الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

المولى وانتهاك لحرمته وإن لم يكن ثابتا واقعا. نعم إذا ابتنى ذلك على تجاهل طريقية الطرق كبرويا وعدم الإذعان بها كان محرما أيضا ، بلحاظ الرد للحكم الشرعي ، عكس التشريع.

الثاني : كما يقبح التجري ويكون منشأ لاستحقاق العقاب يحسن الانقياد ويكون منشأ لاستحقاق الثواب ، وهو الإقدام على موافقة التكليف المقطوع أو المحتمل مع عدم ثبوته واقعا.

غايته أن استحقاق الثواب معه كاستحقاقه مع الطاعة الحقيقية ـ التي هي عبارة عن موافقة التكليف الثابت ـ ليس بمعنى لزومه على المولى ، نظير لزوم الأجر على الأجير ، لأن ذلك لا يناسب استحقاق المولى للطاعة على العبد ، بل الظاهر تبعا للمرتكزات العقلائية صيرورة المكلف مع الطاعة أو الانقياد أهلا للتفضل عليه من قبل المولى بالثواب ، وليس ثوابه ابتداء تفضل ، كالتفضل على غير المطيع أو على العاصي.

هذا ولا إشكال في لزوم الانقياد ظاهرا مع تنجز التكليف بملاك لزوم الطاعة الحقيقية من شكر المنعم أو دفع الضرر أو غيرهما.

وأما مع عدم تنجزه فهو وإن لم يكن لازما ، إلا أنه حسن بملاك الاحتياط للواقع ، على ما يأتي الكلام فيه في مباحث أصل البراءة إن شاء الله تعالى.

الثالث : أن استحقاق العقاب مع التجري والثواب مع الانقياد عقلا لا يرجع إلى استحقاق العقاب والثواب الموعودين من قبل المولى بعد أن كان موضوع الموعود هو الواقع لا غير ، بل المتعين استحقاقهما في الجملة مع إيكال مقدارهما للمولى الأعظم الواسع الرحمة والمحيط بمقتضى الحكمة.

٢١

الفصل الثالث

في تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

القطع بالإضافة إلى الحكم .. تارة : لا يكون دخيلا فيه ، بل هو متمحض في كونه وصولا لمتعلقه ، مع كون تمام الموضوع للحكم أمرا آخر ، فيترتب الحكم واقعا تبعا لذلك الأمر وإن لم يحصل القطع بالحكم.

وأخرى : يؤخذ في موضوع الحكم فلا يترتب الحكم إلا تبعا له وفي رتبة متأخرة عنه. ويطلق على الأول القطع الطريقي ، وعلى الثاني القطع الموضوعي.

وبذلك يظهر أن القطع الواحد قد يكون طريقيا محضا بالإضافة إلى حكم وموضوعيا بالإضافة إلى آخر ، تبعا لأدلة الأحكام المختلفة.

هذا وينبغي الكلام تبعا للتقسيم المذكور في أمرين :

الأمر الأول : تقدم أن القطع عبارة عن وصول متعلقه للقاطع ، فهو نحو من الإضافة القائمة بين القاطع والأمر المقطوع به متأخر عنهما رتبة تأخر الإضافة عن أطرافها ، فيمتنع أن يكون دخيلا في تحقق متعلقه من حكم أو موضوع. ومن هنا يتعين كون القطع بالإضافة إلى متعلقه طريقيا ، ولا يكون موضوعيا إلا بالإضافة إلى حكم مباين لمتعلقه متأخر عنه وعن متعلقه.

ولازم ذلك امتناع تقييد الحكم بالقطع به ، بل يلزم إطلاق الحكم في مقام الجعل بالإضافة إلى حالتي حصول القطع به وعدمه ، فيعم كلا الحالين ، لأن امتناع التقييد بخصوصية قيد يستلزم الإطلاق بالإضافة إليه ثبوتا ، بل إثباتا أيضا ، ولا يستلزم الإهمال ثبوتا ، ولا الإجمال إثباتا ، ولا يحتاج في التعميم إلى

٢٢

جعل آخر. على ما تقدم توضيحه في المقدمة الأولى من مقدمات الإطلاق.

بل يمتنع اختصاص الحكم بحال القطع به أو ببعض أفراد القطع به لا بتقييده بقيد ملازم للقطع المذكور ، ولا بنتيجة التقييد الراجع إلى قصره على الذات المقارنة للقطع بنفسها ومن دون أخذ قيد فيها ، لأن جعل الحاكم للحكم إن كان بنحو القضية الخارجية لزم سبق علمه بتحقق الموضوع بتمام قيوده على الجعل ، فلو كان قطع المكلف بالحكم ملازما لموضوعه لزم تحققه في رتبة سابقة على جعله ، وهو محال. وإن كان بنحو القضية الحقيقية فمن الظاهر توقف قطع المكلف بالحكم الفعلي على قطعه بتحقق موضوعه ، فإذا كان موضوعه ملازما للقطع به لزم سبق القطع بالحكم على القطع به ، وهو محال أيضا. ومن ثم كان التصويب المنسوب للأشاعرة محالا في نفسه.

