الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

الإبهام والترديد بين الأطراف ، ولا ينهض برفعه بالإضافة إلى كل طرف بخصوصيته بعد كونه مشكوكا في حكمه ، وقد سبق أن اختلاف العنوان في الموضوع الواحد كاف في اختلاف الموضوع من حيثية العلم والجهل. وكذا الحال في نصوص الاستصحاب ، فإن ظاهرها وجوب نقض اليقين باليقين مع اتحاد موضوعهما ، لا مع اختلافه ولو بالإجمال والتفصيل.

الثاني : أن المعلوم بالإجمال لما كان هو الخصوصية المبهمة الصالحة للانطباق على كل طرف بنفسه وخصوصيته ، فهو متحد مع أحد الأطراف واقعا ، فإذا كان أحدها موضوعا للعلم الرافع للأصل لزم من جريان الأصل في تمام الأطراف التناقض ، لوضوح التناقض بين جريان الأصل في تمام الأطراف وعدم جريانه في بعضها.

وفيه : أن انطباق المعلوم الإجمالي على بعض الأطراف بخصوصه واقعا لا ينافي كون كل منها بعنوانه التفصيلي موضوعا للشك الذي هو موضوع الأصل ، لأن تعلق العلم والجهل بالموضوع لا يكون بقيامهما به بذاته مع تمحض العنوان في الحكاية كما هو الحال في تعلق الأعراض الخارجية به ـ كالقيام والمرض ـ بل يتعلقان به بلحاظ عنوانه الذاتي أو العرضي بحيث يكون العنوان جهة تقييدية غير متمحض في الحكاية ، ومن ثم يمكن اجتماعهما معا في الموضوع الواحد بلحاظ اختلاف عناوينه ، فقد يكون الرجل الواحد معلوم المرض مثلا بعنوان كونه زيدا مجهول المرض بلحاظ كونه ابن عمرو أو عالما.

وحينئذ يمكن كون أحد الأطراف في المقام موضوعا للعلم بعنوان كونه أحد الأطراف المفروضة على إبهامه ، أو بعنوان كونه الملاقي للنجس مثلا ، وكون كل منهما بعنوانه التفصيلي موضوعا للشك ، من دون تناف بين الأمرين.

ويترتب على ذلك عموم دليل الأصل لكل منهما بعنوانه التفصيلي ، وإن

٢٤١

كان يقصر عن أحدهما المبهم بعنوانه الإجمالي أو بالعنوان الخاص الذي صار به موضوعا للعلم ، من دون أن يلزم التناقض من ذلك ، لتعدد الموضوع حقيقة تبعا لتعدد العنوان.

الثالث : أنه لما كان العلم واليقين في أدلة الأصول يعم العلم واليقين الإجمالي ، فالعلم الإجمالي وإن لم يناف الشك ـ الذي هو موضوع الأصل ـ في كل طرف بخصوصه ، وإنما ينافيه في الأمر المردد على إجماله ، إلا أن عموم موضوع الأصل لأطراف العلم الإجمالي مستلزم للتناقض بين التعبدين ، وهما التعبد بمؤدى الأصل في كل طرف بخصوصه ، بلحاظ كونه موردا للشك ، والتعبد بمقتضى العلم المانع من مفاد الأصل في المعلوم بالإجمال له ، للتناقض بين مفادي الموجبة الكلية والسالبة الجزئية ، فيمتنع جعل كلا التعبدين ، ويتعين البناء على قصور الأصل عن شمول الأطراف بخصوصيتها ، دفعا لذلك.

ولا مجال لرفع اليد عن عموم التعبد بمفاد العلم واليقين الإجمالي ، لأن عموم التعبد بمفاد العلم بسبب ارتكازيته آب عن التخصيص جدا. وحينئذ لا مجال لإحراز تحقق موضوع الأصول ذاتا في أطراف العلم الإجمالي بخصوصياتها وإن كانت موردا للشك ، لأن مرجع قصور الأصل عن الأطراف إلى عدم كون موضوعه مطلق الشك.

وفيه : أن أدلة الأصول وإن تضمنت لزوم العمل بالعلم وعدم جريان الأصول معه ، إلا أنه لا يرجع للتعبد شرعا بذلك ، كالتعبد بمفاد الأصل مع الشك ، ليلزم التناقض بين التعبدين ، بل هو إشارة لحجية العلم الذاتية ، غير القابلة للجعل ، ولا للردع الشرعي ، فليس في المقام إلا التعبد بمفاد الأصل في الأطراف ، لتحقق الشك فيها.

غاية الأمر أنه قد ينافي العلم عملا ، وهو لا يستلزم قصور موضوع الأصل

٢٤٢

عن الأطراف ذاتا ، بل غايته أن يكون من سنخ المانع من فعلية جريان الأصل ، على ما يأتي الكلام فيه.

