الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

الواقعية ولم يلزم بالتحفظ عليها. كما أن الأدلة الشرعية المتقدمة مختصة بذلك ، على ما سبق عند التعرض لها.

بل يظهر من شيخنا الأعظم قدس‌سره أن العقاب مع قيام الدليل على وجوب الاحتياط يكون عقابا على ما يعلم وورد به البيان ، لأن الدليل المذكور يوجب كون الشيء معلوم الوجوب بعنوان كونه مجهول الحكم ، وإن لم يكن معلوم الوجوب بعنوانه الأولي. لكنه يشكل بأن وجوب الاحتياط وإن كان معلوما حينئذ إلا أنه وجوب طريقي لا يكون موضوعا للعقاب والثواب ، بل موضوعهما التكليف الواقعي المجهول المنجز بسبب وجوب الاحتياط.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن وجوب الاحتياط تكليف نفسي. فهو تكلّف مخالف لظاهر الأدلة الآتية المسوقة له جدا.

ومثله ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من أن دليل وجوب الاحتياط يكون بيانا للتكليف المجهول في فرض وجوده. إذ فيه : أن دليل وجوب الاحتياط لا يصلح لبيان الواقع ، بل هو متمحض في بيان الوظيفة في ظرف الجهل به.

وكيف كان فالأصل الثانوي الشرعي في المقام هو البراءة. وقد استدل عليه بالأدلة الشرعية الثلاثة.

الأول : الكتاب. ويستدل منه بآيتين :

الأولى : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(١) بناء على أن المراد بالإيتاء في التكاليف الإعلام بها وإيصالها للمكلف ، فتدل على عدم التكليف بما لم يصل المكلّف ، وحيث لا يراد به عدم فعليته واقعا ، لاستلزامه

__________________

(١) سورة الطلاق الآية : ٧.

١٨١

التصويب ، فالمتعين حمله على رفعه ظاهرا وعدم تنجزه ، على ما تقدم عند الكلام في حقيقة الأصول غير التعبدية من مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري. وحينئذ تكون الآية معارضة لأدلة وجوب الاحتياط المقتضية لتنجز الواقع في ظرف الجهل به ، كما تقدم.

ودعوى : ظهور الآية في توقف المؤاخذة على قيام الحجة في الجملة وإن كانت على وجوب الاحتياط ، ولا دلالة لها على لزوم بيان التكليف المؤاخذ به ، كما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره. ممنوعة جدا ، لتعلق الإيتاء فيها بنفس التكليف الملزم به ، الظاهر في إرادة إيصاله بنفسه.

ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من ظهورها في عدم صلوح التكليف الواقعي غير الواصل بنفسه للإلزام والمؤاخذة ، لا مطلقا ، فلا تنافي ترتب الإلزام والمؤاخذة عليه بضميمة وجوب الاحتياط. لاندفاعه بظهورها في اعتبار وصول التكليف بنفسه في ترتب الإلزام والمؤاخذة عليه ، فلا يكفي وجوب الاحتياط في ذلك بعد أن لم يكن مقتضيا لوصول التكليف. ومن ثم كان الظاهر تمامية دلالة الآية في المقام لو تم كون المراد بالإيتاء هو الإعلام في المقام.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك ، لأن حقيقة الإيتاء الإعطاء ، فلا بد إما من حمله على ذلك مع حمل الموصول على المال ، ويرجع التكليف به للتكليف بإنفاقه ، أو حمله على الإقدار مجازا مع حمل الموصول على الفعل ، ويكون التكليف به حقيقيا. وكلاهما مناسب لورود القضية مورد التعليل لما قبلها وللسياق. قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً).

وإن كان الأول أقرب ، لأنه المعنى الحقيقي ، ولما يستلزمه الثاني من

١٨٢

اختلاف معنى الإيتاء ومتعلقه في الموردين. ومجرد كون الثاني أشمل لا يقتضي ظهور القضية فيه ـ بعد ما ذكرنا ـ مع كون الأول ارتكازيا مثله. غاية الأمر أن منشأ توقف التكليف بالمال على إعطائه وإيتائه هو امتناع التكليف بغير المقدور ، فعدم التكليف بغير المقدور منشأ للتعليل الذي تضمنته الآية الشريفة ، لا أنه مؤدى بها بنفسها. وكيف كان فالآية أجنبية عما نحن فيه من عدم تنجز التكليف بما لا يعلم.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن إيتاء كل شيء بحسبه ، فإيتاء المال بإعطائه ، وإيتاء العمل فعلا أو تركا بالإقدار عليه ، وإيتاء التكليف بإيصاله والإعلام به.

فيندفع بأن الإيتاء لغة وعرفا الإعطاء ، وتعذره بالإضافة إلى غير المال من الأمور المذكورة إنما يقتضي حمله على غير معناه لو ثبت إرادتها ، ولا ملزم بها في المقام ، بل مقتضى أصالة الحقيقة عدمها. ولا سيما مع قضاء قرينة السياق بإرادة المال ، حيث يلزم من إرادتها معه حينئذ الاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي معا ، والتحقيق امتناعه. وخصوصا مع أن عدم تعلق التكليف بالتكليف المجهول يراد به عدم الكلفة به ظاهرا بلحاظ المؤاخذة ، وعدم تعلقه بالمال يراد به عدم التكليف به واقعا حقيقة.

