الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

٤

القسم الثاني

في الأصول المبتنية على العمل

وقد سبق في التمهيد لمباحث علم الأصول أن المراد بها الكبريات المبتنية على العمل والناظرة إليه لابتنائها على التعذير والتنجيز وتحديد مواردهما. وهي مباحث الحجج والأصول العملية ، في مقابل القسم الأول المبحوث فيه عن مدركات واقعية لا تتضمن العمل بنفسها ، وإنما يترتب عليها لخصوصية موضوعها أو بضميمة أمر خارج عنها.

تمهيد

لا يخفى أن من التفت لحكم شرعي إما أن يحصل له القطع فيه وجودا أو عدما أو لا ، وعلى الثاني فإما أن تقوم عنده الحجة المعتبرة ـ عقلا أو شرعا ـ عليه أو لا. ولا إشكال في وجوب متابعة القطع في الصورة الأولى ، ومتابعة الحجة في الثانية. وأما في الثالثة فإن دل دليل شرعي أو عقلي على وجوب الفحص عن الحكم من أجل حصول العلم به أو تحصيل الحجة عليه تعين ، وإن لم يجب الفحص ـ ولو لاستكماله ـ تعين الرجوع للوظيفة العملية الشرعية أو العقلية ، وهي المعبر عنها بالأصل في مصطلحهم.

من دون فرق في ذلك بين الحكم الإلزامي ـ المعبر عنه بالتكليف ـ وغيره ، ولا بين كون منشأ الشك الشك في تحقق الشروط العامة للتكليف

٥

وغيره ، ولا بين كون الشاك هو المجتهد وغيره ، ولا بين رجوع الشك للشبهة الحكمية ورجوعه للشبهة الموضوعية. وما قد يظهر من بعضهم من قصر موضوع القضية ببعض الأقسام في غير محله ، بعد عمومها وبداهتها في نفسها عقلا.

نعم لما كان الغرض من علم الأصول هو استنباط الأحكام الفرعية عن أدلتها التفصيلية اختص موضوعه بشك الواجد لملكة الاجتهاد من جهة الشبهة الحكمية. إلا أن ذلك لا يقتضي تخصيص القضية المذكورة بعد عمومها في نفسها وسوقها في المقام للإشارة الإجمالية لمباحث هذا القسم.

هذا وحيث كانت الكبرى المذكورة بديهية ـ لما سيأتي من بداهة متابعة القطع ، وكذا الحجة والأصل في موردها ، لأنه مقتضى جعلهما ـ فالمهم تشخيص موضوعها وصغرياتها.

لكن لا مجال لضبط موارد القطع بالحكم ، لأنه أمر تكويني تابع لأسبابه التكوينية غير المنضبطة. نعم تقدم في مباحث الملازمات العقلية الكلام في تحققه في موارد التحسين والتقبيح العقليين ، إلا أنه لا يستوفي موارده.

ومن ثم لا مجال للكلام فيه هنا ، بل يختص الكلام في المقام بتشخيص الحجج والأصول العملية وتحديد مفادها ومواردها ، ليرجع إليها مع عدم القطع ، لأنها حيث كانت تابعة لجعل الشارع وحكم العقل تيسر ضبطها في الجملة بالنظر في أدلتها.

كما أنه حيث كان كل من الحجج والأصول قد تتعارض تبعا لعموم أدلتها بدوا تعين الكلام في تحديد موارد التعارض وأحكامه ، وكان البحث عنه في جملة مقاصد هذا القسم ، ولا وجه لجعله خاتمة للبحث في هذا القسم بعد كونه كسائر مباحثه مما يتوقف عليه الاستنباط وتقع كبريات مسائله مقدمة له ،

٦

بل يتعين كونه من المباحث الأصلية فيه.

كما لا وجه لجعله من جملة مباحث الحجج بعد عموم جملة من مباحثه للأصول ، بل يتعين البحث فيه مستقلا عنهما.