نعم يمكن اختصاص الحكم بحال القطع به في الجملة بأحد وجهين :

الأول : أن يكون الحكم المجعول بدوا اقتضائيا ، ويكون القطع به شرطا في فعليته ، فيكون القطع بالإضافة إلى الحكم الاقتضائي طريقيا ، وبالإضافة إلى الحكم الفعلي موضوعيا.

الثاني : أن يكون الحكم المجعول فعليا ثابتا في حالتي القطع وعدمه ، إلا أن الخطأ فيه رافع له لكونه سببا في حدوث ملاك مزاحم للملاك الواقعي مانع من تأثيره. وكلاهما لا يستلزم دخل القطع في متعلقه بوجه. وإلى الثاني يرجع التصويب المنسوب للمعتزلة.

وكيف كان فلا إشكال في أن القطع بالإضافة إلى متعلقه طريقي لا غير ويمتنع أن يكون موضوعيا بالإضافة إليه ، وإنما ذلك بالإضافة إلى غيره ، حيث يكون القطع .. تارة : طريقيا محضا ، لا دخل له في الحكم ثبوتا.

٢٣

وأخرى : يكون موضوعيا لدخله في موضوع الحكم ثبوتا ، بحيث لا يكون الحكم فعليا بدونه. وتشخيص أحد القسمين موكول لدليل الحكم.

وربما يدعى أن القطع في الأحكام العقلية لا يكون إلا موضوعيا ، فحكم العقل بحسن شيء أو قبحه لا يكون إلا بعد العلم والالتفات إليه ، فلا يحكم العقل بقبح التصرف في مال الغير مثلا إلا بعد العلم بكونه مال الغير. لكنه ممنوع ، بل موضوع الحسن والقبح الفعليين قد يكون هو العنوان الواقعي بذاته أو بتبع الملاك المترتب عليه.

نعم الحسن والقبح الفاعليان المستتبعان للمدح والذم حيث كانا تابعين للاختيار الموقوف على الالتفات للداعي نحو الفعل يلزم توقفهما على العلم بموضوع الحسن والقبح الفعلي. وكأن التوهم المذكور ناشئ من الخلط بين الحسن والقبح الفعليين والفاعليين.

الأمر الثاني : ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره : أن القطع الموضوعي .. تارة : يكون مأخوذا بما هو صفة خاصة للقاطع.

وأخرى : يكون مأخوذا بما هو طريق إلى الواقع المقطوع به.

وحيث تقدم أن القطع ليس طريقا للواقع ، بل هو وصول له فلا بد من رجوع التقسيم إلى أنه .. تارة : يستفاد من دليل أخذ القطع في الموضوع أخذه بما هو صفة خاصة ووصول وجداني.

وأخرى : يستفاد منه أخذه بما أنه وصول للواقع مصحح للعمل عليه ، وبه يرتفع التحير والتردد فيه عملا ، من دون أن يؤخذ بخصوصيته.

ومن الظاهر أن مقتضى الأول الاقتصار على القطع وعدم قيام غيره من الطرق والأمارات المعتبرة مقامه ، فضلا عن الأصول ، إلا بدليل خارجي يقتضي مشاركة غيره له في ذلك ، وصرح غير واحد بعدم نهوض أدلة حجية الطرق

٢٤

والأمارات وأدلة اعتبار الأصول بذلك. وهو في محله.

نعم بناء على أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات تنزيلها منزلة العلم يتجه قيامها مقام القطع الطريقي المذكور. لكن لم يلتزم به القائل بذلك. وهو كاشف عن ضعف المبنى المذكور بظاهره. ويأتي الكلام فيه عند التعرض لوجه تقديم الطرق والأدلة على الأصول في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني فقد صرح شيخنا الأعظم قدس‌سره بقيام الطرق والأمارات وبعض الأصول مقامه ، وتبعه جماعة ممن تأخر عنه ، وأنكره المحقق الخراساني قدس‌سره.

وبنوا الكلام في ذلك على الكلام في مفاد أدلة الطرق والأمارات والأصول ، وأنها هل تنهض بإلحاقها بالعلم في ذلك بحيث يكون ثبوت الحكم المذكور في طول ثبوته للعلم وبملاك إلحاقها به أو لا؟ وقد أطالوا الكلام في ذلك بنحو يضيق المقام عن متابعتهم فيه ، لأنه يبتني على الكلام في مفاد الأدلة المذكورة الذي موضعه المناسب مباحث التعارض. وإن كان التحقيق عدم نهوض الأدلة به على ما يأتي هناك إن شاء الله تعالى.