هذا وقد يدعى إمكان الاستدلال بالآية بضميمة معتبر عبد الأعلى : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال : لا. قلت : فهل كلفوا المعرفة؟ قال : لا ، على الله البيان (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)» (١).

لكنه يندفع بأن المعرفة ـ التي سأل عن التكليف بها ـ بنفسها غير مقدورة

__________________

(١) الكافي كتاب التوحيد باب : البيان والتعريف ولزوم الحجة حديث : ٥ ج : ١ ص : ١٦٣.

١٨٣

للإنسان إلا بنصب الحجة ، فلا يحتاج الاستشهاد في الحديث بالآية الشريفة إلى إرادة الإعلام في الإيتاء فيها ، بل هو بمعنى الإقدار أو الإعطاء.

الثانية : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(١)

بتقريب ظهورها في عدم تحقق الخذلان إلا بعد البيان ، وحيث كان الخذلان من سنخ الجزاء والمؤاخذة في الدنيا فيتعدى منه للعقاب الأخروي بمناسبة ظهور كون القضية ارتكازية ، فلا تختص بموردها ، كما يناسبه ظهور التركيب المذكور في أن النسبة لا ينبغي أن تقع ، على نحو ما ذكرناه في الآية الأولى. هذا ولو أريد من الإضلال الحكم بالضلال ، أو الإضلال عن الثواب والجنة ـ كما فسره به في مجمع البيان ـ فالأمر أظهر.

ثم إن ظاهر الآية الشريفة لزوم بيان الأحكام الواقعية ، لأنها هي موضوع التقوى ، ويناسبه ما في ذيل معتبر عبد الأعلى المتقدم : «وسألته عن قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) قال : حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه» (٢) ، ونحوه الموثق عن حمزة بن الطيار (٣). فيناسب الأصل الثانوي الذي هو محل الكلام.

وربما استدل ب آيات أخر قاصرة الدلالة لا مجال لإطالة الكلام فيها.

الثاني : السنة. وقد استدل منها بأحاديث ..

الأول : حديث الرفع

المروي بطرق متعددة ومتون مختلفة زيادة ونقصانا.

منها صحيح حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع

__________________

(١) سورة التوبة الآية : ١١٥.

(٢) الكافي كتاب التوحيد باب : البيان والتعريف ولزوم الحجة حديث : ٥ ج : ١ ص : ١٦٣.

(٣) الكافي كتاب التوحيد باب : البيان والتعريف ولزوم الحجة حديث : ٣ ج : ١ ص : ١٦٣.

١٨٤

عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق [الخلوة. خ. ل] ما لم ينطقوا بشفة» (١). وفي بعض طرقه أنها ستة ، منها ما لا يعلمون (٢).

وجه الاستدلال به : أن ظاهره بدوا كون الخطأ والجهل والنسيان سببا في رفع التكليف واقعا ، حيث تقدم في أوائل الفصل الثالث من مباحث القطع إمكان ذلك في الجملة. ولا سيما مع كون الرفع في بقية الفقرات واقعيا. إلا أن ذلك حيث كان منافيا لما هو المتسالم عليه من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، فلا بد من حمله على الرفع الظاهري الراجع لعدم اهتمام الشارع بحفظ الحكم الواقعي في ظرف الجهل به المستلزم لعدم وجوب الاحتياط فيه والراجع للبراءة.

بل قد يقرب ذلك بما يناسب السياق في بقية الفقرات بأن مصحح إسناد الرفع للتسعة ليس إلا رفع الكلفة الحاصلة بسببها والثقل الناشئ منها بلحاظ استتباعها العقاب والمؤاخذة ونحوهما مما يترتب على الحكم ولو بضميمة وصوله. إلا أن ذلك مع العلم بالتكليف ـ بسبب العلم بتشريعه وموضوعه ـ مستلزم عرفا لارتفاعه ، للغوية التكليف الواصل عرفا مع السعة من هذه الجهة ، كما هو الحال في الفقرات الستة الأخر. أما في الجهل والخطأ والنسيان فالرفع من الحيثية المذكورة لا يستلزم عرفا ارتفاع الحكم الواقعي ، بل يقتضي التأمين من التبعة المذكورة الذي هو مرجع البراءة من دون أن يستلزم لغوية ثبوت التكليف الواقعي ، فالفرق بين الفقرات ليس في الأمر المرفوع بالمطابقة ، بل

__________________

(١) الوسائل ج : ١١ باب : ٥٦ من أبواب جهاد النفس حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٦ باب : ١٦ من أبواب كتاب الأيمان حديث : ٣.

١٨٥

في لازمه لا غير.

ودعوى : أن الرفع بالمعنى المذكور مع الجهل وأخويه يكفي فيه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بلا حاجة للرفع الشرعي ، وظاهر الحديث إرادة الرفع الشرعي.

