الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

بحدّ لا مجال معه لإنكارها ، كما لا مجال لتخطئتها بعد عمومها للمتدينين ، ومطابقتها لمرتكزات المتشرعة ، حتى ينسب مخالفها للوسواس. بل لو لا ذلك للزم الهرج والمرج واختل نظام المعاش والمعاد.

ولعل دعوى الإجماع مبنية على السيرة المذكورة ، لقلة المتعرضين للعنوان المذكور ، وتأخر عصورهم ، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة. فكأنه إجماع ارتكازي ، لا فتوائي.

هذا وقد يستشكل في الاستدلال بالإجماع المذكور بوجهين «أحدهما» : عدم وضوح كونه إجماعا تعبديا ، لقرب استناده لأحد الوجوه الآتية أو غيرها ، فيلزم النظر في دليله.

ويندفع بأن استناد الإجماع والسيرة والضرورة لأحد الوجوه المذكورة وإن كان قريبا ، إلا أنه لا مجال لاحتمال خطئها ـ بحيث يمكن الخروج عنها لو لم تتم الوجوه الآتية عندنا ـ بعد وضوحها وارتكازيتها ، واتصالها بعصور المعصومين عليهم‌السلام ، لشيوع الحرام في جميع العصور ، بنحو يعلم إجمالا بالتعرض له في الأموال والأعمال ، فلو وجب الاحتياط فيه لورد التنبيه عليه بنحو يمنع من حصول السيرة وارتكازيتها وجري النظام عليها.

«ثانيهما» : أن وجوب الاحتياط مع العلم الإجمالي لما كان عقليا فلا مجال لرفع اليد عنه بالأدلة الشرعية التعبدية ، لفظية كانت أو لبّية كالإجماع.

ويندفع بما سبق في أول الكلام في العلم الإجمالي من إمكان رفع الشارع موضوع حكم العقل المذكور برفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، أو بالتعبد بالامتثال في بعض الأطراف ، أو بالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. والإجماع والسيرة يصلحان لإثبات أحد هذه الأمور في موارد الشبهة غير المحصورة لو فرض عموم حكم العقل بوجوب الاحتياط لها.

٣٠١

نعم لما كان الإجماع والسيرة المذكوران دليلين لبّيين فاللازم الاقتصار على المتيقن من مواردهما ، والرجوع في غيره لمقتضى حكم العقل المتقدم.

وضبط المتيقن من الإجماع والسيرة صعب جدا. فاللازم النظر في بقية الوجوه ، ليكون التحديد تابعا لها ، ولا سيما مع قرب ابتناء الإجماع والسيرة عليها.

الثاني : النصوص الظاهرة في عدم وجوب الاحتياط في موارد العلم الإجمالي ، كصحيح عبد الله بن سنان ، وغيره مما تقدم عند الكلام في حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، حيث ذكرنا هناك لزوم حمله على الشبهة غير المحصورة ، خروجا عن محذور مخالفة العلم الإجمالي المنجز.

نعم لما كان مقتضى إطلاق تلك النصوص عدم وجوب الاحتياط حتى في الشبهة المحصورة ، فمع عدم إمكان الالتزام بذلك ، ولزوم حمله على الشبهة غير المحصورة ، فالظاهر أن ذلك لا يرجع عرفا إلى تقييد الإطلاق المذكور مع عمومه في نفسه ، ليقتصر فيه على المتيقن من موارد الشبهة غير المحصورة ، بل إلى كون المراد به الإشارة إلى ما هو المعهود من الشبهة غير المحصورة ، من دون أن ينهض بتحديدها.

الثالث : ما أشار إليه في الشرائع من التعليل بدفع المشقة. وظاهره إرادة قاعدة نفي الحرج بتقريب : أن التكاليف الواقعية وإن لم تكن حرجية بنفسها ، إلا أنها بسبب الاشتباه في الأطراف الكثيرة تستلزم الحرج بالعرض ، وحينئذ يتعين البناء على سقوطها عن الفعلية ، أو رفع اليد عن الموافقة القطعية ، والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. وقد تقدم في التنبيه السادس أن الثاني هو الأظهر.

ويندفع بأن ذلك أعم من وجه ، لأن الحرج قد يلزم مع الشبهة المحصورة ـ بل مع العلم التفصيلي ـ لخصوصية في مورد التكليف. كما أن الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة قد لا يستلزم الحرج ، لعدم شدة حاجة

٣٠٢

المكلف لأطراف الاشتباه. فلا ينفع ذلك في إثبات المدعى ، وهو عموم عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة.

إن قلت : حيث يلزم من اجتناب الشبهة غير المحصورة الحرج نوعا تعين البناء على عدم وجوب الاجتناب عنها. لا لقاعدة نفي الحرج ، لما هو الظاهر من المراد بها الحرج الفعلي الشخصي ، دون النوعي. بل لما تضمنته بعض النصوص من عدم تضمن الشريعة حكما يستلزم الحرج نوعا ، مثل ما ورد في تعليل عدم وجوب الغسل من البول (١) وغيره.

