الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

كون المعلوم هو التكليف الفعلي الخالي عن المانع ، والمانع الطارئ الذي يحتمل حصوله في الطرف المصادف للتكليف لا يمنع من حدوث التكليف ، لتأخره عنه ، غاية الأمر أنه يحتمل إسقاطه للتكليف ، كما في الصورة الثانية.

إن قلت : يعتبر في منجزية العلم الإجمالي ترتب الأثر عليا لمعلوم حين العلم ، فلو لم يترتب الأثر عليه ولو لاحتمال سقوطه بعد ثبوته لم يصلح العلم لتنجيزه ، كي يجب إحراز الفراغ عنه. وبه يفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية ، حيث كان المفروض في تلك الصورة عدم حدوث المسقط إلا بعد العلم بالتكليف وترتب الأثر عليه.

قلت : لا مجال لاعتبار ذلك في منجزية العلم الإجمالي ، لما سبق من عدم الفرق بينه وبين العلم التفصيلي في المنجزية ، ومن الظاهر أنه يكفي في منجزية العلم التفصيلي العلم بترتب الأثر على المعلوم حين حدوثه. ولذا لو لم يلتفت للتكليف إلا بعد احتمال امتثاله لم يعتن بالاحتمال المذكور ووجب اليقين بالامتثال.

اللهم إلا أن يقال : المتيقن من ذلك ما إذا شك في ارتفاع التكليف لاحتمال الامتثال ، أما مع كون الرافع المحتمل أمرا آخر ـ كالاضطرار ـ فليس المنجز للتكليف مع العلم التفصيلي هو العلم السابق ، بل استصحاب التكليف أو موضوعه أو نحوهما من الأصول ، وقد تقدم في الصورة الثانية عدم جريان الأصل مع حصول المانع في أحد الأطراف ، وأنه لا موجب لمراعاة التكليف إلا تنجزه بالعلم السابق ، والمتيقن من ذلك ما إذا علم بترتب الأثر على العلم حين حصوله ، كما في الصورة الثانية ، بخلاف هذه الصورة.

وكذا الحال فيما إذا كان المانع من منجزية العلم الإجمالي غير مانع من فعلية التكليف ، وهو وجود المتيقن في مقام العمل ، كابتلاء بعض الأطراف

٢٨١

بتكليف آخر. إذ لا أقل من الشك في منجزية العلم الإجمالي للطرف الآخر ، فيتعين حينئذ عدمها. نظير ما تقدم عند الكلام في فرض الشك في مانعية الخروج عن الابتلاء من منجزية العلم الإجمالي. فراجع.

الصورة الرابعة : أن يكون حدوث المانع متقدما على المعلوم بالإجمال أو مقارنا له ، إلا أنه لا يعلم به إلا بعد العلم الإجمالي بالتكليف. كما لو تنجس أحد الطعامين حين الزوال ، وعلم المكلف إجمالا بذلك ، ثم علم بتعذر استعمال أحدهما من قبل الزوال.

وقد سبق أن المانع من منجزية العلم الإجمالي على قسمين الأول :

ما يكون مانعا من فعلية التكليف ، كالاضطرار والتعذر. الثاني : وجود القدر المتيقن في مقام العمل ، كابتلاء أحد الأطراف بتكليف معلوم بالتفصيل من دون أن يمنع من فعلية التكليف المعلوم بالإجمال.

أما الأول فالعلم به في هذه الصورة يستلزم انكشاف الخطأ في مقدمات العلم الإجمالي ، لابتناء العلم المذكور على فعلية التكليف في أي طرف وعلى كل حال ، مع أنه ليس كذلك. وحينئذ يشكل بقاء منجزية العلم الإجمالي بعد ارتفاعه باحتمال مصادفة التكليف المعلوم بالإجمال للطرف الواجد للمانع. ولا مجال لقياسه على ما تقدم في الصورة الثانية بعد عدم استلزام المانع في تلك الصورة لخطأ مقدمات العلم الإجمالي ، بل لارتفاع المعلوم بعد ثبوته من دون خلل في العلم بثبوته.

فالمقام نظير ما لو علم المكلف بملاقاة النجاسة لأحد ماءين كان يعتقد قلتهما ، المستلزم للبناء على نجاسة أحدهما ، ثم انكشف اعتصام أحدهما ، حيث لا يظن بأحد البناء على تنجز احتمال النجاسة في الآخر بسبب العلم السابق الذي ظهر الخطأ في إحدى مقدماته.

٢٨٢

وأما الثاني فالعلم به لا يستلزم انكشاف الخطأ في مقدمات العلم الإجمالي ، كما لا يستلزم ارتفاعه ، وإنما يوجب وجود المتيقن في مقام العمل لا غير.

لكن الظاهر كفاية ذلك في سقوط منجزية العلم الإجمالي ، لأن المتيقن من عدم مسقطيته ما إذا كان متأخرا عن المعلوم بالإجمال وكان العلم به أيضا متأخرا عن العلم ، كما في الصورة الثانية ، ومع الشك في منجزية العلم الإجمالي للطرف الآخر يتعين البناء على عدمها ، نظير ما تقدم في الصورة الثالثة. فلاحظ.

التنبيه الخامس : في انحلال العلم الإجمالي

والمراد به انحلاله حقيقة وسقوطه عن المنجزية بتنجز التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه في خصوص بعض الأطراف.