على أنه لو غض النظر عن ذلك ، فتضمن أدلة الأصول لزوم العمل بالعلم الشامل للإجمالي لا يستلزم قصور عموم دليل الأصل عن أطراف العلم الإجمالي ذاتا ، بحيث تخرج تخصصا أو تخصيصا ، بل المرتكز في الجمع بين المغيى والغاية في نصوص قاعدة الحل ، وبين الصدر والذيل في نصوص الاستصحاب ، هو الالتزام بتعدد الحيثية والجهة ، بنحو تؤثر كل جهة لمقتضاها ، مع إعمال القواعد الارتكازية عند اجتماع الجهتين المختلفتين عملا ، وذلك بالبناء على أن الأصل لا يقتضي ترتب مضمونه مطلقا ومن جميع الجهات ، بل من حيثية الشك المأخوذ في موضوعه ، كما أن العمل بالعلم إنما يقتضي متابعته في مورده لا غير.

ومع اجتماع الجهتين واختلاف مقتضاهما عملا ـ كما في موارد العلم الإجمالي ـ يرجع لقواعد التزاحم بين الجهتين. فمع كونهما اقتضائيتين بنحو الإلزام يتعين البناء على تزاحمهما وتساقطهما عملا ، كما لو علم إجمالا بحرمة أحد مستصحبي الوجوب. ومع كون إحداهما اقتضائية دون الأخرى يتعين العمل على الاقتضائية ، وإن كانت الأخرى تجري ذاتا.

مثلا : لو علم بحرمة أحد أمرين ، فمقتضى الأصل في كل طرف إهمال احتمال التكليف فيه من حيثية الشك فيه بنفسه ، وإن لزم الاحتياط بتركه من حيثية توقف الخروج عن العلم الإجمالي المنجز بذلك. كما أنه لو علم إجمالا بتطهير أحد الإنائين المشتبهين نجسا سابقا ، فالعلم الإجمالي وإن اقتضى السعة بالإضافة للمردد المعلوم بالإجمال ، إلا أنه لا ينافي تنجز احتمال التكليف في كل من الخصوصيتين من حيثية سبق اليقين بنجاسته والشك في طهارته ، المقتضي لاستصحاب النجاسة.

٢٤٣

وقد تحصل من جميع ذلك : أن مقتضى عموم أدلة الأصول جريانها في أطراف العلم الإجمالي ذاتا ، لتحقق موضوعها فيها ، وهو الشك ، وإن كان العلم الإجمالي قد يمنع من فعلية العمل على مقتضى الأصل ، بلحاظ استلزامه المخالفة القطعية للتكليف المنجز بالعلم.

وعلى ذلك يبتني ما اشتهر بينهم من إمكان التفكيك في مفاد الأصول بين الأمور المتلازمة خارجا ، فمن اغتسل بمائع مردد بين البول والماء مثلا يستصحب الحدث وطهارة البدن من الخبث ، مع العلم إجمالا بانتقاض إحدى الحالتين ، لأن العمل بالأصل في الموردين لا يستلزم محذور المخالفة القطعية لتكليف منجز.

الأمر الثاني : في فعلية جريان الأصول في الأطراف بنحو يقتضي المخالفة القطعية. ولا ينبغي التأمل في امتناع ذلك ، لأن جواز المخالفة القطعية مستلزم للغوية التكليف ، فمع فرض فعلية التكليف وتنجزه لا بد من امتناعها. ولا مجال لجوازها ـ بارتكاب تمام الأطراف ـ إلا برفع تنجز التكليف ، أو رفع فعليته.

ولا مجال للأول مع ما سبق من أن حجية العلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ ذاتية لا تقبل الردع الشرعي.

نعم لو كان الإجمال مقتضى حجة شرعية ـ كما لو قامت البينة على نجاسة أحد الإناءين إجمالا ـ أمكن للشارع رفع اليد عن حجيتها. إلا أنه لا مجال لاستفادة ذلك من أدلة الأصول ، إذ هي إنما تتضمن التعذير والتنجيز من حيثية الشك ، من دون نظر لها للردع عن حجية الحجج ، سواء كان مؤدى الحجج تفصيليا أم إجماليا ، بل مقتضى دليل حجية الحجج العمل عليها في مواردها.

ومن ثم كان المعروف تقديم الحجج على الأصول مع وحدة موضوعها ،

٢٤٤

على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني ـ وهو رفع فعلية التكليف ـ فهو وإن كان ممكنا في نفسه في المقام بأن يكون الإجمال رافعا لفعلية التكليف الواقعي ، إلا أن أدلة الأصول لا تنهض بذلك أيضا ، لظهورها في جعل الوظيفة الظاهرية بعد فرض الشك في الواقع الظاهر في المفروغية عن فعلية الحكم الواقعي لو كان موجودا.

ودعوى : لزوم البناء على ذلك في المقام تصحيحا لجريان الأصول بعد فرض عموم أدلتها لأطراف العلم الإجمالي ، حيث تكون دالة عليه بدلالة الاقتضاء.

مدفوعة بأن دلالة الاقتضاء على شيء موقوفة على انحصار رفع لغوية الدليل عرفا بالحمل عليه ، ولا مجال لذلك هنا بعد إمكان حمل إطلاق دليل الأصل في موارد العلم الإجمالي على ما سبق ، وهو جريان الأصل من حيثية الشك ، وإن لم يمكن العمل عليه بسبب العلم الإجمالي ، لكون العلم المذكور من سنخ المانع من فعلية الأصل ، بل حمل إطلاق دليل الأصل على ذلك أقرب من حمله على رفع فعلية الواقع.