لكن الظاهر عدم ابتناء ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره على تحديد مفاد الأدلة المذكورة. بل الوجه فيه أن مقتضى أخذ القطع بالنحو المذكور في موضوع الحكم أن الموضوع ليس هو القطع بخصوصيته ، بل وصول الواقع في مقابل التردد فيه والتحير ، وأن ذكر القطع لأنه أظهر أنحاء الوصول ، وأجلى أفراده ، ولا إشكال في أن مقتضى أدلة الطرق والأمارات وجملة من الأصول هو التعبد بمؤدياتها ورفع التحير والتردد فيها في مقام العمل ، فتدخل في إطلاق دليل الحكم في عرض دخول القطع ، لاشتراكها معه في الحيثية التي صار بها موضوعا للحكم ، لا في طوله ، وبعناية الإلحاق به ، ليحتاج إلى النظر في وفاء أدلة اعتبارها بذلك. ومن ثم كان ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره متينا جدا.

٢٥

وكأنه قدس‌سره قد نظر إلى ما ذكرنا ، حيث أرسل الدعوى المذكورة إرسال المسلمات من دون أن يشير إلى ابتنائها على تحديد مفاد أدلة الطرق والأمارات والأصول المذكورة ، كما صنع في مواضع أخر.

نعم ما تضمن من الأصول الوظيفة العملية من دون تعبد بالأمر المشكوك ـ كأصالتي البراءة والاحتياط ـ لا يترتب عليه الحكم المذكور ، لعدم مشاركته للقطع في الجهة المذكورة التي هي المعيار في موضوعيته للحكم.

٢٦

الفصل الرابع

في عموم آثار القطع لجميع أفراده وعدمه

لا يخفى أن القطع الموضوعي كسائر الموضوعات المأخوذة في الأحكام تابع في عمومه وخصوصه ثبوتا لعموم جعل الحكم من قبل الحاكم وخصوصه ، وإثباتا لعموم دليل الحكم وخصوصه ، ولا ضابط لذلك ، بل يوكل لنظر الفقيه.

نعم قد يدعى انصراف إطلاق الحكم لو تم عن قطع القطاع ، لا بمعنى من يكثر منه القطع ولو لتهيؤ أسبابه له دون غيره ـ كما هو مقتضى مفاد هيئته لغة ـ بل بمعنى من يخرج في قطعه عن المتعارف ، فيقطع من أسباب غير متعارفة لا ينبغي حصول القطع منها عرفا.

وهو لا يخلو عن وجه بالإضافة للأحكام المتعلقة بغير القاطع ، كحجية شهادته وفتواه ونفوذ حكمه ، لأن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون أخذ القطع من حيثية غلبة الوصول به للواقع وكشفه عنه نوعا ، وهو غير حاصل في القطع المذكور ، فهو نظير اعتبار الضبط في الراوي والشاهد.

وأما في الأحكام المتعلقة بالقاطع نفسه ففي غاية الإشكال ، كما لو أخذ القطع بالضرر موضوعا لوجوب الإفطار ، لأن القاطع دائما يرى أن قطعه في محله ومن سبب ينبغي حصوله منه ، وأن عدم حصوله لغيره من السبب الخاص لقصور فيهم لا في السبب. وبذلك يظهر امتناع التقييد بذلك في دليل خاص ، لأن عنوان المقيد إذا لم يتيسر تشخيصه لمن وظيفته العمل به يلغو التقييد به.

هذا وأما القطع الطريقي فحيث كانت متابعته لازمة لذاته تكوينا لم يفرق

٢٧

فيه بين أفراده ، لعدم الفرق بينها في الجهة المقتضية للمتابعة ، كما يظهر بأدنى تأمل فيها. ولم ينقل الخلاف في ذلك إلا في موردين :

الأول : ما عن كاشف الغطاء من عدم الاعتبار بقطع من خرج عن العادة في قطعه ، كما لا اعتبار بشك كثير الشك وظن كثير الظن. قال في محكي كلامه في مباحث الصلاة : «وكثير الشك عرفا ـ ويعرف بعرض الحال على عادة الناس ـ لا اعتبار بشكه ، وكذلك من خرج عن العادة في قطعه أو ظنه ، فإنه يلغو اعتبارهما في حقه». وظاهره إرادة القطع الطريقي ، لما هو المعلوم من أن القطع في الصلاة لا يكون مأخوذا في موضوع الحكم الواقعي ، كالظن والشك ، وإن افترقا عنه بأخذهما في موضوع الحكم الظاهري دونه ، إذ لا مجال للحكم الظاهري معه.

ولا مجال مع ذلك لاحتمال حمله على القطع الموضوعي ، وإن جعله شيخنا الأعظم قدس‌سره وجها في تعقيب كلامه ، بل هو الذي قربه شيخنا الأستاذ قدس‌سره بدعوى : أن رفعة مقامه تمنع من حمل كلامه على القطع الطريقي. وهو كما ترى خروج عن ظاهر كلامه. والعصمة لأهلها.

الثاني : ما نسب للأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية ، على تفصيل في كلماتهم التي قد تعرض شيخنا الأعظم قدس‌سره لبعضها.

وقد ادعى المحقق الخراساني قدس‌سره أن مرادهم إما المنع من حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية ، أو المنع من الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي. لكن ذلك وإن أمكن في بعض كلماتهم ، يصعب أو يتعذر في الباقي ، لظهوره أو صراحته فيما سبق.