مدفوعة بأن سلطان الشارع على إيجاب الاحتياط الرافع لحكم العقل المذكور مصحح لنسبة الرفع إليه ، لكونه مستندا إليه في المرتبة الثانية وإن كان مستندا للعقل في المرتبة الأولى.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا حاجة إلى إضمار المؤاخذة أو بقية الآثار ، لما في الإضمار من العناية والتكلّف ، بل ارتفاعها مصحح لإسناد الرفع للتسعة المذكورة عرفا من دون حاجة للتقدير.

كما لا حاجة إلى تكلف أن المرفوع حقيقة هو إيجاب الاحتياط والتحفظ ، بدعوى أنه هو الذي يكون رفعه ووضعه بيد الشارع ، ونسبة الرفع للحكم الواقعي المجهول بالعرض والمجاز ، بعناية أن منشأ رفع وجوب الاحتياط منع تأثير ملاك الحكم الواقعي عن تأثيره. على أنه يشكل بأن العناية المذكورة لا تصحح نسبة الرفع للحكم عرفا ولو مجازا ، وما ذكرناه في وجه إسناد الرفع للتسعة هو الأظهر.

هذا وقد يدعى اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية ، وقصوره عن الشبهة الحكمية ، التي هي المقصودة بالأصل في محل الكلام ، لما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أن الظاهر من الموصول في : «ما لا يعلمون» بقرينة بقية الموصولات هو الموضوع ، وهو فعل المكلف غير المعلوم ، كالفعل الذي لا يعلم كونه شرب الخمر أو شرب الخل ، فلا يشمل الحكم غير المعلوم ، كحرمة شرب التتن.

١٨٦

وفيه : أن الاضطرار وأخواته إنما تتعلق بالموضوع بذاته ، لا بعنوانه ، أما العلم فهو يتعلق بالموضوع بعنوانه بمفاد كان الناقصة ، فيعلم مثلا بأن الشيء خمر أو مضر أو حرام ، والعنوان المناسب للرفع في المقام هو العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه المنشأ للضيق والتبعة ، وبقية العناوين ـ كالخمرية والنجاسة ـ لا تكون منشأ لهما إلا بلحاظ استتباعها له ، ولا سيما مع عدم الجامع العرفي لها إلا بملاحظته ، فيكون ملاحظة عنوان التكليف أظهر وأشمل.

فيراد حينئذ ما لا يعلمون تعلق التكليف به إيجابا أو تحريما ، أو ما لا يعلمون حرمته فعلا أو تركا ، ومثل ذلك كما يصدق على الموضوع الجزئي في الشبهة الموضوعية يصدق على الموضوع الكلي ، كالتتن ولحم الأرنب. بل يصدق على الموضوع الجزئي مع اختلاف منشأ الشك من حيثية الشبهة الموضوعية والحكمية معا.

بل حيث اختلف الأمور المذكورة في كيفية التعلق بالموضوع فلا مجال لملاحظة قرينة السياق ، بل الأقرب حمل الموصول في «ما لا يعلمون» على العنوان ابتداء ، لصحة إسناد العلم والجهل إليه عرفا ، وإن كان تعلقهما حقيقة بمفاد كان الناقصة ، وحينئذ يتعين لحاظ العنوان المنتزع من التكليف ، لأنه المناسب للرفع ، كما تقدم. ومرجعه إلى حمل الموصول على الحكم. ونظير «ما لا يعلمون» في جميع ما ذكرنا الخطأ والنسيان.

وهناك بعض الوجوه الأخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها مع ضعفها في نفسها ووضوح اندفاعها بملاحظة ما سبق في تقريب الاستدلال بالحديث. ومن ثم لا ينبغي التأمل في تمامية دلالة الحديث الشريف على المطلوب.

هذا وقد تصدى غير واحد للكلام في بعض الجهات المتعلقة بالحديث الخارجة عن محل الكلام استطرادا. ولا بأس بمتابعتهم في ذلك تتميما للفائدة.

١٨٧

وذلك بالكلام في أمور ...

الأول : ذكر غير واحد أن الرفع في المقام تشريعي راجع إلى تنزيل الأمور المذكورة منزلة العدم شرعا ، لعدم ترتب الأحكام والآثار الشرعية معها.

ولكنه قد يتم لو كان البيان بلسان النفي المطلق ، نظير «لا شك لكثير الشك» ، أما حيث كان بلسان الرفع فهو ظاهر في رفع الكلفة والتبعة المترتبة على الفعل أو التكليف ، برفع مثل المؤاخذة الأخروية والدنيوية ـ بمثل الحدود والتعزيرات والكفارات ، ونفوذ مثل العقود والإقرار ونحوها مما هو من سنخ تبعة الفعل ـ دون بقية الآثار الخارجة عن ذلك ، كالنجاسة بمثل الملاقاة خطأ أو اضطرارا ، وتحريم الحيوان بمخالفة شروط التذكية ، من دون فرق في ذلك بين الفقرات. نظير ما ذكرناه في محله في رفع القلم عن الصبي وأخويه. غايته أن الرفع بلحاظ المؤاخذة لا يستلزم في الخطأ والجهل والنسيان إلا عدم وجوب الاحتياط من دون أن يقتضي ارتفاع التكليف واقعا ، وفي بقية الفقرات مستلزم لارتفاع التكليف ، كما تقدم.