على أن المراد بحمله على رفع فعلية الواقع إن كان هو حمله على ذلك في جميع موارد الشك ـ الذي هو موضوع الأصل ـ فهو مستلزم للخروج به عن كونه أصلا ظاهريا إلى كونه قاعدة واقعية تتضمن الترخيص مع الشك ، وهو خروج بأدلة الأصول عن ظاهرها ، وعن المفروض في محل الكلام.

وإن كان هو حمله على ذلك في خصوص أطراف العلم الإجمالي لزم التفكيك في مفاد العموم بين موارده ، الذي هو ممتنع عرفا ، نظير استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

نعم لو ورد الترخيص في خصوص أطراف العلم الإجمالي المنجز ، كان

٢٤٥

حمله على رفع فعلية التكليف الواقعي متعينا بدلالة الاقتضاء ، إذ يتعذر عرفا حمله حينئذ على الترخيص الظاهري الاقتضائي من حيثية الشك مع مانعية العلم الإجمالي من فعليته ، لاستلزامه حمل الدليل على بيان حكم غير عملي ، وهو مخالف للظاهر جدا.

ومن هنا قد يشكل الأمر في صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١) فإن فرض التقسيم فيه للحلال والحرام الظاهر في كونه منشأ الاشتباه ، ثم جعل الغاية للحلّ معرفة الحرام المفروض اشتباهه ، ظاهر في إرادة العلم الإجمالي ، وفي فعلية الترخيص في أطرافه ، وتوقف ارتفاعه على العلم التفصيلي بالحرام.

لكن حيث يمتنع حمله على الردع عن حجية العلم الإجمالي ـ لما سبق ـ فلا بد من حمله إما على الترخيص الواقعي ، لكون الإجمال رافعا لفعلية التكليف المعلوم بالإجمال. أو على العلم الإجمالي غير المنجز ، لعدم انحصار الشبهة المستلزم لخروج بعض الأطراف عن الابتلاء.

والأقرب الثاني ، لظهور لسان الصحيح في إرادة التعبد بالحلية ظاهرا ، لعدم المقتضي للتنجيز ، لا في كون الإجمال مقتضيا لجعل الحل. ولذا استفيد ذلك من موثق مسعدة بن صدقة ونحوه مما تضمن قاعدة الحل ، وتقدم في أدلة البراءة. وقريب منهما نصوص قاعدة الطهارة.

بل هو المتعين بلحاظ ورود المضمون المذكور في الصحيح عن عبد الله بن سليمان ومرسل معاوية بن عمار الواردين في الجبن وغيره (٢) ، حيث يراد

__________________

(١) الوسائل ج : ١٢ باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٧ باب : ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة حديث : ١ ، ٧.

٢٤٦

بهما إهمال احتمال حرمة بعض أفراد النوع ، مع وضوح عدم الابتلاء غالبا بجميع أفراد أي نوع فرض ، لكثرتها. كما هو صريح موثق أبي الجارود : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقلت له : أخبرني من رأي أنه يجعل فيه الميتة فقال :

أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ...» (١).

ولا سيما مع ظهور الصحيح في فرض وحدة في الأمر المنقسم للحلال والحرام ، وهو لا يكون في أطراف العلم الإجمالي إلا بلحاظ الوحدة النوعية التي تستلزم غالبا خروج بعض الأطراف عن الابتلاء.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال بعد التأمل في مفاد الصحيح وفي النصوص المشار إليها في حمله على إرادة العلم الإجمالي غير المنجز.

وهو المناسب لما تضمن منجزية الشبهة المحصورة ، كالنصوص الواردة في الإنائين المشتبهين (٢) والثوبين المشتبهين (٣) والشاة الموطوءة المشتبهة في قطيع الغنم (٤).

نعم ورد الترخيص في المال مع اختلاطه بالحرام في بعض الموارد (٥). لكن بألسنة أخر ، فلو نهض بالحجية تعين حمله على سقوط الحرمة عن الفعلية بسبب الاختلاط ، أو خروج العلم عن المنجزية بسبب خروج بعض الأطراف عن الابتلاء ، ولم يصلح شاهدا لما نحن فيه. وتمام الكلام في محله.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٧ باب : ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢ ، ١٤.

(٣) الوسائل ج : ٢ باب : ٦٤ من أبواب النجاسات حديث : ١.

(٤) الوسائل ج : ١٦ باب : ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ١ ، ٤.

(٥) راجع الوسائل ج : ١٢ باب : ٤ ، ٧ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة ، وباب : ١ من أبواب عقد البيع وشروطه.

٢٤٧

ولأجل ذلك لا مجال للخروج عما ذكرنا من القاعدة.

هذا وقد يدعى أن العمل بالأصل في تمام الأطراف إنما ينافي العلم الإجمالي بالتكليف إذا كان ارتكابها دفعيا ، للعلم حينئذ بمخالفة التكليف المعلوم بالإجمال عند ارتكابها ، بخلاف ما إذا كان تدريجيا ، حيث لا يعلم بمخالفة المعلوم بالإجمال عند ارتكاب كل منها ، وإنما يعلم بمخالفته بعد ارتكابها بتمامها ، وهو ليس بمحذور ، إذ لا يتنجز المعلوم بالإجمال حينئذ ، لعدم الأثر له.