وهو بظاهره ممتنع ، لما تقدم من وجه لزوم متابعة القطع. إلا أن يرجع

٢٨

إلى دعوى أن إمكان الوصول للأحكام النقلية شرط في فعليتها ، أو يكون تعذر الوصول إليها بها مانعا من فعليتها ، حيث يتعين عدم العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية ، لعدم إحراز فعلية الحكم المقطوع. لكنه يحتاج حينئذ إلى دليل.

ومن ثم فقد يستدل عليه بالأخبار الكثيرة ، مثل ما تضمن النهي عن أن يدان الله تعالى بغير السماع منهم عليهم‌السلام كقولهم عليهم‌السلام : «أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا» (١). وما تضمن النهي عن النظر في الدين بالرأي (٢) وقولهم عليهم‌السلام : «أما لو أن رجلا صام نهاره وقام ليله وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله ثواب ولا كان من أهل الإيمان» (٣).

لكن التأمل في الأخبار المذكورة قاض بأنها أجنبية عما نحن فيه ، بل هي واردة لبيان عدم حجية الرأي والقياس ، ووجوب التعبد بأقوالهم عليهم‌السلام وعدم الاستغناء عنهم بذلك ، أو لبيان عدم إيصال الرأي والنظر للحكم الشرعي ، بل يزيد في التيه والضلال ، نظير ما تضمن أن السنة إذا قيست محق الدين ، فيكون التسليم بذلك مانعا عن حصول القطع منه غالبا ، أو لبيان حرمة النظر وإعمال الرأي في الدين ، لما قد يستتبعه من الضلال والخطأ ، فلا يكون الناظر معذورا وإن حصل له القطع من دون أن ينافي لزوم متابعة القطع ، لما سبق من عدم ملازمة عموم متابعة القطع لعموم معذريته ، أو لبيان شرطية الولاية في قبول

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي حديث ٢٥. وفيه أحاديث كثيرة قد يستفاد منها ذلك.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٣. ورواه باختلاف يسير في باب : ٧ من أبواب صفات القاضي حديث : ١١.

٢٩

الأعمال ، وغير ذلك مما يظهر بالتأمل في النصوص على اختلاف ألسنتها.

هذا وقد قرب شيخنا الاستاذ قدس‌سره حمل النصوص المذكورة على اشتراط صحة العمل ـ عبادة كان أو معاملة ـ بأخذه من الكتاب والسنة زائدا على الولاية ، وإن كان الحكم تابعا ثبوتا لجعله وإن لم يؤخذ منهما ، فالعلم به منجز له وأخذه منهما شرط في امتثاله ، نظير ثبوت الحكم على الجنب وغير المؤمن مع اشتراط امتثاله بالايمان والطهارة.

وكأنه استند إلى مثل الحديث الأخير الظاهر في أن اعتبار الولاية في قبول العمل لأجل كون العمل بدلالة ولي الله ، الراجع لكون الشرط فيه في الحقيقة هو الدلالة المذكورة.

وفيه : أنه لا يناسب المدعى من الاكتفاء بالأخذ من الكتاب والسنة ، وليس إلغاء خصوصية الأخذ من الإمام عليه‌السلام في الحديث والتعميم لهما بأولى من حمله على مجرد بيان لزوم التسليم له عليه‌السلام بحيث لو دل على شيء لقبل منه من دون شرطية الأخذ منه في امتثال الحكم. بل المتعين الثاني ، لصراحة الحديث في خصوصية ولي العصر في لزوم الائتمام والولاية والتأكيد على أهميته ، مع ما هو المعلوم من سيرة الأصحاب قديما وحديثا من الاكتفاء في العمل بأخذ الحكم من الكتاب والسنة وإن لم يكن بدلالة ولي العصر ، وعدم توقف العمل في كل حكم على وصوله منه واستناده إليه. كيف ولازم ما ذكره قدس‌سره تعذر الاحتياط مع الشك في الحكم ، لعدم كون العمل بدلالة ولي الله ولا بدلالة الكتاب والسنة ، بل برجاء مشروعيته ، وهو ـ كما ترى ـ مخالف لسيرة الفقهاء والمتشرعة في الفتوى والعمل.

٣٠

الفصل الخامس

في العلم الإجمالي

والكلام فيه .. تارة : في كفايته في وصول التكليف وتنجزه.

وأخرى : في الاكتفاء به في امتثال التكليف والفراغ عنه مع تنجزه تفصيلا أو إجمالا بعلم أو غيره.

فهنا مقامان :

المقام الأول

في كفاية العلم الإجمالي في وصول التكليف وتنجزه

والكلام فيه .. تارة : في التنجز بنحو يمنع من المخالفة القطعية.