قلت : المراد من النصوص المذكورة ـ لو استفيد منها العموم ـ عدم تشريع كبرى شرعية مستلزمة للحرج نوعا ، كوجوب الغسل من البول. ولا ينافي ثبوت كبرى انتزاعية يلزم منها الحرج نوعا متفرعة على كبرى أو كبريات شرعية لا يلزم من كل منها الحرج نوعا ، كلزوم أداء الواجبات الأولية على المريض التي هي منتزعة من مجموعة صغريات لكبريات شرعية شاملة للمريض لا يلزم منها الحرج نوعا ، كوجوب الصلاة التامة ، والصوم ، وتطهير المسجد ، وتغسيل الميت ، وغيرها. بل غاية ما يلزم تخصيص الكبريات المذكورة في مورد الحرج الشخصي الفعلي تحكيما لقاعدة نفي الحرج.

ومن الظاهر أن وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ليس مفاد كبرى شرعية ، لتنافي النصوص المشار إليها ، بل هو منتزع من صغريات لكبريات لا يلزم منها الحرج نوعا ، ككبرى حرمة أكل النجس وشربه ، واعتبار الطهارة في الوضوء والصلاة ، وحرمة الغصب وغيرها من الأحكام التي لا تختص بموارد الشبهة غير المحصورة. غايته أن عموم تلك الأحكام لموارد الشبهة غير المحصورة مقتض لحكم العقل بوجوب الاحتياط فيها ، ومنه تنتزع

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٢ من أبواب الجنابة.

٣٠٣

كبرى وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ، وليست هي كبرى شرعية ، لترجع إلى تشريع حكم يلزم منه الحرج نوعا.

الرابع : أن كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال التكليف في كل منها بنحو لا يعتني به العقلاء في مقام العمل ، ولا يصلح للتنجيز بملاك دفع الضرر المحتمل. قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في أحد الإناءين أو واحد من ألفي إناء؟».

وفيه أولا : أن لازمه الاقتصار في جواز ارتكاب أطراف الشبهة غير المحصورة على صورة ضعف احتمال التكليف ، ولا يظهر منهم البناء على ذلك.

وثانيا : أن ذلك إن رجع إلى أن كثرة الأطراف تمنع من منجزية العلم الإجمالي ، بحيث لا يكون بيانا على التكليف ، ويكون العقاب معه عقابا بلا بيان.

فيدفعه أنه لا فرق في منشأ منجزية العلم الذاتية بين كثرة الأطراف وقلتها ، كما يظهر مما تقدم في مبحث منجزية العلم الإجمالي من مباحث القطع.

وإن رجع إلى أن العلم وإن كان بيانا ومنجزا للمعلوم إلا أنه لا يقتضي الاحتياط مع ضعف الاحتمال. فهو مما لا يمكن البناء عليه ، ولذا لا إشكال في عموم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة للأطراف التي يضعف فيها احتمال التكليف. وذلك لعموم وجوب دفع الضرر المحتمل إذا كان مهما ـ كضرر العقاب في المقام ـ لصورة ضعف الاحتمال.

وعدم الاحتياط في مثال السمّ المتقدم ـ لو تم ـ إنما هو لمزاحمة محذور الاحتياط للضرر المعلوم إجمالا ، لما في الاحتياط مع كثرة الأطراف من المشقة

٣٠٤

التي تصلح لمزاحمة الضرر. ولا مجال لذلك في العقاب لأهميته جدا.

على أن تجويز العقل الإقدام على الضرر المحتمل ـ مهما ضعف احتماله ـ لا يقتضي الأمان منه ، كما هو الحال في الأضرار التكوينية في المثال المتقدم ونحوه ، وفي مثل الدوران بين المحذورين بسوء اختيار المكلف ، حيث قد يلزم العقل بلزوم العمل بالظن من دون أن يحكم بالأمان من العقاب مع خطئه.

وحينئذ لا ينفع ذلك في المقام ، لوضوح ابتناء جواز ارتكاب أطراف الشبهة غير المحصورة على الأمان من العقاب لو صادف مخالفة التكليف الواقعي.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وهناك وجوه أخر يظهر ضعفها بالتأمل لا مجال لإطالة الكلام فيها. فلتلحظ في كلماتهم أو في المطولات المستوعبة لها.

وقد ظهر أن التام منها الوجهان الأولان ، وهما الإجماع وبعض النصوص. وحيث سبق عدم نهوضهما بتحديد الشبهة غير المحصورة التي لا يتنجز العلم الإجمالي معها ، فاللازم الرجوع لضوابط عدم تنجيز العلم الإجمالي التي تقدم التعرض لها ، وتطبيقها في المقام.

