الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

النصوص ظهور ذكر ترتب الثواب الموعود به في الحث على العمل بالخبر ومتابعته ، والأمر بمتابعة الطريق والعمل عليه ظاهر في حجيته في نفسه.

مناقشة دلالة النصوص على القاعدة

لكنه يشكل بأن الحث على متابعة الطريق إنما يكون ظاهرا في حجيته إذا رجع إلى الأمر بالاعتماد عليه والبناء على تحقق مضمونه وتصديقه ، ولا ظهور لنصوص المقام في ذلك ، بل في الحث على متابعته لرجاء إدراك الواقع معه ، ولا ظهور لذلك في الحجية بوجه ، بل ما تضمنته من التنبيه على احتمال خطأ الخبر لا يناسب لسان الحجية المبنية على إلغاء احتمال الخلاف عملا.

ومثل ذلك في الضعف دعوى : أن هذه النصوص وإن لم تنهض بإثبات حجية الخبر الذي تضمن الثواب على العمل ، إلا أنها تنهض بإثبات استحباب نفس العمل الذي بلغ الثواب عليه ، لظهور الوعد بترتب الثواب على الفعل في مطلوبيته ، كظهور الوعيد بترتب العقاب عليه في مبغوضيته ، ولذا استفيدت المطلوبية والمبغوضية شرعا لكثير من الأمور من مجرد ورود الخبر بالوعد بالثواب والوعيد بالعقاب عليها من دون أن يتضمن الأمر بها أو النهي عنها ، كالحج وزيارة المعصومين عليهم‌السلام والإحسان للمؤمنين والإساءة لهم وشرب الخمر وغيرها.

وجه الضعف : أن الوعد والوعيد على الفعل إنما يدلان على الأمر والنهي المولويين إذا لم يكن لهما منشأ غيره ، كما في الموارد المذكورة ، دون ما إذا كان لأحدهما منشأ ارتكازي آخر لا يتوقف عليهما ، كما هو في المقام ، لأن بلوغ الثواب على الفعل لما كان مستلزما لبلوغ مطلوبيته شرعا ـ وإن لم يكن حجة ـ فهو يوجب كون الإتيان بالفعل برجاء ذلك انقيادا للمولى يستحق به الفاعل الثواب في الجملة وإن لم يكن خصوص الثواب الموعود به ، فلعل الوعد في

٢٢١

هذه النصوص بالثواب لذلك ، لا لمطلوبية الفعل شرعا. ولذا لا يستفاد الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية مولويا مما تضمن الحث والزجر بطريق الوعد والوعيد.

ومن هنا يتعين الجمود على مفاد هذه النصوص من ترتب الثواب على العمل المذكور ، من دون أن يستفاد منها استحبابه ، فضلا عن حجية الخبر الدال على ترتب الثواب عليه ، بل تتمحض في الإرشاد لحسن الاحتياط والحث على الانقياد ، الذي هو حسن موجب لاستحقاق الثواب.

ودعوى : أن العقل إنما يحكم بحسن الاحتياط والانقياد واستحقاق الثواب عليه في الجملة ، لا خصوص الثواب الموعود فالحكم في هذه النصوص بترتب الثواب الموعود أمر زائد على ما يحكم به العقل ، فلا بد أن يكون مسوقا لبيان الأمر المولوي. مدفوعة بأنه بعد أن كان أصل الاستحقاق بحكم العقل فتحديد الثواب المترتب لا يلازم الأمر المولوي ، بل قد يبتني على الإرشاد لتقوية الداعوية العقلية نحو الانقياد ، وذلك لأن تحديد الثواب ليس من وظيفة العقل ، وإنما يحكم بأصل استحقاقه ، وتحديده دائما تابع للشارع حتى في الإطاعة الحقيقية ، مع عدم الإشكال في أن تحديده فيها لا يكشف عن الأمر المولوي.

بقي شيء

وهو أنه قد تعرض جماعة للكلام في تحديد مفاد هذه النصوص وتشخيص ما هي ظاهرة فيه عموما وخصوصا.

وهو إنما ينفع لو كان مفادها شرعيا أصوليا ـ وهو حجية الخبر الذي تضمن ترتب الثواب ـ أو فرعيا ـ وهو استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ـ لأن الظهور لما كان حجة في نفسه أمكن الاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي

٢٢٢

والتعبد به.

أما بناء على ما سبق من عدم تضمنها ذلك ، بل مجرد الحث على الانقياد والاحتياط ـ الذي هو حسن عقلا ـ والوعد بفعلية الثواب عليه ، فلا أثر لتحديد ما هي ظاهرة فيه ، لأن حسن الانقياد عقلي لا يختص بموردها ، بل يعم جميع موارد احتمال الحكم الاقتضائي من الوجوب والاستحباب وغيرهما.

ولا تمتاز إلا بالوعد بترتب الثواب في موردها ، وليس هو حكما شرعيا ، كي تنهض الحجة بإثباته وتحديده ، بل هو أمر واقعي تابع ثبوتا لأسبابه الواقعية ، ولا أثر لقيام الحجة عليه ، كي ينفع تحديد مؤداها من حيثيته سعة وضيقا.