وأخرى : بنحو يلزم بالموافقة القطعية. وعلى كلا التقديرين فهل هو لكون العلم الإجمالي علة تامة فيه ، أو لكونه مقتضيا له بنحو يقبل الردع الشرعي عنه؟

ولا يخفى أن المراد بالردع هو الحكم بعدم حجية العلم الإجمالي وعدم منجزيته بنحو يمنع من المخالفة القطعية أو بنحو يقتضي الموافقة القطعية ، فيلزمه جريان الأصول الترخيصية في تمام الأطراف أو بعضها لو تم عموم أدلتها لها ، فجريان الأصول مترتب على الردع لا عينه. غاية الأمر أنه قد يستفاد الردع من جريان الأصول بالملازمة. على أنه قد يبتني جريانها على أمر آخر ، كجعل البدل الظاهري ، الذي يمكن حتى مع كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجز.

وبذلك يظهر الإشكال في ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن البحث في

٣١

حرمة المخالفة القطعية يناسب مباحث العلم ، والبحث في وجوب الموافقة القطعية يناسب مباحث الشك ، ولذا أوكله لمباحث الأصول العملية.

وجه الإشكال : أن البحث في المقامين معا يناسب مباحث العلم ، والمناسب لمباحث الشك هو جريان الأصول في الأطراف الذي هو متفرع في الجملة على الكلام في المقامين ، من دون أن يرجع لأحدهما.

ومثله ما يظهر من المحقق الخراساني قدس‌سره من أن جريان الأصول في الأطراف مبني على اقتضاء العلم الإجمالي للتنجز مع إمكان الردع ، ولا مجال له بناء على عليته التامة له. للإشكال فيه بما أشرنا إليه من إمكان ابتناء جريان الأصول على جعل البدل الظاهري من دون أن ينافي علية العلم الإجمالي التامة للتنجز.

إذا عرفت هذا فلا ينبغي التأمل في منجزية العلم الإجمالي ولزوم متابعته ، لعدم الفرق بينه وبين العلم التفصيلي في الجهة المتقدمة المقتضية للعمل ، من كونه عبارة عن الوصول للواقع ، الذي ليس وراءه شيء ، بعد كون الواقع الواصل موردا للعمل ، وأنه يمتنع مع ذلك الردع الشرعي عن العمل على طبق القطع. وهو عبارة أخرى عن عليته التامة في التنجز. ومجرد افتراق العلم الإجمالي.

عن التفصيلي بتردد الواقع المعلوم بين الأطراف لا دخل له في الجهة المقتضية للعمل.

نعم قد يكون الإجمال موجبا لقصور الواقع المعلوم عن مقام العمل ، لمزاحمة كلفة الاحتياط لملاك الواقع مع الموافقة القطعية ، فعدم العمل حينئذ ليس لقصور في العلم ، بل في المعلوم. ولا مجال لذلك في المقام ، لأن المفروض في محل الكلام فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ، وإلا فلو فرض

٣٢

سقوطه عن الفعلية بسبب كلفة الاحتياط لبلوغها مرتبة الحرج خرج عن محل الكلام.

وأما حديث الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ـ إما لعدم اقتضاء العلم للموافقة القطعية ، أو لردع الشارع عنها بعد اقتضاء العلم لها من دون أن يكون علة تامة ـ فهو لو أمكن في العلم الإجمالي أمكن في العلم التفصيلي ، لعدم الفرق بينهما في الجهة المقتضية للعمل ، كما ذكرنا. ويأتي الكلام في ذلك في أول الفصل الثالث من مباحث الأصول العملية في التمهيد للكلام في المتباينين إن شاء الله تعالى.

ودعوى : الفرق بأن المعلوم بالإجمال لما كان هو أحد الأطراف فلا يتنجز ما زاد عليه ولا يجب إحراز الفراغ إلا عنه ، فالاقتصار على أحد الأطراف إطاعة قطعية للتكليف المنجز وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي ، بخلاف المعلوم بالتفصيل فإن إطاعته لا تكون إلا بإحراز الامتثال به بعينه.

مدفوعة بأن المعلوم بالإجمال ليس هو مفهوم أحد الأطراف ـ كما في الواجب التخييري ـ كي يكفي في إحراز الفراغ عنه الاقتصار على أحدهما ، بل هو مصداق أحدهما المعين واقعا بخصوصيته وإن كانت مجهولة ، فلا بد في إحراز الفراغ عنه من إحرازه بخصوصيته الواقعية الذي لا يتم إلا بالاحتياط التام ، ولا مجال للاكتفاء بأحد الأطراف إلا بناء على الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. نعم لا إشكال في إمكان التعبد الشرعي الظاهري بتحقق امتثال المعلوم بالإجمال ببعض الأطراف ، كما في موارد القرعة ، كما يمكن التعبد بامتثال المعلوم بالتفصيل مع الاحتمال كما في موارد قاعدتي الطهارة والفراغ وغيرهما ، وهو خارج عن محل الكلام من الامتثال الاحتمالي ، وداخل في الامتثال اليقيني ، إذ المراد به ما يعم الامتثال التعبدي.