ومن الظاهر أن كثرة الأطراف وعدم الإحاطة بها تستلزم غالبا ابتلاء العلم الإجمالي بما يسقطه عن المنجزية ، كتعذر بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء بالمعنى المتقدم في التنبيه الرابع ، أو ابتلائه بتكليف تفصيلي يقتضي الاجتناب عنه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، مثل كونه مملوكا لمن لم يأذن بالتصرف فيه. وحينئذ يتجه البناء على عدم منجزية العلم الإجمالي لأجل ذلك ، لا لخصوصية في عدم الانحصار.

وذلك لا ينافي النصوص ، لما سبق من عدم أخذ عدم الانحصار فيها. وأما الإجماع فهو وإن أخذ في معقده عدم الانحصار ، إلا أنه لا يكشف عن

٣٠٥

دخله في عدم المنجزية ، بل يمكن حمله على مجرد مقارنته له ، لأن ذلك هو المتيقن منه. ولا سيما بلحاظ ما سبق من أن العمدة في حجيته ارتكازيته ، وموافقته للسيرة ، وهما لا يقتضيان أكثر من ذلك ، كما يناسب ذلك أيضا اختصاص الأمثلة التي يذكرونها بما ذكرنا.

وينبغي التنبيه على أمرين :

الأول : الظاهر جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة لو تحقق الابتلاء التدريجي بالأطراف من دون أن يعلم به سابقا ، لعدم منجزية العلم الإجمالي عند ارتكاب كل طرف بعد فرض عدم الابتلاء ببقية الأطراف ، ولو لارتكابها سابقا ، أو غيره من موانع منجزية العلم الإجمالي. والعلم بحصول الحرام بعد ارتكاب تمام الأطراف ليس محذورا مع عدم المنجز للتكليف حين الارتكاب.

وهو لا يستلزم طرح دليل التكليف الواقعي ، لأن مخالفة التكليف مع وجود المؤمن ظاهرا لا تكون طرحا له ، كما يظهر مما تقدم في وجه الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وإلا كان العمل على المؤمن الظاهري في غير موارد العلم الإجمالي مستلزما لاحتمال طرح دليل التكليف الواقعي الذي هو ممتنع كالعلم به.

ولا يفرق في ذلك بين العزم من أول الأمر على الإقدام لو صادف الابتلاء بتمام الأطراف وعدمه. وما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من صدق المعصية عند مصادفة الحرام الواقعي مع العزم المذكور. غير ظاهر ، لتوقف المعصية على تنجز التكليف ، والمفروض عدمه.

نعم لو علم بالابتلاء بجميع الأطراف تدريجا كان المورد من صغريات العلم الإجمالي التدريجي الذي سبق منجزيته ، فلا يجوز الإقدام حتى على

٣٠٦

بعض الأطراف.

الثاني : عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة إنما يقتضي عدم وجوب الاحتياط في الأطراف من حيثية العلم المفروض. ولا ينافي وجوبه من حيثية الشك لو كان مجرى لأصل يطابق الاحتياط عملا ، كما في موارد انقلاب الأصل ، أو قاعدة الاشتغال ، أو استصحاب عدم ترتب الأثر ، أو نحوها. لأن سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية لا يقتضي إلغاء الشك ولا يمنع من إعمال أدلة الأصول المذكورة فيه.

فما يظهر من بعض الأعاظم قدس‌سره من التشكيك في ذلك أو الميل إلى إلغاء الشك في غير محله قطعا. إلا أن يكون الشك بمرتبة لا يعتني بها العقلاء ، لكونها ملحقة بالوسواس. لكن ذلك غير لازم في الشبهة غير المحصورة ، ولا منحصر بها.

التنبيه العاشر : في توقف منجزية العلم الإجمالي على تحديد الأطراف بوجه ما

الظاهر توقف منجزية العلم الإجمالي على الالتفات للأطراف وتحديدها بوجه ما ، لتكون موردا للتنجيز ، فإن حدوث الداعي العقلي للعمل متفرع على تحديد موضوعه ، ولا يكفي مجرد العلم بالابتلاء بالحرام والوقوع فيه من دون تحديد للأطراف ، لا قبل العمل ولا حينه ، ليرتدع عنها بحكم العقل.

ومن ثم لا يمنع من عمل المكلف بالأصول الترخيصية العلم بالتعرض للمخالفة الواقعية في يومه أو شهره أو سنته ، خصوصا في الأموال والنجاسة ونحوها مما يكثر فيه مخالفة الأصول الترخيصية للواقع من دون تحديد تفصيلي أو إجمالي لموارد التعرض المذكور. ولو لا ذلك لاختل نظام المعاد والمعاش وقلّت الفائدة في جعل الأصول المذكورة.

