الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

بعض الموالي العرفيين. لكن ذلك خارج عن محل الكلام من عدم تنجز احتمال التكليف عقلا ، ولذا يجري ذلك أيضا مع الشك في أصل التكليف أيضا ، مع أن المفروض فيه الرجوع للبراءة.

هذا وربما يستشكل في الرجوع للبراءة بوجوه ..

الأول : دعوى تنجز التكليف الواقعي على ما هو عليه من الحدّ الواقعي المردد بين الأقل والأكثر ، الملزم بإحراز الفراغ عنه بالاحتياط ، وذلك من جهة العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الوجهين ، حيث يتنجز بسببه كل منهما.

لكن الظاهر انحلال العلم الإجمالي في المقام بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ، إما وحده أو في ضمن الأكثر ، والشك في وجوب الزائد من جزء أو شرط.

إن قلت : التكليف الضمني بالأجزاء والشروط ملازم في التنجز للتكليف الاستقلالي بتمام المركب ، كما هو ملازم له في الملاك والجعل والداعوية والامتثال ، فلا يعقل تنجزه بدونه ، وحينئذ لا يمكن في المقام تنجز التكليف بالأقل على كل حال إلا في فرض تنجز الأكثر بتمامه ، الموقوف على منجزية العلم الإجمالي المذكور ، فلا يمكن انحلاله به.

قلت : التكليف الاستقلالي بالمركب متحد مع التكاليف الضمنية بأجزائه وشروطه ، فداعويته عين داعويتها ، وتنجزه عين تنجزها ، لأنها من حدوده ومقوماته ، ولا معنى للتلازم بين منجزيتها ومنجزيته.

ومرجع دعوى الانحلال إلى أن الواصل هو التكليف بالأقل لا غير ، إما لكونه تمام الواجب أو لكونه بعضه. ومرجع اختصاصه بالتنجز ليس إلى التفكيك بين المتلازمين في التنجز ، بل إلى اختصاص تنجز التكليف بحدوده الواصلة التي هي موضوع البيان ، دون الحدود التي لم يتعلق بها البيان ، وهو

٣٢١

عبارة أخرى عما تقدم منا من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في التكاليف الضمنية ، الذي سبق مطابقته للمرتكزات العقلائية.

وإن شئت قلت : بعد ما سبق منا من عدم تنجز التكليف إلا بالمقدار الواصل من حدوده فالأقل منجز على كل حال ، والعلم إما بوجوبه وحده أو في ضمن الأكثر لا يصلح للتنجيز ، لعدم كونه علما بكلفة زائدة على كلفة التكليف المعلوم ، لوضوح كون أحد طرفيه السعة ، ولا يقتضي الإلزام على كل حال ، كما نبه لذلك شيخنا الأستاذ قدس‌سره.

الثاني : أن المنجز وإن كان هو خصوص الأقل ، إلا أن مقتضى لزوم الفراغ عنه هو الإتيان بالأكثر ، لعدم إحراز الفراغ عنه إلا بذلك بعد فرض الارتباطية على تقدير وجوب الأكثر ، لأن سقوط التكليف منوط بتمامية المركب.

نعم لو أحرز كون الأقل تمام الواجب اتجه الاكتفاء به في إحراز الفراغ عنه ، لكن لا مجال لإحراز ذلك بعد كون مفاد قاعدة البراءة مجرد التعذير.

ويندفع بأن اليقين بالفراغ لا يجب في مثل ذلك مما كان فيه الشك في الفراغ ناشئا من الشك في حال المكلف به واحتمال دخل ما لم يصل التكليف به فيه ، وإنما يجب فيما إذا كان الشك في الفراغ مسببا عن الشك في الإتيان بما وصل التكليف به.

وبالجملة : إنما يجب إحراز الفراغ مع وصول التكليف بخصوصياته ، والشك في مطابقة المأتي به لها ، لا مع العلم بالمأتي به والشك في مطابقته للمكلف به ، بسبب إجمال المكلف به.

الثالث : أنه بناء على ما هو المشهور عند العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المكلف به ملازما لغرض للمولى

٣٢٢

مترتب عليه ، وحيث لا يحرز حصول غرضه بالاقتصار على الأقل ـ لفرض الارتباطية ـ يتعين الاحتياط بالأكثر ، لوجوب إحراز غرض المولى.

نعم بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها ، لا في متعلقاتها ـ كما عن بعض العدلية ـ لا يجب الاحتياط لاستيفاء المولى غرضه بنفس التكليف ، وتعلق غرض آخر له بفعل المكلف غير معلوم ، ليجب إحرازه. وكذا بناء على عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أصلا.

وقد يدفع بوجهين :

الأول : إنكار وجوب تحصيل غرض المولى ثبوتا وقصر موضوع الطاعة والمعصية عقلا على خصوص تكليف المولى.

لكنه كما ترى مناف للمرتكزات العقلائية ، حيث لا إشكال عندهم في وجوب موافقة غرض المولى ، إذا بلغ مرتبة التكليف ، وعلم المكلف به ، وإن لم يستتبع فعلية التكليف فعلا لموانع خارجية من خوف أو بعد مانع من توجيه الخطاب. بل ولو مع غفلة المولى عن غرضه لو أمكن ذلك في حقه ـ كما في الموالي العرفيين ـ كما لو تعرض المولى أو ولده أو ماله أو نحوهما للخطر. وقد تقدم التعرض لذلك في ذيل الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية من مقدمة علم الأصول.