ومن هنا كانت مقاصد هذا القسم ثلاثة :

الأول : في الحجج.

الثاني : في الأصول.

الثالث : في التعارض.

ومن المناسب التعرض ـ تبعا لغير واحد ـ لبعض المباحث المتعلقة بالقطع ، والتي قد تجري في غيره من الحجج والأصول من غير حيثية تشخيص صغرياتهما. حيث لا تخلو من فائدة تناسب المقام ، وتكون مقدمة للمقاصد الأصلية في هذا القسم. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٧

مقدمة

في القطع

وفيها فصول ..

الفصل الأول

في حجية القطع

والمراد بالحجية .. تارة : محض لزوم المتابعة في مقام العمل.

وأخرى : ما يناسب المنجزية المستتبعة لاستحقاق العقاب بالمخالفة ، والمعذرية المستتبعة للأمان منه مع الموافقة ولو مع الخطأ وعدم الوصول للواقع. ويظهر من بعض كلماتهم في المقام التلازم بين الأمرين أو الخلط بينهما ، وإن صرحوا بعدم التلازم بينهما في غير المقام ، بل أشار بعضهم إلى ذلك في المقام.

ومن هنا ينبغي الكلام في مقامين :

المقام الأول : في متابعة القطع

ولا إشكال بينهم في لزومها وإن اختلفوا في تقريبه. ولعل الأولى أن يقال : بعد فرض كون الواقع الذي يتعلق به القطع موردا لعمل المكلف ـ إلزاما كان أو غيره ـ فمن البديهي أنه ليس علة تامة للعمل ، لأن العمل أمر اختياري ، والاختيار موقوف على الالتفات للجهات المناسبة له من الدواعي وغيرها. ومع الالتفات للواقع ووصوله لا بد من ترتب العمل المناسب له ، إذ ليس وراء

٨

الوصول شيء ، وحيث كان القطع بنفسه وصولا للواقع تعين متابعته ، لتحقق شرط العمل به. ومن هنا كانت متابعته من لوازم ذاته تكوينا ، ولا تحتاج لجعل من الشارع ، بل يكون الجعل لغوا ، لعدم استناد العمل له ، كما لا تحتاج إلى حكم العقل زائدا على مقتضى الذات ، لأن حكم العقل إنما يتجه مع إمكان التخلف ، لا مع لزومه تكوينا.

وهذا بخلاف غيره من الطرق ، فإنها لما لم تكن بنفسها وصولا للواقع ولا موصلة له ـ لاحتمال الخطأ فيها ـ توقف وجوب متابعتها على أمر خارج عنها من حكم عقلي أو شرعي.

كما لا مجال للردع عن متابعة القطع ، إذ عدم متابعته إن كان لعدم كون الواقع موردا للعمل فهو خارج عن محل الكلام ، لفرض عدم تصرف الشارع في الحكم المعلوم برفعه أو نسخه أو تقييده بحال خاص غير متحقق مع القطع.

وإن كان لعدم كونه وصولا للواقع فهو مخالف لمقتضى ذات القطع ، لأن القطع عين الوصول للواقع ـ ولو بنظر القاطع ـ وبه قوام ذاته. وإن كان لاعتبار أمر آخر في فعلية العمل بالواقع زائدا على وصوله فهو خلاف مقتضى فطرة الإنسان ، بل كل ذي شعور ، حيث لا يحتاج في فعلية العمل بالواقع إلى أكثر من وصوله. ولو فرض منه عدم ترتيب الأثر عليه بوصوله فليس هو لعدم كفاية الوصول بنظره في فعلية العمل ، بل لقصور الواقع الواصل عن مقام العمل ، إما لعدم كونه مقتضيا له بنظره ، أو لكونه مزاحما بما يمنع من تأثيره من شهوة أو غضب أو غيرهما.