٣٠٧

ومنه يظهر الإشكال فيما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من التمثيل للعلم الإجمالي التدريجي بما إذا علم المكلف بأنه يبتلي في يومه أو شهره أو سنته بمعاملة ربوية ، فإنه حيث لم تكن المعاملات المذكورة محددة لم يصلح العلم المذكور لتنجيز التكليف فيها ، بحيث يجب الاحتياط في المعاملات وتركها فرارا من الوقوع في المعاملة الربوية.

نعم احتمال كون المعاملة ربوية بنحو الشبهة الحكمية منجز بنفسه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي المذكور ، لوجوب الفحص عن الأحكام الشرعية بنحو يمنع من جريان الأصول الترخيصية. وكذا احتمال ذلك بنحو الشبهة الموضوعية ، لأصالة عدم ترتب الأثر. إلا أن تكون محكومة لأصل موضوعي يقتضي تصحيح المعاملة ، كأصالة عدم كون العوضين من المكيل والموزون. فتأمل جيدا.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

والحمد لله رب العالمين.

٣٠٨

الفصل الثالث

في الشك في تعيين التكليف مع وحدة المتعلق

وهو مختص بالدوران بين وجوب الشيء وحرمته ، الذي قد يعبر عنه بالدوران بين محذورين.

ويقع الكلام فيه في مقامين :

المقام الأول : في مقتضى الأصل العقلي

لا يخفى أنه حيث يعلم بثبوت التكليف المردد واقعا فالعلم المذكور منجز للتكليف بواقعه ، وذلك يقتضي لزوم الفراغ عنه بالامتثال ، فيلزم الفحص عنه مع إمكانه مقدمة لامتثاله ، من دون فرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية ، لتعذر إحراز الفراغ عنه بدون ذلك.

وأما مع استكمال الفحص عنه أو تعذره فيتعين سقوط العلم المذكور عن المنجزية ، لعدم الأثر له بعد تعذر موافقته ومخالفته القطعيتين ، ولزوم موافقته ومخالفته الاحتماليتين. وأما احتمال كل من التكليفين بخصوصيته مع قطع النظر عن العلم المذكور فهو مجرى للبراءة العقلية ، لأن العقاب على مخالفته بلا بيان.

ودعوى : أنه مع سقوط العلم عن المنجزية يقطع بعدم العقاب ، ومعه لا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. مدفوعة بأن سقوط العلم عن المنجزية إنما يقتضي القطع بعدم العقاب من جهته ، وأما عدم العقاب بلحاظ احتمال كل من التكليفين بخصوصيته فهو كسائر موارد احتمال التكليف من دون منجز له لا مجال للقطع به لو لا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

٣٠٩

هذا وقد تردد في بعض كلماتهم أن المرجع في المقام هو أصالة التخيير. فإن أريد بها إلزام العقل بأحدهما تخييرا ، نظير إلزام الشارع بأحد طرفي الواجب التخييري ، والتخيير بين المتزاحمين ، أشكل بعدم الأثر عملا للإلزام المذكور بعد امتناع خلوّ المكلف عن أحد طرفي التخيير. ومن ثم لا مجال للتخيير في ذلك حتى مع تزاحم التكليفين من دون مرجح ـ الذي لا إشكال في أن مقتضى الأصل فيه التخيير ـ بأن انطبق عنوان واجب أو محرم على كل من الفعل والترك. وإن أريد بها مجرد عدم الحرج من قبل العقل في كل من الفعل والترك ، نظير تخييره مع الإباحة الواقعية فهو راجع إلى ما ذكرناه.

ثم إنه قد يدعى أن مقتضى الأصل العقلي الأولي في المقام هو مراعاة احتمال الحرمة دون الوجوب ، لأن الوجوب ناشئ عن المصلحة والحرمة ناشئة عن المفسدة ، ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

لكنه يشكل ـ مضافا إلى ابتنائه على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، لا مطلقا ولو في نفس الجعل ـ بوجهين :

الأول : أن الوجوب لما كان ناشئا عن المصلحة الملزمة كان فوتها ملازما للمفسدة ، أو لما هو من سنخها. قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «إذ مجرد فوات المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت عليه لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ...».

وعليه يتعين توجيه ما اشتهر من تبعية الأوامر للمصالح والنواهي للمفاسد بأن الواجب ما يكون له دخل في تحقيق المرتبة اللازمة من الكمال أو في حفظها ، والحرام ما له دخل في منع تحقق المرتبة المذكورة ، أو رفعها ، فلو كانت مرتبة من قوة البدن لازمة الحفظ ، فالواجب ما يكون محققا لها أو مبقيا

٣١٠

لها من دواء وغذاء أو غيرهما ، والحرام ما كان مانعا منها أو رافعا لها. وما لا دخل له في المرتبة المذكورة ، بل هو دخيل بأحد النحوين في المرتبة الزائدة عليها يكون مستحبا أو مكروها.