٣٣

المقام الثاني : في الاكتفاء بالعلم الإجمالي في امتثال التكليف

ولا إشكال ظاهرا في الاكتفاء به مع تعذر الامتثال التفصيلي حتى في العباديات ، وفي الاكتفاء به ولو مع تيسره في التوصليات ، ومنها المحرمات ، وإنما الإشكال في الاكتفاء به في العباديات مع تيسر الامتثال التفصيلي.

كما وقع الكلام في الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للأمر العبادي المحتمل مع إمكان الفحص عن ثبوت الأمر ، كما لو احتمل المكلف وجوب غسل رؤية المصلوب فجاء به برجاء مشروعيته ، مع الفراغ ظاهرا عن الاكتفاء به مع تعذر الفحص وفي التوصليات مطلقا. وحيث يشترك المقامان في كثير من جهات الكلام فالمناسب النظر هنا فيهما معا وإن كان الثاني أجنبيا عن محل الكلام من العلم الإجمالي. ومن هنا يقع الكلام في موضعين :

الموضع الأول : الاحتياط مع احتمال التكليف

وقد أصر بعض الأعاظم قدس‌سره على عدم مشروعيته ، وإليه مال شيخنا الأعظم قدس‌سره في بعض كلماته ـ وإن اضطرب كلامه في هذه المسألة كثيرا ـ ونسب للمشهور عدم اكتفاء الجاهل بالاحتياط عن الاجتهاد والتقليد. والمستفاد منهم

الاستدلال عليه بوجوه ..

الأول : أنه يعتبر في العبادة الإتيان بها بنية الوجه الخاص من الوجوب أو الندب ، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره أنه حكى غير واحد اتفاق المتكلمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما ، وأن السيد الرضي قدس‌سره نقل إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها ، وأن أخاه السيد المرتضى قدس‌سره أقره على ذلك. قال قدس‌سره في خاتمة مباحث أصالتي البراءة والاشتغال بعد نقل ذلك : «بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان

٣٤

من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة ...».

لكن لم يتضح الوجه في اعتبار قصد الوجه في العبادة ، إذ لو أريد به أنه معتبر عند العقلاء في الإطاعة فقد سبق في مبحث التعبدي والتوصلي أنه لا يعتبر فيها عندهم قصد التقرب ، فضلا عن قصد الوجه. ولذا كان الأصل في الأوامر التوصلية. كيف ولو كان معتبرا في أصل الإطاعة لزم تعذرها بتعذر الفحص وعدم مشروعية الاحتياط حينئذ مع مفروغيتهم من مشروعيته. والفرق بين صورتي التعذر وعدمه تأباه المرتكزات العقلائية جدا. ولعل مراد المتكلمين دخل قصد الوجه أو قصد الأمر في ترتب المدح والثواب ، كما هو ظاهر بعض كلماتهم.

وإن أريد أنه معتبر شرعا في خصوص العبادات مع التمكن منه بتيسر الفحص فلا بد من إقامة الدليل عليه ، بعد أن كان مقتضى الأصل عدم اعتبار قصد التقرب ـ كما سبق ـ فضلا عن قصد الوجه. والظاهر عدم الدليل على ذلك ، بل إهمال الشارع التنبيه عليه مع غفلة العقلاء بل المتشرعة عنه موجب للقطع بعدم اعتباره. بل قال شيخنا الأعظم قدس‌سره في مبحث الانسداد : «إن معرفة الوجه مما يمكن للمتأمل في الأدلة وفي إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام مع الناس الجزم بعدم اعتبارها حتى مع التمكن من المعرفة العلمية. ولذا ذكر المحقق قدس‌سره ـ كما في المدارك في باب الوضوء ـ أن ما حققه المتكلمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعري».

وأما دعوى الإجماع المتقدمة عن السيدين فالظاهر أنها أجنبية عما نحن فيه ، وأن المراد بها ما إذا كان عمل الجاهل المعتقد بخلاف الواقع على طبق اعتقاده المخالف للواقع ، ردا على المصوبة القائلين بصحة عمله ، لانقلاب الواقع في حقه. قال في الروض فيما لو أتم المسافر جاهلا بوجوب القصر عليه :

٣٥

«ويؤيده في الجاهل ما أورده السيد الرضي رحمه‌الله على أخيه المرتضى من أن الإجماع واقع على أن من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا تكون مجزية. وأجاب المرتضى بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور ...» ونحوه عن الذكرى. وأين هذا مما نحن فيه من فرض الاحتياط بمتابعة الواقع المحتمل؟!.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن مراتب الامتثال عند العقل أربع مترتبة لا يجوز العدول إلى اللاحقة مع تيسر السابقة ، وهي الامتثال التفصيلي ، ثم الإجمالي ، ثم الظني ، ثم الاحتمالي. ففي المقام إن كانت الشبهة موضوعية يحسن الاحتياط مطلقا ولو قبل الفحص ، لعدم وجوب الفحص فيها فلا تكون منجزة ، وإن كانت حكمية لم يحسن الاحتياط فيها إلا بعد الفحص والعجز عن معرفة الحكم ، إذ التكليف فيها بمجرد احتماله يتنجز بتمام ما يعتبر فيه ، وحيث كان الامتثال التفصيلي معتبرا فيه مع التمكن كان هو المتعين ، ولم يحسن الانتقال منه إلى الامتثال الاحتمالي.