وأما ما يظهر من بعض الأعاظم قدس‌سره من أن الرفع فيما لا يعلمون ظاهري ، وفي الخطأ والنسيان واقعي. فهو غير ظاهر المنشأ ، بعد مشاركتهما للجهل في كفاية الرفع الظاهري في رفع الكلفة والتبعة ، وليسا هما كالاضطرار وبقية المرفوعات مما يجتمع مع العلم بالواقع والالتفات إليه ، كي يتعذر معه الرفع الظاهري. مضافا إلى أن الرفع الواقعي فيهما مناف لمفروغية الأصحاب من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل.

وعلى ما ذكرنا تنزل صحيحة صفوان والبزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «في الرجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن أمتي ما أكرهوا

١٨٨

عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا» (١). فإن نفوذ اليمين لما كان من سنخ التبعة شرعا كان مرفوعا بالإكراه بمقتضى حديث الرفع ، ولا يتوقف رفعه على تنزيل الحديث على رفع تمام الأحكام والآثار الشرعية.

وبذلك يظهر الوجه في عدم سقوط الإعادة والقضاء بالإخلال ببعض الأجزاء أو الشروط جهلا ، فإن وجوبهما ليس من سنخ التبعة المترتبة على الإتيان بالعمل الناقص ـ كالكفارة ـ بل هو من باب لزوم امتثال التكليف الواقعي بوجهه الواقعي وعدم سقوطه عقلا أو شرعا.

الثاني : الظاهر اختصاص الحديث بما إذا كان الرفع امتنانيا ، لأنه المنصرف منه. بل حيث كان ظاهرا في أنه من خواص هذه الأمة المرحومة تعين كونه امتنانيا في حقها بمجموعها ، فلا يشمل ما لو كان منافيا للامتنان في حق بعضها ، كما لو أكره على الإضرار بالغير ، فإنه يتعين عدم الرفع ، وبقاء التحريم في مثل ذلك ، إذ لا امتنان على الأمة في التخفيف عن بعضها بنحو يستلزم الإضرار بالآخرين.

وقد ذكروا أن ذلك هو الوجه في عدم سقوط الضمان بالإتلاف خطأ أو اضطرارا أو غير ذلك. لكن الظاهر قصور الحديث عن رفع الضمان ابتداء ، لما سبق من اختصاص الحديث برفع الكلفة الحاصلة من المؤاخذة وثبوت تبعة العمل على الفاعل ، والظاهر أن الضمان ليس من سنخ التبعة ، كالكفارة والحد ، بل هو ثابت بملاك تدارك ضرر الغير وخسارته.

الثالث : الظاهر أن الحديث كسائر العمومات قابل للتخصيص ، فلا مانع من عدم الرفع في بعض الموارد للدليل الخاص ، كما ثبت وجوب الاحتياط قبل الفحص في الشبهة الحكمية ، ووجوب التحفظ عن النسيان في الأحكام

__________________

(١) الوسائل ج : ١٦ باب : ١٢ من أبواب كتاب الأيمان حديث : ١٢.

١٨٩

الكلية ، ووجوب الكفارة في بعض موارد الخطأ ، كالقتل ، وغير ذلك.

وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من قصور الحديث عن الرفع مع التقصير في الجهل والنسيان ، لعدم منافاة فعلية التكليف للامتنان ، حيث لا يأبى العقل ذلك. فهو كما ترى ، إذ عدم إباء العقل عن فعلية التكليف لا ينافي كون رفعه امتنانيا لما فيه من السعة ، ولذا يكون الرفع امتنانيا في موارد الجهل مع عدم إباء العقل عن إيجاب الاحتياط فيها ، وفي موارد الحرج مع عدم إباء العقل عن فعلية التكليف فيها.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من خروج مثل وجوب كفارة الخطأ عن موضوع الحديث ، لاختصاصه بالآثار الثابتة لذات الموضوع مع قطع النظر عن الخطأ والنسيان ونحوهما مما تضمنه الحديث ، دون ما يثبت بتوسط أحد العناوين المذكورة فيه ، كما هو الحال في الكفارة المذكورة وفي وجوب سجود السهو.

إذ هو إنما يتم لو كان مفاد الحديث رفع الأحكام والآثار بلسان نفي الموضوع ، نظير ما تضمن أنه لا شك لكثير الشك ، حيث يختص الرفع حينئذ بالآثار الثابتة للموضوع بإطلاقه ، دون ما ثبت في خصوص حال ثبوت العنوان الرافع. لكن تقدم في الأمر الأول المنع من ذلك ، وأن الرفع بلحاظ رفع الكلفة من حيثية المؤاخذة والتبعة ، حيث لا إشكال في كون ثبوت الكفارة ولو في حال الجهل فقط من سنخ التبعة فثبوتها مناف للحديث ، ولا يكون إلا بتخصيصه.

نعم لا مجال لذلك في سجود السهو ، لعدم كونه من سنخ التبعة ، بل يظهر من دليله أن الإتيان به لإرغام الشيطان ، فلا يكون مشمولا للحديث.