الثاني : أنه لا يجب إحراز تحصيل الغرض إلا مع قيام الحجة عليه ، والمفروض أن دليل التكليف في المقام لا يكون حجة إلا على تعلق الغرض بالأقل.

وفيه : أن التكليف إنما يكون حجة على وجود الغرض وتوقف حصوله على الأقل ، لا على تعلق الغرض بالأقل بنحو يعلم بحصوله معه. بل لا يعلم بحصول الغرض ـ المستكشف بالتكليف ـ بعد فرض الارتباطية إلا بالإتيان

٣٢٣

بالأكثر ، لأن الملاك في المقام إنما يترتب على مجموع أجزاء المركب الارتباطي ، فلا يعلم بحصول شيء منه إلا بتمامية المركب.

فلعل الأولى الجواب عن الوجه المذكور بأن تنجز الغرض إنما هو بمقدار وصوله ، فكما كان بيان خصوصيات المكلف به وظيفة المولى ، وبدونه يكون المكلف في سعة منها ، ولا يعتنى باحتمال دخل شيء فيه وإن كان أمرا ارتباطيا ، كذلك بيان ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى ، وليس على المكلف الاهتمام بتحصيل ما يحتمل دخله فيه ، فلو فات الغرض بسبب قصور بيان المولى فالمكلف آمن منه ، كما يأمن مع فوت التكليف لذلك.

هذا ولا يخفى أن منشأ الوجوه الثلاثة المتقدمة للاحتياط هو ملاحظة الارتباطية المفروضة في المقام ، والمستلزمة لوحدة التكليف والغرض ، وإنا وإن أطلنا الكلام فيها وفي دفعها ـ تبعا لمشايخنا العظام «قدس الله تعالى أسرارهم» ـ إلا أننا في غنى عن ذلك. لأن ما سبق آنفا في توجيه جريان البراءة من عدم الفرق في جريانها بين التكليف الضمني والاستقلالي إن تم ارتكازا فهو مستلزم لوهنها ، لأن فرض كون التكليف المشكوك ضمنيا مستلزم لفرض العلم الإجمالي ـ بالصورة المتقدمة في الوجه الأول ـ ولفرض الشك في امتثال التكليف المتيقن ـ بالنحو المتقدم في الوجه الثاني ـ وفي حصول الغرض الذي عليه يبتني الوجه الثالث ، ومرجع التسليم بالبراءة إلى عدم تمامية الوجوه المذكورة ، بنحو يكشف عن خلل في تصويرها إجمالا ، لوضوح أن كبرياتها لما كانت ارتكازية امتنع عمومها للمقام مع التسليم بجريان البراءة ارتكازا.

ولو فرض المنع أو التشكيك في جريان البراءة لم ينفع دفع هذه الوجوه في عدم وجوب الاحتياط والأمان من العقاب بدونه.

٣٢٤

بقي شيء

وهو أنه قد يستثنى مما ذكرنا من جريان البراءة في المقام ما لو كان التردد ناشئا من إجمال عنوان المكلف به ، بنحو لا يعلم بصدقه على الأقل ، لدعوى : أن العلم بالتكليف بالعنوان منجز له ، فيجب إحرازه في مقام الامتثال ، بخلاف ما إذا شك في مقدار المكلف به من دون أن يتنجز بعنوان يخصه أو علم بانطباق العنوان على الأقل واحتمل اعتبار الخصوصية الزائدة عليه من دون إطلاق يدفعه.

لكن تقدم في التمهيد للفصل الثاني في أواخر الكلام في قاعدة الاشتغال أن ذلك إنما يتم فيما إذا كان العنوان حاكيا عن المركب بلحاظ خصوصية زائدة عليه مسببة عنه ـ كعنوان الدواء الصادق على المركب بلحاظ ترتب الشفاء عليه فعلا أو اقتضاء ، وعنوان التطهير الصادق على الغسل بلحاظ ترتب الطهارة عليه ـ أو قائمة به ـ كعنوان الأكبر والمطلوب ـ لرجوع التكليف بالعنوان حينئذ إلى التكليف بمنشإ انتزاعه المفروض عدم الإجمال فيه ، فيتنجز ويجب إحرازه ، نظير موارد الشك في المحصل.

أما إذا كان العنوان حاكيا عن المركب بنفسه ـ كعنوان الصوم الصادق على ترك المفطرات ، لو ترددت بين الأقل والأكثر ، وعنوان «السكنجبين» الصادق على الخل والسكر مع الامتزاج مطلقا أو بشرط الغليان ـ فلا مجال لوجوب الاحتياط فيه ، لأن التكليف بالعنوان راجع للتكليف بمنشإ انتزاعه ، فمع فرض انتزاعه من الأجزاء والشرائط بأنفسها ، وفرض التردد فيها بين الأقل والأكثر ، لا يكون العنوان بيانا إلا على المتيقن منها ـ وهو الأقل ـ ولا يكون منجزا لغيره ، بل المرجع فيه البراءة. فراجع.

٣٢٥

المقام الثاني : في مقتضى الأصل الشرعي

والكلام فيه .. تارة : بناء على المختار من جريان البراءة العقلية. وأخرى : بناء على عدمه ، وأن الأصل الأولي الاحتياط.