الثاني : أن القاعدة المذكورة لو تمت فهي من القواعد الواقعية في مقام التزاحم بين المصلحة والمفسدة المعلومتين ، وليست من القواعد الظاهرية عند الدوران بين المصلحة والمفسدة ، لتقتضي ترجيح احتمال المفسدة على احتمال المصلحة عملا ، كي تنفع فيما نحن فيه ، لما هو المرتكز من أن منشأ الأولوية أهمية المفسدة من المصلحة ، ومن الظاهر أن أهمية أحد التكليفين إنما تقتضي ترجيحه عند التزاحم ، لا تقديم احتماله على احتمال المهم عند الدوران بينهما.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل الثانوي الشرعي

والظاهر أن مقتضى إطلاق أدلة البراءة الشرعية عدم الحرج من حيثية كل من طرفي الترديد بخصوصيته ، لتحقق موضوعها ـ وهو الشك والجهل ـ بالإضافة إلى كل منهما ، والعلم الإجمالي بثبوت أحدهما لا يكون مانعا من ذلك بعد ما سبق من امتناع منجزيته.

ودعوى : امتناع رفع كلا الحكمين ظاهرا ، لأن إمكانه فرع إمكان وضعهما معا ظاهرا تعيينا أو تخييرا ، وهو ممتنع ، كما سبق. مدفوعة بأن المدعى في المقام رفع كل منهما بتطبيق إطلاق الأدلة عليه بخصوصيته ، فكل تطبيق يقتضي رفع أحدهما وحده ، وهو إنما يتوقف على إمكان وضع ذلك الحكم وحده بإيجاب الاحتياط فيه ، وهو حاصل في المقام. على أنه يكفي في إمكان رفعهما معا إمكان وضع أحدهما بخصوصيته ، لا إمكان وضعهما معا تعيينا أو تخييرا ، لأن نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية ، لا كلية.

٣١١

ولذا لا ريب في جريان البراءة من الحكمين معا لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة ، مع امتناع جعلهما معا أيضا ، ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه إلا بالعلم الإجمالي بثبوت أحدهما ، الذي هو ليس فارقا بعد ما سبق من امتناع منجزيته.

وربما يرجع إلى ما ذكرنا ما قد يقال : من أن مقتضى الأصل الإباحة. أما لو أريد بها ما هو أحد الأحكام الخمسة أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير التكليفية. فلا مجال للبناء عليه ، لامتناع التعبد ظاهرا بما يعلم بعدم ثبوته واقعا ، بل لا بد من احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي.

على أن أدلة البراءة الشرعية لا تنهض بذلك ، لظهور جل أدلتها ـ كحديث الرفع والإطلاق ونحوهما ـ في مجرد السعة ورفع الحرج من حيثية احتمال التكليف ، لا في التعبد بالترخيص ، فضلا عن خصوص الإباحة. وأما مثل : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» فهو ـ مع اختصاصه بالشبهة الموضوعية ، كما تقدم ـ ظاهر في التعبد بالحلّ بالمعنى الأعم الشامل للوجوب في مقابل احتمال الحرمة. ولا ينهض بنفي احتمال الوجوب في المقام إلا بتطبيق آخر على الترك يقتضي التعبد بحليته بالمعنى الأعم أيضا الشامل لوجوب الترك ، وهو راجع إلى ما ذكرنا ، لا إلى البناء على الإباحة بأحد المعنيين المتقدمين.

هذا وأما الرجوع لاستصحاب عدم كل من التكليفين بالتقريب الذي تقدم في آخر أدلة البراءة فالكلام فيه مبني على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة القطعية الذي تقدم الكلام فيه في الفصل الثاني.

وينبغي التنبيه إلى أمور ..

٣١٢

الأول : الكلام المتقدم مبني على جريان البراءة في كل من الاحتمالين في نفسه. ولو فرض عدم جريانها في خصوص أحدهما ، لوجود المنجز المانع من جريانها فلا ريب في لزوم العمل على المنجز فيه ، والرجوع في الاحتمال الثاني للبراءة ، لعموم دليلها ، سواء كان المنجز دليلا اجتهاديا ، أم أصلا إحرازيا ـ كالاستصحاب ـ أو غير إحرازي ، كالاحتياط الواجب عقلا بمقتضى العلم الإجمالي أو شرعا في موارد انقلاب الأصل التي سبقت الإشارة إليها أو غيرها.

ولعله لذا حكي عن ظاهر كلام السيد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط في المقام ، إذ لا يبعد ابتناؤه على ما عليه الأخباريون من دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، دون الوجوبية ، المقتضي للاحتياط في احتمال الحرمة وترجيحه في المقام. ولا يهم الكلام في شمول النصوص المذكورة للمقام بعد ما سبق من عدم نهوضها بإثبات وجوب الاحتياط في الشبهة إذا لم تكن منجزة في نفسها مع قطع النظر عن تلك النصوص.