الثاني من الأحاديث المستدل بها في المقام : الصحيح عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : ما حجب الله علمه عن العباد فهو

١٩٠

موضوع عنهم» (١). فإنه ظاهر في أن الحكم الواقعي المجهول موضوع عن المكلفين ، فيدل على عدم وجوب الاحتياط ويعارض أدلته لو تمت. ومما تقدم في حديث الرفع يظهر عمومه للشبهة الحكمية والموضوعية معا.

وقد استشكل في الاستدلال المذكور شيخنا الأعظم قدس‌سره بأن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه للعباد ، لا ما بينه واختفى عليهم بسبب من عصى في تضييع الحق ، فهو مساوق لما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله : «إن الله حدّ حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تكلفوها ، رحمة من الله لكم ، فاقبلوها» (٢).

وفيه : أن منشأ الظهور المذكور إن كان هو نسبة الحجب له تعالى ، فيكون كناية عن عدم إيصال الحكم للرسل أو عدم أمرهم بتبليغه ، فالظاهر أنه يكفي في صحة النسبة استناد الفعل له سبحانه ، بتقدير أسبابه ، ولو بتوسط الناس ، كما هو الحال في نسبة الرزق والابتلاء ونحوهما إليه تعالى. وإن كان منشؤه ظهور فرض الحجب عن العباد في إرادة جميعهم الراجع لعدم تصديه سبحانه لبيان الحكم حتى للرسل ، فالظاهر أن العموم في العباد ليس مجموعيا بل انحلاليا ، راجعا إلى وضع التكليف عن كل من حجب عنه ، نظير العموم في حديث الرفع ، لأن ذلك هو المناسب لكون القضية ارتكازية.

الثالث : ما عن الفقيه : «قال الصادق عليه‌السلام : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٣) ، وما عن أمالي الشيخ بسنده عنه عليه‌السلام : «الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي» (٤) ، وعن عوالي اللآلي : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص» (٥). قال

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٨.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦١.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦٠.

(٤) مستدرك الوسائل باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦.

(٥) مستدرك الوسائل باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٨.

١٩١

شيخنا الأعظم قدس‌سره بعد ذكر مرسل الفقيه : «ودلالته على المطلوب أوضح من الكل. وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم. فإن تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها». وما ذكره قريب جدا.

لكن قد يستشكل في دلالة الحديث بوجهين الأول : ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس‌سره من أنه يكفي في ورود النهي وروده إلى بعض المكلفين وإن خفي على غيرهم ، ومن الظاهر ملازمة احتمال التكليف غالبا لاحتمال ورود النهي بالنحو المذكور ولو بنحو العموم ، ولا سيما لو أريد من المكلفين ما يعم المعصومين عليهم‌السلام. إلا أن يتمم الاستدلال بضميمة أصالة عدم ورود النهي ، وهو أمر آخر.

وفيه : أن الورود والإطلاق لما كانا أمرين إضافيين ، فالظاهر من إطلاقهما في الحديث كون رافع الإطلاق في حق كل شخص ورود النهي له ، لا أن ورود النهي لبعض المكلفين رافع للإطلاق في حق غيره ، خصوصا في هذه القضية الارتكازية. ولا سيما مع ظهوره في ضرب القاعدة العملية المناسب لتيسر الاطلاع على موضوعها للعامل بها ، والمتيسر لكل شخص إدراك ورود النهي له لا لغيره.

الثاني : أن ورود النهي يراد به .. تارة : وصوله للمكلف ، كما إذا عدّي للمكلف بنفسه أو باللام.

وأخرى : ما يساوق تشريعه في حقه وإن لم يصل إليه ، بلحاظ أن التكليف لما كان قائما بين المولى والعبد ، فكما يصدق بجعل المولى له صدوره منه يصدق وروده على العبد ، بمعنى صيرورته في ذمته ، وإن لم يعلم

١٩٢

بذلك.

وعلى الأول ينفع الحديث فيما نحن فيه. أما على الثاني فيكون أجنبيا عنه ، واردا لبيان أن الأشياء بطبعها على السعة ما لم يشرع النهي فيها ، فيرجع إلى أصالة الإباحة بالمعنى الأول المتقدم عند الكلام في أن الأصل هو الحظر أو الإباحة في الأمر الثالث من التمهيد لمباحث الأصول.

ولا يخفى أن المعنى الأول هو المتعين في مرسل العوالي ، لأن النص ليس أمرا مجعولا ، فلا بد أن يراد بوروده وصوله. أما مرسل الفقيه ونحوه فهو لا يخلو عن إجمال من هذه الجهة ، ولا معين فيه لأحد المعنيين بعد حذف متعلق الورود فيه.

وفيه : أنه لا فائدة ببيان المعنى الثاني بعد ورود الشريعة وعدم خلوّ الوقائع عن الأحكام الشرعية ـ كما نبه لذلك غير واحد من مشايخنا ـ فلا مجال لحمل الحديث عليه ، بخلاف ما لو أريد بيان الوظيفة الظاهرية ، حيث يترتب العمل على ذلك ، فيحسن بيانه ويتعين حمل الحديث عليه.