وبه يفترق عما تقدم في التنبيه الرابع من انحلاله حكما وسقوطه عن المنجزية بتنجز التكليف في بعض أطرافه ، إذ المراد هناك تنجز تكليف آخر مباين للتكليف المعلوم بالإجمال ، لا نفسه.

وحينئذ فتنجز التكليف المعلوم بالإجمال في خصوص بعض الأطراف على نحوين :

الأول : أن يكون بنحو يقتضي تعيين المعلوم بالإجمال فيه وخلوّ الأطراف الأخر عنه ، كما لو علم بتنجيس الدم لثوبين من بين عشرة أثواب ، ثم عثر على الثوبين بالفحص.

ولا ريب في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الأطراف الأخر ، وإن احتمل ابتلاؤها بتكليف آخر غير معلوم بالإجمال مماثل له ، كما لو احتمل تنجسها بدم آخر ، أو مخالف ، كما لو احتمل تنجسها بالبول.

٢٨٣

والوجه في عدم منجزية العلم أنه يرتفع وينحلّ حقيقة ، لرجوع العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة لا مجال لها مع العلم التفصيلي المذكور. وهذا بخلاف ما تقدم في التنبيه الرابع ، فإنه لا يمنع من صدق القضية المنفصلة بالإضافة إلى المعلوم بالإجمال. ولذا تقدم أن الانحلال معه حكمي.

نعم لو كان تعيين المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف بطريق تعبدي غير العلم يحتمل الخطأ ـ كالبينة ـ تعين بقاء العلم الإجمالي حقيقة ، وكان الانحلال تعبديا ، لا حقيقيا ، وكان العمل عليه مقتضى حجية الطريق المفروضة.

هذا وأما احتمال ابتلاء الأطراف بتكليف آخر ، فهو مدفوع بالأصل ، بعد عدم تنجزه بالعلم المفروض.

الثاني : أن لا يقتضي تعيين المعلوم بالإجمال ، لتردد المعلوم بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بنجاسة بعض من عشرة أثواب ، ثم علم بالفحص بثوبين منها ، ولم يعلم أنها تمام المتنجس أو بعضه ، لتردد المتنجس بين الأقل والأكثر.

فإن المعلوم بالإجمال وإن كان هو الأقل ، كما في الوجه الأول ، إلا أنهما يفترقان بأن المعلوم بالإجمال في الأول محدود بحدود خارجية يعلم انطباقها على المعلوم بالتفصيل ، وأما في الثاني فهو مبهم مردد بين الأطراف ، ولذا لو كان النجس في الواقع أربعة كان نسبة كل منها إلى الأقل المعلوم بالإجمال واحدة ، لعدم المرجح ، ولا مجال مع ذلك لإحراز انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل.

نعم هو يشارك الوجه الأول في كون العلم التفصيلي رافعا للعلم الإجمالي حقيقة ، لما سبق من رجوع العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة لا مجال لها بعد العلم التفصيلي. ومن هنا يتعين عدم منجزية احتمال التكليف في بقية

٢٨٤

الأطراف ، لعدم العلم المنجز لها.

وكذا الحال لو كان المنجز للتكليف في بعض الأطراف التفصيلية طريقا معتبرا شرعا وإن كان محتمل الخطأ ، كما لو قامت البينة على نجاسة ثوبين معينين بالدم المذكور من دون أن تنفي تنجس غيرهما به أيضا. فإن الطريق المذكور وإن لم ينهض بتمييز المعلوم بالإجمال ، لفرض احتمال زيادة التكليف المعلوم بالإجمال عما تضمنه ، كما أنه لا يوجب ارتفاع العلم لفرض احتمال خطئه. إلا أنه يصلح لرفع اليد عنه وإلغائه عملا ، والتعبد بقضية حملية تعيينية في خصوص مورد الطريق لا تنافي العلم الإجمالي ، وإهمال الترديد في المعلوم بالإجمال ، كإهمال الشك واحتمال الخطأ في سائر موارد الطرق المعتبرة.

ومثلها في ذلك الأصول التعبدية المنجزة ، كاستصحاب الحرمة والنجاسة ، إذا احتمل مطابقة مؤداها للمعلوم بالإجمال.

بخلاف أصل الاحتياط ، فإنه وإن كان منجزا لاحتمال التكليف في مورده ، إلا أنه لا يتضمن إحراز التكليف فيه ، ليحتمل انطباقه على المعلوم بالإجمال. وينحصر الوجه في سقوط العلم الإجمالي معه عن المنجزية بما تقدم في التنبيه الرابع من سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بوجود القدر المتيقن ـ في مقام العمل ـ في بعض أطرافه ، الموجب لانحلاله حكما ، لا حقيقة.

وعلى ما ذكرنا يبتني انحلال العلم الإجمالي المدعى في كثير من المباحث المتقدمة ، كمبحث العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ، والدليل العقلي على حجية الخبر ، ودليل الانسداد ، والدليل العقلي للأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، على ما أشرنا إليه في بعض تلك المباحث.

٢٨٥

التنبيه السادس : فيما لو اقترن العلم الإجمالي بما يمنع من الموافقة القطعية

اعلم أن طروء ما يوجب الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ..

تارة : بأن يكون العنوان المقتضي للترخيص منطبقا على جميع الأطراف.

وأخرى : بأن يكون منطبقا على بعضها المعين.