الثاني : لو احتمل أهمية أحد التكليفين اللذين يتردد الأمر بينهما ، فظاهر المحقق الخراساني قدس‌سره لزوم ترجيحه. وهو غير ظاهر الوجه. وربما يقاس بترجيح محتمل الأهمية في باب التزاحم. لكنه في غير محله ، للفرق بينهما بالعلم هناك بثبوت ملاك محتمل الأهمية ، مع الشك في سقوط الإلزام به بسبب المزاحمة ، لاحتمال عدم كونها عذرا مسقطا له بسبب أهميته ، ومقتضى إطلاق دليله ثبوته ، ولا كذلك الآخر ، فإنه وإن علم بثبوت ملاكه أيضا إلا أنه يعلم بسقوط الإلزام به بسبب المزاحمة ، إما لمرجوحيته أو لتساوي التكليفين في الأهمية. أما هنا فالشك في أصل ثبوت محتمل الأهمية ملاكا وخطابا ، والمرجع فيه البراءة ، كما لو شك فيه بدوا من دون أن يعلم بثبوت أحد التكليفين.

ومنه يظهر أنه لا ملزم بترجيح ما يعلم بأهميته من التكليفين المحتملين ، إذ هو لا يمنع من الرجوع للبراءة منه بعد الشك في أصل ثبوته ، كما لو لم يعلم

٣١٣

بثبوت أحدهما. نعم لو كانت الأهمية بنحو يعلم معه بوجوب الاحتياط وانقلاب الأصل مع الشك اتجه الترجيح بها ، كما تقدم في الأمر الأول.

هذا وأما الترجيح بالظن فهو مبني على نهوضه بالترجيح في مورد انسداد باب العلم ، ومما سبق في دليل الانسداد يظهر عدم نهوضه بذلك مع انسداد باب العلم في معظم الأحكام ، فضلا عن انسداده في حكم واحد ، كما في المقام.

الثالث : لو تعددت الوقائع في محل الكلام ـ من الدوران بين المحذورين ـ فهل يكون التخيير استمراريا وفي كل واقعة ، فيجوز المخالفة بين الوقائع في العمل ، وإن استلزم المخالفة الإجمالية فيها ، أو ابتدائيا وفي خصوص الواقعة الأولى ، مع لزوم مطابقة العمل في بقية الوقائع للعمل فيها ، حذرا من لزوم المخالفة القطعية؟

الظاهر الأول ، كما ذهب إليه جماعة. والعمدة في وجهه : أن التخيير الاستمراري وإن استلزم المخالفة القطعية الإجمالية في بعض الوقائع إلا أنه مستلزم أيضا للموافقة القطعية الإجمالية في بعضها ، أما التخيير الابتدائي فهو يستلزم المخالفة الاحتمالية في الكل من دون موافقة قطعية في شيء منها ، وليس الثاني بأولى من الأول بنظر العقل.

ودعوى : أن تجنب المخالفة القطعية أهم من تحصيل الموافقة القطعية ، ولذا أمكن الردع عن لزوم الموافقة القطعية ـ كما تقدم في أول الفصل الثاني ـ ولم يمكن الردع عن المنع من المخالفة القطعية. مدفوعة بأن امتناع الردع عن المنع من المخالفة القطعية إنما هو لأن مرجع الردع المذكور إلى الردع عن حجية العلم أو عن اقتضاء التكليف للامتثال ، وكلاهما محال. وليس هو ناشئا عن أهمية تجنب المخالفة القطعية من تحصيل الموافقة ، ليتعين ترجيح الأول

٣١٤

عند التزاحم ، بل هما في مرتبة واحدة من الأهمية ، لأن كلا منهما ناشئ عن لزوم متابعة الأمر ومحقق لمرتبة منها ، فمع التزاحم بينهما يتعين التخيير ، كما ذكرنا.

الرابع : لو دار الأمر بين جزئية شيء للمركب ومانعيته منه فهو راجع للدوران بين المحذورين بالإضافة للمركب الخارجي من حيثية صحته وفساده.

لكنه خارج عن محل الكلام ، لعدم حرمة الإتيان بالمركب الفاسد ، بل مرجع الشك في المقام للدوران في المركب الواجب بين الواجد لذلك الشيء والفاقد له ، فيدخل في الدوران بين المتباينين الذي تقدم في الفصل الثاني لزوم الاحتياط فيه بالجمع بينهما. ولو تعذر كان من تعذر بعض أطراف العلم الإجمالي الذي تقدم الكلام فيه هناك أيضا.

والحمد لله رب العالمين.

