الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

المذكورة وورودها عليه ، ومثله يجري في الشبهة التحريمية الحكمية.

الدليل الثاني : السنة. ويظهر حال الاستدلال بما تضمن النهي عن القول والعمل بغير علم مما تقدم في الاستدلال بالكتاب. فالعمدة في المقام طائفتان :

الأولى : ما تضمن النهي عن الأخذ بالشبهة والأمر بالتوقف والكف عنها. وهي نصوص كثيرة بألسنة مختلفة لا مجال لاستقصائها تعرض شيخنا الأعظم قدس‌سره لجملة منها ، وذكر كثيرا منها في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي من الوسائل. قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «وظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصل قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات. فلا يرد على الاستدلال أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك. والتوقف في العمل لا معنى له».

لكن يشكل الاستدلال المذكور بأن التأمل في النصوص الكثيرة قاض بأن المراد بالشبهة ليس مجرد احتمال التكليف الواقعي من دون حجة عليه الذي هو محل الكلام ، بل أحد أمرين :

الأول : ما يعمل به أهل البدع ونحوهم ممن لا يتحرج ، مما هو ليس بحجة ، كالقياس والاستحسان. ويظهر إرادة ذلك مما عن رسالة المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في حديث طويل : «فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي والقياس قد استعملوا الشبهات في الأحكام لما عجزوا عن عرفان إصابة الحكم ...» (١).

ومرسل البرقي : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٨.

٢٠١

تكونوا مؤمنين ، فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة باطل مضمحل إلا ما أثبته القرآن» (١).

ومقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : ... قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ...» (٢) ، فإن الأخذ بالشبهة ليس بارتكابها ، بل باتباعها.

وخبر سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : قال جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة ، ألا وقد بينهما الله عزوجل في الكتاب ، وبينتهما لكم في سنتي وسيرتي ، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي ، من تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروته وعرضه ، ومن تلبس بها [و] وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ...» (٣).

وما عن تفسير العياشي عن الرضا عليه‌السلام : «إن هؤلاء قوم سنح لهم الشيطان اغترهم بالشبهة ولبّس عليهم أمر دينهم ...» (٤).

وما عن تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : «في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ...) قال : هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات» (٥) ، ونحوه خبره الآخر (٦) ، فإن الظاهر من أهل الشبهات من يعرفون بالعمل بها وترويجها كالبدع.

وكأنه إلى هذا المعنى يشير ما عن نهج البلاغة : «وقال عليه‌السلام : وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق ، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) ، (٤) ، (٥) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦ ، ٩ ، ٤٧ ، ٤٩ ، ٥٢ ، ٥٣.

٢٠٢

سمت الهدى ، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى» (١).

الثاني : مجرد عدم تشخيص الوظيفة الفعلية ولو كانت ظاهرية في مقابل العمل على بصيرة. ويستفاد هذا المعنى من مقابلة الشبهة بالبينة في مرسل موسى بن بكر عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديثه مع زيد : «قال ... فإن كنت على بينة من ربك ويقين من أمرك وتبيان من شأنك فشأنك ، وإلا فلا ترومنّ أمرا أنت منه في شك وشبهة» (٢). ومقابلتها بالحجة في عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام للأشتر : «قال عليه‌السلام : اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ... أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج» (٣).

هذا ولا يخفى التناسب بين المعنيين. وعلى أحدهما يمكن حمل بقية نصوص المقام. وإرادة خصوص الجهل بالحكم الواقعي من الشبهة اصطلاح متأخر لا ملزم بحمل النصوص المذكورة عليه. ومجرد مقابلتها في مثل حديث التثليث بالحلال البين والحرام البين لا يقتضيه ، لقرب حملهما على ما يعم تبين الوظيفة الظاهرية ، ليطابق النصوص الكثيرة المتقدمة ويلائمها.

ويناسب ذلك أمران :

أحدهما : أن المنسبق من النصوص المستدل بها التنبيه إلى أمر ارتكازي إرشادي ، ومن الظاهر أن الأمر الارتكازي هو الوقوف عند الشبهة بالمعنى الذي ذكرناه ، لا بالمعنى الذي يريده المستدل ، بل هو أمر تعبدي شرعي ، قابل للتخصيص ، وقد التزموا بتخصيصه في بعض الموارد.

ثانيهما : أن ظاهر كثير من نصوص المقام المفروغية عن منجزية الشبهة ، لا الحكم بمنجزيتها تعبدا وتأسيسا ، فإن قولهم عليهم‌السلام في غير واحد من النصوص : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة». ظاهر في

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠ ، ١٠ ، ١٨.