ومن ثم تكون المخالفة ارتكازا ـ كالموافقة ـ مع العلم للواقع المعلوم ، لا للعلم بنفسه ، بل لا يلتفت للعلم في مقام الموافقة أو المخالفة ، ويكون مغفولا عنه حينها ، بخلاف غيره من الطرق ، فإنها ملحوظة في مقام الموافقة في طول الواقع ، كما أن المخالفة معها تكون .. تارة : مخالفة للواقع الذي قامت عليه ،

٩

وأخرى : مخالفة للطريق نفسه ، مع كون الواقع كافيا في العمل لو وصل بطريق آخر.

وبذلك يظهر أن لزوم متابعة القطع إنما هو بمعنى لا بديتها تكوينا في ظرف كون الواقع موردا للعمل عند القاطع ، لا بمعنى وجوبها شرعا أو عقلا ، كما في الطرق ، وأن التخلف عنه إنما هو لعدم كون الواقع موردا للعمل عنده ولو لمزاحمته بجهات أخرى شهوية أو غضبية أو غيرهما.

كما ظهر أن إطلاق الطريق على القطع ـ كما في بعض كلماتهم ـ لا يخلو عن تسامح أو إشكال ، لأن الطريق هو الأمر الموصل للواقع ، والقطع بنفسه وصول له. نعم قد يكون سبب القطع طريقا للواقع كالخبر المتواتر.

كما لا مجال لإطلاق الحجة على القطع ، لأن الحجة هي الأمر الذي يعتمد عليه في مقام العمل لإثبات متعلقه والبناء عليه ، والقطع عبارة عن ثبوت الواقع ووصوله ، لا أنه مثبت للواقع وموصل له ، بل لا يكون ملحوظا في مقام العمل ولا ملتفتا إليه ، كما سبق. إلا أن يراد بالحجة ما يناسب المنجزية والمعذرية ، التي يأتي الكلام فيها في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

بقي في المقام أمور ..

الأول : استدل غير واحد تبعا لشيخنا الأعظم قدس‌سره على لزوم متابعة القطع وامتناع ردع الشارع عنه بأن الردع مستلزم للتناقض في الواقع أو في نظر القاطع ، لأن المكلف إذا قطع بحرمة شيء فنهي الشارع له عن العمل بقطعه وترخيصه في ارتكابه موجب للتناقض ولو في نظره بين الواقع المقطوع به والترخيص الشرعي المذكور.

وفيه : أولا : أن بطلان التناقض لم يبلغ إلا مرتبة القطع ، فالاستدلال به موقوف على امتناع الردع عن حجية القطع ـ وإلا أمكن الردع عن القطع الحاصل

١٠

به ـ فكيف يمكن الاستدلال به على امتناع الردع عنه.

وثانيا : أن الردع عن العمل بالقطع ـ كالردع عن العمل بالظن ـ لا يرجع إلى الترخيص على خلاف الواقع المقطوع به ، بل إلى مجرد عدم حجيته ، وهو لا يناقض الواقع بوجه. نعم قد يستفاد الترخيص من الطرق والأصول الشرعية التي تجري مع عدم الحجة ، وكما أمكن جمع مفادها مع الواقع المظنون أو المحتمل على ما يأتي في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري أمكن جمعه مع الواقع المقطوع به ، إلا مع المفروغية عن حجية القطع وامتناع الردع عنه التي يستغنى معها عن الاستدلال المذكور.

الثاني : أن هذه المسألة خارجة عن المسائل الأصولية ، لأن المعيار في المسألة الأصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، لكونها إحدى مقدمات القياس المنتج له ، والقطع بنفسه وصول للحكم لا مقدمة للوصول إليه ، فهو عبارة عن العلم بالنتيجة المغني عن تكلف القياس المنتج لها ، والحكم معه كالحكم بعد الاستنباط.