وثالثة : بأن يكون منطبقا على الجامع بينها ، المقتضي للتخيير بينها عملا.

والأول يستلزم القطع بعدم التكليف ، كما لو اضطر لارتكاب جميع الأطراف ، ولا موضوع معه للاحتياط ، فيخرج عن موضوع الكلام.

وأما الثاني فهو مستلزم لاحتمال ارتفاع التكليف ، لاحتمال انطباقه على مورد التكليف الإجمالي ، سواء كان الطرف المعين الذي هو مورد الترخيص معلوما للمكلف ، كما لو علم إجمالا بنجاسة الماء أو اللبن فاضطر لاستعمال الماء ، أم لا ، كما لو علم إجمالا بملاقاة أحد الماءين للنجاسة ، وباتصال أحدهما بالمادة.

لكن في الصورة الأولى يبتني عدم وجوب الاحتياط بالإضافة إلى الأطراف الخالية عن المانع على ما تقدم في التنبيه الرابع من أنه لا بد في منجزية العلم الإجمالي من فعلية التكليف المعلوم بالإجمال على كل حال ، وبأن لا يطرأ مانع من فعلية التكليف ، وأنه مع طروء المانع ـ كالاضطرار في المقام ـ فوجوب الاحتياط يختلف باختلاف الصور من حيثية سبق المانع أو العلم به وتأخرهما عن العلم الإجمالي أو المعلوم بالإجمال. فلاحظ.

أما في الصورة الثانية فلا ينبغي التأمل في مانعية الترخيص المذكور من منجزية العلم الإجمالي مع سبق الترخيص أو مقارنته للمعلوم بالإجمال ، لمانعيته من العلم بتحقق التكليف بالإجمال ، وإنما المعلوم هو حدوث المقتضي له لا غير. وأما مع تأخره عنه فمقتضى استصحاب التكليف المعلوم

٢٨٦

بالإجمال عدم ارتفاعه بحدوث سبب الترخيص ، ولازم ذلك تنجز المعلوم بالإجمال وتنجز احتماله في تمام الأطراف.

وأما الثالث فهو المهم في المقام ، كما لو علم إجمالا بحرمة أحد الطعامين ، واضطر المكلف لسد رمقه بأحدهما دون تعيين ، أو كان في تركهما معا ضرر عليه ، ونحو ذلك.

ولا يخفى أن التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه لا ينافي الاضطرار وتجنب الضرر ونحوهما مما يقتضي الترخيص في الجامع ، لوفاء بقية الأطراف بالجامع المذكور ، إلا أنه بعد إجمال مورده ، واقتضاء العلم الإجمالي الموافقة القطعية ، يكون التكليف منافيا للترخيص بالعرض.

فإن أمكن رفع الشارع اليد عن لزوم الموافقة القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ـ كما سبق منا في التمهيد لمباحث الدوران بين المتباينين من هذا الفصل ـ اتجه الاقتصار على ذلك في رفع التنافي بين الحكمين. لظهور أن مقتضى إطلاق دليل التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال ثبوته في مورد العلم الإجمالي المذكور ، ولا ملزم بالخروج عنه من أجل دليل الترخيص المفروض بعد إمكان رفع التنافي بينهما بالتنزل للموافقة الاحتمالية.

أما بناء على امتناع اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية ـ كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره وجماعة ممن تأخر عنه ـ فاللازم استحكام التنافي بين التكليف المعلوم بالإجمال والترخيص المفروض ، لوضوح التنافي بين لزوم اجتناب تمام الأطراف ، تبعا لوجوب اجتناب المعلوم بالإجمال ، والترخيص في ارتكاب أي منها من أجل الطارئ المفروض.

وحيث كان المفروض فعلية الترخيص المذكور ، لزم سقوط التكليف المعلوم بالإجمال عن الفعلية ، وبعد العمل بمقتضى الترخيص في بعض

٢٨٧

الأطراف ، وسدّ الحاجة به ، لا يعلم ثبوت التكليف في الباقي ، لاحتمال سدّ الحاجة بمورد التكليف المعلوم بالإجمال ، وارتفاع موضوع التكليف بذلك.

ولا يبقى إلا احتمال ثبوت التكليف في الباقي الذي هو مدفوع بالأصل. ومن ثم أصرّ المحقق الخراساني قدس‌سره على عدم وجوب الاحتياط في الباقي.

لكن شيخنا الأعظم قدس‌سره مع ذهابه إلى ما عرفت من امتناع تنزل الشارع عن الموافقة القطعية واكتفائه بالموافقة الاحتمالية أصرّ في المقام على لزوم الاحتياط في الباقي بالتقريب المتقدم منا. ونظّر له بجميع الطرق الشرعية المنصوبة لامتثال التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال ، حيث يرجع جعلها إلى القناعة عن الواقع بمؤدياتها ، والاكتفاء في امتثاله بمتابعتها وإن لم يعلم إصابتها له ، من دون أن يرجع جعلها إلى رفع اليد عن الواقع المعلوم إجمالا وإهماله رأسا.

وذلك منه لا يناسب مبناه المذكور جدا. ولا وجه لقياس المقام بالطرق المنصوبة شرعا في مورد العلم الإجمالي. لأن الطرق المذكورة إن كانت ناظرة للمعلوم بالإجمال وواردة بلسان تعيينه كانت موجبة لانحلال العلم الإجمالي تعبدا ، كما سبق في التنبيه الخامس.