٢٠٣

المفروغية عن تعرض المتورط في الشبهة للهلكة ، وأن الأمر بالتوقف لمحض الإرشاد لذلك ، وليس هو واردا لبيان منجزية الشبهة تعبدا ، بخلاف ما لو قيل : لا عذر في الشبهة ، بل قد يهلك العامل بها. والفرق بين التعبيرين نظير الفرق بين قولنا في مقام الأمر بالحمية : قلة الأكل أهون من علاج المرض ، وقولنا : الإكثار من الأكل معرض للمرض.

وكذا قولهم عليهم‌السلام : «من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» ظاهر في المفروغية عن ترتب الهلاك مع الوقوع في الحرام الذي يتعرض له الآخذ بالشبهة ، لا في بيان تعرض الآخذ بالشبهة للهلاك تعبدا.

وحينئذ حيث لا مفروغية عن منجزية الشبهة بالمعنى المدعى للمستدل تعين حملها على المعنى الذي ذكرناه ، لأنه هو الذي يكون تنجز التكليف معه مفروغا عنه.

ومن هنا لا تنهض النصوص المذكورة بإثبات وجوب الاحتياط تعبدا في مورد الشك في التكليف الواقعي ، لينهض بمعارضة أدلة البراءة الشرعية ، بل هي واردة للإرشاد إلى عدم جواز اعتماد غير الحجة في مقام العمل ولزوم كون العمل على بصيرة من دون فرق بين أقسام الشبهة الموضوعية والحكمية.

ومن الظاهر أن ذلك لا ينافي أدلة البراءة المتقدمة ، بل تكون تلك الأدلة واردة عليه ، رافعة لموضوعه ، حيث يكون العمل معها على السعة عن بصيرة وحجة مؤمنة من العقاب على تقدير مخالفة التكليف الواقعي.

نعم في صحيح مسعدة بن زياد عن الصادق عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنه قال : لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة. يقول : إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك ، فإن الوقوف عند الشبهة خير

٢٠٤

من الاقتحام في الهلكة» (١). وهي ظاهرة في لزوم التوقف مع احتمال الحرمة ، وأن المراد بالشبهة ذلك.

لكن حيث تقدم ظهور الشبهة فيما يتنجز الواقع معه فهي محمولة على المفروغية عن وجوب الاحتياط في النكاح لأدلة أخر. أو على الإرشاد بلحاظ المشاكل المترتبة على تقدير انكشاف الحال التي لا ينفع فيها عدم تنجز التكليف ووجود المعذر ، والتي هي لأهميتها يصح إطلاق الهلكة عليها توسعا. أو على الكراهة بلحاظ أهمية أمر النكاح في ارتكازيات المتشرعة.

ويناسب الأخيرين ما تقدم في موثق مسعدة بن صدقة من أدلة البراءة من النص على جريان قاعدة الحل في ذلك ، ولا سيما مع كون مورده الشبهة الموضوعية التي هي مجرى البراءة عند الأخباريين. وكيف كان فلا مجال للخروج به عما سبق.

الطائفة الثانية : ما تضمن الأمر بالاحتياط ، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال : لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» (٢).

وموثق عبد الله بن وضاح : «كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا ، وتستتر عنا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، أفأصلي حينئذ ، وأفطر إن كنت صائما؟ ... فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» (٣).

__________________

(١) الوسائل ج : ١٤ باب : ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج : ١٨ : باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٣) الوسائل ج : ٣ باب : ١٦ من أبواب المواقيت حديث : ١٤.

٢٠٥

وخبر الجعفري عن الرضا عليه‌السلام : «أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١) ، وما أرسله الشهيد عن الصادق عليه‌السلام : «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢) ، وما أرسله عن عنوان البصري عنه عليه‌السلام : «سل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس» (٣). وما أرسل عنهم عليهم‌السلام : «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط» (٤).

لكن لا عموم في الصحيح ينفع فيما نحن فيه. ولعل الأمر بالاحتياط فيه لكون المراد بقوله عليه‌السلام : «بمثل هذا» هو السؤال عما لا يعلم ، الذي يجب فيه الاحتياط بترك الجواب ، أو الابتلاء بمثل واقعة الصيد مما لا يعلم حكمه مع إمكان الفحص ، الذي يجب فيه الاحتياط عملا.

ومثله في ذلك الموثق ، لظهوره في السؤال عن حكم الشبهة الموضوعية في دخول الليل الذي لا إشكال في أن مقتضى استصحاب النهار فيه وجوب الانتظار. ولو احتمل بعيدا السؤال فيه للشبهة الحكمية ، لاحتمال دخول الليل بسقوط القرص ، فحيث لم يكن الجواب بالاحتياط وظيفة الإمام عليه‌السلام ، بل وظيفته رفع الشبهة ببيان الحكم الواقعي ، أمكن أن يكون التعبير بالاحتياط لأجل التقية ، لإيهام أن الوجه في التأخير هو حصول الجزم بغيبوبة القرص ، لا عدم الاكتفاء به في جواز الصلاة والإفطار.