الثالث : أن موضوع الحسن والقبح الفعليين هو الواقع المقطوع به ، لأنه موضوع الآثار والملاكات والأغراض المستتبعة للحسن والقبح ، ولذا لا يكون القطع الطريقي ـ الذي هو محل الكلام ـ مأخوذا في موضوع الكبريات العقلية والشرعية ، بل موضوعها الواقع بنفسه ، وليس القطع إلا محققا لشرط العمل التابع للاختيار ، فهو محقق لشرط العمل بالنتيجة لا شرط في موضوع الكبرى.

نعم حيث كان الحسن والقبح الفاعليان تابعين للاختيار الذي هو المعيار في المدح والذم وكان الاختيار تابعا للقطع كان القطع دخيلا فيهما ، مطلقا وإن كان خطأ وجهلا مركبا ، من دون أن يكون دخيلا في الحسن والقبح الفعليين ، وإن أوهمت ذلك كلمات بعضهم.

١١

المقام الثاني : في منجزية القطع ومعذريته

ولا إشكال عندهم في ثبوتهما للقطع في الجملة. وإن كان الظاهر أن المعيار فيهما أمر آخر قد يجتمع مع القطع ، فمعيار المعذرية قصور الواقع عن الداعوية عقلا إما للغفلة المطلقة عنه لا عن تقصير ، أو للقطع بخلافه كذلك ، أو لوجود المؤمّن منه من دليل معتبر أو أصل ، لامتناع داعويته في الصورتين الأوليين ، لتوقف داعوية الداعي على الالتفات له المفقود فيهما ، وفي الثالثة وإن أمكنت داعويته بسبب الالتفات إليه إجمالا ، إلا أن وجود المؤمّن منه مسقط له عن فعلية الداعوية عقلا.

أما المنجزية فالمعيار فيها بلوغه مرتبة الداعوية ، إما مع فعليتها بسبب القطع به أو قيام الدليل أو الأصل المعتبر عليه ، أو بدونها للغفلة المطلقة عنه أو القطع بعدمه عن تقصير ، لأن عدم فعلية داعويته حينئذ ـ لعدم الاحتمال الذي هو شرط في داعوية الداعي ـ لما كان مسببا عن تقصير المكلف فهو لا ينافي بلوغه مرتبة الداعوية عقلا. ولا سيما مع كون التقصير مستلزما للالتفات إليه إجمالا ، لأنه إنما يكون مع الالتفات إلى وجود أحكام في الشريعة يجب الخروج عنها ، ومثل هذا الالتفات كاف في التنجيز بعد عدم المؤمّن بسبب التقصير.

وبذلك يظهر ملازمة القطع بالواقع لتنجزه ، وعدم معذرية القطع بخلاف الواقع مع التقصير.

١٢

الفصل الثاني

في التجري

وقع الكلام في استحقاق العقاب بمخالفة التكليف المقطوع به مع خطأ القطع واقعا وكونه جهلا مركبا وهو المعروف عندهم بالتجري. وكلمات شيخنا الأعظم قدس‌سره مضطربة في تحديد محل النزاع ، وما يستفاد من مجموع كلماتهم أن النزاع .. تارة : في ثبوت التكليف واقعا في مورد القطع المذكور ، بحيث يكون مخالفته معصية حقيقية.

وأخرى : في حرمة التجري شرعا ، وهو نفس القصد للمعصية في ظرف الجري عليه بفعل ما يعتقد كونه معصية ، وإن لم يكن الفعل بنفسه محرما ، لفرض خطأ القطع.

وثالثة : في استحقاق العقاب بالتجري المذكور وإن لم يكن معه معصية حقيقية ، لكون موضوع استحقاق العقاب عقلا أعم منه ومن المعصية الحقيقية ، ولا يختص بالمعصية.

فالكلام في مقامات ثلاثة.

المقام الأول

في ثبوت التكليف واقعا في مورد القطع المذكور ، ولو بعنوان ثانوي

وقد يقرب بوجوه ..