وإن لم تكن ناظرة للمعلوم بالإجمال فحيث كانت منجزة لاحتمال التكليف في مؤدياتها كانت مانعة من منجزية العلم الإجمالي وموجبة لانحلاله حكما ، كما سبق في التنبيه الرابع.

ولا مجال لذلك في المقام ، لوضوح عدم نظر دليل الترخيص للمعلوم بالإجمال ، ليوجب انحلال العلم الإجمالي تعبدا ، ولا يكون منجزا لاحتمال التكليف في بعض الأطراف ، ليسقط العلم الإجمالي عن المنجزية ، بل هو مرخص في بعض الأطراف تخييرا ، وذلك مناف لمقتضى العلم الإجمالي

٢٨٨

من لزوم اجتناب تمام الأطراف ، فيجري ما سبق.

نعم تصدي غير واحد لتوجيه وجوب الاحتياط في المقام. والمهم مما ذكروه وجهان :

الأول : أن الاضطرار ونحوه مما يقتضي الترخيص المفروض حيث لا يقتضي الترخيص في جميع الأطراف ، بل الترخيص في بعضها بنحو البدلية ، فهو لا يستلزم ارتفاع التكليف المعلوم بالإجمال رأسا ، بل يقتضي تقييده بما إذا لم يعمل بمقتضى الترخيص في غير مورده من الأطراف ، إذ العمل به فيه يفي برفع الاضطرار ، ومع رفعه لا ملزم برفع التكليف عن مورده.

وحينئذ لو خالف المكلف مقتضى التكليف في جميع الأطراف يعلم بمخالفته للتكليف الفعلي في مورده.

وفيه : أنه لا مجال لاشتراط سقوط التكليف في مورده بعدم مخالفة مقتضى التكليف في بقية الأطراف ، إذ لازمه تحقق العصيان من المكلف لو صادف أن رفع اضطراره بمورد التكليف ، ثم ارتكب بقية الأطراف مع عدم الإشكال في عدم العصيان حينئذ لا بالعمل بمقتضى الترخيص في مورد التكليف ، لأن له رفع اضطراره به ، ولا في بقية الأطراف ، لعدم الموضوع.

فلا بد من البناء على سقوط التكليف بعروض الاضطرار المقتضي للترخيص البدلي ، لمنافاة الترخيص البدلي للتكليف الإجمالي ، للتنافي بينهما عملا بعد فرض لزوم الموافقة القطعية. غاية الأمر أنه لو صادف رفع الاضطرار بغير مورد التكليف الإجمالي ، يتعين رجوع التكليف للفعلية بعد سقوطه ، لعدم المانع.

إلا أنه لا طريق لإحراز ذلك ، بل مقتضى الأصل عدمه.

٢٨٩

الثاني : أن العنوان الموجب للترخيص كالاضطرار لما لم ينطبق على مورد التكليف الإجمالي بخصوصه لم يكن صالحا لرفع التكليف المذكور. ومجرد الاضطرار للجامع بين الأطراف لا يكفي في رفع التكليف عن بعضها بخصوصه بعد عدم كونه مضطرا إليه. ولذا لا يكون الاضطرار بالنحو المذكور رافعا للتكليف مع العلم التفصيلي بمورده. غاية الأمر أن الاضطرار بالنحو المذكور يقتضي جواز رفعه واقعا وظاهرا بأحد الأطراف وإن صادف مورد التكليف ، ومع عدم ارتفاع التكليف الإجمالي يتعين تنجز احتماله في تمام الأطراف ، وذلك ملزم بالاحتياط فيما بقي منها بعد رفع الاضطرار ، كما هو الحال فيما لو تلف بعض الأطراف.

وفيه : أولا : أن ما ذكر ـ من عدم ارتفاع التكليف المعلوم بالإجمال بعد عدم الاضطرار لمورده بخصوصه في محل الكلام ـ وإن كان هو مقتضى الجمود على لسان دليل الاضطرار ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الرفع المشهور : «رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه ... وما اضطروا إليه» (١) وقوله عليه‌السلام : «ليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه» (٢). وكذا الحال في الإكراه.

إلا أنه لا مجال له في مثل دليل العسر والحرج ، لظهوره في عدم جعل الحكم الموجب لهما ولو عرضا بسبب اشتباه مورده المقتضي للاحتياط في تمام أطراف الاشتباه.

وكذا الحال في مثل المزاحمة للتكليف الأهم ، لأن التكليف المهم وإن لم يزاحم الأهم بنفسه في مورد الاشتباه ، إلا أنه بسبب الاشتباه المقتضي للاحتياط

__________________

(١) الوسائل ج : ١١ باب : ٥٦ من أبواب جهاد النفس حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٦ باب : ١٢ من كتاب الأيمان حديث : ١٨.

٢٩٠

يكون مزاحما له بالعرض.

بل لما كان المستفاد من دليل رفع الاضطرار اهتمام الشارع بسدّ ضرورة المكلف ورفع الضيق عنه الناشئ من الاضطرار والإكراه كان الاضطرار والإكراه في المقام رافعين للتكليف وإن لم ينطبق عنوانهما في مورده بخصوصيته. كيف؟! ومن الظاهر أن العسر ليس أهم من الاضطرار والإكراه.