أما على الأول فلا مانع من جريان البراءة من التكليف بالمركب المشتمل على الأكثر ، لتحقق موضوع الأصل فيه ، وهو الجهل. ولا يعارض بأصالة البراءة من التكليف بالمركب المشتمل على الأقل ، للعلم بوجوبه على كل حال ـ إما في نفسه أو في ضمن الأكثر ـ المقتضي لتنجزه ولزوم الإتيان به.

وربما يدعى جريان البراءة أيضا بالإضافة إلى خصوص الزائد ، للشك في التكليف به ضمنا ، فيرفع بالأصل. وقد يدفع بانصراف عمومات البراءة للتكليف الاستقلالي ، دون التكليف الضمني ، لعدم كونه في الحقيقة تكليفا مجعولا ، وانحلال التكليف الاستقلالي إليه ليس حقيقيا ، بل هو مجرد تحليل عقلي.

والفرق بينها وبين البراءة العقلية أنها مفاد عموم لفظي عنواني يمكن دعوى الانصراف فيه ، أما البراءة العقلية فهي ارتكازية لبّية واردة في كل مصداق بنفسه ، فلا مانع من دعوى شمولها للمورد بلحاظ الزيادة بنفسها.

والأمر سهل بعد عدم الإشكال في جريان البراءة الشرعية في المقام ، إما بلحاظ الزيادة بنفسها ، أو بلحاظ المركب المشتمل عليها.

هذا وربما يتمسك في المقام باستصحاب عدم وجوب الأكثر ، لأنه حادث مسبوق بالعدم ، كما تقدم نظيره عند الكلام في مقتضى الأصل مع الشك في أصل التكليف. فراجع. وأما الأقل فحيث كان منجزا للعلم بوجوبه على كل حال ـ إما بنفسه أو في ضمن الأكثر ـ فلا أثر لاستصحاب عدم وجوبه استقلالا ، ليعارض الاستصحاب المذكور ، نظير ما تقدم في وجه جريان البراءة الشرعية في المقام.

٣٢٦

بقي شيء

وهو أنه حيث يشك في سقوط التكليف واقعا وامتثاله بالإتيان بالأقل فقد يدعى أن مقتضى استصحاب التكليف على تردده لزوم الإتيان بالأكثر ، لا لإحراز وجوب الأكثر شرعا بذلك ـ لأنه لازم خارجي للمستصحب ، لا يترتب عليه شرعا ، فلا يخرج عن الأصل المثبت ـ بل للزومه عقلا لإحراز الفراغ عن التكليف المستصحب.

والاستصحاب المذكور له نحو حكومة على البراءة العقلية أو الشرعية ، لا من جهة كونه بيانا على ثبوت التكليف بالأكثر رافعا لموضوع الأولى ، وحاكما على الثانية ـ لما ذكرنا من عدم نهوضه بذلك ـ بل لكونه حكما اقتضائيا مقتضيا للعمل ، فيكون مقدما عملا على الحكم الأولي اللااقتضائي الثابت بسبب عدم المقتضي ، فمفاد البراءة عدم لزوم الإتيان بالأكثر لمجرد عدم البيان على ثبوت التكليف به ، والاستصحاب يقتضي الإتيان به لجهة ثانوية ، وهي إحراز الفراغ عن التكليف المستصحب.

وبذلك يكون مقدما أيضا على استصحاب عدم وجوب الأكثر الذي تقدم الاستدلال به للمدعى في المقام ، لأن عدم وجوب الإتيان به لإحراز عدم وجوبه شرعا لا ينافي لزوم الإتيان به عقلا لإحراز الفراغ عن التكليف المستصحب على إجماله وتردده.

لكن الاستصحاب المذكور لا يجري في نفسه أولا : لأنه من استصحاب الفرد المردد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، لأن الأثر ليس لعنوان التكليف بالمردد بين الأقل والأكثر ، بل لواقعه وبما له من حدود واقعية قابلة للطاعة والمعصية ، فالتكليف بالأقل أثره عقلا لزوم الإتيان به وجواز الاقتصار عليه ، والتكليف بالأكثر أثره لزوم الإتيان به وعدم جواز الاقتصار على الأقل ، وبعد

٣٢٧

الإتيان بالأقل يتردد التكليف المستصحب بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، وفي مثله لا يجري الاستصحاب على التحقيق على ما يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث الاستصحاب.

وثانيا : لأن استصحاب التكليف لا يزيد على العلم به ، فكما كان العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر لا يقتضي إلا تنجز الأقل ، فكذلك استصحابه لا يقتضي إلا تنجز الأقل ، وحيث يمتنع تنجزه لفرض الإتيان به ، يمتنع جريان الاستصحاب. فلاحظ.

«وأما على الثاني» : وهو أن مقتضى الأصل العقلي الاحتياط ، فقد سبق ابتناء حكم العقل المذكور على أحد وجوه ثلاثة إما العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ـ بناء على عدم انحلاله بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ـ أو لزوم إحراز الفراغ عن الأقل المنجز على كل حال بالحفاظ على الخصوصية المحتملة التي لا يحرز الفراغ عنه بدونها ، أو لزوم إحراز حصول غرض المولى بفعل ما يتوقف حصوله عليه وهو الأكثر.