الأول : أن موضوع التكاليف الواقعية في ظاهر الأدلة بدوا وإن كان هو العناوين الواقعية ـ كالخمر والكذب ـ إلا أنه لا بد من صرفه إلى ما يعتقد المكلف

١٣

بانطباق العناوين عليه وإن كان خطأ ، حيث لا بد من تعلق التكليف بما هو مقدور للمكلف بنحو يقتضي تحرك الاختيار والإرادة نحوه ، فالمطلوب الحقيقي للمولى هو اختيار المكلف وإرادته للفعل.

وحيث كان تمام الموضوع للإرادة والاختيار هو الصور الذهنية لزم صرف التكليف بالعناوين الواقعية إلى التكليف بالاختيار المتعلق بالصور الذهنية الحاصلة مع القطع ، فمرجع التكليف بحرمة الخمر ووجوب الصلاة مثلا إلى التكليف باختيار ترك ما يقطع بكونه خمرا ، وباختيار فعل ما يقطع بكونه صلاة مثلا ، سواء كان القطع صوابا أم خطأ.

وفيه أولا : أنه مختص بما إذا كان الخطأ في الموضوع ذي الحكم الثابت ، كالأمثلة المتقدمة ، دون ما إذا كان في نفس الحكم ، كما لو قطع خطأ بحرمة عصير الزبيب ، حيث لا حكم واقعا ليدعى عمومه لمورد الخطأ. وأنه يستلزم إجزاء ما يقطع خطأ بأنه من أفراد الواجب ، وترتب بقية آثار العنوان المقطوع به خطأ ، كالكفارة والحد ونحوهما مما تضمنت الأدلة ترتبه على موضوع التكليف ... إلى غير ذلك مما لا يمكن البناء عليه.

وثانيا : أن اعتبار القدرة في التكليف لا يستلزم كون المكلف به هو إعمال الاختيار ، ليدعى كون موضوع الاختيار هو الصور الذهنية وإن لم تطابق الواقع ، بل يكفي فيه كون القدرة قيدا في التكليف مع كون المكلف به هو الواقع ، كما هو ظاهر الأدلة والمناسب لكونه مورد الأغراض والملاكات. وأما إعمال الاختيار لتحصيل الواقع فهو من شئون امتثال التكليف بالواقع من دون أن يكون بنفسه موردا للتكليف.

الثاني : أن القطع بكون شيء ما معصية يستلزم القبح الفاعلي بفعله ، كما سبق في آخر الفصل السابق ، بل يأتي أنه يوجب القبح الفعلي ، حيث يكون

١٤

الفعل بنفسه تمردا على المولى وانتهاكا لحرمته وخروجا عن مقتضى العبودية له ، والقبح المذكور كاشف عن حرمة الفعل شرعا ، لقاعدة الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي التي لا إشكال فيها مع كون الفعل علة تامة في القبح ، كما في المقام.

وفيه : أن الحسن والقبح المستلزمين للتكليف شرعا هما التابعان لذات العمل أو للملاكات الثابتة فيه ، دون ما ينشأ من التكليف الشرعي ويترتب عليه بعنوان ثانوي كالطاعة والمعصية والانقياد والتجري ونحوها مما يتفرع على التكليف ، حيث لا إشكال في عدم استتباعه التكليف ، وإلا لتسلسل.

الثالث : أنه مقتضى الأدلة الشرعية التعبدية ، حيث ادعي الإجماع على أن من اعتقد أو ظن ضيق الوقت فأخر الصلاة عصى وإن انكشف سعته ، وعلى أن من سلك طريقا يقطع أو يظن بترتب الضرر عليه عصى ووجب عليه الاتمام وإن انكشف عدم الضرر. وفي موثق سماعة : «سألته عن رجلين قاما فنظرا إلى الفجر فقال أحدهما هو ذا ، وقال الآخر : ما أرى شيئا. قال : فليأكل الذي لم يستبن [يتبين] له الفجر ، وقد حرم على الذي زعم أنه رأى الفجر ، إن الله عزوجل يقول : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)» (١) ، فإن مقتضى إطلاقه ثبوت الحرمة في حق من زعم أنه رأى الفجر وإن كان مخطئا.