ودعوى : أن تحديد ما هي ظاهرة فيه ينفع في تحديد موضوع الثواب الموعود الذي هو الداعي للعمل ، وذلك كاف في الأثر العملي المصحح للبحث والفحص.

مدفوعة بأن ترتب الثواب الموعود ـ الذي هو الداعي للعمل ـ تابع لصدور الوعد به ، بضميمة العلم بعدم خلفه تعالى للوعد ، وداعويته فعلا تابعة لقوة احتماله. ولا أثر لقيام الحجة في ذلك ، بل لزوم تنفيذ الوعد تابع لصدوره واقعا قامت عليه الحجة أو لم تقم ، ومع عدم صدوره لا يلزم المولى بتنفيذه وإن قامت عليه الحجة. وإنما ينفع قيامها في التعذير والتنجيز وما يتبعهما من استحقاق العقاب وعدمه ، لا غير.

نعم قد ينفع تشخيص الظهور في قوة احتمال الوعد بالثواب الموجب لقوة الداعي للانقياد وإن لم يتيقن بترتب الثواب. كما قد يقوى احتمال ترتب الثواب لأسباب أخر غير الظهور ، كحسن الظن به تعالى والوثوق برحمته ولطفه بعبده إذا كان متحريا لما يحبه ويرضاه متشبثا باحتمال الوعد وإن ضعف.

٢٢٣

وحيث عرفت هذا

أولها : أن نصوص المقام مختصة بما إذا تضمن الخبر تحديد ثواب العمل ، لا أصل ترتب الثواب عليه من دون تعيين له ، كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام في صحيح صفوان : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به [فعمله. خ. ل] ...» (١) وقوله في صحيح هشام : «من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه ...» (٢) وقوله عليه‌السلام في خبر محمد بن مروان : «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل ...» (٣).

نعم في صحيح هشام بن سالم الآخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له ...» (٤) وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس‌سره أن المراد من : «شيء من الثواب» بقرينة ضمير : «فعمله» وإضافة الأجر له هو الفعل المشتمل على الثواب. وحينئذ فهو بإطلاقه يشمل العمل الذي بلغ ترتب الثواب عليه من دون تحديد. ويعضده إطلاق ما عن الإقبال عن الصادق عليه‌السلام : «قال : من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه» (٥).

لكن كما يمكن توجيه الصحيح بما تقدم يمكن إبقاء الثواب فيه على حقيقته ، وحمل ضمير : «فعمله» على الاستخدام ، بأن يراد فعمل ما يوجبه ، وحينئذ يتجه إضافة الأجر إليه. ولا سيما مع قرب اتحاده مع صحيحه الآخر المتقدم الذي لا إطلاق فيه ، والاختلاف بينهما بسبب النقل بالمعنى. وأما مرسل الإقبال فضعفه مانع من الاستدلال به ، ولا سيما مع قرب رجوعه للنصوص المسندة ، وكونه منقولا بالمعنى. ومن هنا لا مجال لاستفادة عموم النصوص ، لما إذا بلغ أصل الثواب من دون تحديد.

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) ، (٤) ، (٥) الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١ ، ٦ ، ٧ ، ٣ ، ٩.

٢٢٤

نعم لا يبعد إلغاء خصوصية مورد النصوص عرفا ، وتعميم مفادها لما إذا بلغ أصل الثواب من غير تحديد ، لعدم دخلها في القضية الارتكازية التي تضمنتها النصوص بعد ظهور ورودها مورد الامتنان ، والحث على فعل الخير ، والتأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحري مطابقة التشريع.

لكنه مبني على حمل النصوص على ما سبق من الإرشاد لحسن الانقياد والحث عليه. أما بناء على حملها على بيان حكم أصولي أو فرعي فحيث يكون مضمونها تعبديا محضا فلا مجال لإعمال القرينة المذكورة. وإن كان عمل الأصحاب على التعميم. وعليه يبتني الكلام في جلّ الفروع الآتية أو كلها. وكأنه لفهم عدم الخصوصية.

ثانيها : أنه لما كان الموضوع في المقام هو بلوغ الثواب ولو من دون تحديد ـ كما سبق في الأمر الأول ـ فلا فرق بين بلوغه صريحا وبلوغه ضمنا والتزاما ، كما يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن ذلك. لإطلاق النصوص في ذلك. ولا سيما بملاحظة الارتكاز المشار إليه في الأمر الأول. ومن هنا يتجه العموم للأخبار المتضمنة للأحكام وإن لم يصرح فيها بالثواب ، لما هو المفروغ عنه من ملازمة امتثال الحكم الشرعي للثواب.