وحينئذ من الظاهر أنه على الوجهين الأخيرين لا مجال للتعويل على عمومات البراءة الشرعية في ترك الأكثر ، لأن رفع التكليف بالأكثر من حيثية عدم العلم بالتكليف به وعدم المؤاخذة عليه لأجل ذلك لا ينافي لزوم الإتيان به من أجل لزوم إحراز الفراغ عن التكليف أو الغرض المعلومين ، لأن اللامقتضي لا يزاحم المقتضي ولا يمنع من تأثيره ، بل يتعين العمل على المقتضي.

وأما على الوجه الأول ـ وهو العلم الإجمالي ـ فحيث كان مبنى الاستدلال به على وجوب الاحتياط عدم انحلاله بالعلم بوجوب الأقل على كل حال ، بل لا بد في انحلاله به من العلم بكون الأقل تمام المكلف به ، بحيث يكون التكليف به استقلاليا ، فمن الظاهر عدم نهوض عمومات البراءة بذلك ، بل هي

٣٢٨

لا تنهض إلا بنفي وجوب الأكثر وعدم المؤاخذة عليه من حيثية الشك فيه ، وهو لا ينافي لزوم الإتيان به خروجا عن العلم الإجمالي المفروض كونه منجزا للتكليف على إجماله ، بحيث يلزم إحراز الفراغ عنه كذلك ، ولا يكون إلا بالإتيان بالأكثر.

ومن هنا كان الظاهر أنه لا مجال لجريان البراءة الشرعية في هذا المقام بناء على عدم جريان البراءة العقلية في المقام الأول. بل لا بد في البناء على البراءة الشرعية من البناء عليها في المقامين معا ، كما عرفت أنه ظاهر.

نعم ربما يتمسك باستصحاب عدم جزئية الأمر المشكوك أو عدم شرطيته ، حيث يحرز به كون التكليف واردا على الأقل وحده ، ويرتفع به إجماله بنحو لا مجال معه للعلم المذكور ، كما أنه ينهض بإحراز عدم دخل الأمر المشكوك في الغرض ، وتمامية الغرض بدونه ، بنحو لا مجال معه لشبهة الغرض المتقدمة.

لكنه يندفع بعدم كون الجزئية والشرطية مجعولتين بالأصل ، بل هما منتزعتان من التكليف بالمركب المشتمل على الجزء أو الشرط ، كما تقدم عند الكلام في حقيقة الأحكام الوضعية من مقدمة علم الأصول. وحينئذ لا يجري الاستصحاب إلا في منشأ انتزاعهما ، فيكون مرجع استصحاب عدم جزئية الأمر المشكوك أو شرطيته إلى استصحاب عدم وجوب الأكثر ، وهو لا يحرز كون الأقل تمام الواجب إلا بناء على الأصل المثبت. على أنه معارض باستصحاب عدم وجوب الأقل بحده ، فيتساقطان ، وينحصر الأمر بالأصول المتقدمة.

المسألة الثانية : في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين.

ولا إشكال في أن مقتضى الأصل العقلي هنا الاحتياط ، بناء على أن ذلك مقتضاه في المسألة الأولى ، لاشتراكهما في الجهة المقتضية لذلك ، وهي العلم

٣٢٩

الإجمالي ، أو الشك في الفراغ عن التكليف بالأقل ، أو في حصول الغرض.

أما بناء على أن مقتضاه هناك البراءة ـ كما سبق ـ فقد صرح غير واحد بأنها هنا أيضا ، لنظير الوجه المتقدم هناك ، فإن الخصوصية كلفة زائدة ، والمرجع فيها البراءة عقلا ، بملاك قبح العقاب بلا بيان ، لعدم الفرق فيها بين أصل التكليف وخصوصياته. وما تقدم هناك من دفع شبهة العلم الإجمالي والشك في الامتثال للأقل وفي حصول الغرض ، جار هنا.

وقد خالف في ذلك بعض الأعيان المحققين قدس‌سره فالتزم بالاحتياط ، بدعوى : أن ملاك الدوران بين الأقل والأكثر كون الأقل موجودا في ضمن الأكثر بذاته لا بحدّه ، ولا مجال لذلك في المقام ، لأن الأقل هو الماهية المعراة عن قيد الخصوصية وهي تتحصص إلى حصص متعددة متباينة في ضمن أفرادها المتباينة ، فكل حصة متحققة في ضمن فرد مباينة للحصة المتحققة في ضمن آخر. فالحيوانية في ضمن الإنسان مباينة للحيوانية في ضمن غيره من الأنواع ، والإنسانية المتحققة في ضمن زيد مباينة للإنسانية المتحققة في ضمن غيره من الأفراد.

وعليه لا تكون الماهية المطلقة الجامعة بين الحصص محفوظة في ضمن الخصوصية المحتملة التكليف ، ليمكن دعوى وجوبها على كل حال ، بل المحفوظ في ضمنها هو الحصة الخاصة من الماهية المباينة للحصص الأخرى.

وفيه : أن الماهية المطلقة ليست هي الأقل بذاته ، بل الأقل بحدّه ، ولا ريب في عدم اعتبار حفظها في الأكثر في جميع الأقسام المذكورة في المقام ، حتى في الشك في الجزئية ، وليس المراد بالقدر المتيقن الذي هو مورد التكليف النفسي ـ الأعم من الاستقلالي والضمني ـ إلا الماهية المهملة الصالحة للانطباق على المطلقة والمقيدة ، وهي الأقل بذاته ، وهي موجودة في المقام.