لكن الجميع ـ مع اختصاصه بمورده ـ لا ينهض بالمدعى ، لعدم ثبوت الإجماع المذكور بنحو يصلح للحجية ، ولا سيما مع تصريح العلامة في محكي التذكرة بعدم المعصية بتأخير الصلاة مع ظهور سعة الوقت ، وعن النهاية والبهائي من التوقف في ذلك ، بل عن الشهيد في محكي قواعده التنظر في تأثير

__________________

(١) الوسائل ج : ٧ باب : ٤٨ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الامساك حديث : ١.

١٥

التجري العقاب والذم فضلا عن التحريم الشرعي.

مع قرب كون مراد المجمعين بالمعصية مجرد التمرد على المولى ، دون المعصية الحقيقية التي هي عبارة عن مخالفة التكليف الشرعي ، أو ابتناء كلامهم على كون القطع والظن في المقام موضوعيين لا طريقيين ، فيخرج عن محل الكلام من التجري الذي هو عبارة عن مخالفة القطع الطريقي مع الخطأ.

وأما الموثق فالاستدلال فيه بالآية الشريفة موجب لكون المراد به ما يطابقها ، وحينئذ فالتبين فيها إن كان هو تمام الموضوع الواقعي للحرمة كان القطع موضوعيا ، وكان التحريم في حق من زعم أنه رأى الفجر واقعيا خارجا عن باب التجري ، وإن كان الموضوع الواقعي هو طلوع الفجر والتبين طريق منجز له من دون أن يكون دخيلا في الموضوع كان حكمه عليه‌السلام بالحرمة في حق من زعم أنه رأى الفجر ظاهريا راجعا إلى تنجز طلوع الفجر عليه ـ كما هو مفاد الآية الشريفة ـ من دون نظر للحرمة الواقعية ، ليدل على التحريم واقعا مع خطأ القطع الطريقي الذي هو المعيار في التجري. وهناك بعض الوجوه غير ما تقدم لا مجال لإطالة الكلام فيها مع ضعفها.

بل ضعف القول المذكور ارتكازا ـ لعدم مناسبته لفرض الخطأ جدا ـ مغن عن إطالة الكلام فيه لو لا مجاراة الأعلام في المقام.

المقام الثاني : في كون نفس التجري بما هو أمر نفسي محرما

وربما يظهر من بعضهم امتناع تحريمه شرعا ، لكونه خارجا عن الاختيار ، لأنه عبارة عن القصد والعزم ، فلو كان تابعا للاختيار لزم التسلسل في الاختيار.

ويشكل بأن التسلسل إنما يقتضي عدم توقف الاختيار على الاختيار ، ولا ينافي وقوع الاختيار تحت الاختيار في الجملة ، بحيث يمكن إعمال

١٦

الاختيار في فرد منه يكون موردا للتكليف ، ولذا ورد الحث على نية الخير والردع عن نية الشر (١).

فالأولى توجيه عدم وقوعه موردا للتكليف بأن المحرم إن كان هو مطلق العزم على المعصية ولو مع الإصابة لزم تعدد المعصية في صورة الإصابة ، ولا يظن التزام أحد به ، وإن كان خصوص العزم الخاطئ فهو بسبب امتناع الالتفات إليه حين وجوده يلغو تحريمه ولا يصلح للداعوية. ومنه يظهر لزوم حمل ما دل على الحث على نية الخير والردع عن نية الشر على الإرشاد حتى لو استتبع الثواب والعقاب ، لما يأتي من عدم ملازمتهما للتكليف.

المقام الثالث

في استحقاق العقاب بالتجري مع عدم التكليف المولوي

ومرجعه إلى عدم اختصاص موضوع الاستحقاق بالمعصية الحقيقية ، بل يعم التجري ، فتكون المسألة عقلية صرفة ، بخلافها على الوجهين الأولين.