لكنه يندفع بأن المحذور ليس في الارتكاب نفسه لو تم الترخيص فيه ظاهرا ، بل في نفس الترخيص الظاهري ، ومن الظاهر أن الترخيص في تمام الأطراف ليس تدريجيا ، لدخولها في عموم أدلة الأصول في عرض واحد ، والترخيص فيها ظاهرا مناف لتنجز التكليف المعلوم بالإجمال المقتضي لحرمة مخالفته القطعية.

نعم لو كان الترخيص تدريجيا ، لاختلاف زمان الابتلاء بالأطراف ـ بحيث لا ابتلاء بكل طرف إلا قبل الابتلاء بغيره أو بعد المخالفة فيه ـ لم يمتنع جريان الأصول في الجميع بنحو التدريج ، لعدم منافاة الترخيص المستفاد منها في كل طرف للعلم الإجمالي ، ولا يكون العلم الإجمالي منجزا حينئذ ، كما يأتي في التنبيه الرابع.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن لزوم المخالفة القطعية للتكليف المنجز مانع من العمل بالأصول الترخيصية في تمام أطراف العلم الإجمالي. وهو المراد بلزوم الترخيص في المعصية في بعض كلماتهم ، إذ لا يراد بالمعصية إلا مخالفة التكليف المنجز.

٢٤٨

بقي شيء

وهو أن المحذور المذكور مختص بجريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف ، ولا موضوع له في غير ذلك.

لكن الظاهر عموم المنع لكل مورد ينافي حجية العلم ، وإن كان المعلوم بالإجمال أمرا غير التكليف ، ولا يلزم من جريان الأصل في تمام الأطراف المعصية. لأن حجية العلم حيث كانت ذاتية لا تقبل الردع تعين امتناع جعل الأصل المخالف لها عملا.

مثلا : لو علم إجمالا باستحباب أحد أمرين امتنع جريان الأصل النافي للاستحباب فيهما معا ، لأن العلم باستحباب أحدهما ـ بمقتضى حجيته الذاتية ـ ينقح موضوع حسن الطاعة ، كما ينقح العلم بوجوب أحدهما موضوع وجوبها ، ولا مجال مع ذلك للتعويل على الأصل المذكور. ومن ثم حكموا بأنه لو علم ببطلان إحدى النافلتين لم تجر قاعدة الفراغ فيهما معا.

كما أنه لو علم بإباحة أحد أمرين امتنع الرجوع للأصل المقتضي لحرمة كل منهما ـ كالاستصحاب ـ لأن مقتضى الأصل المذكور تنجيز احتمال الحرمة في كل منهما والتعبد بها ، بحيث يكون تركه بملاك المعصية فيه ، وهو مناف للعلم بإباحة أحدهما.

نعم لو ترتب الأثر على الأصل الجاري في بعض الأطراف بالنحو الذي لا ينافي العلم المذكور اتجه جريانه ، كما لو كان لأحد الطرفين المسبوقين بالنجاسة والمعلوم فعلا طهارة أحدهما ملاق برطوبة فإنه يتعين استصحاب نجاسة الملاقى لإثبات نجاسة الملاقي ، لعدم منافاته للعلم بطهارة أحدهما ، بخلاف ما لو كان لكل منهما ملاق ، فإنه لا مجال لاستصحاب نجاستهما معا لإثبات نجاسة الملاقيين ، لمنافاته للعلم بطهارة أحدهما وطهارة ملاقيه.

٢٤٩

وبالجملة : لا بد في جريان الأصل من ترتب الأثر العملي بنحو لا ينافي العمل المترتب على العلم ، وليست المخالفة القطعية للتكليف المعلوم إلا من صغريات ذلك ، من دون أن تكون تمام المحذور.

المقام الثاني : في الموافقة القطعية

والمعروف وجوبها في المقام ، وعن بعض دعوى الإجماع عليه. وإن كان القول بجواز تركها والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية محكيا عن بعض ، وليس هو شاذا كإنكار حرمة المخالفة القطعية.

وكيف كان فعدم وجوب الموافقة القطعية إما أن يكون لدعوى قصور العلم الإجمالي عن اقتضائها ، أو لدعوى وجود المانع مع تمامية المقتضي في نفسه.

أما الأولى : فيظهر اندفاعها مما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من أن العلم الإجمالي كالتفصيلي في التنجيز ، بضميمة ما تقدم في التمهيد لمحل الكلام من أن تنجيز التكليف يقتضي عقلا لزوم إحراز الفراغ عنه بالموافقة القطعية.

ودعوى : أنه لما كان العلم الإجمالي في المقام عبارة عن العلم بوجوب أحد الأمرين مثلا فهو لا يقتضي إلا تنجيز أحدهما بالنحو المقتضي لعدم تركهما معا ، دون ما زاد عليه من الخصوصية ، لعدم المنجز لها بعد فرض الجهل بها ، فالامتثال بأحد الطرفين إطاعة قطعية للتكليف المنجز ، وإن كان إطاعة احتمالية للتكليف الواقعي.

مدفوعة بأن تنجيز العلم تابع للواقع المعلوم ، والمفروض أن التكليف المعلوم مشتمل على إحدى الخصوصيتين ، فالخصوصية معلومة على إبهامها وإجمالها ، فيلزم إحراز الفراغ عنها ، وهو لا يكون إلا بالجمع بين الطرفين.