٣٣٠

هذا كله في مقتضى الأصل العقلي في المقام.

وأما مقتضى الأصل الشرعي فالظاهر أنه مطابق لمقتضى الأصل العقلي الأولي ، فإن قيل بالبراءة هناك فالمتعين البراءة هنا ، وإن قيل بالاحتياط هناك فالمتعين الاحتياط هنا ، لعين ما سبق في المسألة الأولى.

وهنا تنبيهات ..

التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية

وقد سبق في أول الكلام في الأصول العملية خروج الشبهة الموضوعية عن الغرض المهم في المقام ، إلا أنه يحسن التعرض لها هنا استطرادا ، لاختصاصها ببعض جهات الكلام.

وحيث كان المعيار في الشبهة الموضوعية هو اشتباه الأمور الخارجية مع تحديد الكبرى الشرعية وعدم الاشتباه فيها ، فالشك في دخل شيء في المكلف به بنحو الشبهة الموضوعية يكون .. تارة : بسبب أخذ عنوان في المكلف به منتزع من جهة زائدة على ذاته احتمل توقفها على ذلك الشيء ، كما لو وجب تهيئة الحطب الذي يغلي به الماء وشك في كميته ، أو وجب تهيئة سكين تصلح للذبح وشك في توقف صلوح السكين له على صقلها.

وأخرى : بسبب كون المكلف به هو العنوان بما له من الأفراد بنحو العموم المجموعي مع احتمال كون ذلك الشيء في جملة تلك الأفراد ، كما لو وجب إكرام كل عالم في البلد وشك في كون زيد منهم.

أما الصورة الأولى فقد تقدم في التمهيد للفصل الثالث عند الكلام في قاعدة الاشتغال أن اللازم فيها الاحتياط ، لصلوح العنوان المذكور لتنجيز منشأ انتزاعه المفروض عدم إجماله ، فيجب إحراز الفراغ عنه ، فهو ملحق بالشك في المحصل حكما وإن اختلفا موضوعا بلزوم كون مورد التكليف في الشك في

٣٣١

المحصل هو المسبب المترتب على فعل المكلف ـ كالتذكية والطهارة ـ وفيما نحن فيه هو نفس فعل المكلف ذي العنوان المنتزع.

وأما الصورة الثانية فالظاهر جريان البراءة فيها ، لأن تحقق العنوان وسعة انطباقه مأخوذان في موضوع التكليف ، لا في المكلف به ، فمرجع التكليف بإكرام علماء البلد إلى التكليف بإكرام الأشخاص إن كانوا من العلماء ، فلا يصلح الجعل الشرعي لفعلية التكليف إلا بضميمة انطباق العنوان ، فالشك في مقدار المعنون مستلزم لإجمال التكليف وتردده بين الأقل والأكثر ، كسائر موارد الدوران بينهما التي سبق أنه لا مجال فيها لتنجز التكليف بحدّه الواقعي ، بل لا يتنجز منه إلا المتيقن وإن كان ارتباطيا.

هذا وقد جعل بعض الأعاظم قدس‌سره من أمثلة الشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم وغيره. بدعوى :

أنه بناء على ما هو الظاهر من مانعية غير المأكول من الصلاة فالمانعية تختلف سعة وضيقا تبعا لكثرة أفراد غير المأكول وقلتها ، ويكون كل منها مانعا برأسه ، لأن الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هو الانحلالية.

فالنهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الأفراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا في الصلاة الواجبة ، فإذا شك في كون اللباس الخاص من غير المأكول فقد شك في مانعيته وأخذ عدمه قيدا في الصلاة ، فيؤول الأمر إلى الدوران بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية الذي هو مجرى البراءة.

وقد وافقه على ذلك في الجملة سيدنا الأعظم قدس‌سره في مبحث اللباس المشكوك من مباحث لباس المصلي من مستمسكه.

وفيه أولا : أن ذلك راجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر الانحلاليين ، لأن

٣٣٢

مانعية كل فرد غير مقيدة بمانعية بقية الأفراد ، فيخرج عن محل الكلام ، وهو الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وثانيا : أن مانعية غير مأكول اللحم من الصلاة غير مجعولة شرعا ، بل هي منتزعة من التكليف بالصلاة المقيدة بعدمه ، فلا بد في مقام الامتثال من إحراز الصلاة المذكورة ـ ولو بالأصل ـ تحقيقا للفراغ اليقيني ، ودليل البراءة لا ينهض بإحرازها. وليس الشك في سعة التكليف ، لعدم الإجمال في حدوده.

وأما ما ذكره من تحقق الشك في سعة المانعية. فهو لا يرجع إلى محصل ، إذ لو أراد بذلك نفس المانعية ، فهي غير مجعولة ، لتكون موردا للأصل. ولو أراد بها تقييد الصلاة بعدم استصحاب غير المأكول ، الذي منه تنتزع المانعية ، فالتقييد المذكور لا إجمال فيه بعد فرض عدم إجمال غير المأكول.