وثانيا : أنه لو تم ما ذكره من عدم رافعية الاضطرار ونحوه للتكليف في المقام ، بسبب عدم انطباق عنوان الرافع على مورد التكليف بخصوصه ، لزم عدم جواز رفع الاضطرار ونحوه بأحد الأطراف تخييرا ، لا واقعا ، ولا ظاهرا ، لامتناع الترخيص ـ الواقعي والظاهري ـ في مخالفة التكليف الواقعي الفعلي. بل لا معنى للترخيص الظاهري بعد كون الاضطرار من الروافع الواقعية ، لا الظاهرية كالجهل.

ودعوى : أن الموجب للترخيص لما كان هو الجهل بمورد التكليف ، ولذا لو علم بمورده تفصيلا تعين رفع الاضطرار بغيره ، تعين كون الترخيص ظاهريا. مدفوعة بأن الجهل بمورد التكليف لا يقتضي الترخيص في مخالفة التكليف ، بل يقتضي الاحتياط بترك تمام الأطراف خروجا عن العلم الإجمالي ، والمقتضي للترخيص هو الاضطرار ، وهو من الروافع الواقعية ، لا الظاهرية ، فإذا فرض عدم نهوضه برفع التكليف بالإجمال تعين عدم تأثير الاضطرار للترخيص ، لما ذكرنا من امتناع الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي.

وأما دعوى : أن ما يختاره المكلف لرفع اضطراره في المقام يكون مصداقا للمضطر إليه ، وإن لم يكن مصداقا له بمجرد اضطراره للجامع ، فلا ترتفع حرمته إلا باختياره. فهي ممنوعة جدا ، لوضوح أنه لا دخل لاختيار المكلف في تعيين موضوع الاضطرار ، كما لا دخل له في رفع التكليف عما

٢٩١

يختار ، بل لا بد من ارتفاع التكليف في رتبة سابقة على الاختيار.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أنه بناء على ما يظهر منهم ، من امتناع ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ، فلا دافع لما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من استلزام الترخيص في المقام لرفع التكليف المعلوم بالإجمال ، ولا منجز لاحتمال التكليف في الطرف الباقي بعد رفع الاضطرار.

نعم لازم ذلك أنه لو دار الأمر بين رفع الاضطرار بأطراف المعلوم بالإجمال ورفعه بما يعلم بحرمته تفصيلا كان المكلف مخيرا بينهما. فلو ابتلى المكلف بطعامين يعلم بحرمة أحدهما إجمالا وبثالث يعلم بحرمته تفصيلا ، واضطر لسدّ رمقه بأحدها كان مخيرا بين أحد الطعامين الأولين والطعام الثالث ، لعدم الفرق بين التكليفين التفصيلي والإجمالي في المنافاة للترخيص الناشئ عن الاضطرار ، المستلزم لرفع أحدهما تخييرا ، كما لو اضطر لأحد طعامين يعلم بحرمتهما معا. ومن الظاهر أن المرتكزات العقلائية تأبى ذلك جدا.

لكنه لا يستلزم تمامية أحد الوجوه المذكورة في كلماتهم ، بل يكشف عن إمكان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ، كما يظهر مما تقدم عند الكلام في قاعدة الاشتغال في أول هذا الفصل.

التنبيه السابع : في العلم الإجمالي التدريجي

لا ريب في منجزية العلم الإجمالي فيما لو كان الابتلاء بأطرافه في زمان واحد ، سواء أمكن مخالفة احتمال التكليف فيها في زمان واحد ، كما لو علم بحرمة لبس أحد الثوبين اللذين يمكن لبسهما في وقت واحد ، أم لا ، كما لو علم الجنب بمسجدية أحد مكانين ، حيث يتعذر المكث فيهما معا في زمان واحد ، لأن فعلية الابتلاء بالأطراف في الزمان الواحد تستلزم العلم بفعلية

٢٩٢

التكليف المعلوم بالإجمال.

وأما لو كان الابتلاء بأطرافه تدريجيا ـ كما لو علم المكلف بأنه قد نذر زيارة الحسين عليه‌السلام في إحدى ليلتين ، أو بحيض زوجته في خمسة أيام من أول الشهر أو آخره ـ فقد وقع الكلام بينهم في منجزية العلم الإجمالي حينئذ. وقد جزم بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس‌سرهما بالمنجزية مطلقا. وربما قيل بالتفصيل ، على ما يتضح إن شاء الله تعالى.

والذي ينبغي أن يقال : حيث تقدم غير مرة أنه لا بد في منجزية العلم الإجمالي من كون المعلوم أمرا يترتب عليه العمل على كل حال بحيث يكون موردا للمسئولية وصالحا للداعوية العقلية ، ليجب عقلا الفراغ عنه بعد تنجزه بالعلم ، فالكلام في المقام يبتني على كون الطرف المتأخر موردا للعمل والمسئولية بالنحو المذكور بعد الفراغ عن كون الطرف المتقدم كذلك.

ولا ينبغي التأمل في ذلك بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية. إذ لا ريب في قبح تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف المتأخر ، بحيث يلزم منه تفويت الملاك الفعلي للتكليف التام الموضوع في وقته. وعليه يبتني ما تقدم في المبحث الثالث من مباحث مقدمة الواجب من لزوم المحافظة على مقدمات المكلف به المفوّتة ، وهي التي لا يمكن تحصيلها بعد دخول وقت الواجب.