وفيه ـ مع أن مجرد عدم تنجز التكليف في الشبهة الموضوعية لا ينافي اعتبار الإطاعة التفصيلية فيها مع التمكن منها وعدم الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية لو صادفت ثبوت التكليف واقعا. وأن لازم ما ذكره أنه مع تعذر تحصيل العلم لا بد في مشروعية الاحتياط من محاولة تقوية الاحتمال وجعله ظنا بالفحص ، مع إمكانه ، ولا يظن منه الالتزام بذلك ـ : أنه لا أصل لما ذكره من الترتب بين وجوه الإطاعة المذكورة ، بل يكفي مجرد موافقة الأمر على تقدير حصوله وإن كان محتملا. لأن الترتب المذكور إن كان بحكم العقل لكونه من شئون إطاعة التكليف لم يفرق فيه بين التعبديات والتوصليات مع عدم الإشكال في الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في التوصليات ، كما سبق. وإن كان بحكم الشارع لدخله في

٣٦

غرضه في خصوص العبادات كقصد التقرب ، كان محتاجا للدليل كأصل العبادية. كما يظهر مما سبق هنا وفي مبحث التعبدي والتوصلي.

نعم لا إشكال مع تنجز التكليف في عدم الاجتزاء بالإطاعة الظنية أو الاحتمالية الراجعة لاحتمال عدم مطابقة المأتي به للمأمور به. وأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وكأن ذلك هو مراد شيخنا الأعظم قدس‌سره عند ذكره للمراتب الأربعة المذكورة في المقدمة الرابعة من مقدمات دليل الانسداد. إلا أنه أجنبي عن محل الكلام من فرض اليقين بمطابقة المأتي به للمأمور به على تقدير ثبوت الأمر ، وأن عدم اليقين بالامتثال لعدم اليقين بالأمر ، للقطع معه بفراغ الذمة.

الثالث : أنه لما كان المعتبر في العبادة الإتيان بها بداعي الأمر فلا بد في داعوية الأمر من إحرازه ، غاية الأمر أنه مع إحرازه يكفي داعويته وإن كان مرددا بين الوجوب والاستحباب ، وإنما يعتبر قصد أحدهما بعينه بناء على اعتبار قصد الوجه الذي تقدم الكلام فيه.

وفيه : أن المتيقن من دليل عبادية العبادة الإتيان بها بوجه قربي ، ويكفي فيه الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر المحتمل ، الراجع إلى قصد امتثال الأمر معلقا على وجوده. واعتبار اليقين بوجود الأمر محتاج إلى دليل ، بناء على ما أشرنا إليه آنفا من أن أصل العبادية خلاف الأصل ، فضلا عما زاد عليها من الخصوصيات. ولا سيما مع ما أشرنا إليه آنفا من المفروغية عن الاجتزاء بالاحتمال مع تعذر العلم ، وأن الفرق بينه وبين تيسر العلم في معيار العبادية مما تأباه المرتكزات العقلائية والمتشرعية جدا.

ومن هنا كان الظاهر عدم تمامية ما ذكروه في وجه المنع عن الاحتياط في المقام. بل المتعين البناء على مشروعيته بعد ما أشرنا إليه من الأصل ، ولا سيما مع مطابقته لمرتكزات العرف والمتشرعة والسيرة التي أشار إليها شيخنا الأعظم

٣٧

في كلامه المتقدم في تعقيب الوجه الأول.

بل لعل هذا هو المستفاد من نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الظاهرة في المفروغية عن مشروعية الاحتياط والحث عليه ، فإن تقييدها بصورة تعذر الفحص بعيد جدا بعد ظهورها في الحث عليه بمجرد البلوغ.

وأبعد منه تقييدها بالتوصليات ، لأن العبادات المعروفة هي المتيقن من مورد النصوص ، لكونها الفرد الشائع المألوف للمتشرعة من العمل الذي يترتب عليه الثواب.

الموضع الثاني : الاحتياط مع العلم الإجمالي

وهو مستلزم للتكرار مع كون التكليف المعلوم بالإجمال استقلاليا ، كالتكليف المردد بين القصر والتمام والصلاة في الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما. وقد أصرّ بعض الأعاظم قدس‌سره على المنع منه ، ومال إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره هنا.

وهو ظاهر لو تم الوجهان الأولان للاستدلال على عدم مشروعية الاحتياط في الموضع السابق. وأما الوجه الثالث فهو لو تم لا ينفع في المقام ، لفرض الجزم بالأمر وإن لم يعلم بانطباق المأمور به على المأتي به حين العمل ، لأن اعتبار ذلك زائدا على الجزم بالأمر يحتاج إلى دليل. والأمر سهل بعد ما سبق من عدم تمامية الوجوه المذكورة.