الرابع : صحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام : «سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال : لا ، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت : بأي الجهالتين يعذر ، بجهالته أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال : إحدى الجهالتين أهون من الأخر ، الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. فقالت : وهو في الأخرى معذور؟ قال : نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها» (١).

حيث يتجه الاستدلال به بناء على أن قوله عليه‌السلام : «فقد يعذر الناس في

__________________

(١) الوسائل ج : ١٤ باب : ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة حديث : ٤.

١٩٣

الجهالة بما هو أعظم من ذلك» إشارة إلى القضية الارتكازية المقتضية لعموم العذر حتى بالإضافة إلى عدم العقاب ، وعدم اختصاصه بعدم الحرمة المؤبدة ، فيكون واردا لبيان الأصل الثانوي ، ودليلا على عدم الاحتياط بقرينة المورد ، لكون الجهالة المفروضة فيه هي الجهالة بالحكم الواقعي ، وهو حرمة التزويج في العدة ، لا بالحكم الظاهري ، ليكون واردا لبيان الأصل الأولي الذي يرفعه دليل الاحتياط. كما أنه نص في العموم للشبهة الموضوعية والحكمية.

لكنه يشكل بانصراف الجهالة في الصحيح إلى الغفلة واعتقاد الحل خطأ ، نظير ما تقدم في صحيح عبد الصمد من أدلة الأصل الأولي. ولا سيما مع التعليل فيه بأنه لا يقدر على الاحتياط ، ضرورة القدرة على الاحتياط مع الالتفات والشك.

الخامس : صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١) ، وعن الذكرى الاستدلال به في المقام. ونحوه خبر عبد الله بن سليمان ومرسل معاوية بن عمار الواردان في الجبن (٢).

وقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأن الحديث حيث تضمن فرض انقسام الشيء فعلا للحلال والحرام فالظاهر منه كون الانقسام المذكور هو منشأ اشتباه حال المشكوك ، وذلك إنما يتم في الشبهة الموضوعية ، كالشبهة في الجبن الذي يعلم أن قسما منه حرام فيه ميتة ، وقسما حلال لا ميتة فيه ، فيشتبه حكم بعض أفراده لتردده بين القسمين. وأما الشبهة الحكمية فهي ناشئة دائما عن فقد الدليل ، لا عن الانقسام المذكور وإن كان موجودا ، فالحيوان وإن كان

__________________

(١) الوسائل ج : ١٢ باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث : ١.

(٢) الوسائل ج : ١٧ باب : ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة حديث : ١ ، ٧.

١٩٤

منقسما إلى الحرام والحلال ، كالضأن والخنزير ، إلا أن انقسامه لا يكون منشأ لاشتباه الحال في بعض أفراده الأخر كالأرنب ، بل الشك فيه ناشئ عن فقد الدليل عليه ولو مع عدم الانقسام المذكور.

وقد حاول بعض الأعيان المحققين قدس‌سره دفع ذلك بأن الانقسام للحرام والحلال قد يكون منشأ للشك في الشبهة الحكمية ، كما لو كان القسمان مجملين بالإضافة إلى بعض الأصناف ، حيث يكون الانقسام منشأ للشك في حكم الشبهة بين القسمين ، كالصيد حال الإحرام ، حيث يحرم منه صيد البر ويحل صيد البحر ، فلو كان فرض إجمال القسمين ، بحيث يتردد حال صيد الحيوان الذي يعيش في البحر والبر ـ كالسلحفاة والضفدع ـ بينهما كان من ذلك.

لكن ما ذكره قدس‌سره ـ لو تمّ ـ لا ينافي انصراف إطلاق الحديث للشبهة الموضوعية ، لندرة الفرض الذي ذكره والغفلة عنه عرفا. مضافا إلى أن الحديث في نفسه ظاهر في عدم منجزية العلم الإجمالي ، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره فالمتعين حمله على الشبهة غير المحصورة التي تخرج بعض أطرافها عن الابتلاء كما يأتي عند الكلام في حكم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، وذلك إنما يكون خارجا في الشبهة الموضوعية بسبب كثرة أفراد العناوين المشتملة على الحرام ـ كالجبن واللحم ـ ولا يكون في الشبهات الحكمية.

السادس : موثق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (١) ، ودلالته على الأصل الثانوي

__________________

(١) الوسائل ج : ١٢ باب : ٤ من أبواب ما يكتسب به حديث : ٤.

١٩٥

ظاهرة ، ولا سيما بملاحظة الأمثلة.

ولكن لا عموم فيه للشبهة الحكمية بلحاظ الأمثلة المذكورة ، لاحتمال سوقها مساق الشرح للقاعدة ، لا لمجرد التمثيل ، فإن قوله عليه‌السلام : «وذلك مثل ...» ظاهر في حصر مفاد القاعدة بما يكون مثل الأمور المذكورة ، وحينئذ يحتمل كون الاشتباه في الموضوع مأخوذا في المماثلة التي قيّد بها العموم.

بل ذكر البينة في ذيل الحديث يناسب اختصاصها بالشبهة الموضوعية ، لوضوح كونها هي المرجع فيها ، وأما في الشبهة الحكمية فالمرجع خبر الثقة ، الذي يلغو معه ذكر البينة ، كما سبق عند الكلام في حجية الاطمئنان. ومثله في ذلك حديث عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن : «قال : كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة» (١).