__________________

(١) ، (٣) ، (٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤١ ، ٥٨ ، ٥٤.

(٢) ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره في الرسائل في ضمن أخبار الاحتياط في المقام. ولم نعثر عليه فيما تيسر لنا من مصادر الحديث ، وإنما عثرنا على من عبّر بذلك من مشايخ الحديث عند إجازة الرواية.

٢٠٦

ودعوى : أن قوله عليه‌السلام : «وتأخذ بالحائطة لدينك» مسوق مساق التعليل ، فيتعدى منه لجميع موارد الشبهة. مدفوعة ـ مضافا إلى أنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة ـ بأن ظاهر الاحتياط في الدين هو الاحتياط الذي يلزم من تركه تعرض الدين للخطر ، المختص بما إذا تنجز الواقع ، كما يناسبه مورده الذي تقدم أن الاحتياط فيه مطابق للاستصحاب عملا ، ولا ينهض بنفسه لبيان تنجز الواقع ، نظير ما تقدم في أخبار الشبهة.

ومنه يظهر الجواب عن خبر الجعفري ومرسل الشهيد عن الصادق عليه‌السلام والمرسل الأخير. مع أنه لا ظهور لها في الوجوب ، بل الثاني لا يخلو عن إجمال ، ولعل فيه سقطا. وأما المرسل عن عنوان البصري ، فهو ظاهر في وجوب الاحتياط في كل شيء ، ولا ريب في عدم وجوب ذلك تعبدا ، فيتعين حمله على الإرشاد إلى لزوم الضبط والإتقان ولو بتحصيل الوظيفة الظاهرية التي يؤمن معها من العقاب. مضافا إلى ضعف الجميع.

الدليل الثالث : العقل. وقد يقرب إلزامه بالاحتياط بوجهين :

الأول : أن الأصل في الأفعال غير الضرورية الحظر. لكن يظهر الجواب عنه مما تقدم في الأمر الثالث من الأمور المتقدمة في التمهيد لمباحث الأصول. مضافا إلى أن الأصل المذكور لو تم في نفسه فأدلة البراءة الشرعية واردة عليه رافعة لموضوعه.

الثاني : العلم الإجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف في الوقائع التي هي مورد ابتلاء المكلف ، وحيث يحتمل كون مورد الشبهة منها وجب الاحتياط فيه ، لما يأتي إن شاء الله تعالى من منجزية العلم الإجمالي لأطرافه ، بنحو لا مجال معه للرجوع للأصول الترخيصية.

وقد أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس‌سره بمنع تعلق تكليف غير القادر على

٢٠٧

تحصيل العلم بغير ما أدى إليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ، بل هو مكلف بالواقع بحسب أداء هذه الطرق ، بحيث يقيد بها ، لأن ذلك هو مقتضى الجمع بين جعل التكاليف الواقعية وجعل الطرق الموصلة إليها ، لا أن المكلف به هو الواقع بنفسه ، ليتنجز بالعلم الإجمالي المذكور ، ولا مؤدى الطرق بنفسه ، ليلزم التصويب أو ما يشبهه مع خطئها.

لكنه في غاية الإشكال ، إذ ليس لسان أدلة جعل الطرق على الواقع تقييده بها ، بحيث يسقط عن الفعلية في غير موردها ، بل مجرد الحكاية بها عنه وإحرازه بها إثباتا ، مع فعليته في نفسه على تقدير عدم وصوله بها ، فلا مانع من تنجزه في غير مواردها بالعلم الإجمالي المذكور.

كيف؟! وما ذكره مناف للإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، بل لازمه عدم جريان الأصول في غير موارد الطرق ، للقطع بعدم التكليف ، ولا موضوع لها معه.

فالأولى الجواب عن ذلك ـ مضافا للنقض بالشبهة الوجوبية ـ بأن الطرق المذكورة وإن لم تقتض اختصاص التكليف بمواردها ، إلا أنها لما كانت منجزة للتكليف في مواردها من دون أن يعلم بثبوت التكاليف في غيرها زائدا عليها ، كانت مانعة من منجزية العلم الإجمالي المذكور ، لانحلاله بها ، على ما يأتي في التنبيه الخامس من الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في حجج القائلين بالاحتياط ، وقد عرفت وهنها. فلا مخرج عن أدلة البراءة العقلية والشرعية. والحمد لله رب العالمين.

٢٠٨

بقي في المقام تنبيهات ..

الأول : لا فرق في أدلة البراءة المتقدمة بين عدم النص وإجماله ، لعدم صلوح النص المجمل للبيان ، ليرتفع معه موضوع أدلة البراءة. والظاهر عدم الإشكال في ذلك لو كان الإجمال ناشئا من إجمال ما يدل على الحكم ، كما لو دار الأمر الوارد من الشارع بين الوجوب والاستحباب ، أو النهي بين الحرمة والكراهة.