ولو أراد بها النهي عن الصلاة في غير المأكول ـ بدعوى كونه انحلاليا مشكوك الشمول للفرد المشكوك ـ فالنهي المذكور ليس مولويا ـ لا نفسيا ولا غيريا ـ بل هو للإرشاد إلى تقييد الصلاة المأمور بها بعدم استصحاب غير المأكول ، الذي عرفت مقتضى الوظيفة فيه.

وأما النهي الغيري فهو النهي عن استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه تجنبا لمقارنة الصلاة له ، نظير الأمر بالطهارة مقدمة لوقوع الصلاة مقارنة لها. وعدم العلم بالنهي المذكور بالإضافة إلى مشكوك الفردية لعدم إحراز موضوعه لا يكون موردا لأدلة البراءة ، لعدم كونه بنفسه موردا للعمل والتنجيز والتعذير ، بل ليس موضوعها إلا التكليف النفسي ، وهو الأمر بالصلاة المقيدة ، والمفروض تنجزه ، فيلزم إحراز الفراغ عنه. ولذا لا تجري البراءة مع احتمال حصول الشرط ـ كالطهارة ـ قبل ورود الأمر بالمشروط الملازم لاحتمال عدم توجه الأمر الغيري بالشرط.

٣٣٣

ومن ثم لا مجال للخروج عما ذكرنا من لزوم إحراز الفراغ عن التكليف المتيقن بإحراز عدم وقوع الصلاة بأجزاء غير مأكول اللحم ، ولا مجال للرجوع للبراءة في المقام.

نعم قد يتمسك باستصحاب عدم وقوع الصلاة المأتي بها مع أجزاء ما لا يؤكل لحمه. وهو يبتني على استصحاب العدم الأزلي الذي يأتي الكلام فيه في محله من مبحث الاستصحاب.

التنبيه الثاني : في الشك في الركنية

لا يخفى أن عنوان الركن حيث لم يذكر في الأدلة وإنما ذكر في كلمات الفقهاء فلا ينبغي الاهتمام بتحقيق مفهومه ، وأنه ما يبطل العمل بنقصه عمدا فقط أو مطلقا ولو سهوا ، أو ما يعم بطلان العمل بزيادته عمدا فقط أو مع السهو أيضا ، بل ينبغي الكلام في الجهات المذكورة بنفسها ، لأهميتها في مقام العمل.

نعم لا ينبغي إطالة الكلام هنا في النقيصة العمدية ، لأنه وإن أمكن الإجزاء معها ـ كما وقع في بعض فروع الحج ـ إلا أنه لا ريب في كونه مخالفا للأصل ، ومحتاجا للدليل الخاص ، إذ لا منشأ هنا لاحتمال تبدل التكليف ، بل لا إشكال في عدم تبدله وفعلية التكليف بالتام ، ومن الظاهر أن التكليف يدعو لمتعلقه ، ولا يكون امتثاله إلا به.

وأما سقوط التكليف بغير الامتثال ، فهو يحتاج إلى دليل خاص. ومعه لا ريب في الإجزاء ، بمعنى سقوط الإعادة والقضاء ـ الذي هو المهم في المقام ـ وإن لم يتم الامتثال. ومن ثم كان اللازم إيكال ذلك للفقه.

كما لا ينبغي الكلام في الزيادة السهوية ، إذ لا خصوصية لها في البطلان ، بل الزيادة إن لم تخلّ بالمركب ولو مع العمد فهي لا تخلّ به مع السهو ، وإن كانت مخلة به ـ لفرض أخذ عدمها فيه ـ كان الإتيان بها سهوا راجعا إلى الإخلال

٣٣٤

بالشرط سهوا ، فيلحقه حكم النقيصة السهوية.

ومن هنا ينبغي قصر الكلام على مسألتين :

المسألة الأولى» : في الإخلال سهوا ببعض ما يعتبر في المركب

ولا إشكال في إمكان صحة العمل معه بمعنى إجزائه عن الإعادة والقضاء ، كما وقع في كثير من أجزاء الصلاة وشروطها وفي الصوم والحج وغيرها ، وإنما الكلام في مقتضى الأصل الذي يرجع إليه مع الشك وفقد الدليل.

والكلام .. تارة : فيما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل حال النسيان وأخرى : فيما إذا لم يكن له إطلاق بالنحو المذكور.

المقام الأول : فيما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل حال النسيان ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلا بطهور» (١) ، وقوله عليه‌السلام في من لم يقرأ بفاتحة الكتاب : «لا صلاة له إلا أن يقرأ بها» (٢). ولا ينبغي التأمل في لزوم البناء على عدم الاجتزاء بالناقص حينئذ عملا بالإطلاق المذكور.

ودعوى : أن قبح تكليف الناسي ملزم بقصور الإطلاق المذكور عنه.

مدفوعة أولا : بأن قبح تكليف الناسي إنما هو بمعنى قبح مؤاخذته ، كالجاهل ، من دون أن يمتنع فعلية التكليف في حقه وثبوته واقعا ، لأن النسيان من شئون مقام الإثبات المانعة من تنجز التكليف ، كالجهل ، لا من شئون مقام الثبوت المانعة من فعلية التكليف ، كالاضطرار ، ليستلزم قصور الإطلاق المذكور. وما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من عدم القدرة على المنسي غريب ، ضرورة عدم دخل الالتفات في القدرة ، لعدم السنخية بينهما بوجه.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب الوضوء حديث : ١ ، ٦.