كما أن مقتضى إطلاق النصوص العموم لجميع الأحكام الاقتضائية التي يترتب الثواب بامتثالها ، حتى الحرمة والكراهة ، ولا وجه لتخصيصها بالوجوب والاستحباب ، فضلا عن خصوص الاستحباب. ودعوى : اختصاص الأخبار بالخير والعمل الذي بلغ عليه الثواب ، وهو ظاهر في الأمر الوجودي ، كما يشهد له التفريع بقولهم عليهم‌السلام : «ففعل ذلك» و : «فعمل ذلك» و : «فصنعه» ونحوها ، ولا يشمل بلوغ الثواب على الترك. مدفوعة بأن المناسبات الارتكازية تقتضي بأن المراد من العمل مطلق فعل المكلف وإن كان عدميا ، ولا سيما بملاحظة أن فعله هنا بمعنى حمل النفس عليه ، لأنه الذي يترتب عليه الثواب ،

٢٢٥

دون مطلق تحققه. ولذا لا ريب في شمولها لما إذا دل الخبر على استحباب الترك وترتب الثواب عليه صريحا.

ثالثها : من الظاهر أن الخبر الضعيف الدال على الحكم الإلزامي ـ كالوجوب والحرمة ـ لما لم ينهض بإثبات الإلزام بنفسه فهو لا ينهض بإثباته بضميمة هذه النصوص حتى بناء على دلالتها على حجية الخبر المتضمن للثواب ، لأن المتيقن من حجيته حينئذ حجيته في إثبات ترتب الثواب على الفعل لا في تمام مدلوله بما في ذلك الإلزام.

ومن الظاهر أن رجحان متابعة الخبر المذكور من دون إلزام مطابق لاستحباب موافقته عملا وإن لم يكن مؤداه الاستحباب. وكأن هذا هو الوجه في فتواهم باستحباب العمل الذي كان ظاهر النص الضعيف وجوبه. وإلا فلا معنى لكون ضعف الخبر شاهدا بحمله على الاستحباب. كيف وقد يعلم بعدم الاستحباب في مورده لدوران الأمر بين الوجوب والإباحة. فهو نظير الفتوى باستحباب العمل الذي قامت الحجة على ورود الأمر به مع إجمال الأمر وتردده بين الوجوب والاستحباب.

ومنه يظهر اندفاع ما شدّد به صاحب الحدائق في كثير من الموارد من الإنكار عليهم في مثل ذلك ، بأن ضعف الخبر لا يكون قرينة عرفية على حمله على الاستحباب.

رابعها : أن موضوع النصوص لما كان هو بلوغ الثواب وسماعه كان مختصا بالخبر المبني على الحكاية ، دون سائر الطرق الكاشفة ، كالأولوية وتنقيح المناط. كما أن الظاهر اختصاصه بالخبر الحسي دون الحدسي ، كفتوى المفتي. لانصراف الخبر إليه ، ولذا يحتاج إرادة الحدسي من إطلاقه للتنبيه. ولا سيما مع اشتمال كثير منها على تقييد البلوغ بكونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظاهر في

٢٢٦

الإشارة للمعهود من الإخبار عنه في الروايات والأحاديث المسندة أو المرسلة.

ودعوى : أن لازم ذلك قصورها عن فتوى المفتي في حق من يجب عليه تقليده. مدفوعة بأنه لا محذور في ذلك ، غاية الأمر أن حجيتها في حقه مستغنية عن هذه النصوص. نعم الغالب أن إخبار المجتهد بتحديد الثواب يستند للروايات ، فاطلاع من يقلده وغيره عليه يوجب صدق البلوغ في حقه وإن كان بنحو مرسل ، فيدخل في مفاد النصوص.

خامسها : لا إشكال في شمول النصوص لبلوغ الثواب على العمل مع عدم احتمال حرمته أو كراهته ، وأما مع احتمالهما فقد وقع الكلام بينهم في ذلك. والذي ينبغي أن يقال : مع تنجز احتمال الحرمة بحجة أو غيرها لا مجال للبناء على فعلية مفاد النصوص من رجحان الاحتياط بمتابعة الخبر الذي يكون به البلوغ ، لمزاحمة حسن الاحتياط المذكور بلزوم الخروج عن المنجز. كما أنه يشكل شمولها لذلك بناء على أن مفادها حجية الخبر الذي يتحقق به البلوغ أو استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب. لأن تفريع العمل على البلوغ ظاهر في أن من شأنه أن يترتب عليه ولو رجاء ، فهي في مقام بيان فائدة العمل ، لا في مقام الحث عليه ابتداء ، ومن الظاهر أنه مع مزاحمة البلوغ بلزوم الخروج عن المنجز لاحتمال الحرمة لا يكون البلوغ صالحا للداعوية في نفسه.

أما قيام الحجة على الكراهة فلا يمنع من شمول نصوص المقام بعد عدم لزوم العمل عليه عقلا ، بل يتعين التزاحم بين الكراهة ومقتضى هذه النصوص من حسن الاحتياط بالاتيان بالعمل. وكذا بناء على أن مفاد هذه النصوص استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب. وأما بناء على أن مفادها حجية الخبر الذي يتحقق به البلوغ فيكون المورد من موارد تعارض الحجتين.

٢٢٧

وأما مع عدم تنجز احتمال الحرمة أو عدم قيام الحجة على الكراهة فاحتمالهما يقتضي حسن الاحتياط ، وبه يزاحم حسن الاحتياط بالإتيان بالعمل الذي تضمنته هذه النصوص أو استحبابه الذي قيل باستفادته منها ابتداء أو بتوسط دلالتها على حجية الخبر الذي تحقق به البلوغ.