وعن السبزواري توجيه ذلك بأنه لا فرق بين المعصية الحقيقية والتجري إلا في إصابة الواقع وعدمها ، ولا يكون ذلك معيارا في استحقاق العقاب ، لخروجه عن الاختيار ، وليس الأمر الاختياري إلا الإقدام على ما يعتقد كونه معصية ، وهو مشترك بين الأمرين.

ويندفع بأن ذلك إنما يمنع من كون إصابة الواقع هي العلة التامة في استحقاق العقاب ، ولا يستلزم كون العلة التامة له هي القصد إلى المعصية ، بل يمكن دعوى : أن المقتضي للاستحقاق هو الواقع والقصد إلى المعصية شرط له متمم لعلته ، فعدم الاستحقاق مع التجري لعدم المقتضي له ، لا لكون العلة التامة هي إصابة الواقع الخارجة عن الاختيار.

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٦ ، ٧ من أبواب مقدمة العبادات.

١٧

نعم الظاهر قضاء المرتكزات العقلائية بأن المعيار في استحقاق العقاب هو التمرد على المولى وهتك حرمته ومجاهرته بذلك في مقام العمل ، وهو حاصل مع المعصية الحقيقية والتجري بنحو واحد ، ولا خصوصية لإصابة الواقع في ذلك ، وهو الحال في جميع الحقوق العقلية والعرفية ، فإن مقتضاها عدم تعمد الخروج عليها ، بحيث يعدّ المقدم على ذلك مخالفا لمقتضاها وإن كان مخطئا في تحقق موضوعها ، ويترتب عليه ما يترتب على مخالفها حقيقة من الذم والمؤاخذة.

ويناسب ذلك ما تضمن ثبوت العقاب بفعل مقدمات الحرام ، مثل ما تضمن أنه إذا تلاقى المسلمان بالسيف فالقاتل والمقتول في النار ، معللا دخول المقتول النار بأنه أراد قتل صاحبه (١) ، وما تضمن عقاب غارس الخمر وعاصرها ومعتصرها (٢).

وكذا ما تضمن أن نية الكافر شر من عمله ، معللا في بعضه بأنه ينوي ويأمل من الشر ما لا يدركه (٣) ، و

ما ورد من تعليل خلود أهل النار فيها بأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا (٤) ، وما ورد من أنه يكتب للكافر في سقمه من العمل السيئ ما كان يكتب في صحته (٥) ، وما ورد من حرمة الرضا بفعل الحرام ومشاركة الراضي للفاعل في الإثم (٦). فإن ذلك يقتضي بالأولوية العرفية استحقاق المتجري للعقاب الذي زاد على نية الحرام

__________________

(١) الوسائل ج : ١١ باب : ٦٧ من أبواب جهاد العدو حديث : ١.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٧ باب : ٣٤ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٣) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات.

(٤) الوسائل ج : ١ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٤.

(٥) الوسائل ج : ١ باب : ٧ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ٥.

(٦) راجع الوسائل ج : ١١ باب : ٥ من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٨

بالقصد لفعله.

ولا ينافيه ما تضمن أن نية السيئة لا تكتب على العبد حتى يفعل (١). لظهوره في النية بمعنى العزم السابق للعمل ، لا القصد المقارن له المناسب للتجري ، وفي التفضل على المؤمن غير المنافي للاستحقاق الذي هو محل الكلام. وكيف كان فلا معدل عما ذكرنا من قضاء المرتكزات العقلية باستحقاق العقاب بالتجري.

ولا يهم مع ذلك الكلام في أن قبحه فاعلي فقط أو فعلي أيضا. وإن كان الظاهر الثاني ، وأن العمل بنفسه يكون قبيحا بعنوانه الثانوي بلحاظ كونه هتكا لحرمة المولى وخروجا عن مقتضى العبودية له ، فيكون ظلما له كالمعصية الحقيقية ، كما صرح به بعض الأعيان المحققين.