نعم لو كانت المنجزية موقوفة على فعلية التكليف ابتنى الكلام في المقام على الكلام في الواجب المشروط والمعلق ، واتجه التفصيل بين ما إذا كان التكليف المتأخر المحتمل من الواجب المعلق الذي يكون التكليف به فعليا قبل حضور وقته ، وما إذا كان من الواجب المشروط الذي لا يكون فعليا قبل حصول شرطه ووقته ، فيتنجز العلم الإجمالي في الأول دون الثاني.

وكأنه إلى ذلك نظر المحقق الخراساني قدس‌سره في وجه التفصيل بين المثالين المتقدمين ، فإنه حيث ذهب إلى إمكان كل من الواجب المعلق والمشروط اتجه

٢٩٣

منه البناء على منجزية العلم الإجمالي في مثال النذر المتقدم ، لظهور أن وجوب الوفاء بالنذر حينئذ يكون فعليا تبعا لفعلية موضوعه ، وهو النذر. كما اتجه منه البناء على عدم منجزية العلم في مثال الحيض المتقدم ، لعدم إحراز فعلية حرمة الوطء بعد عدم إحراز فعلية موضوعها وهو الحيض ، لاحتمال تأخره.

وأما شيخنا الأعظم قدس‌سره فيلزمه البناء على منجزية العلم حتى في المثال الثاني ، لأنه يرى فعلية التكليف في الواجب المشروط قبل شرطه. لكنه استشكل في عموم المنجزية ، واحتمل الفرق بين المثالين. وكيف كان فالظاهر عموم المنجزية وعدم دورانها مدار فعلية التكليف ، كما تقدم.

إن قلت : هذا مناف لما تقدم في التنبيه السابق من أن عدم الابتلاء ببعض الأطراف مانع من منجزية العلم الإجمالي ، حيث لا ريب في خروج الطرف المتأخر عن الابتلاء الفعلي.

قلت : عدم الابتلاء المانع من المنجزية هو الموجب للغوية التكليف وعدم صلوحه لإحداث المسئولية عرفا ، وهو لا يشمل عدم الابتلاء الموقّت ، مع العلم بالابتلاء بالتكليف في وقته ، حيث لا إشكال في كونه منشأ لإحداث المسئولية عرفا وعقلا. ولذا لا يجوز عقلا تعجيز النفس قبل الوقت عن امتثال التكليف في وقته ، ويجب السعي لتحصيل مقدماته المفوتة ، كما سبق.

التنبيه الثامن : في ملاقي بعض الأطراف

تمهيد

لزوم مراعاة احتمال التكليف ..

تارة : يبتني على إحراز موضوعه ، فيحرز تبعا له.

وأخرى : لا يبتني على ذلك ، بل على إحراز التكليف رأسا باستصحاب أو نحوه ، أو على مجرد لزوم الاحتياط شرعا أو عقلا من دون إحراز للتكليف.

٢٩٤

ففي الأول تترتب جميع آثار الموضوع مع إطلاق دليل التعبد به ، كما قد يدعى في البلل المشتبه قبل الاستبراء. حيث قد يظهر من دليله أن وجوب الغسل من البلل مبني على التعبد بكون الخارج بولا أو منيا ، فتترتب جميع آثارهما ، لا خصوص وجوب الغسل الذي تضمنته النصوص. وإلا فمن البعيد جدا وجوب الغسل واقعا مع احتمال عدم الجنابة. وكذا وجوبه ظاهرا من دون تعبد بها ، بل لمجرد الاحتياط. وإلا كان المناسب التنبيه للاحتياط بضم الوضوء له.

وأما في الثاني فلا مجال لترتيب الآثار الأخر ، لعدم إحراز موضوعها.

وعليه يبتني ما لعله المشهور بينهم من عدم البناء على نجاسة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة ، وعدم وجوب الاجتناب عنه ، لأن نجاسة الملاقي من آثار نجاسة ملاقيه ، وهو غير ثابت بالعلم الإجمالي ، وإن وجب اجتنابه احتياطا بحكم العقل ، بل مقتضى أصالة الطهارة ، بل الاستصحاب ، الحكم بطهارة الملاقي.

ومن هنا لا وجه لما في الحدائق ، حيث عجب من حكمهم بعدم نجاسة ملاقي أحد الأطراف مع حكمهم بنجاسة ملاقي البلل المشتبه ، مع أن كلا منهما مشتبه حكم عليه ببعض أحكام النجاسة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه وقع الكلام بينهم في وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد الأطراف التي يعلم بنجاسة بعضها.

ولا ينبغي التأمل في أنه لا مجال لاحتمال البناء على نجاسة الملاقي ، وإن أوهمته بعض كلماتهم. لما هو المعلوم من أن الاجتناب عن الملاقى الذي هو الأصل ليس للبناء على نجاسته ، بل لمجرد الاحتياط ، فكيف يمكن البناء على نجاسة الملاقي المتفرعة عليها؟! وغاية ما يمكن هو دعوى وجوب الاجتناب عنه احتياطا ، كالاجتناب عن ملاقيه.

٢٩٥

هذا وحيث كان الملاقي موضوعا مستقلا مباينا للملاقى فلا بد من تباين حكمهما الوضعي ـ وهو النجاسة ـ فضلا عن حكمهما التكليفي ، وهو وجوب الاجتناب ، المترتب على النجاسة ، والذي هو الموضوع للتنجيز والتعذير ، على ما تقدم في التنبيه الثالث.