أما لو كان ناشئا من إجمال ما يدل على متعلق التكليف ـ كما لو فرض إجمال لفظ الغناء بالإضافة إلى بعض الموارد ، أو إجمال العموم الأفرادي بين الأقل والأكثر ـ فقد يتوهم لزوم الاحتياط ، لصلوح الدليل لإثبات التكليف بمتعلقه المجمل على ما هو عليه ، فيجب إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.

وفيه : أن أخذ العنوان اللفظي في متعلق التكليف ليس إلا بلحاظ حكايته عن معناه وما أريد منه ، فليس المكلف به إلا المعنى ، وحيث فرض إجمال العنوان فهو لا يصلح للبيان بالإضافة إلى مورد الشك وإن احتمل إرادته واقعا ، بل يبقى التكليف به خاليا عن الدليل ، ومشمولا لأدلة البراءة.

التنبيه الثاني : الشبهة الموضوعية وإن كانت خارجة عن محل الكلام إلا أن أدلة البراءة المتقدمة شاملة لها ، بل هي المتيقن من بعضها على ما سبق. كما تضمنت جملة من النصوص جريان البراءة فيها في الموارد المتفرقة ، ولعله لذا حكي الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها حتى من الأخباريين.

لكن قد يدعى أنه مع فرض ورود البيان الشرعي على التكليف الكلي يتنجز التكليف في الأفراد الواقعية ، ولا مجال لجريان البراءة في موارد الشك ، لاحتمال وجود التكليف الواقعي المنجز فيها.

إلا أنه يندفع بأن جعل الحكم الكلي الذي تتضمنه الكبريات الشرعية لا يقتضي التكليف الفعلي الصالح للاشتغال والمقتضي للامتثال إلا بفعلية

٢٠٩

موضوعه في صغرياته المختلفة ، والتكليف الفعلي المذكور لا يكفي في بيانه وتنجزه بيان الكبرى ، بل لا بد معه من العلم بفعلية الموضوع وتحقق الصغرى ، وبدونها يدخل المورد في أدلة البراءة.

التنبيه الثالث : لا ريب في الخروج عن أصالة البراءة بالأصول المنقحة لموضوع التكليف ، كاستصحاب النجاسة في الماء الحاكم على أصالة البراءة من حرمة شربه ، كما هو الحال في جميع الأصول الموضوعية مع الأصول الحكمية ، على ما يأتي في محله من مبحث التعارض إن شاء الله تعالى. أما مع عدم جريان الأصل الموضوعي فمقتضى ما سبق الرجوع للبراءة. وربما يخرج عن ذلك في موردين :

الأول : ما لو أحرز مقتضي التحريم وشك في وجود المانع من دون أن يحرز عدمه ، حيث يظهر من بعض كلماتهم في الموارد المتفرقة البناء على الحرمة وعدم الرجوع للبراءة بدعوى بناء العقلاء على العمل على طبق المقتضي ما لم يحرز المانع. وهو المراد بقاعدة المقتضي في كلام بعضهم. لكن لم يتضح بناء العقلاء على الكلية المذكورة ، بل لو ثبت ذلك في بعض الموارد فهو لخصوصية فيها.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن تعليق الحكم الترخيصي التكليفي أو الوضعي ـ كالطهارة ـ على عنوان وجودي ملازم عرفا للبناء على عدمه عند عدم إحراز ذلك العنوان ، وأنه لا بد في البناء على الترخيص حينئذ من إحراز ذلك العنوان ولو بالأصل ، وبدونه يتعين البناء على عدم الترخيص ولو لم يحرز عدم العنوان المذكور.

أقول : لا ريب في أن إحراز الحكم الواقعي والتعبد به ترخيصيا كان أو إلزاميا متفرع على إحراز موضوعه ، ولا مجال له بدونه ، لكون التمسك بعموم دليله مع عدم إحراز موضوعه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف

٢١٠

العام الذي لا يصح بلا كلام. إلا أنه مع عدم إحراز وجود موضوع الترخيص ولا إحراز عدمه حيث يشك في ثبوت الترخيص ويتردد الأمر بينه وبين التكليف ، يدخل المورد في عموم أدلة البراءة المقتضي للسعة الظاهرية وإن لم يحرز الترخيص الواقعي المستفاد من عموم دليله.

فإن كان مراده ظهور دليل الحكم المذكور في إيجاب الاحتياط شرعا مع عدم إحراز الموضوع تخصيصا لأدلة البراءة ، أو ظهوره في تعبد الشارع ظاهرا بعدم الترخيص أو بعدم موضوعه عند الشك ، كأصل خاص في المسألة يكون حاكما على أصل البراءة. فهو ممنوع جدا ، لعدم تضمن الدليل إلا لجعل الحكم الواقعي على موضوعه من دون نظر لحال الشك.