٢٥٠

وليس التكليف المعلوم واردا على عنوان أحدهما بحيث ينطبق على كل منهما ، كما في الواجب التخييري ، ليقطع بالفراغ عنه بأحد الأمرين :

«وأما الثانية» : فلا منشأ لها إلا توهم أن الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية مقتضى أدلة الأصول بعد امتناع جريانها في تمام الأطراف ، لاستلزامه المخالفة القطعية. واللازم النظر في نهوض أدلة الأصول بذلك وعدمه ، فنقول :

يظهر مما تقدم في التمهيد لمحل الكلام أن وجوب الموافقة القطعية راجع إلى حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، وأن رفع اليد عنه يتوقف على أحد أمور ..

الأول : رفع موضوع القاعدة إما برفع فعلية التكليف مع الشك في امتثاله ، أو برفع تنجيزه حينئذ.

الثاني : الردع عن مقتضاها بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ، بناء على ما تقدم منا من أن حكم العقل بلزوم إحراز الفراغ والامتثال اقتضائي قابل للردع.

الثالث : التعبد بالامتثال ، لقيام الحجة عليه أو لكونه مقتضى الأصل ، كما هو لسان التعبد بدليل القرعة لو تم في المقام ، لرجوعه إلى تعيين المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ، فتكون موافقته امتثالا له تعبدا ، والمراد بالفراغ اليقيني ما يعم ذلك.

وكأنه إلى هذا يرجع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من جواز الترخيص في بعض الأطراف بنحو جعل البدل الظاهري ، كما هو صريح بعضهم في بيان المراد من جعل البدل المذكور. وإلا فلا معنى لجعل البدل الظاهري بمجرد الترخيص في بعض الأطراف والمنع من الآخر من دون تعبد بأنه هو المعلوم بالإجمال ، بل هو راجع حينئذ للترخيص في المخالفة الاحتمالية وعدم لزوم الفراغ اليقيني ، مع ظهور كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره في

٢٥١

المفروغية عن لزومه.

وكيف كان فلا مجال لاستفادة الأول من أدلة الأصول ، لما تقدم في المقام الأول من عدم نهوض أدلتها برفع فعلية التكليف ، بل هي في مقام بيان الوظيفة العملية عند الشك فيه بعد الفراغ عن فعليته لو كان ثابتا.

كما تقدم امتناع الردع عن منجزية العلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ وأنه لو كان منشأ الإجمال حجة شرعية ـ كما لو قامت البينة على نجاسة أحد الإنائين ـ فالردع عن حجية الحجة مع إجمال مؤداها وإن كان ممكنا ، إلا أن الأصول لا تنهض بذلك.

وكذا الحال في الثاني ، فإن الردع عن لزوم الموافقة القطعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وإن كان ممكنا ، إلا أن أدلة الأصول لا تنهض بذلك ، لأنها إنما تتضمن بيان الوظيفة العملية مع عدم المنجز للتكليف ، لا الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي مع تنجزه ، فهي مسوقة مساق قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا مساق الردع عن قاعدة الاشتغال ، لتنفع في المطلوب.

وأما الثالث فلعل الأمر فيه أظهر ، فإن إحراز الامتثال بموافقة أحد المحتملين موقوف في المقام على النظر للمعلوم بالإجمال وتعيينه في بعض الأطراف ، لتكون موافقة احتمال التكليف في الطرف المذكور امتثالا له ، وأدلة الأصول بعيدة عن ذلك جدا ، حيث لا تتضمن إلا رفع التكليف عملا في مورد الشك ، لعدم المنجز له.

بل لما كان مقتضاها رفعه في جميع موارد الشك بنحو العموم الاستغراقي كان مقتضاها رفع التكليف في تمام الأطراف وعدم الحرج في مخالفة احتمال التكليف في كل منها ، وهو مستلزم للمخالفة القطعية ، وحيث لا يمكن البناء على ذلك يتعين قصورها عن تمام الأطراف ، لعدم المرجح بينها.

٢٥٢

إن قلت : احتمال الحلية في أطراف العلم الإجمالي ليس كاحتمالها في موارد الشبهة البدوية ، فإن احتمالها في موارد الشبهة البدوية في عرض واحد ، فيكون مفاد أدلة الحل والبراءة الترخيص فيها كذلك ، أما احتمالها في أطراف العلم الإجمالي فهو بنحو آخر ، لرجوع احتمالها في كل طرف لاحتمال الحرمة في الآخر ، فإعمال أدلة البراءة والحل في كل منها كما يقتضي الترخيص فيه ، يقتضي البناء على الحرمة في الآخر ، وليس مرجع ذلك للترخيص في الكل بنحو يجوز ارتكاب الكل لتلزم المخالفة القطعية ، بل للترخيص في كل منها مع البناء على الحرمة في الآخر المساوق للترخيص التخييري ، من دون أن يستلزم المخالفة القطعية.