(٢) الوسائل ج : ٤ باب : ١ من أبواب القراءة حديث : ١.

٣٣٥

وثانيا : بأنه بعد فرض الارتباطية وإطلاق دليل الجزئية أو الشرطية فنسيان الجزء أو الشرط مستلزم لنسيان المركب التام ـ الذي لا إشكال معه في وجوب التدارك بعد التذكر ـ من دون أن يلزم التكليف بالناقص ، ليجتزأ به في مقام الامتثال.

وأشكل من ذلك ما قد يدعى من قصور الإطلاق عن شمول حال النسيان ، لأن النسيان من الجهات الثانوية المتفرعة على التكليف المتأخرة عنه رتبة ، وأنه لا بد في تعميم الحكم للنسيان أو قصوره عنه من جعل آخر متأخر رتبة عن الجعل الأول متمم له ، كما التزم بعض الأعاظم قدس‌سره بنظير ذلك في تعميم الحكم لحال الجهل به ، وحينئذ فمقتضى الأصل عدم التعميم.

إذ فيه أولا : أن ذلك مبني على توقف الإطلاق على لحاظ القيد ثم التعميم له ، وقد سبق في مبحث المطلق والمقيد المنع من ذلك وأنه يكفي في الإطلاق عدم لحاظ القيد.

وثانيا : أنه مع قصور الإطلاق اللفظي لا مجال للرجوع للأصل النافي للحكم حال النسيان ، بل يتعين الرجوع للإطلاق المقامي للخطاب ، لبناء العرف في تكاليفهم وخطاباتهم على العموم ، واحتياج التقييد بحال الالتفات إلى عناية زائدة وكلفة خاصة. ولذا بنى بعض الأعاظم قدس‌سره على عموم الأحكام لحال الجهل.

وثالثا : أنه لو فرض قصور الإطلاق عن حال النسيان فمقتضى الارتباطية عدم التكليف بالتام حال النسيان ، لا ثبوت التكليف بالناقص ، ليتعين الاجتزاء به في مقام الامتثال ، نظير ما سبق.

ورابعا : أن ذلك إنما يرد في نسيان الجزئية ، دون نسيان الجزء ، حيث لا مانع من التعميم حاله ، لعدم تفرعه على التكليف بالتام ، ولا على جزئية الجزء

٣٣٦

من المركب.

ومثل ذلك دعوى : أن مقتضى حديث الرفع رافعية النسيان للتكليف بالمنسي شرعا ، لحكومته على إطلاقات الأحكام الأولية ، كما هو الحال في الاضطرار.

لاندفاعها أولا : بأن مناسبة كون النسيان من شئون مقام الإثبات تقضي بحمل الرفع فيه على الرفع الظاهري الراجع للتعذير ونفي المؤاخذة من دون أن ينافي ثبوت الحكم واقعا الذي هو مقتضى الإطلاق المفروض ، كما هو الحال في الرفع مع عدم العلم ومع الخطأ ، بخلاف الاضطرار والاستكراه ، اللذين يكون الرفع معهما واقعيا.

وثانيا : بأن مقتضى الارتباطية كون نسيان الجزء راجعا لنسيان المركب بتمامه ، فيرتفع التكليف التام من دون أن يقتضي التكليف بالناقص ، ليتعين الاجتزاء به ، نظير ما تقدم.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من أن مقتضى القاعدة في المقام عدم الاجتزاء بالناقص.

المقام الثاني : فيما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق يشمل حال النسيان. فإن كان لدليل بقية الأجزاء والشرائط إطلاق يشمل حال نسيان ذلك الجزء أو الشرط أو نسيان اعتبارهما في المركب ، فمقتضى الإطلاق المذكور وجوب الناقص حال النسيان ، اقتصارا في تقييد الإطلاق المذكور بالجزء أو الشرط المنسيين على المتيقن وهو حال الذكر. وأما إذا لم يكن لدليل بقية الأجزاء والشرائط إطلاق يشمل حال النسيان المذكور فمقتضى أصالة البراءة عدم وجوب الجزء أو الشرط المنسيين حال النسيان ، والاقتصار في المكلف به على الناقص والاجتزاء به حينئذ.

٣٣٧

اللهم إلا أن يقال : الاختلاف في المكلف به بين حالي الذكر والنسيان وإن كان ممكنا في الجملة ، إلا أنه مناف للتخطئة وللإجماع المدعى على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، والذي لا يفرق فيه بين الجهل والنسيان المتعلقين بالحكم ـ كالجزئية والشرطية ـ والمتعلقين بالموضوع ، بل الظاهر أن عدم ارتفاعه مع الجهل بالموضوع ونسيانه اتفاقي حتى من المصوبة.

وكأن ما ذكره غير واحد ممن تأخر عن شيخنا الأعظم قدس‌سره من إمكان اختلاف التكليف بين الذاكر والناسي مبني على كون النسيان من الجهات الثبوتية الرافعة للتكليف الواقعي ، كالاضطرار ، لا من الجهات الإثباتية كالجهل ، وقد سبق ضعف ذلك.

وحينئذ لا بد من البناء على عموم الجزئية والشرطية لحال النسيان مطلقا حتى لو لم يكن لدليلهما إطلاق ، سواء كان لدليل بقية الأجزاء والشرائط إطلاق أم لم يكن.