سادسها : الظاهر قصور نصوص المقام عن شمول الخبر مع قصور دلالته على ترتب الثواب على الفعل ، لعدم صدق البلوغ والسماع معه ، وإن تحقق معه الاحتمال الذي يحسن معه الاحتياط مع غض النظر عن هذه النصوص. أما لو انعقد ظهور الخبر في ترتب الثواب فالظاهر شمول النصوص له وإن عورض بما هو أقوى دلالة بحيث يكون قرينة عرفا على صرفه عن ظاهره كما في الخاص والعام والحاكم والمحكوم ، وكذا مع استحكام التعارض بينهما. لصدق البلوغ في الموردين ، ما لم يوجب العلم أو الاطمئنان بكذب الظهور.

سابعها : أنه ربما نسب للمشهور اختصاص نصوص المقام بالإخبار عن الحكم الشرعي الكلي ، دون الموضوع الخارجي ، مثل ما ورد عنهم في تعيين بعض المساجد والمراقد ونحوها مما يترتب عليها أحكام شرعية تستلزم الثواب. وهو الذي أصرّ عليه بعض مشايخنا قدس‌سره بدعوى انصراف النصوص إلى ما يكون بيانه وظيفة للشارع ، وهو الكبريات الشرعية.

وفيه : أنه لم يتضح المنشأ للانصراف المدعى ، لعدم اختصاص وظيفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببيان الأحكام الكلية ، بل تعمّ بيان الموضوعات الخفية وإن لم يكن ببيانها مشرعا ، وأخذ خصوصية التشريع في نصوص المقام لا شاهد له. ومن هنا قد يدعى العموم للإخبار بالموضوعات من غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كالمؤرخين ونحوهم ، لإطلاق بعض النصوص.

٢٢٨

اللهم إلا أن يقال : الإطلاق مختص بأحد صحيحي هشام بن سالم المتقدمين وبالمرسلين عن عدة الداعي والإقبال (١) ومن القريب اتحاد صحيح هشام مع صحيحه الآخر المختص بالإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاختلاف بسبب النقل بالمعنى. كما أنه يقرب رجوع المرسلين للأحاديث المسندة.

وأما خبر محمد بن مروان : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول من بلغه ثواب من الله على عمل ، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» (٢) فبقرينة ذيله يكون المتيقن منه الإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لانصراف الحديث لذلك. ومثله صحيح صفوان (٣) ، لاختلاف نسخه ، كما يظهر بمراجعته. ومن هنا لا مجال لإثبات الإطلاق بنحو يشمل الإخبار من غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نعم لا إشكال ظاهرا في العموم للأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم‌السلام ، لرجوعها للإخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنهم منه يأخذون وعنه ينطقون.

التنبيه الخامس : تقدم أن الرجوع للبراءة كما يتجه في الشبهات الحكمية يتجه في الشبهات الموضوعية. ويخرج عن ذلك ما إذا كان الشك في التكليف للشك في القدرة التي هي شرط في فعليته عقلا. فيجب الاحتياط حتى يعلم بالتعذر المسقط للتكليف. والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم.

ويظهر من سيدنا الأعظم قدس‌سره الاستدلال عليه بعموم دليل التكليف ، بناء منه على أن العام حجة في الشبهة المصداقية من طرف الخاص إذا كان التخصيص لبيا ، كما في المقام حيث كان تقييد التكليف بالقدرة بحكم العقل.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٨ ، ٩.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٧.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.

٢٢٩

لكنه يشكل أولا : بعدم تمامية المبنى المذكور. ولو تم فهو مختص بما إذا كان الخاص خفيا محتاجا للبحث ، دون مثل المقام مما يكون التخصيص فيه من الوضوح بحدّ يكون من سنخ القرائن المتصلة المانعة من انعقاد ظهور العام في العموم ، إذ تكون الشبهة حينئذ من طرف العام التي لا يكون العام حجة فيها بلا كلام.

وثانيا : بأن التخصيص بالقدرة وإن كان عقليا لبيا إلا أنه قد تظافرت الأدلة اللفظية به أيضا كحديث الرفع وغيره.

فالظاهر أن الوجه في لزوم الاحتياط مع الشك في القدرة هو بناء العقلاء على ذلك ، نظير بنائهم على لزومه مع الشك في الفراغ ، لأن القدرة لما لم تكن دخيلة في الملاك فليس العجز ارتكازا إلا من سنخ العذر المسقط للتكليف عقلا ، ولا يصح الاتكال على العذر إلا بعد إحرازه ، ولا يكفي احتماله في قبح العقاب ورفع مسئولية الخطاب.

ومنه يظهر الوجه في قصور عمومات البراءة الشرعية ، لأن المنسبق منها عدم التعويل على احتمال ثبوت التكليف ، لا على احتمال سقوطه بطروء العذر مع تمامية موضوعه ، فتنصرف عن المقام كما تنصرف عن صورة احتمال عدم التكليف لاحتمال الامتثال.