قلت : التلازم بين عدم التكليف في بعض الأطراف وثبوته في غيره ، لا يقتضي اتحاد احتمال عدم التكليف في كل منها مع احتمال ثبوته في الآخر ، بل لا إشكال في تعدد الاحتمال تبعا لتعدد الموضوع ، غاية الأمر هو التلازم بين الاحتمالين ، تبعا للتلازم بين المحتملين ، ومن الظاهر أن مقتضى الأصول الترخيصية هو البناء على ما يطابق احتمال عدم التكليف ، دون احتمال التكليف.

بل لو قيل بوحدة الاحتمال فأدلة الأصول الترخيصية لا تقتضي البناء على مقتضاه من جميع الجهات بحيث تقتضي البناء على ثبوت التكليف في الطرف الآخر ، بل من حيثية السعة ورفع الحرج لا غير. ولازم ذلك البناء على الترخيص في تمام الأطراف المقتضي لجواز المخالفة القطعية ، وحيث كان ذلك ممتنعا تعين قصور الأصل عن تمام الأطراف ، كما سبق.

إن قلت : مع امتناع شمول الأصول الترخيصية لتمام الأطراف فعدم المرجح بينها لا يقتضي قصور إطلاق أدلة الأصول عن الكل ، بل عن أحدها تخييرا ، نظير ما لو علم بعدم الجمع بين فردين من أفراد العام ، ودار الأمر بين

٢٥٣

خروجهما معا وخروج أحدهما تخييرا ، كما لو وجب إكرام العلماء وعلم بعدم وجوب الجمع بين إكرام زيد وإكرام عمرو ، حيث لا مجال للبناء على جواز ترك إكرامهما معا ، بل يتعين البناء على وجوب إكرام أحدهما تخييرا ، اقتصارا في الخروج عن عموم العام على المتيقن.

قلت : لا مجال للبناء على جريان الأصل الترخيصي في الأطراف تخييرا ، للفرق بينه وبين المثال المتقدم بأن مرجع التخيير في المثال المتقدم إلى رفع اليد عن إطلاق الحكم الأحوالي في كل من الفردين ، وتقييد ثبوت الحكم فيه بعدم فعل المأمور به في الآخر ، وهو قد يكون أهون عرفا من رفع اليد عن عموم العام في الفردين معا وإخراجهما منه رأسا. أما في المقام فمرجع التخيير إلى إناطة جريان الأصل باختيار المكلف ، وهو أبعد عرفا عن مفاد الأدلة من البناء على ثبوت حكم العام في كلا الفردين اقتضاء لو لا العلم الإجمالي المانع من فعليته.

فالمقام نظير عموم الحكم الوضعي ـ كالنجاسة والزوجية ـ لو فرض تعذر عمومه لفردين ، حيث يتعين عرفا ـ مع عدم المرجح لأحدهما ـ البناء على ثبوته اقتضاء في كل منهما لو لا المانع ، لا على ثبوته فعلا في أحدهما تخييرا. إلا أن يدل الدليل الخاص على التخيير ، فيتعين ، عملا به ، لا بعموم العام ، كما ورد في من تزوج أختين أو خمسا في عقدة واحدة (١).

على أنه مما تقدم يظهر أن جواز ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي بعد فرض تنجيز التكليف المعلوم بالإجمال موقوف إما على رفع فعلية الحكم لو صادف ثبوته فيه ، أو على الترخيص في المخالفة الاحتمالية ، أو على التعبد بالامتثال في بعض الأطراف لتعيين التكليف المعلوم بالإجمال فيه ، والكل بعيد

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١٤ باب : ٢٥ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

٢٥٤

عن مفاد أدلة الأصول ، كما سبق.

ودعوى : أن أدلة الأصول وإن لم تنهض بأحد الأمور المذكورة بنفسها ، إلا أنه لا بد من استفادة أحدها منها بدلالة الاقتضاء ، لتوقف شمول عموم أدلتها للأطراف على ذلك.

مدفوعة أولا : بأنه إذا توقف إعمال العام في فرد على إعمال عناية زائدة عن مفاده أشكل نهوض أصالة العموم بإثبات دخول الفرد في حكم العام واستفادة العناية منه بدلالة الاقتضاء ، بل تخصيص العام بالإضافة إلى ذلك الفرد أقرب عرفا.

وثانيا : بأن البناء على أحد الأمور المذكورة وإن كان يصحح ارتكاب بعض الأطراف ، إلا أنه ليس بملاك الأصل الظاهري المؤمن من التكليف لعدم المنجز له ، ليكون إعمالا لدليل الأصل ، بل بملاك آخر مباين لمفاد الدليل المذكور مغن عنه ، فلا مجال لاستفادته من دليل الأصل ، فضلا عن استفادة أحد هذه الأمور منه تبعا لذلك ، ودلالته عليه بدلالة الاقتضاء.

ومن هنا لا تصلح أدلة الأصول للمنع من وجوب الموافقة القطعية التي سبق تمامية المقتضي لها ، بل يتعين البناء على وجوبها ، ومانعية ذلك من جريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي ، وإن كان المقتضي لجريانها في تمام الأطراف تاما بلحاظ تمامية موضوعها فيها ، كما سبق.