هذا وقد أشار شيخنا الأعظم قدس‌سره للإشكال في الأمثلة المذكورة بأن الحلّ فيها ليس مستندا لأصالة الحلّ ، بل لأصول وقواعد حاكمة ومقدمة عليها ، وهي اليد في الأولين ، وأصالة عدم الانتساب وعدم الرضاع في الثالث ، ومع قطع النظر عنها فالأصل لا يقتضي الحلّ بل الحرمة ، لأصالة عدم تملك الثوب وأصالة الحرية في الإنسان ، وعدم الزوجية في المرأة.

ويندفع أولا : بأن نسبة الأمارة أو الأصل الحاكم إلى الأصل المحكوم نسبة الحكم الثانوي للحكم الأولي ، والحكم الثانوي وإن كان هو الأقوى ، فيقدم على الحكم الأولي مع الاختلاف بينهما ، إلا أنه لا يوجب قصور موضوع الحكم الأولي ذاتا عن شمول المورد ، بل يبقى موضوعه ثابتا ويتبعه الحكم اقتضاء ، بل فعلا مع الموافقة بينهما ، وإنما يسقط عن الفعلية مع الاختلاف بينهما ، لكون موضوع الحكم الثانوي من سنخ المانع من تأثير موضوع الحكم

__________________

(١) الوسائل ج : ١٧ باب : ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة حديث : ٢.

١٩٦

الأولي له.

ففي المقام التصرف في الثوب مثلا بلحاظ كونه أمرا مشكوك الحرمة يكون مجرى لأصالة الحلّ ، وبلحاظ استصحاب عدم تملك الثوب يكون محكوما بالحرمة ظاهرا ، وبلحاظ كونه مورد اليد يكون محكوما بالحلية ظاهرا ، والثالث حاكم على الثاني ومانع من فعليته ، ومع سقوطه عن الفعلية يرتفع المانع من فعلية الأول ، ويصير الأول فعليا كالثالث.

وحينئذ لا مانع من إغفال الأمارة أو الأصل الحاكم والتنبيه للأصل المحكوم ، لكون تفهيمه للخطاب أيسر ، أو لكونه مورد الحاجة ، كما في مورد الحديث ، حيث احتيج لتوضيح أصالة الحلّ بالتمثيل ، ولا سيما مع صعوبة فرض مثال لا يكون مجرى لأمارة أو أصل حاكم موافق أو مخالف.

نعم إذا كانت الأمارة أو الأصل الحاكم الجاري فعلا مخالفا للأصل المحكوم عملا كان التنبيه على المحكوم وإغفال الحاكم إغراء بالجهل ومستلزما للإيقاع في خلاف الوظيفة الفعلية. ومن الظاهر عدم لزومه في المقام.

وثانيا : أن الإشكال المذكور لا يمنع من الاستدلال بالموثق ، لقوة ظهوره في إرادة أصالة الحلّ. وغاية ما يلزم إجمال وجه التمثيل بالأمثلة المذكورة ، وهو ليس محذورا مانعا من الاستدلال في المقام.

ودعوى : أن الأمثلة المذكورة توجب ظهور الموثق في إرادة الحلية المستندة لليد أو الاستصحاب ، لا المستندة لأصالة الحل التي هي محل الكلام.

مدفوعة أولا : بأنه لا جامع عرفي بين الأمرين ، فلا مجال لحمل القاعدة المضروبة في صدر الموثق والمشار إليها في ذيله على ذلك. وثانيا : بأن الموثق إن حمل على التنبيه للاستصحاب واليد بعد الفراغ عن جريانها وتحقق موضوعها كان واردا مورد الإرشاد ، وهو خلاف ظاهره جدا ، بل هو ظاهر في

١٩٧

التأسيس وضرب القاعدة الشرعية التي يرجع إليها في مقام العمل ، وذلك يقتضي تحديد موضوعها ، ولا إشارة في الموثق لموضوع قاعدتي اليد والاستصحاب ، بل ظاهره كون الموضوع صرف الشك ، وليس هو إلا موضوع قاعدة الحل.

هذا تمام ما عثرنا عليه من النصوص العامة المستدل بها في المقام. وقد ظهر أن ما يدل على البراءة في الشبهة الحكمية خصوص الثلاثة الأول ، وأن عمدتها الأول ، وهو حديث الرفع ، لقوة دلالته وسنده معا. كما أن صحيح عبد الله بن سنان وما بعده تنهض دليلا على البراءة في الشبهة الموضوعية فقط.

نعم هي تختلف عن الثلاثة الأول بنهوضها بالتعبد بالحلّ ، أما الثلاثة الأول فهي إنما تدل على السعة في مقام العمل من دون تعبد بأحد طرفي الشك.

ومن ثم عدت الأول من أدلة البراءة ، وعدت الأخيرة من أدلة قاعدة الحلّ.

وتفترق الطائفتان بأن الثانية تنهض بإحراز آثار الحل الشرعية ، بخلاف الأولى.