وإن كان مراده بناء العقلاء على ذلك كأصل عقلائي خاص يتعين الجري عليه ما لم يردع الشارع عنه. فهو غير ثابت ، ولا واضح المنشأ.

هذا وقد فرّع قدس‌سره على ذلك أن الأصل الحرمة في الدماء والفروج والأموال. قال الكاظمي في تقريره لدرسه : «فإن الحكم بجواز الوطء مثلا قد علق على الزوجة وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرف في الأموال على كون المال مما قد أحله الله ، كما في الخبر : لا يحل مال إلا من حيث أحله الله ، فلا يجوز الوطء أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك يمين أو الشك في كون المال مما قد أحله الله».

ولا إشكال في أن الفروج من صغريات ما ذكره لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(١). حيث علق الحلّ والترخيص على عنوان وجودي هو الزوجية أو ملك اليمين.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية : ٥ ـ ٧.

٢١١

لكن لا حاجة للتشبث في وجه الاحتياط بما ذكره مع جريان استصحاب عدم كون المرأة زوجة أو ملك يمين ، لكفاية الاستصحاب المذكور في إحراز عدم الحل ، وأما مع عدم جريانه ، لتعاقب الحالتين والجهل بالتاريخ ، فالظاهر أن وجوب الاحتياط ليس لما ذكره ، بل للارتكازيات المتشرعية الكاشفة عن اهتمام الشارع الأقدس بالواقع بنحو يمنع من الإقدام من دون إحراز السبب المحلل ، ويكون هذا مخصصا لعموم أدلة البراءة.

بل قد يستفاد ذلك من الأمر بحفظ الفرج عن غير الزوجة وملك اليمين ، لأن حفظ الفرج عن غير الزوجة وملك اليمين ليس عبارة عن مجرد عدم الاستمتاع به واقعا ، بل هو عبارة عن التحفظ على الفرج من ذلك والتوقي منه ، الراجع للاحتياط فيه. ولا مخرج عنه إلا أن تحرز الزوجية بالاستصحاب أو غيره. ويجري نظير ذلك في وجوب حفظ الفرج من النظر ، بناء على ما في بعض النصوص (١) من أن ذلك هو المراد من حفظ الفرج في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ... (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ)(٢). ومن ثم لا يبعد القول ـ بل قد قيل ـ بوجوب الاحتياط بالتستر على من لم يأمن من الناظر وإن لم يعلم بوجوده. بخلاف غضّ النظر المحرم عن الجسد فإنه لا يجب إلا مع العلم به ، لعدم تضمن دليله الحفظ أو نحوه مما يقتضي الاحتياط. وربما يستفاد ذلك من بعض النصوص الواردة في المقامين ، وإن كان محتاجا إلى مزيد فحص وتأمل.

وأما الأموال فالحديث الذي استشهد به فيها هو قول الإمام الرضا عليه‌السلام في كتابه الذي رواه محمد بن زيد الطبري : «لا يحل مال إلا من وجه أحله الله» (٣).

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب أحكام الخلوة حديث : ٣ ، ٥.

(٢) سورة النور الآية : ٣٠ ـ ٣١.

(٣) الوسائل ج : ٦ باب : ٣ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام من كتاب الخمس حديث : ٢.

٢١٢

ومن الظاهر أن العنوان المذكور ليس موضوعا بنفسه للحلية شرعا ، كي يشهد لما ذكره من تعليق الحلية على أمر وجودي ، بل هو منتزع من الأسباب المختلفة المأخوذة بعناوينها الخاصة في موضوع الحلية ، من دون أن ينافي كون بعضها عدميا. كما أنه لم يتعرض للدماء.

واللازم فيها وفي الأموال النظر في أسباب تحليلها وتحريمها ، فمع إحراز أحد الأمرين بأصل أو غيره يتعين العمل عليه ، ومع عدمه فمقتضى القاعدة الرجوع للأصول العامة الجارية في الحكم من استصحاب أو براءة أو غيرهما ، وعدم الخروج عن ذلك إلا بدليل خاص من إجماع أو ارتكاز أو غيرهما. واستيفاء ذلك في الفروع المختلفة لا يسعه المقام ، بل يوكل للفقه.

التنبيه الرابع : لا ريب في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية عقلا ـ وإن لم يكن لازما كما تقدم ـ لأنه نحو من الانقياد للمولى ومظهر من مظاهر العبودية له ، كما تشهد بذلك المرتكزات العقلية والعرفية. وهو موجب لاستحقاق الثواب ، لا بمعنى لزومه على المولى ، لأنه لا يجب حتى مع امتثال التكليف المنجز ، بل بمعنى أهلية المحتاط والمنقاد للتفضل بالثواب المبني على الشكر والجزاء ، نظير أهلية المطيع للتكاليف المنجزة ، وليس إحسان المولى إليه ابتداء تفضل ، كالابتداء به على من لم يعمل شيئا أو كان عاصيا ، كما تقدم في لواحق مبحث التجري.