٣١٥

الفصل الرابع

في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين

أشرنا في أول الكلام في الأصول العملية إلى أن النزاع هنا ليس في حكم هذه المسألة كبرويا ـ كما هو الحال في الفصول السابقة ـ بل هو صغروي راجع إلى النزاع في أن موضوع الكلام هنا من صغريات مسألة الشك في أصل التكليف ، التي عقدنا لها الفصل الأول ، والتي كان التحقيق فيها البراءة ، أو من صغريات مسألة الشك في تعيين التكليف التي عقدنا لها الفصل الثاني ، والتي كان التحقيق فيها وجوب الاحتياط. ومن ثم كان الكلام في المقام مبنيا على الفراغ عن حكم المسألتين المذكورتين.

هذا وينبغي التمهيد للكلام في المقام بذكر أمور ..

الأول : محل الكلام في المقام ما إذا كان التردد بين الأقل والأكثر مع وحدة التكليف تبعا لوحدة الملاك والغرض المستلزم للارتباطية بين ما يعتبر في المكلف به ، فإن ذلك هو منشأ البناء من بعضهم على التردد في المقام بين تكليفين التكليف بالأقل والتكليف بالأكثر من دون متيقن في البين. وأما إذا كان التردد مع تعدد التكليف ، بحيث يكون التكليف بالزائد مستقلا عن التكليف بالأقل جعلا ، تبعا لتعدد الملاك والغرض ، فلا ريب في خروجه عن محل الكلام ، ودخوله في الشك في أصل التكليف ، الذي يكون المرجع فيه البراءة. من دون فرق بين كون الزائد المشكوك مباينا خارجا للمكلف به المتيقن ، كما لو دار الأمر في الدّين بين الدرهم والدرهمين ، وكونه من شئونه ، كما لو احتمل وجوب إيقاع الفريضة جماعة أو في المسجد ، لاحتمال تعلق النذر

٣١٦

بذلك ، لأن التكليف الناشئ من النذر مباين للتكليف بالفريضة.

كما أنه لا بد في محل الكلام من كون التردد بين الأقل والأكثر في نفس المكلف به ، أما إذا كان في سببه فالشك فيه راجع للشك في الامتثال الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال المقتضية للزوم الاحتياط ، على ما تقدم في تمهيد الفصل الثاني عند الكلام في قاعدة الاشتغال.

الثاني : أن احتمال دخل شيء في الواجب يكون .. تارة : مع الدوران بين دخله فيه وعدمه ، من دون أن يحتمل قادحيته فيه ، وأخرى : مع الدوران بين دخله فيه وقادحيته فيه ، الراجعة لاعتبار عدمه فيه ، وثالثة : مع الدوران بين دخله فيه وقادحيته وعدمهما معا. ومحل الكلام في المقام هو الصورة الأولى.

أما الثانية فهي راجعة إلى الدوران بين المتباينين ، للتباين بين الماهية بشرط شيء والماهية بشرط لا ، فيجري فيه ما تقدم في الفصل الثاني من حكم المتباينين. كما أن الكلام في الثالثة يبتني على الكلام في الصورة الأولى ، فإن قيل فيها بوجوب الاحتياط ، لزم الجمع في هذه الصورة بين الواجد للخصوصية والفاقد لها ، وإن قيل بجريان البراءة فيها كانت هي المرجع في هذه الصورة أيضا ، فيجتزأ بكل منهما كما يظهر بالتأمل.

الثالث : حيث تقدم اختصاص محل الكلام بما إذا احتمل اعتبار شيء في الواجب من دون احتمال قادحيته فلازم ذلك وجود المتيقن في مقام الامتثال الذي يقطع بالفراغ على تقدير الإتيان به وإن لم يعلم بالتكليف به ، وذلك بالمحافظة على الأمر المحتمل اعتباره المفروض عدم قادحيته.

ومن الظاهر أن وجود المتيقن في مقام الامتثال كما يكون مع الشك في حال متعلق التكليف لتردده بين واجد الخصوصية وفاقدها ـ كما هو المفروض في محل الكلام ـ كذلك يكون مع الشك في نحو التكليف نفسه بأن يتردد بين

٣١٧

التعييني والتخييري ، كما لو ترددت الكفارة بين المخيرة والمرتبة.

وعمدة كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره ومن بعده في الأول. وربما تعرض بعضهم للثاني استطرادا ، وحيث كان الكلام فيه مهما كان المناسب التعرض له هنا. كما أنه حيث كان مختصا ببعض الفروع والتنبيهات المهمة كان المناسب تخصيص بحث له وفصله عن الأول ،

فيكون الكلام في هذا الفصل في مبحثين :

المبحث الأول

صور الشك في دخل شيء في الواجب

وقد ذكروا له صورا ثلاث ، بلحاظ أن الشيء المشكوك أخذه .. تارة :

يكون جزءا خارجيا متحدا مع الواجب ، كالاستعاذة في الصلاة وأخرى : يكون جزءا ذهنيا منتزعا من خصوصية زائدة على المكلف به خارجة عنه ، كالطمأنينة في الصلاة والإيمان في الرقبة وثالثة : يكون جزءا ذهنيا منتزعا من خصوصية متحدة مع الواجب عقلا ، كما لو تردد الأمر بين الجنس والنوع ، أو الكلي والفرد. ويعبر عن الأول بالشك في الجزئية ، وعن الثاني بالشك في الشرطية أو القيدية ، وعن الثالث بالدوران بين التعيين والتخيير العقليين.