تتميم

قد يستدل في المقام بالاستصحاب ، بلحاظ أن التكليف المشكوك أمر حادث مسبوق بالعدم ، للعلم بعدم التكليف عند فقد شروطه العامة ـ كالبلوغ ـ أو الخاصة ـ كالوقت ـ فيستصحب العدم المذكور بعد ذلك ، بناء على ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب في الأمور العدمية. وبعبارة أخرى : بعد أن كانت السعة مقتضى الأصل الأولي العقلي ، ولا يخرج عنها إلا بالتكليف الشرعي ، فاستصحاب عدم التكليف والتعبد به شرعا يقتضي السعة المذكورة ويطابق البراءة عملا وإن خالفها مفادا. نعم مع تعاقب حالتي التكليف وعدمه والجهل بالتاريخ لا مجال لذلك ، على ما يذكر في مبحث الاستصحاب.

ودعوى : أن ما يترتب على الاستصحاب المذكور من السعة في مقام

١٩٨

العمل ثابت بنفس الشك عقلا وشرعا ، بناء على ما تقدم من جريان البراءة العقلية والشرعية ، فيكون التعبد بالاستصحاب لغوا ، لخلوه عن الفائدة.

مدفوعة بأن السعة وإن كانت ثابتة مع الشك بناء على البراءة ، إلا أنها بملاك عدم تحقق شرط استحقاق العقاب ، وهو تنجز التكليف ، أما مع عدم التكليف ـ الشرعي فالسعة بملاك عدم المقتضي لاستحقاق العقاب ، فالتعبد بعدم التكليف ـ بالاستصحاب أو بغيره ـ تعبد بعدم المقتضي ، وذلك كاف في رفع لغوية التعبد المذكور عرفا وإن كانا مشتركين في الأثر.

ولو لا ذلك لامتنع التعبد بالحلية والإباحة ـ التي هي من سنخ المقتضي لعدم الاستحقاق ـ بطريق الأصل ، بل حتى بطريق الأمارة والحجج المثبتة لها.

بل امتنع جعل الإباحة والترخيص ثبوتا ، لعدم الأثر العملي للجميع إلا السعة عملا وعدم استحقاق العقاب اللذين يترتبان بمجرد الشك وعدم وصول المنع الشرعي. ولا رافع للغوية إلا ما ذكرنا من اختلاف ملاك السعة في مقام العمل ، ومنشأ عدم استحقاق العقاب.

وما ذكرناه هو العمدة في دفع محذور اللغوية ، لا ما قد يستفاد من غير واحد من أن الأثر في ظرف جريان الاستصحاب يكون مستندا له لا للشك بنفسه ، حيث يكون الاستصحاب رافعا حقيقة للشك الذي هو موضوع البراءة العقلية ورافعا تعبدا للشك الذي هو موضوع البراءة الشرعية. إذ فيه : أن ذلك ـ لو تم ـ لا يرفع محذور لغوية التعبد بالاستصحاب بعد كون الأثر المترتب عليه مترتبا مع عدمه.

وحيث انتهى الكلام في أدلة البراءة فينبغي الكلام فيما استدل به على أدلة الاحتياط.

فقد استدل عليه بالأدلة الثلاثة ..

١٩٩

الدليل الأول : الكتاب الشريف. وقد استدل منه بآيات كثيرة. ولعل عمدتها ما تضمن النهي عن القول بغير علم ، وما تضمن الأمر بالتقوى.

وتقريب الاستدلال بالأولى : أن الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول بغير علم ، وافتراء عليه ، لأنه لم يأذن فيه. قال شيخنا الأعظم قدس‌سره : «ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنما يتركون الفعل لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ، فإنه لا يكون إلا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة».

أقول : الترك لاحتمال الحرمة إن كان لحكم العقل فهو ـ مع ابتنائه على ما يأتي الكلام فيه ، وخروجه عن الاستدلال بالكتاب ـ قد يجري مثله من القائلين بالبراءة ، حيث يمكن استنادهم للبراءة العقلية لو لم يتم الدليل على البراءة الشرعية. وإن كان لدعوى حكم الشارع به فلا بد من الاستناد فيه للعلم ، كالقول بالبراءة الشرعية ، الذي سبق الاستدلال له بأدلة شرعية معتبرة ، وليس هو قولا بغير علم.

وتقريب الاستدلال بالثانية : أن الاحتياط في الشبهة مقتضى التقوى لله تعالى. وفيه : أن التقوى عبارة عن التوقي والتحرز عن عقابه تعالى ، فيختص بالشبهة التي يحتمل معها العقاب ، ومع تمامية أدلة البراءة العقلية والشرعية يؤمن من العقاب ولا موضوع معه للتقوى.

هذا مع النقض على الاستدلال بكلتا الطائفتين بما هو المتسالم عليه من جريان البراءة في الشبهة الموضوعية ، وما هو المعروف من الأخباريين أنفسهم من جريانها في الشبهة الوجوبية الحكمية ، حيث لا مجال لالتزام تخصيص عموم الطائفتين المتقدمتين بأدلة البراءة في الموردين المذكورين ، لإباء العموم المذكور عن التخصيص جدا ، فلا بد من البناء على ارتفاع موضوعه بالأدلة

٢٠٠