ويناسب ما ذكرنا من حسن الاحتياط نصوص قاعدة التسامح في أدلة السنن الآتية ، لقوة ظهورها في الإرشاد للاحتياط وحسنه في نفسه ، وإن كان ما تضمنته من حصول الثواب الموعود بنفسه مما لا يحكم به العقل ، وإنما هو تفضل منه تعالى بعد أهلية المحتاط له ، لما سبق. ولذا جرت سيرة الفقهاء ـ خصوصا في العصور المتأخرة ـ على التنبيه للاحتياط ، بل الحثّ عليه في موارد الفتوى بما يقتضي السعة.

٢١٣

وحيث عرفت ذلك فينبغي التعرض لأمور متعلقة بالمقام.

الأمر الأول : الاحتياط وإن كان حسنا عقلا ، إلا أنه قد يزاحم بما هو الأهم ، كالإطاعة الحقيقية في الأحكام الاقتضائية المنجزة الإلزامية أو غيرها ، فيلزم تركه أو يرجح ، وإن لم يخرج عن كونه حسنا في نفسه ، نظير تزاحم الاحتياطين غير اللازمين ، وتزاحم التكليفين المنجزين.

كما أنه يمكن الردع عنه شرعا ، لعدم وفائه بالغرض ، لتوقف الغرض على الجزم بالتكليف ، أو لاستلزامه محذورا لازم الدفع يكون مانعا من تمامية الملاك ومن فعلية الحكم الواقعي في مورده. ومرجع الردع حينئذ إلى قصور التكليف الواقعي أو المكلف به عن صورة الاحتياط ولو بنتيجة التقييد ، فلا يكون الاحتياط طاعة له ، كي يكون انقيادا حسنا ، وهو راجع إلى سدّ باب الاحتياط ، وإلا فمع شمول التكليف أو المكلف به لصورة الاحتياط بحيث يكون طاعة لو صادف الواقع يمتنع الردع عنه مع حسنه عقلا بملاك امتناع الردع عن الطاعة.

إذا عرفت هذا فربما يستظهر من بعض النصوص الردع عن الاحتياط أو عدم حسنه ، كصحيح البزنطي : «سألته عن الرجل يأتي السوق ، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية ، أيصلي فيها؟ فقال : نعم ، ليس عليكم المسألة ، إن أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إن الدين أوسع من ذلك» (١) ونحوه غيره مما تضمن النهي عن السؤال.

وموثق بكير : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا استيقنت أنك قد أحدثت

__________________

(١) الوسائل ج : ٢ باب : ٥٠ من أبواب النجاسات حديث : ٣.

٢١٤

فتوضأ ، وإياك أن تحدث وضوءا أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت» (١).

وخبر الحسن بن الجهم : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أعترض السوق فأشتري خفا لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال : صل فيه. قلت : فالنعل؟ قال : مثل ذلك. قلت : إني أضيق من هذا. قال : أترغب عما كان أبو الحسن عليه‌السلام يفعله؟!» (٢).

ومرسل الفقيه : «سئل علي عليه‌السلام أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال : لا ، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة» (٣).

وما عن تفسير النعماني بإسناده عن علي عليه‌السلام في حديث طويل يتضمن الحث على التقية : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» (٤).

فإن النصوص المذكورة ونحوها مما يتضمن الحث على التيسير ظاهرة في عدم رجحان الاحتياط ، بل بعضها ظاهر في مرجوحيته.

لكن صحيح البزنطي وأمثاله بصدد التأكيد على حجية السوق ، والردع عن التزام التضييق ، كالخوارج ، فلا ينافي حسن الانقياد بالاحتياط من دون التزام وتضييق. كما قد يحمل موثق بكير على ذلك أيضا. على أنه خاص بمورده ، ولا مجال منه لغيره.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ باب : ١ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ٧.

(٢) الوسائل ج : ٢ باب : ٥٠ من أبواب النجاسات حديث : ٩.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٨ من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث : ٣.

(٤) الوسائل ج : ١ باب : ٢٥ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.

٢١٥

وأما خبر الحسن بن الجهم فهو ظاهر في الردع عن ضيق النفس من العمل بأمارية السوق ، الراجع لعدم سكون النفس للحكم الشرعي والمنافي للتسليم الكامل به ، وهو لا ينافي رجحان الاحتياط برجاء إدراك الواقع لمحض الانقياد مع الطمأنينة والتسليم بالرخصة ، كما قد يشهد به خبر أبي بصير : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الفراء. فقال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام رجلا صردا ... فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك فقال : إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ، ويزعمون أن دباغه ذكاته» (١).