ويترتب على ذلك أن تنجز التكليف المحتمل في الملاقى ـ بسبب العلم الإجمالي ـ لا يكفي في تنجز التكليف المحتمل في الملاقي ، لتعدد الموضوع ، بل لا بد في تنجزه من سبب مستقل يخصه.

وأما ما قد يدعى من أن ذلك إنما يتم بناء على أن نجاسة الملاقي مسببة عن نجاسة الملاقى شرعا مع مباينتها لها ، أما بناء على اتحادها معها وأن انفعال الملاقي يبتني على سراية نجاسة الملاقى له وسعتها بنحو تسري فيه ـ نظير سراية الحرارة والبرودة من أحد الجسمين للآخر ـ فيتعين تنجز احتمال النجاسة في الملاقي ، تبعا لتنجز احتمال النجاسة في الملاقى ، لاحتمال سعة النجاسة المعلومة بالإجمال ، نظير ما لو علم إجمالا بتكليف في طرف أو تكليفين في آخر ، أو قسم أحد طرفي العلم الإجمالي قسمين.

فهو كما ترى ، لأن مورد العمل ليس هو النجاسة بل النجس ، بلحاظ أحكامه التكليفية التابعة لنجاسته ، وهو الذي يكون موضوعا للتنجيز ، وليست النجاسة إلا علة لثبوت تلك الأحكام. وحيث كان الملاقي مباينا للملاقى عينا وأحكاما ، تعين عدم تنجزه بتنجز الملاقى ، بل لا بد له من منجز يخصه.

ولا مجال للتنظير له بالمثالين المذكورين ، لأن المنجز بالعلم الإجمالي من أول الأمر في الأول احتمال التكليفين في الطرف المذكور ، وفي الثاني متحد مع كلا القسمين ، من دون أن توجب القسمة احتمال حدوث تكليف جديد.

٢٩٦

ومن هنا فقد يوجّه تنجز احتمال التكليف في الملاقي بأنه طرف للعلم الإجمالي ، كالملاقى ، فإذا علم إجمالا بنجاسة إحدى اليدين ، ولاقى الثوب اليمنى منهما ، فكما يعلم بنجاسة إحدى اليدين يعلم بنجاسة اليد اليسرى أو الثوب ، والعلم الثاني منجز لطرفيه كالأول.

وبتقريب آخر يعلم إجمالا بنجاسة اليد اليسرى أو اليمنى مع الثوب ، والعلم المذكور كما ينجز احتمال النجاسة في اليد اليمنى ينجز احتمالها في الثوب ، لعدم الفرق.

ودعوى : أن العلم الإجمالي المذكور ليس منجزا ، لعدم المعارض للأصل الترخيصي الجاري في الملاقي بعد تساقط الأصول الجارية في الملاقى وطرفه بالمعارضة في رتبة سابقة. ففي المثال المتقدم ، لما كان الأصل المحرز للطهارة في كل من اليدين معارضا للأصل الجاري في الأخرى فالأصل الجاري في الثوب لا يجري في عرضهما ـ ليسقط معهما بالمعارضة ـ بل هو متأخر عن الأصل الجاري في اليد اليمنى ، لكونه مسببيا بالإضافة إليه ، وبعد سقوط الأصل في اليدين معا بالمعارضة يجري الأصل في الثوب بلا معارض.

مدفوعة أولا : بأنها تبتني على أن المانع من جريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي ليس إلا التعارض ، لاستلزامها الترخيص في المخالفة القطعية. وقد تقدم ضعف المبنى المذكور ، وأن المانع لا ينحصر بذلك بل يكفي في المنع منجزية العلم الإجمالي بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، فإن مقتضى ذلك عدم جريان الأصل الترخيصي في أطراف العلم الإجمالي ـ ومنها الملاقي في المقام ـ حتى مع عدم المعارضة. إلا أن يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية بأحد المسقطات المتقدمة.

على أنه تقدم أن ظاهر القائلين بانحصار المانع من جريان الأصول في الأطراف بتعارضها هو سقوط الأصول المترتبة بأجمعها بالمعارضة ، ولا أثر

٢٩٧

للترتب بينها في ذلك. فراجع.

وثانيا : أن مقتضى ذلك عدم جواز ترتيب آثار الطهارة المخالفة للأصل في الملاقي في بعض فروض المسألة ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطعامين ولاقى الثوب أو الماء أحدهما ، إذ بعد سقوط أصالة الطهارة في الطعامين ، كما تجري أصالة الطهارة في الماء والثوب تجري أصالة الحل في الطعامين ، وبعد سقوط الأصول الثلاثة لا مجال لإحراز الطهارة في الثوب ، ليصلى به ، ولا في الماء ليتوضأ به ، بل غايته أن تجري أصالة الحل في الماء ، فيجوز شربه لا غير.

بل لو علم إجمالا بنجاسة أحد ماءين معلوم الطهارة سابقا ومجهول الحالة السابقة ، ولاقى الثاني ثوب مجهول الحالة السابقة ، كان التعارض في المرتبة الأولى بين استصحاب الطهارة في الماء الأول وقاعدتها في الثاني ، وبعد تساقطهما تجري أصالة الطهارة في الماء الأول وأصالة الحل في الماء الثاني وأصالة الطهارة في الثوب ، وبعد تساقطها تجري أصالة الحل في الماء الأول بلا معارض. ولازم ذلك حرمة شرب الماء الثاني ، وعدم جواز الصلاة بالثوب ، وجواز شرب الماء الأول ، وعدم جواز الوضوء به ... إلى غير ذلك مما لا يظن بأحد الالتزام به.