بقي شيء

وهو أنه مما تقدم يظهر أن المانع من جريان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف ليس هو لزوم المخالفة القطعية ، ليختص بما إذا كانت جميع الأطراف مجرى للأصل الترخيصي ، بل هو منجزية العلم الإجمالي للتكليف المعلوم بالإجمال ، المقتضية للموافقة القطعية بالاحتياط في

٢٥٥

تمام الأطراف ، بعد عدم نهوض دليل الأصل في كل طرف برفع ذلك ، إما برفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال لو صادف الطرف المذكور ، أو بالردع عن وجوب الموافقة القطعية ، أو بالتعبد بالامتثال ، كما سبق.

ولازم ذلك عدم جريان الأصل الترخيصي ـ بنحو يعمل عليه ـ في بعض الأطراف أيضا إذا لم يكن الباقي مجرى لأصل ترخيصي ولا إلزامي.

وتوضيح ذلك : أن الأصل .. تارة : يقتضي الترخيص في تمام الأطراف.

وأخرى : يقتضي الترخيص في بعضها والمنع من الآخر ، كما لو كان أحد الإنائين المعلومي النجاسة نجسا سابقا والآخر طاهرا كذلك وثالثة : يقتضي الترخيص في بعضها من دون أن يجري في الآخر أصل شرعي ترخيصي ولا إلزامي.

ولا إشكال في عدم جريان الأصل في الأول ، لاستلزامه المخالفة القطعية. وفي جريانه في الثاني ، لأن الأصل الإلزامي في بعض الأطراف لما كان منجزا له مع قطع النظر عن العلم الإجمالي كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي حكما وسقوطه عن المنجزية ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى ، ومعه لا منجز لاحتمال التكليف في الطرف الآخر ليمنع من جريان الأصل الترخيصي فيه.

وأما الثالث فاللازم جريان الأصل الترخيصي فيه لو انحصر المانع من جريانه في أطراف العلم الإجمالي بلزوم المخالفة القطعية ، لعدم لزومها من ذلك بعد عدم جريان الأصل إلا في طرف واحد. أما بناء على ما سبق من لزوم الموافقة القطعية فاللازم عدم جريان الأصل الترخيصي في محل الكلام ، لمنافاته لها ، كما صرح بذلك غير واحد.

لكن أصرّ بعض الأعاظم قدس‌سره على جريان الأصل الترخيصي حينئذ «إما» لكونه موجبا لكون الطرف الآخر بدلا قهريا عن المعلوم بالإجمال ، وبه يحصل

٢٥٦

الفراغ التعبدي عنه «وإما» لكونه موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، لأن العلم الإجمالي كما ينحل بالمنع من بعض الأطراف ينحل بالترخيص في بعضها ، لأن الأصل المنافي يكون مؤمّنا من احتمال التكليف في الطرف المذكور ، ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمّن.

ويندفع الأول بأن الترخيص في بعض الأطراف لا يكفي في كون الآخر بدلا عن المعلوم بالإجمال بالنحو الذي يحرز معه الفراغ تعبدا ما لم يكن ناظرا للمعلوم بالإجمال وشارحا له ، كما تقدم في أول الكلام في وجوب الموافقة القطعية ، وتقدم أن أدلة الأصول لا تنهض بذلك.

كما يندفع الثاني بأن الأصل الترخيصي الجاري في بعض الأطراف إنما يكون مؤمّنا من احتمال التكليف فيه من حيثية ثبوته في الطرف بخصوصيته ، ولا يكون مؤمّنا من التكليف المعلوم بالإجمال ـ المنجز في نفسه ـ بعد عدم نظره إليه ، ولا شرحه لإجماله ، بل الطرف المذكور من حيثية التكليف المعلوم بالإجمال كالطرف الآخر الذي لا يجري فيه الأصل ، فمع فرض تنجز التكليف المذكور بالعلم ، ولزوم إحراز الفراغ عنه ـ لعدم ترخيص الشارع في المخالفة الاحتمالية ـ يتعين لزوم الاحتياط في الطرف المذكور ، وإن لم يجب الاحتياط فيه من حيثية احتمال التكليف فيه بخصوصيته.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا قدس‌سره من أن العلم الإجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ، فكما يمكن أن يكتفي الشارع مع العلم التفصيلي بالامتثال الاحتمالي ـ كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ـ كذلك يمكن له الاكتفاء به مع العلم الإجمالي بطريق أولى.

لاندفاعه بأنه إن أريد من الاكتفاء بالفراغ الاحتمالي التعبد بالفراغ مع الشك ـ كما يظهر منهم في موارد قاعدة الفراغ ـ فقد تقدم عدم نهوض الأصل

٢٥٧

بذلك ، لعدم نظره للمعلوم بالإجمال. وإن أريد به الاكتفاء به مطلقا ولو مع عدم التعبد بالفراغ فهو وإن كان ممكنا إلا أن أدلة الأصول لا تنهض به ، كما تقدم.

هذا وقد تظهر الثمرة لذلك فيما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين أحدهما متيقن الطهارة سابقا دون الآخر ، فإن استصحاب الطهارة يعارض بأصالة الطهارة في الآخر ، وبعد تساقطهما تتعارض أصالة الطهارة في الأول مع أصالة الحلّ في الآخر ، وبعد تساقطهما تجري أصالة الحلّ في الأول بلا معارض.