هذا ولا يبعد جريان ذلك مع الشك في العذر الشرعي المسقط للتكليف مع تمامية موضوعه وملاكه ، كالحرج ، لعين ما سبق. وأما الضرر فالاكتفاء فيه بالخوف في بعض الموارد ليس لأصالة البراءة من التكليف مع الشك فيه ، بل للأدلة الخاصة المستفاد منها اهتمام الشارع بالضرر والاحتياط منه وإرفاقه بالمكلف في عدم تعريضه له. فلاحظ.

والحمد لله رب العالمين.

٢٣٠

الفصل الثاني

في الشك في تعيين التكليف مع اختلاف المتعلق

وربما يعبر عنه بدوران الأمر بين المتباينين. وقد تقدم أنه يعم صورة اتحاد سنخ التكليف ، كما في الدوران بين وجوب القصر ووجوب التمام ، واختلافه ، كما في الدوران بين وجوب شيء وحرمة آخر.

ومحل الكلام في المقام هو أنه هل يلزم الجمع في مقام الامتثال بين أطراف الترديد تحصيلا للموافقة القطعية ، أو يكفي الاقتصار على بعضها تجنبا للمخالفة القطعية ، أو يجوز ترك تمام الأطراف وإن حصلت المخالفة القطعية.

كل ذلك الكلام في مقتضى العلم الإجمالي المفروض في المقام.

تمهيد

ينبغي التعرض لمنشا حرمة المخالفة ولزوم الموافقة القطعيتين في سائر موارد تنجز التكليف تمهيدا لمحل الكلام في المقام ، فنقول : اندفاع المكلف للامتثال يبتني على أمور مترتبة في نفسها :

الأول : جعل التكليف.

الثاني : تنجزه.

الثالث : حدوث الداعي لامتثاله.

أما الأول فهو مما يستقل به المولى ، ولا يشركه فيه غيره ، حتى في

٢٣١

المستقلات العقلية ـ بناء على التحسين والتقبيح ، وملازمة حكم الشارع لحكم العقل ـ لأن مرجع الملازمة ليس إلى لزوم الحكم الشرعي للحكم العقلي تكوينا ، بل إلى لزوم حفظ الشارع للملاك العقلي بجعل الحكم من قبله ، ليكون آكد في الداعوية ، لأهليته للطاعة ، أو بملاك شكر المنعم ، أو بلحاظ ما يستتبعه من الثواب والعقاب الصالحين للداعوية بملاك دفع الضرر ، الذي هو أمر فطري ، إذ قد لا يكفي الحكم العقلي في الداعوية وفي حفظ الملاك.

وأما الثاني فهو قد يستند للسبب التكويني ، وهو العلم ، لما سبق من أن حجيته ذاتية ، وقد يستند لجعل الشارع للحجج والأصول ، كما قد يستقل به العقل ، كالظن الانسدادي بناء على الحكومة.

وأما الثالث فهو مما يستقل به العقل الحاكم بوجوب إطاعة المولى ، لأهليته للطاعة ، أو بملاك شكر المنعم ، أو ثبوت الحق له بالنحو المقتضي لاستحقاق الثواب والعقاب. ويمتنع ردع الشارع عن الحكم المذكور ، للغوية جعل الحكم بدونه. نعم له رفع موضوعه وهو الحكم الشرعي ، أو رفع تنجيزه لو كان مستندا له.

هذا كله مع إحراز أن عمل المكلف طاعة للتكليف وامتثال له ثبوتا. أما مع عدم إحراز ذلك بل احتماله ، فإن كان ذلك لعدم إحراز جعل التكليف ، فهو مجرى لأصل البراءة ، على ما تقدم في الفصل الأول. وإن كان ذلك لاحتمال سقوط التكليف بالامتثال مع إحراز جعله ، فإن أحرز الامتثال شرعا أو عقلا تعين الاجتزاء به ، وإن لم يحرز الامتثال لم ينهض ما سبق بإحداث الداعي للمكلف نحو العمل على ما يطابق التكليف ، لاختصاصه بمقام الثبوت ، بل هو مبتن على أمر آخر ، وهو حكم العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف المنجز ، وعدم الأمن من مسئولية التكليف بدونه ، وهو مفاد قاعدة الاشتغال.

٢٣٢

ومن الظاهر أن الحكم المذكور في طول حكمه بوجوب الطاعة الواقعية ومترتب عليه ترتب مقام الإثبات على مقام الثبوت ، وليس هو عينه ، ولا راجعا إليه.

ولا ريب في استقلال العقل بالحكم المذكور ، واختصاصه به ، والاستغناء به عن حكم الشارع في ذلك. كما لا ريب في سلطان الشارع على رفع موضوعه بأن يتعبد بتحقق الامتثال وإحرازه ، بجعل الطريق عليه ، أو الأصل العملي المحرز له ، إذ لا يراد بإحراز الامتثال اللازم عقلا إحرازه وجدانا بالقطع ، بل ما يعم الإحراز التعبدي.

هذا وقد يظهر من بعض كلماتهم أنه ليس للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بعد حكم العقل المذكور ، بل ليس له إلا التعبد بالامتثال الرافع لموضوع حكم العقل المذكور.