ومن هنا كان الظاهر الرجوع إلى القاعدة المتقدمة في العلوم الإجمالية المتداخلة المقتضية تقديم الأسبق منها ، وتعينه للمنجزية.

وتوضيح ذلك : أن في المقام علوما إجمالية ثلاثة كما تقدم ، الأول : العلم بنجاسة المتلاقيين أو صاحب الملاقى. الثاني : العلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه. الثالث : العلم بنجاسة صاحب الملاقى أو الملاقي. والعلم الأول أوسع أطرافا من العلمين الأخيرين ، وأطرافهما داخلة في أطرافه ، كما أن العلمين الأخيرين يشتركان في طرف واحد وهو صاحب الملاقى.

٢٩٨

فمع عدم المرجح لأحد العلمين الأخيرين في المنجزية يتعين منجزيتهما معا. ومرجع ذلك إلى منجزية الأول في تمام أطرافه ، ولزوم الموافقة فيها بأجمعها.

ومع تعين أحد العلمين الأخيرين للمنجزية ، لمرجح له ، يتعين سقوط الآخر عنها ، لما تقدم في التنبيه الرابع من أن تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر مانع من منجزيته في بقية أطرافه. ومرجع ذلك إلى عدم منجزية العلم الأول الأوسع أطرافا.

إذا عرفت هذا فحدوث النجاسة المعلومة بالإجمال إن كان سابقا على الملاقاة كان العلم الثاني أسبق معلوما ، فيتعين للتنجز ، دون الثالث. لما سبق في أواخر التنبيه الرابع من أن سبق المعلوم مرجح في ذلك المقام.

وإن كان مقارنا للملاقاة ، بحيث تكون النجاسة المحتملة في الملاقي مقارنة للنجاسة المحتملة في الملاقى غير متأخرة عنها زمانا ، فإن كان العلم الثاني ـ وهو العلم بنجاسة الملاقى أو صاحبه ـ أسبق ، بأن لم يعلم بالملاقاة إلا بعد العلم المذكور ، كان العلم المذكور متعينا للتنجيز ، نظير ما تقدم في صورة سبق النجاسة على الملاقاة ، لما سبق في التنبيه الرابع من أن سبق العلم مرجح أيضا.

وإن كان العلم الثالث هو الأسبق ـ بأن علم بنجاسة الملاقي وصاحب الملاقى أولا ، ثم علم أن منشأ احتمال نجاسة الملاقي هو الملاقاة ـ كان هو المتعين للتنجيز. وإن تقارنت العلوم الثلاثة ـ بأن علم بالنجاسة حين العلم بالملاقاة ـ فاللازم منجزية العلوم الثلاثة ، لعدم المرجح بعد عدم السبق في العلم ولا في المعلوم.

نعم لا بد في ذلك كله من ترتب الأثر العملي للنجاسة في الملاقى وصاحبه والملاقي ، كما لو علم بنجاسة أحد ماءين ، ولاقاهما ثوب طاهر. أما لو

٢٩٩

لم يترتب أثر على النجاسة في الملاقى ، أو في صاحبه فلا ينهض العلم الإجمالي بتنجس أحدهما بالمنجزية ، ليقع الكلام في مانعيته من منجزية العلم الآخر الحاصل من الملاقاة لو كان منجزا في نفسه ـ لترتب الأثر على طرفيه ـ بل يتعين منجزية العلم المذكور ، كما لو علم إجمالا بنجاسة الماء أو ظاهر الإناء ، ثم لاقى الثوب ظاهر الإناء ، حيث يتعين حينئذ منجزية العلم بنجاسة الماء أو الثوب.

التنبيه التاسع : في الشبهة غير المحصورة

لا يبعد أن يكون المفهوم من الشبهة غير المحصورة عرفا أن تبلغ كثرة الأطراف حدّا لا يسهل تشخيصها دقة في طرفي القلة والكثرة ، ولا يكفي فيها مجرد التردد بين الأقل والأكثر مع ضبط الطرفين.

نعم تحديدها مفهوما ومصداقا غير مهم ، بعد عدم ورود العنوان المذكور في دليل لفظي ينهض ظهوره بالحجية ، وإنما ورد في كلمات الأصحاب ، بنحو لا يحرز دخله في موضوع الحكم ، ليترتب الأثر على تحديده.

والمهم النظر في أدلة ما هو المعروف من عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، ثم تحديد موضوع الحكم المذكور سعة وضيقا ، تبعا لمفاد تلك الأدلة.

إذا عرفت هذا

فقد استدل على ذلك بأمور ..

الأول : الإجماع. ففي جامع المقاصد : «الظاهر أنه اتفاقي» ، وفي مبحث مكان المصلي من الروض التصريح به ، وعن الوحيد في فوائده : «عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكل ، ولا ريب فيه ، ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار على ذلك» ، وفي الجواهر : «للإجماع بقسميه ، والسيرة المستقيمة». بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.

هذا والسيرة ـ التي أشير إليها في كلام الوحيد والجواهر ـ من الوضوح

٣٠٠