إن قلت : لازم ذلك مزاحمة القبح المذكور للملاك الواقعي المقتضي للحكم الواقعي في الفعل المتجرى به إذا كان اقتضائيا منافيا له ، كما لو كان التجري بفعل الواجب أو المستحب الواقعي ، ومعه يتعين فعلية الأقوى منهما وتساقطهما مع التساوي ، وهو نحو من التصويب. وأيضا تأكد القبح المذكور بالقبح الواقعي لو لم يكن منافيا له ، كما لو صادف محرما آخر غير ما قصد. بل تأكد القبح في المعصية الحقيقية ، بخلاف ما لو كان قبح التجري فاعليا فقط ، فإنه مع تعدد موضوع الحسن والقبح لا مجال للتزاحم والتأكد ، بل يبقى الحسن أو القبح الواقعي قائما بموضوعه وهو الفعل ، والقبح الناشئ من القصد للمعصية قائما بموضوعه ، وهو الفاعل.

قلت : التزاحم والتأكد بين الجهات المقتضية للحسن والقبح إنما يكونان مع تناسب الآثار التابعة لها أو تضادها ، كما هو الحال في جهات الحسن والقبح

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ١ باب : ٦ من أبواب مقدمة العبادات.

١٩

الواقعية الثابتة في الأفعال بعناوينها الأولية أو الثانوية ، لأن آثارها لما كانت هي الأحكام الشرعية العملية ، فمع تناسب الأحكام الناشئة من جهات الحسن والقبح المجتمعة في الفعل الواحد يلزم التأكد ، ومع تضادها يلزم التزاحم المستتبع للتساقط أو الترجيح. أما مع عدم التناسب ولا التضاد بين الآثار فلا مجال للتأكد ولا للتزاحم ، بل تستقل كل جهة بأثرها ، كما هو الحال في المقام ، فإن أثر الحسن والقبح الواقعيين هو الحكم الشرعي المناسب لأحدهما ، وأثر القصد للمعصية الذي به قوام التجري ، وبه يكون الفعل تمردا على المولى وهتكا لحرمته وظلما له هو استحقاق الذم والعقاب ، ولا سنخية بين الأثرين ، ليلزم التأكد أو التزاحم ، كما يظهر بأدنى تأمل.

بقي في المقام أمور ...

الأول : أن التجري لا يختص بالقطع ، بل يجري في غيره من موارد تنجز التكليف المستند للطريق أو الأصل الشرعي أو العقلي ، مع عدم ثبوت التكليف واقعا. وظاهر شيخنا الأعظم قدس‌سره تحقق التجري حينئذ سواء أقدم المكلف برجاء تحقق المعصية أم لعدم المبالاة بذلك أم برجاء عدم تحققها.

وادعى بعض الأعاظم قدس‌سره أن التجري في الصورة الثالثة ليس بالإضافة إلى الحكم الواقعي ، بل بالإضافة إلى الطريق نفسه. ويشكل بأن الأحكام الطريقية لا تكون موضوعا للإطاعة والمعصية إلا في طول الأحكام الواقعية مع كون موضوع العقاب والثواب هو الأحكام الواقعية لا غير. وحينئذ إن أراد بالتجري في الطريق مجرد تعمد المخالفة ، فمن الظاهر أن مخالفته في الفرض المذكور حقيقية لا خطيئة لتكون تجريا ، وإنما الخطأ في الحكم الواقعي المنجز بها. وإن أراد به تعمد المخالفة لما هو موضوع العقاب والثواب فهو مختص بالحكم الواقعي المنجز بها. ومن هنا كان الظاهر أن التجري في الجميع بلحاظ الحكم الواقعي ، كاستحقاق العقاب ، لأن تعمد مخالفته في ظرف تنجزه تمرد على

٢٠