لكن لا يبعد أن يكون له ذلك ، وأن حكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني مختص بما إذا لم يكتف الشارع بالامتثال الاحتمالي ، فهو حكم اقتضائي قابل للردع الشرعي ، لعدم إباء الارتكازيات العقلية عن ذلك ، والأحكام العقلية تابعة لها سعة وضيقا.

ويناسب ذلك أنه لا إشكال في سلطان الشارع على التعبد بالامتثال في موارد الاحتمال ، كما سبق ، وليس الفرق بينه وبين الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي إلا بمحض الجعل والاعتبار من دون فرق حقيقي بينهما ، ومن البعيد جدا دخل ذلك في المرتكزات العقلية.

على أنه لو لم نقل بذلك فمع تعذر الامتثال اليقيني هل يلتزم ببقاء التكليف واكتفاء العقل بالامتثال الاحتمالي ، أو يلتزم بسقوط التكليف لملازمة وجوده لوجوب الفراغ اليقيني عنه ، فمع تعذره لا بد من سقوطه؟ والأول

٢٣٣

مناسب لما ذكرنا ، لأنه إذا أمكن تنازل العقل عن لزوم الفراغ اليقيني بالتعذر أمكن تنازله عنه مع اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي. والثاني بعيد جدا ، بل تأباه المرتكزات العقلية ، فهل يحتمل مثلا مع تعذر معرفة القبلة وترددها بين جهتين أن يسقط وجوب الاستقبال بالميت أو بالصلاة ، فيجوز دفن الميت أو الصلاة لجهة ثالثة يعلم بعدم وجود القبلة فيها؟.

ودعوى : أن العقل يختص بمقام الامتثال ، ولا دخل للشارع فيه. إنما تسلم بالإضافة إلى وجوب الامتثال ثبوتا ، لا بالإضافة إلى مقام الإثبات عند الشك فيه ، بل كما كان له التعبد بحصوله ، كان له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي حينئذ. ولا أقل من الشك المانع من الجزم بالامتناع ، حيث لا يصح حينئذ طرح ظواهر الأدلة فرارا عن اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي.

ومن هنا لا ضرورة للالتزام بأن القواعد الشرعية التي هي المرجع في مقام الامتثال ـ كقاعدة الفراغ ، ونفي الشك لكثير الشك ، وفي النافلة ـ راجعة إلى التعبد شرعا بالامتثال بلسان الطريق أو الأصل. بل لا مانع من البناء على رجوعها للاكتفاء بالامتثال الاحتمالي. إلا أن تكون أدلتها ظاهرة في التعبد المذكور.

ثم إن الشك في الامتثال .. تارة : يكون للشك في تحقق المكلف به مع وضوحه مفهوما ومصداقا ، كما لو شك المكلف في أنه هل صلى أو لا أو أن صلاته عن طهارة أو لا.

وأخرى : يكون للشك في انطباق المكلف به على بعض الأمور إما لتردده بين المتباينين بنحو الشبهة الحكمية ـ كدوران الأمر بين القصر والتمام ، أو الظهر والجمعة ـ أو الموضوعية ـ كتردد القبلة بين جهتين ـ أو لاحتمال توقف تحققه على خصوصية مفقودة.

أما الأول فهو أظهر موارد قاعدة الاشتغال. وأما الثاني فما كان التردد فيه

٢٣٤

بين المتباينين يبتني الكلام فيه على منجزية العلم الإجمالي التي عقد هذا الفصل للبحث فيها. وأما ما يحتمل توقف تحققه على خصوصية مفقودة فهو على قسمين :

أحدهما : ما يرجع الشك فيه للشك في اعتبار الخصوصية في المكلف به شرعا ، كاحتمال اعتبار الاستغفار أو الطمأنينة في الصلاة. ومرجعه للدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين. الذي كان المشهور المنصور فيه الرجوع للبراءة ، على ما يأتي في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

ثانيهما : ما يرجع الشك فيه للشك في توقف المكلف به خارجا على الخصوصية المذكورة من دون أن تكون معتبرة فيه شرعا. واللازم الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال ، لفرض تنجز التكليف وعدم الإجمال في متعلقه ، وإنما الشك في تحقق المكلف به خارجا الذي لا إشكال بينهم في الرجوع فيه للاشتغال.

وربما وقع الكلام في تشخيص بعض الصغريات ، لترددها بين هذين القسمين. والمهم من ذلك موردان :

أحدهما : أن يكون المكلف به مسببا توليديا لا يكون موردا لاختيار المكلف إلا بتوسط سببه ، ويحتمل اعتبار الخصوصية في سببه ، كالطهارة المسببة عن الوضوء الذي قد يتردد موضع المسح فيه بين ما ينتهي بقبة القدم ، وما ينتهي بالمفصل ، أو تتردد الموالاة المعتبرة فيه بين مرتبتين. وهو المعبر عنه بالشك في المحصل.

والمعروف فيه الرجوع لقاعدة الاشتغال ، لأن التكليف بالمسبب التوليدي قد تنجز ، لفرض قيام الدليل عليه ، وحيث لا إجمال فيه لا يكون موضوعا للبراءة ، كما لا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة في

٢٣٥

سببه ، لعدم احتمال التكليف بها لنفسها ، وإنما يؤتى بها في ضمن السبب لإحراز الفراغ عن المسبب ، اللازم بمقتضى قاعدة الاشتغال بعد إحراز التكليف به.

