا وقد يدعى أنه على ذلك يبتني الكلام في مسألة وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة ، لتردد الائتمام بين كونه مستحبا مسقطا للقراءة مع وجوبها تعيينا ، وكونه واجبا مخيرا بينه وبين الصلاة فرادى مع القراءة ، فيجب بتعذرها.

لكن المبنى المذكور يختص بالواجبات الاستقلالية التي يكون تعذرها موجبا لسقوط التكليف بها ، بحيث لا يتحقق الامتثال مع الاقتصار على فعل المسقط ، كالإنفاق بالإضافة للطلاق ، دون مثل القراءة مما يجب ضمنا ، ولا يكون تعذره موجبا لسقوط التكليف بالمركب ، بل يبقى التكليف به ويمتثل بالائتمام ، فإن إسقاط الائتمام للقراءة ـ إما لكونه رافعا لموضوعها ، أو لتنزيل قراءة الإمام منزلة قراءة المأموم ـ لا ينافي كون الصلاة مأموما من أفراد الصلاة الاختيارية التامة الصالحة للامتثال ، بل من أفضلها ، ولذا لا ريب في وجوب الائتمام لو فرض عدم مشروعية صلاة الفرادى من دون قراءة ، أو تعذرت مع القدرة على القراءة.

٣٥٩

ومن هنا كان الظاهر ابتناء المسألة المذكورة على أمر آخر ، وهو أن موضوع مشروعية صلاة الفرادى من دون قراءة إن كان هو مجرد تعذر القراءة لم يجب الائتمام في الفرض ، وإن كان هو تعذر الصلاة الاختيارية التامة تعين وجوب الائتمام ، لأن الصلاة معه من أفراد الصلاة التامة ، بل من أفضلها. والظاهر الأول على تفصيل موكول للفقه.

التنبيه الثالث : قد يعلم بوجوب أمور متعددة ويتردد بين كونه تخييريا ، فيكفي واحد منها ، وكونه تعيينيا فلا بد من الجمع بينها ، كما في موارد تردد الكفارة بين كونها مخيرة وكونها كفارة جمع.

والظاهر هنا جريان البراءة من وجوب الجمع ، لانحلال العلم الإجمالي بالعلم بتكليف واحد مردد بين التعيين والتخيير ، وهذا التكليف صالح للامتثال بفعل أحد الأطراف ، فهو مجز عما هو المعلوم قطعا ، ويشك في وجوب ما زاد عليه ، فيدفع بالأصل. وأدنى تأمل في المرتكزات العقلائية قاض بوضوح ذلك.

التنبيه الرابع : ما تقدم إنما هو في احتمال التخيير في الحكم الواقعي الواحد في مقام الجعل والتشريع ، لقصور الملاك عن اقتضاء كل طرف معينا ، كالتخيير في خصال الكفارة ، لأنه المناسب لمبحث الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وهناك قسمان آخران للتخيير.

الأول : التخيير في الحكم الواقعي ، لكن في مقام الامتثال للتزاحم بين التكليفين ، والدوران بين التعيين والتخيير حينئذ إنما يكون للدوران بين أهمية أحد التكليفين الملزم بتعيين امتثال الأهم وتساويهما المستلزم للتخيير بينهما.

الثاني : التخيير في الحكم الظاهري الراجع للتخيير بين الحجج في مقام التعارض لو تم. والدوران بين التعيين والتخيير فيه إنما يكون للدوران بين رجحان أحد الدليلين المقتضي لحجيته تعيينا وتساويهما المقتضي للتخيير

٣٦٠