لكن أصرّ بعض الأعاظم قدس‌سره على عدم جريان أصالة الحلّ في الأول بدعوى : أن ملاك التعارض بين الأصول لما كان هو تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها ، وكان مفاد استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة واحدا لزم سقوطهما معا بالمعارضة لأصالة الطهارة في الاناء الآخر. ومجرد حكومة الاستصحاب في مورد على أصالة الطهارة لا يوجب سقوط استصحاب الطهارة أولا ، ثم جريان أصالة الطهارة بلا معارض. ومن ثم ذكر قدس‌سره أنه لم يعثر على مورد لجريان الأصل في بعض الأطراف دون الآخر.

لكن ما ذكره لا يناسب مسلكه في تقديم الأصول الحاكمة على المحكومة ، وأن المحكومة لا يتم موضوعها في عرض الحاكمة ، كما ذكر ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

كما أن الظاهر جريان الأصل في خصوص بعض الأطراف أيضا إذا خرج الآخر عن الابتلاء ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى. ولازم ما ذكره قدس‌سره جواز ارتكاب الطرف الذي يجري فيه الأصل الترخيصي حتى لو كان خروج الآخر عن الابتلاء بعد تنجز التكليف بالعلم الإجمالي. مع عدم الإشكال ظاهرا في عدم جواز ارتكابه حينئذ ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى. ومن هنا لا

٢٥٨

ينبغي التأمل في ضعف المبنى المذكور. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

بقي في المقام تنبيهات ..

التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية

المقصود بالأصل في محل الكلام هو الشبهة الحكمية ، لأنها مورد الاستنباط الذي هو وظيفة المجتهد ، والذي كان علم الأصول مقدمة له. إلا أن جميع ما سبق يجري في الشبهات الموضوعية ، لعدم الفرق بينها وبين الشبهات الحكمية في حكم العقل المتقدم.

بل تمتاز عن الشبهات الحكمية ببعض النصوص المتضمنة لبعض الأصول ـ كموثق مسعدة بن صدقة الوارد في قاعدة الحل ـ وبالنصوص الواردة في موارد العلم الإجمالي ، كما تقدم.

كما تمتاز عن الشبهات الحكمية أيضا بما حكاه شيخنا الأعظم قدس‌سره عن بعضهم من الرجوع للقرعة ، فإنه وإن حكى ذلك في خصوص الشبهة الموضوعية التحريمية إلا أنه قد يتعدى للشبهة الموضوعية الوجوبية. وأما الشبهة الحكمية فقد ادعى المحقق الخراساني قدس‌سره الإجماع على عدم الرجوع فيها للقرعة ، وظاهر غير واحد ممن تأخر عنه المفروغية عن ذلك. ويشهد به ما هو المعلوم من سيرة الأصحاب رضى الله عنه من عدم عدها من أدلة الأحكام.

هذا ولا يخفى أن القرعة تصلح لتمييز المعلوم بالإجمال وشرحه ، بنحو يرجع لتعيين التكليف المجمل وللتعبد بالامتثال في بعض الأطراف ، الذي هو مقتضى قاعدة الاشتغال. ولا فرق في ذلك بين كونها من الطرق وكونها من الأصول ، فإن الأصل إنما لا يصلح لتمييز المعلوم بالإجمال إذا تمحض في بيان الوظيفة العملية في مورده من دون نظر للواقع ، أما إذا كان ناظرا له وواردا لشرحه فاللازم العمل به على حسب مقتضاه.

٢٥٩

ولعله لذا ورد الإرجاع للقرعة في مورد العلم الإجمالي في صحيح محمد بن عيسى عن الرجل عليه‌السلام : «أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة. قال : إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع السهم بها ، فتذبح وتحرق ، وقد نجت سايرها» (١) ونحوه مرسل تحف العقول (٢).

وينبغي الكلام في عموم الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية خروجا عما تقدم من القاعدة المقتضية للاحتياط. وهو موقوف على النظر في نصوص القرعة ، وهي طوائف ثلاث ...

الأولى : ما تضمن الإرجاع لها في موارد خاصة ، إما لا تعين فيها للأمر المقترع فيه ، مثل من أوصى بعتق ثلث مماليكه (٣) ، أو نذر عتق أول مملوك يملكه ، فملك أكثر من واحد (٤) ، وإما مع تعين الأمر المقترع فيه واقعا ، إلا أنه لا تجري فيه الأصول الشرعية ولا العقلية ، مثل ما لو وطأ الجارية جماعة فولدت من أحدهم (٥) ، وما لو انهدمت الدار وبقي صبيان اشتبه الحرّ منهما بالعبد (٦) ، أو تجري فيه أصالة الاحتياط ، كالحديثين المتقدمين.

الثانية : ما تضمن تشريعها في موارد التنازع ، كصحيح عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير

__________________

(١) الوسائل ج : ١٦ باب : ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٦ باب : ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ٤.

(٣) راجع الوسائل ج : ١٦ باب : ٦٥ من أبواب كتاب العتق. وج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ٣ ، ١٠ ، ١٦.

(٤) راجع الوسائل ج : ١٦ باب : ٥٧ من أبواب كتاب العتق. وج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ٢ ، ١٥.

(٥) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ١ ، ١٤.

(٦) راجع الوسائل ج : ١٧ باب : ٤ من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم. وج ١٨ باب : ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ٧ ، ٨.

٢٦٠