لكن الشك في الجزئية يرجع للشك في الشرطية في الجهة المهمة من محل الكلام ، لأن اعتبار الجزء في المركب الارتباطي يرجع إلى تقييده به لبّا ، كتقييده بالشرط الخارج عنه ، والفاقد للجزء كالفاقد للشرط مباين للواجب خارجا ، لا بعض منه ، وإنما يكون الجزء بعضا من الواجب المركب في ظرف تماميته.

وليس الفرق بينهما إلا في أن الشرط قيد في تمام المركب ، والجزء قيد فيما عداه من أجزائه ، وأن الشرط في ظرف أخذه في المركب خارج عنه ،

٣١٨

بخلاف الجزء ، فإنه داخل فيه متحد معه نحو اتحاد.

لكن لا أثر لذلك في الجهة المبحوث عنها في محل الكلام وإنما الأثر للتقييد الذي هو المعيار في الارتباطية. ومن ثم لا موجب لفصل الكلام في أحدهما عن الكلام في الآخر ، بل المناسب الجمع بينهما في كلام واحد.

ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق في الشرط بين ما إذا كان فعلا للمكلف ، كالطهارة والاستقبال في الصلاة وما إذا كان عرضا قائما بالموضوع ، كالإيمان في الرقبة ، بتقريب : أن الأول حيث كان فعلا خارجيا كان موردا لتكليف زائد يمكن دفعه بالأصل ، بخلاف الثاني.

لاندفاعه بأن المعيار لما كان هو التقييد فهو مشترك بينهما ، ولا أثر معه لكون الأول فعلا خارجيا ، لأن وجوبه ليس نفسيا ، بل هو مقدمي ناشئ من التقييد. على أن الثاني قد يكون موردا للعمل ، كما لو انحصر العبد بمن يمكن هدايته ، فإنه يجب هدايته تحصيلا للقيد المعتبر في الواجب ، وإنما لا يكون موردا للعمل إذا كان خارجا عن اختيار المكلف ، كالبياض في الرقبة.

نعم الشك في أخذ الجزء الذهني المنتزع من الخصوصية المتحدة مع الذات يختص بجهات ينبغي الكلام فيها مستقلا وعلى هذا يقع الكلام في مسألتين :

المسألة الأولى : في الشك في اعتبار شيء في المكلف به جزءا أو شرطا.

قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا. فصرح بعض متأخري المتأخرين بوجوبه. بل ربما يظهر من كلام بعض القدماء ، كالسيد والشيخ. لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم الأخر خلافه. وصريح جماعة إجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط. والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصة المتقدمين منهم والمتأخرين ، كما يظهر من تتبع

٣١٩

كتب القوم ، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخر عنهم. بل الإنصاف أنه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيد والشيخ ، بل الشهيدين قدس‌سرهم».

وهو وإن ذكر ذلك في الشك في الجزئية ، إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين الشك في الشرطية عندهم ، كما قد يظهر منه قدس‌سره ذلك.

وكيف كان فيقع الكلام .. تارة : في مقتضى الأصل العقلي الأولي وأخرى : في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف ، فقد اختلفت كلماتهم في المقامين معا.

المقام الأول : في مقتضى الأصل العقلي

والظاهر حكم العقل بالبراءة في المقام من الزائد المشكوك بملاك قبح العقاب بلا بيان ، الذي تقدم تقريبه في الشك في أصل التكليف. لعدم الفرق في الملاك المذكور بين التكليف الاستقلالي والضمني بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية في باب التعذير والتنجيز المبنيين على المسئولية بالتكليف والعقاب عليه ، الذي هو المهم في المقام والدائر مدار البيان بلا كلام. ولا ريب في ذلك بعد التأمل في المرتكزات العقلائية وفي سيرة أهل الاستدلال الارتكازية ، فإن المرتكز أن خصوصيات المكلف به كأصل التكليف هي المحتاجة للبيان.

نعم لو تعلق الغرض بتحصيل الواقع على ما هو عليه ، زائدا على مقتضى المسئولية التابعة للتنجيز عقلا ، تعين الاحتياط ولو مع عدم البيان الواصل ، كما في موارد الاهتمام بالأثر الوضعي في مثل الأوامر الإرشادية ، أو تنجز التكليف من جهة أخرى ـ كما في مورد التقصير في الفحص ـ أو الاهتمام بتحصيل غرض المولى قياما ببعض حقوقه ، أو مداراة له لدفع شرّه وجوره ، كما في

٣٢٠