إن قلت : لا مجال للتكليف بالمسبب ، لعدم كونه مقدورا بنفسه ، بل المقدور هو سببه ، فلا بد من صرف التكليف للسبب ، وحيث يحتمل دخول الخصوصية فيه ، كان المورد من موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

قلت : يكفي في صحة التكليف بالمسبب عقلا القدرة عليه بتوسط القدرة على سببه ، ولا يتوقف على القدرة عليه بالمباشرة ، ومع إحراز التكليف به يتعين إحراز الفراغ عنه بالمحافظة على الخصوصية المعتبرة في السبب. مع أنه لو تم صرف التكليف للسبب حينئذ إلا أنه لا يكون مكلفا به بذاته ، ليكون احتمال اعتبار الخصوصية فيه من صغريات الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، بل يكون مكلفا به بعنوان كونه سببا لمسببه المفروض ، ولا بد من إحراز العنوان في مقام الامتثال في مثل ذلك على ما يأتي في الأمر الثاني.

إن قلت : هذا إنما يتم فيما إذا كانت السببية تكوينية كسببية النار للإحراق. أما إذا كانت شرعية ـ كسببية الغسل للطهارة ـ فبيان ما يعتبر في السبب من وظيفة الشارع ، ومع عدم ورود البيان منه بدخل الخصوصية في السبب يتعين البناء على عدم دخلها فيه.

قلت : البناء على عدم دخل الخصوصية في السبب مع عدم ورود البيان بدخلها من الشارع إن كان لانقلاب الأصل في السببية الشرعية ، فلا تجري فيها قاعدة الاشتغال مع الشك في الامتثال ، فهو يحتاج للدليل المخرج عن القاعدة.

وإن كان لكشف عدم تصدي الشارع لبيان عدم دخل الخصوصية عن عدم دخلها ، وإلا كان مخلا بوظيفته ، فهو مسلم. لكنه ـ مع اختصاصه بما إذا لم

٢٣٦

يحتمل حصول ما يمنع من بيان ذلك من تقية أو نحوها ـ لا يجري مع احتمال ضياع البيان الصادر منه أو إجماله ، وإنما يتم مع العلم بعدم تصديه للبيان. وحينئذ يخرج عن محل الكلام من فرض عدم الدليل على اعتبار الخصوصية الذي هو موضوع قاعدة الاشتغال ، لأن عدم البيان حينئذ يكون بنفسه دليلا على عدم اعتبارها ، فيكون واردا على القاعدة المذكورة.

ثانيهما : أن يؤخذ في المكلف به عنوان زائد على ذاته ، ويحتمل توقف انطباق العنوان على فعل المكلف على واجديته للخصوصية الزائدة. وظاهر جماعة ـ منهم شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال ، فيلزم الحفاظ على الخصوصية المحتملة ليحرز صدق العنوان المأخوذ في المكلف به.

لكن ظاهر المحقق الخراساني وسيدنا الأعظم «قدس‌سرهما» في مبحث الصحيح والأعم الرجوع فيه للبراءة. وحاصل ما يقال في وجهه : أن العنوان المكلف به إذا كان متحدا مع فعل المكلف بحيث يصح حمله عليه ويكون حاكيا عنه ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء المتحد مع الأفعال الصلاتية ـ فتردد الفعل بين واجد الخصوصية وفاقدها موجب لإجمال العنوان الحاكي عنه من حيثية الخصوصية ، فلا يصلح دليل التكليف بالعنوان للبيان إلا بالإضافة إلى المتيقن ، دون الخصوصية الزائدة ، فيرجع الشك للشك في التكليف بالخصوصية ، ويكون من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين التي تقدم أن المرجع فيها للبراءة.

والتحقيق : أن العنوان المنطبق على فعل المكلف الحاكي عنه .. تارة :

يحكي عن الفعل بذاته ، كعنوان الصلاة الحاكي عن الأجزاء الخارجية ، وعنوان الأوقية الحاكي عن الكمّ الخاص.

وأخرى : يحكي عن جهة خاصة قائمة به زائدة عليه ، سواء كانت منتزعة

٢٣٧

من ترتب شيء عليه ، كما في العناوين التسبيبية ـ كالناهي عن الفحشاء ، والمطهر والدواء والمحرق ـ أم من نحو إضافة بينه وبين غيره ـ كالأكبر والمماثل والمعاند ـ أم غير ذلك.