نعم ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره في خصوص المقام أن التكرار مخالف لسيرة المتشرعة ، واستظهر استمرار سيرة العلماء على عدمه مع وجود الطريق الشرعي التفصيلي إلى الحكم ولو كان هو الظن المطلق ـ لو تمت مقدمات الانسداد ـ فضلا عما لو أمكن الوصول للحكم الشرعي بالعلم أو الظن الخاص. بل حكى عن بعضهم دعوى الاتفاق على المنع من التكرار.

٣٨

وفيه : أن مجانبة المتشرعة للتكرار ـ لو تمت ـ لا تختص بالعبادات. مع أنها قد تكون ناشئة من صعوبته ، لا من ارتكاز عدم مشروعيته عندهم ، ولذا قد يقدمون عليه مع صعوبة الفحص. كما أن سيرة العلماء ـ كالاتفاق المدعى ـ لم تتضح بنحو تنهض بالاستدلال ، ولا سيما أن مساق حديثهم في دليل الانسداد يناسب عدم وجوب الاحتياط ، لا عدم جوازه.

ومثله ما ذكره قدس‌سره من أنه مستلزم للعب بأمر المولى. قال : «من أتى بصلوات غير محصورة لإحراز شروط صلاة واحدة بأن صلى في موضع تردد فيه القبلة بين أربع جهات في خمس أثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة أشياء أحدها ما يصح السجود عليه مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة ـ يعد في العرف والشرع لاعبا بأمر المولى. والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصل».

إذ فيه ـ مع أنه يجري في التوصليات ـ أنه إن أريد باللعب بأمر المولى ما يساوق الاستهانة به فهو ممنوع جدا. وإن أريد به ما يساوق عدم الغرض العقلائي المصحح للعمل فهو ليس محذورا. على أنه لا يلزم فيما لو كان للمكلف غرض عقلائي مصحح لتحمل مشقة التكرار ، كصعوبة الفحص ، أو الاهتمام بإصابة الواقع ، كما في بعض الشبهات الموضوعية وغالب الشبهات الحكمية ، حيث لا يوجب الفحص فيها اليقين بالواقع بل معرفة مؤدى الحجة عليه. ومنه يظهر الفرق بين مراتب التكرار ، فإنه كلما زاد احتاج لغرض أهم عند العقلاء. بل ما ذكره من عدم الفرق بين القليل والكثير لا يناسب اقتصاره في تطبيق اللعب على الكثير.

ومن هنا لا مجال للخروج عن مقتضى الإطلاقات اللفظية والمقامية والأصل على ما يتضح بملاحظة ما سبق هنا وفي مبحث التعبدي والتوصلي.

٣٩

لكن ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن الأصل في المقام يقتضي الاحتياط ، لرجوعه إلى الدوران بين التعيين والتخيير ، للشك بين تعيين الامتثال التفصيلي والتخيير بينه وبين الإجمالي.

وفيه : أن المراد بذلك إن كان هو الدوران بين التعيين والتخيير العقليين ، فالعقل لا يشك في حكمه ، بل المدعى هو قطعه بالتخيير. وإن كان هو الدوران بين التعيين والتخيير الشرعيين ، فالشارع ليس من شأنه التصرف في مقام الامتثال. مضافا إلى القطع بأن بعض أطراف العلم الإجمالي خارج عن مطلوب الشارع ، فلا معنى لكونه طرفا للتخيير الشرعي.

ومن هنا يتعين رجوع الشك في المقام إلى الشك في أخذ الشارع خصوصية في الواجب زائدة على ذاته ملازمة للامتثال التفصيلي ، كقصد الوجه أو نحوه ، وفي مثله تجري البراءة بلا إشكال ، ولذا التزم بجريانها لدفع احتمال اعتبار قصد الوجه.

هذا كله في المطلوب الاستقلالي. وأما المطلوب الضمني فلا ينبغي الإشكال في الاحتياط فيه مع الاحتمال أو العلم الإجمالي ، إذا كان شرطا ، كما لو احتمل اعتبار كون الساتر في الصلاة قطنا فلبسه ، أو علم بذلك وتردد القطن بين ثوبين فلبسهما. لعدم قصد التقرب بالشرط بل المشروط في ظرف تحققه ، ومن الظاهر أن الاحتياط في الشرط لا ينافي الجزم بالامتثال بالمشروط في ظرف تحققه فلا مجال لوجه من وجوه المنع المتقدمة فيه. إلا أن يكون الشرط بنفسه عبادة ـ كالطهارة ـ فيجري فيه ما سبق. وأما إذا كان جزءا فكذلك ، بناء على ما سبق منا في المطلوب الاستقلالي.

بل صرح بعض الأعاظم قدس‌سره بجواز الامتثال الإجمالي فيه ـ كما لو دار الأمر بين سورتين فيجمع بينهما في صلاة واحدة ـ مع منعه منه في المطلوب

٤٠