وأما مرسل الفقيه فلعله وارد لدفع توهم كراهة الوضوء من فضل وضوء الغير ، وبيان استحبابه بلحاظ مصلحة التيسير ، من دون أن ينافي رجحان الاحتياط بتجنب الماء المذكور لو احتمل نجاسته. مع أنه لو كان رادعا عن الاحتياط حينئذ ، فلا يدل على الردع عنه ذاتا ، ليمنع من حسنه عقلا ، بل لمزاحمة مصلحة التيسير التي يهتم بها الشارع لحسن الاحتياط ، المستلزم لترجيح التيسير عقلا مع أهميته من دون أن ينافي حسن الاحتياط في نفسه ومشروعيته ، كما تقدم.

ومنه يظهر الحال فيما عن تفسير النعماني ، لأن مجرد رجحان الأخذ بالرخص لمصلحة التيسير لا ينافي رجحان الاحتياط أيضا بلحاظ مصلحة الواقع ، وغاية ما يلزم التزاحم بين الأمرين. على أنه قد يراد منه الرخص الواقعية بقرينة تطبيقه على التقية ، لا الظاهرية ، لينفع فيما نحن فيه. فتأمل.

على أن النصوص المذكورة واردة في الشبهة الموضوعية التي ورد التأكيد على السعة فيها.

__________________

(١) الوسائل ج : ٣ باب : ٦١ من أبواب لباس المصلي حديث : ٢.

٢١٦

ومن هنا لا مجال للبناء على مرجوحية الاحتياط في نفسه شرعا في الشبهة الموضوعية ، فضلا عن الحكمية. غاية الأمر أنه لا بد من التسليم للترخيص الشرعي الظاهري وسكون النفس له. كما أنه يرجح استعمال الرخص من أجل التيسير انتفاعا بنعمته تعالى وشكرا له على جعلها. وإن كان الاحتياط أيضا حسنا ، خصوصا في الشبهة الحكمية.

الأمر الثاني : حيث سبق حسن الاحتياط عقلا فقد وقع الكلام بينهم في حسنه شرعا والأمر به مولويا ، فقد استفاضت النصوص المتقدمة ـ التي استدل بها الأخباريون على وجوب الاحتياط ـ بالأمر به والحث عليه ، وبعد فرض عدم حملها على الوجوب لتحكيم أدلة البراءة عليها فقد يستدل بها على استحباب الاحتياط شرعا ، لحمل الأمر فيها على المولوية على ما هو الأصل في الأوامر الشرعية.

لكن لا يخفى أن النصوص المشار إليها طائفتان :

الأولى : ما تضمن الأمر به بملاك تحصيل الواقع المحتمل ، مثل ما تضمن الأمر بالاحتياط وما تضمن الأمر بالوقوف عند الشبهة خوف الوقوع في المحرم والهلاك بذلك. ولا مجال للاستدلال بها على استحباب الاحتياط في مورد البراءة ، لما تقدم من حملها على الشبهات المنجزة التي يكون الاحتياط فيها لازما ، ولا تجري معه البراءة ، وهو المناسب لقوة ظهور بعضها في الإلزام ، بسبب تضمنها التعرض للهلكة مع الأخذ بالشبهة.

وأما ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره من حمل الهلكة فيها على مطلق ما يترتب على الاقتحام في الشبهة ومخالفة احتمال التكليف ، فإن كانت الشبهة منجزة كان الأثر العقاب ، وإلا كان الأثر فوت التكاليف الواقعية وعدم الانقياد بالحفاظ عليها. فهو مخالف للظاهر جدا ، وإنما يمكن ذلك في خصوص

٢١٧

النكاح ، للنصّ الخاص ، كما تقدم.

على أن النصوص المذكورة ظاهرة في الإرشاد دون المولوية ، لظهورها في أن منشأ الأمر بالاحتياط أهمية الواقع في حق المكلف بنحو ينبغي منه الاهتمام بحفظه ، كما هو ظاهر مثل قوله عليه‌السلام : «من أخذ بالشبهات ارتكب في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٢). فهي في مقام التنبيه لأمر معلوم ينبغي الاهتمام به مع قطع النظر عنها ، لا في مقام الأمر لملاك خاص زائدا على ذلك قد لا يهتم المكلف بحفظه لو لا اهتمام الشارع به المستفاد من أمره ، ليكون أمرا مولويا ، نظير كراهة مساورة الحائض المتهمة ، وكراهة كسب الغلام ، لأنه إن لم يجد سرق ، وكسب الجارية ، لأنها إن لم تجد زنت.

الثانية : ما تضمن الأمر بالاحتياط بملاك آخر غير تحصيل الواقع المشتبه ، مثل قوله عليه‌السلام : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك» (٣). والتعليل فيها لا ينافي الاستحباب ، كما لا ينافي المولوية ، لإمكان اهتمام الشارع بالملاك المذكور بنحو يأمر بالاحتياط مولويا من أجله ، ولا دخل للملاك المذكور بالواقع المحتمل ، ليتعين حمل الأمر على الإرشاد لحسن الاحتياط بتحصيله.