ولا ينافي ذلك ما تضمن الاجتزاء بالناقص ، كما في موارد حديث : «لا تعاد ...» (١) وغيره. لأنه أعم من تبدل التكليف ، بحيث يكون المأتي به تمام الواجب ويكون امتثالا تاما ، بل قد يكون مسقطا للتكليف ، لكونه موجبا لتعذر استيفاء الملاك ، أو لتبدله أو نحو ذلك. ولذا كان ذلك ممكنا في النقيصة العمدية التي لا إشكال في عدم تبدل التكليف معها وعدم كون الناقص امتثالا تاما.

وعلى ذلك يتعين البناء على أن مقتضى الأصل عدم الاجتزاء بالناقص مطلقا حتى لو لم يكن لدليل الجزء أو الشرط إطلاق يشمل حال النسيان ، ويحتاج الاجتزاء بالناقص للدليل المخرج عن الأصل المذكور.

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١ من أبواب قواطع الصلاة حديث : ٤.

٣٣٨

المسألة الثانية : في الزيادة

ولا ينبغي التأمل في أصالة البطلان بالزيادة فيما إذا أخذ عدمها شرطا في المركب ، لرجوعه للإخلال بالشرط. وكذا إذا أخذ عدمها شرطا في جزئية الجزء منه ، كما لو اشترطت الوحدة في التسبيح الذي هو جزء من الصلاة ، بحيث يبطل لو تعدد ولا يقع جزءا منها. لرجوع ذلك إلى نقص الجزء.

وأما في غير ذلك فلا بد في قادحية الزيادة من دليل ، وبدونه فالأصل عدمها ، لرجوع الشك فيها إلى الشك في المانعية الذي هو مورد البراءة ، كالشك في الشرطية. بل هو راجع إليه ، لأن مانعية شيء في المركب ترجع إلى اعتبار عدمه فيه.

لكن قد يستدل على مبطلية الزيادة حينئذ بوجهين الأول : ما أشار إليه المحقق في المعتبر ، من أنها تغيير لهيئة العبادة الموظفة ، فتكون مبطلة.

ويندفع بما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنه إن أريد أنها تغيير للهيئة المعتبرة في المركب فالصغرى ممنوعة ، لأن اعتبار الهيئة الخاصة التي تخل بها الزيادة أول الدعوى. وإن أريد أنها تغيير للهيئة المتعارفة فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلا.

الثاني : أن الزيادة التي هي محل الكلام هي التي يؤتى بها بقصد الجزئية ، والإتيان بها حينئذ يبتني على قصد امتثال أمر آخر غير الأمر الشرعي متعلق بالمركب المشتمل على الزيادة المذكورة ، فيبطل العمل من جهة عدم قصد امتثال الأمر الشرعي به.

لكنه ـ مع اختصاصه بما يعتبر فيه قصد الامتثال ، وهو العبادة ـ يندفع بأن قصد الجزئية بالزيادة يكون على أحد وجهين :

الأول : أن يبتني على قصد أمر آخر غير الأمر الشرعي ، تشريعا ، أو جهلا

٣٣٩

ـ كما لو اعتقد وجوب الظهر فصلى أربعا وكان الواجب عليه في الواقع الجمعة ـ أو سهوا ـ كما لو صلى المسافر ثلاث ركعات بنية أمر المغرب غفلة عن أنه قد صلاها وأن الواجب عليه ركعتان للعشاء ـ.

الثاني : أن يبتني على قصد الأمر الشرعي ـ ولو إجمالا ـ مع التصرف فيه تشريعا أو جهلا ـ كما لو أتى بالاستعاذة في الصلاة بنية الوجوب تشريعا أو جهلا ـ أو مع الغفلة عن كونها زيادة ـ للغفلة عن الإتيان بالجزء الواجب ـ أو مع الجهل بذلك ـ كما لو تخيل إمكان تبديل الامتثال ـ فإن المقصود بالامتثال في جميع ذلك ليس إلا الأمر الواقعي ، من دون أن يكون الإتيان بالزيادة منافيا له.

والظاهر أن محل الكلام في المقام هو الثاني دون الأول.

ودعوى : أنه مع التشريع يحرم العمل فيمتنع التقرب به.

مدفوعة بأن التشريع إنما يقتضي حرمة الزيادة التي يؤتى بها بداعي الأمر الضمني التشريعي ، لا حرمة غيرها مما لا دخل للتشريع في الداعوية له ، بل لا يؤتى به إلا بداعي الأمر الواقعي ويكون امتثالا له. ومجرد مقارنته للتشريع في الأمر الواقعي وفرضه على خلاف واقعه لا يقتضي حرمة بقية الأجزاء وامتناع التقرب بها بعد عدم دخله في الداعوية لها. ومن ثم لا مخرج عما ذكرنا من الأصل.

بقي شيء

وهو أنه قد يتمسك لإحراز صحة العمل في المقام وأمثاله من موارد الشك في مبطلية شيء للعمل ـ مع قطع النظر عن الأصل المذكور ـ بوجهين :

الأول : استصحاب صحة العمل. وفيه : أن الصحة ليست مجعولة بنفسها ، لأن مورد التكليف نفس العمل ، والمفروض تردده بين المقيد بعدم ما يشك في مبطليته ـ كالزيادة ـ والمطلق من هذه الجهة. وليست الصحة إلا منتزعة من

٣٤٠