أما الأول فاحتمال اعتبار الخصوصية في فعل المكلف مستلزم لإجماله ، لتردد ما يحكي عنه العنوان المكلف به بين واجد الخصوصية والأعم منه ومن فاقدها ، فلا يصلح العنوان للبيان بالإضافة إلى الخصوصية المحتملة ، ويتجه حينئذ الرجوع في الخصوصية للبراءة ، بناء على أنها المرجع عند الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وأما الثاني فاحتمال اعتبار الخصوصية في صدقه لا يوجب إجماله ، لتقوم العنوان بالجهة المنتزع منها وحكايته عنها ، ولا يلزم من احتمال اعتبار الخصوصية إجمال تلك الجهة المحكية بالعنوان ، بل المفروض أنها واضحة مفهوما ، فيصلح العنوان المأخوذ في دليل الحكم للحكاية عنها ، ويكون الدليل بيانا للتكليف بها ، لأن التكليف بالعنوان يرجع للتكليف بمنشإ انتزاعه ، فيجب إحراز الفراغ عنها وإحراز تحققها في الخارج بالمحافظة على كل ما يحتمل دخله فيها ، ومنه الخصوصية المذكورة ، ولا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة.

إن قلت : هذا القسم من العنوان كما يحكي عن منشأ انتزاعه يحكي عن الذات المعنونة به ، وهي في المقام فعل المكلف به بنفسه ، فإذا كان فعله مرددا بين واجد الخصوصية وفاقدها لزم إجمال العنوان الحاكي عنه من حيثية الخصوصية المذكورة ، فلا يصلح للبيان عليها وتنجيزها.

قلت : عدم منجزية العنوان للخصوصية بنفسها لا ينافي لزوم المحافظة عليها من أجل إحراز الفراغ عن منشأ الانتزاع المفروض حكاية العنوان عنه

٢٣٨

ومنجزيته له ، لعدم إجماله من حيثيته.

نعم لو كان أخذ العنوان في التكليف لمحض حكايته عن الفعل الخارجي والإشارة به إليه ، من دون أن يكون العنوان بنفسه وبمنشإ انتزاعه موضوعا للتكليف ، كان الشك في اعتبار الخصوصية موجبا لإجمال المكلف به وتردده بين الأقل والأكثر. لكنه خارج عن محل الكلام.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في قاعدة الاشتغال ، ونرجع إلى موضوع الكلام في هذا الفصل ، وهو دوران الأمر بين المتباينين.

والكلام فيه في مقامين :

المقام الأول : في المخالفة القطعية

ربما قيل بجواز المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بالتكليف بأحد المتباينين ، رجوعا في كل منهما للأصل بعد عدم العلم بثبوت التكليف فيه بخصوصه. لكن المعروف المنع منها. وهو الحق ، لثبوت المقتضي للمنع وعدم المانع.

أما المقتضي فقد استدل عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره بإطلاق دليل الحكم الواقعي الشامل للمعلوم بالإجمال. لكنه كما ترى ، لعدم الإشكال ظاهرا في فعلية التكليف الواقعي في مورد العلم الإجمالي ، كيف؟ ولا إشكال في فعليته مع الشك البدوي لو صادف ثبوته فيه ، لما هو المعلوم من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، وغاية ما يدعيه الخصم هو عدم تنجز الحكم المذكور مع العلم الإجمالي ، كما لا يتنجز مع الشك البدوي.

فالأولى في دفعه ما تقدم في الفصل الخامس من مباحث القطع من عدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في التنجيز ـ الذي تقدم أنه المقتضي للزوم الموافقة القطعية ـ لاشتراكهما في الجهة المقتضية للعمل. ومجرد مقارنة

٢٣٩

العلم الإجمالي للجهل وعدم تعيين التكليف المعلوم وتحديده لا أثر له في الجهة المذكورة.

وأما عدم المانع فلأنه لا منشأ لتوهم المانع إلا دعوى : أن مقتضى عموم أدلة الأصول الترخيصية ـ من البراءة وغيرها ـ جواز إهمال احتمال التكليف في جميع الأطراف وإن استلزم المخالفة القطعية ، لتحقق موضوعها ـ وهو الشك ـ في كل طرف بخصوصه.

وحيث كان الكلام في ذلك مهما جدا ، لما يترتب عليه من الفوائد في المقام وغيره فاللازم النظر أولا : في عموم أدلة الأصول بدوا لأطراف العلم الإجمالي.

وثانيا : في إمكان العمل بها في تمام الأطراف بنحو يقتضي الترخيص في المخالفة القطعية. فنقول :

الأمر الأول : في عموم أدلة الأصول بدوا لأطراف العلم الإجمالي. وقد وقع الكلام في ذلك بين المتأخرين. ويظهر من جماعة ـ منهم شيخنا الأعظم قدس‌سره ـ قصور العموم المذكور عن الأطراف المذكورة. وقد يقرب بوجوه ..

الأول : أن إطلاق العلم المجعول غاية في نصوص قاعدة الحلّ ، وإطلاق اليقين في ذيل نصوص الاستصحاب شامل للعلم واليقين الإجمالي ، فيرتفع ـ تبعا له ـ الحكم بالحلّ وببقاء الحالة السابقة في الطرفين وإن لم يعلم الحكم فيها تفصيلا.

وفيه : أن المستفاد من نصوص قاعدة الحل أن العلم بالتكليف إنما يرفع الحلّ في موضوعه ، لا في موضوع آخر مشكوك فيه ، وحينئذ فالعلم الإجمالي إنما ينهض برفع الحل عن موضوعه ، وهو الواحد المردد على ما هو عليه من

٢٤٠