لكن التعليل وإن لم يناف الاستحباب إلا أن ظاهر الشبهة أو المتيقن منها خصوص موارد تنجز التكليف ، كما تقدم عند الكلام في الاستدلال لوجوب الاحتياط بالنصوص المذكورة ، فتخرج عن محل الكلام. على أن الملاك المذكور مناسب للإرشاد جدا ، فإن البعد عن الحرام مما يحسن عقلا ، احتياطا

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٩.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤١.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٢.

٢١٨

للنفس ، بملاك حسن الطاعة وتحفظا عليه. ومعه يشكل ظهور الأوامر المذكورة في المولوية الراجعة إلى الخطاب به بداعي بيان مشروعيته وانتسابه للشارع ، بحيث يكون مأتيا به لأجله ، ليستحق به الثواب عليه زائدا عليا لأثر المذكور. ومن هنا يشكل حمل الأوامر الشرعية بالاحتياط على استحبابه شرعا مولويا ، ليترتب عليه من الثواب ما لا يترتب مع قطع النظر عن الخطاب المذكور.

الأمر الثالث : لما كان الاحتياط هو متابعة التكليف المحتمل فلا بد فيه من تحصيل تمام ما يعتبر في الفعل الذي يتحقق به الامتثال المحتمل. ومن هنا فقد يشكل الأمر في العبادات بلحاظ توقف امتثالها على وقوعها بوجه عبادي ، وذلك لا يكون إلا بقصد امتثال الأمر ، المتوقف على إحرازه ، والمفروض عدمه ، لأن الاحتياط فرع الشك. وقد أطال غير واحد في تقريب إمكان قصد الأمر الوارد عليها من جهة أوامر الشارع بالاحتياط. لكن لا مجال له بعد ما سبق من أن أوامر الشارع بالاحتياط إرشادية لا مولوية ، ومختصة بالشبهات المنجزة دون غيرها. فالعمدة في دفع الإشكال أن المعتبر في عبادية العمل وقوعه بوجه قربي ، ويكفي في ذلك الإتيان به برجاء المطلوبية وامتثال الأمر المحتمل ، ولا يتوقف على إحراز الأمر والجزم بثبوته. على ما تقدم توضيحه في الفصل الخامس من مباحث القطع. فراجع.

الأمر الرابع : إذا تعددت جهات الاحتياط فإن اختار المكلف المحافظة عليها جميعا فهو ، وإلا فالظاهر الترجيح بينها ارتكازا بأحد أمرين الأول : أهمية التكليف المحتمل ، فكلما كان التكليف أهم كان الاحتياط فيه أولى الثاني : قوة احتمال التكليف ، فكلما كان احتمال التكليف أقوى كان أولى بالمراعاة.

ويظهر من بعض مشايخنا قدس‌سره ترجيح الاستمرار على تبعيض الاحتياط على الاحتياط التام المنقطع ، لما تضمنته النصوص الواردة عنهم عليهم‌السلام من أن

٢١٩

القليل المدوم عليه خير من الكثير المنقطع (١).

لكنه يشكل بظهور النصوص المذكورة في الخير الشرعي وهو المشروع الواقعي ، دون مثل الاحتياط مما هو حسن عقلا ، لما سبق من عدم ثبوت الأمر به مولويا. على أنه لا يبعد ظهورها في أولوية القليل المدوم عليه من الكثير الذي ينقطع ويهمل ضجرا ومللا ، دون ما إذا كان انقطاعه لتعذره بعد استكمال الطاقة في الخير. بل لعل استحباب التعجيل بالخير يقتضي أولوية الكثير حينئذ. فتأمل جيدا.

الأمر الخامس : قد تضمن كثير من النصوص الحث على العمل الذي ورد عليه الثواب ، كصحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (٢) ، وصحيحه الآخر عنه عليه‌السلام : «قال : من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه» (٣) ومعتبر محمد بن مروان عنه عليه‌السلام : «قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (٤) وغيرها.

وقد يدعى ظهور هذه النصوص في حجية الخبر الدال على الثواب مطلقا ، لصدق البلوغ عليه وإن كان ضعيفا في نفسه. وعليه تبتني قاعدة التسامح في أدلة السنن التي عرفت بين الأصحاب ، وعليها جروا في فتاواهم ، حيث يفتون بالاستحباب اعتمادا على النصوص الضعيفة التي لا يعولون على مثلها في بقية الأحكام الشرعية. وكأن الوجه في استفادة حجية الخبر المذكور من هذه

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٢١ من أبواب مقدمة العبادات ، وباب : ٢٨ حديث : ١٠.

(٢) الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٦.

(٤) الوسائل ج : ١ باب : ١٨ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٤.

٢٢٠