الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

الناقص والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية مع المحافظة على الأحكام الواقعية ـ كما هو الظاهر على ما يأتي في أوائل الفصل الثالث في تردد متعلق التكليف بين المتباينين إن شاء الله تعالى ـ فمقتضى دليل رفع الحرج في المقام سقوط الاحتياط التام مع بقاء الأحكام الواقعية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية بتبعيض الاحتياط ، ولا بد حينئذ من النظر في كيفية التبعيض.

هذا كله في الاحتياط اللازم من العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في موارد انسداد باب العلم والعلمي التي هي معظم المسائل. أما الاحتياط اللازم في الموارد لخصوصية فيها مثل موارد الشك في المحصل ـ كالطهارات ـ أو موارد العلم بالتكليف في الواقعة مع تردد المكلف ـ كالتردد بين القصر والتمام ـ فسقوطه مبني على كثرة الموارد المذكورة بنحو يلزم من الاحتياط فيها المحذوران المتقدمان ، وهو محتاج لتأمل واستقصاء لا يسعه المقام.

لكن لو فرض عدم لزوم المحذورين المذكورين ووجوب الاحتياط فهو لا يخل بتمامية المقدمة ، لعدم وفائه بمعظم المسائل. غايته أنه لو تم دليل الانسداد واقتضى حجية الظن قصر عن الموارد المذكورة ولزم الاحتياط فيها تبعا لمقتضى القاعدة فيها بخصوصيتها.

هذا كله في الاحتياط. وأما الاستصحاب فلا مجال للرجوع إليه لو كان نافيا للتكليف للعلم الإجمالي بمخالفته للواقع في كثير من الموارد ، لأنه يجري في أكثر موارد الرجوع للبراءة. أما لو كان مثبتا للتكليف فالظاهر جواز الرجوع له ، لعدم كثرة موارده بنحو يعلم إجمالا بمخالفته في بعضها للواقع.

بل التحقيق عدم مانعية العلم الإجمالي المذكور ـ لو فرض حصوله ـ من جريان الاستصحاب ، على ما يذكر في محله. نعم لما لم تكن موارده كثيرة فهو لا يفي بمعظم المسائل ، ليمنع من تمامية هذه المقدمة. غايته أنه لو تمّ دليل

١٦١

الانسداد واقتضى حجية الظن قصر عن الموارد المذكورة ، وكان المرجع فيها الاستصحاب.

وأما أصالة التخيير فالعقل إنما يحكم بها عند تعذر الاحتياط للدوران بين محذورين ، كالوجوب والحرمة. أما مع تعذر الاحتياط لجهة أخرى ـ كاختلال النظام في المقام ـ فلم يتعرضوا للرجوع إليها. ويأتي في المقدمة الثالثة تمام الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في الأصول المعروفة التي يرجع إليها في الشبهات الحكمية ، ومن الظاهر أنه لم يثبت جعل الشارع طريقا أو أصلا آخر يتبع في خصوص حال الانسداد ليرجع إليه ، ولا بد مع ذلك من الرجوع للعقل في تشخيص الوظيفة حينئذ ، وعليه يبتني ما يأتي في المقدمة الثالثة.

وأما المقدمة الثالثة : فيظهر الكلام فيها مما تقدم في الوجه الثاني للاستدلال على حجية مطلق الظن ، حيث يظهر مما سبق أن اقتضاء قبح ترجيح المرجوح على الراجح الرجوع للظن موقوف ..

أولا : على الاهتمام بامتثال الأحكام الواقعية.

وثانيا : على كون الظن هو الأقرب للواقع.

وثالثا : على تعذر الاحتياط ، بحيث يتعذر إحراز الامتثال بنحو أقوى من الظن ، كما في موارد الدوران بين محذورين.

وحينئذ إن كان المراد بدليل الانسداد إحراز حجية الظن شرعا ـ وهو المعبر عنه بكلماتهم بالكشف ـ أشكل بعدم إحراز الأمور الثلاثة. أما الأول فلما سبق هناك من أن مجرد جعل الشارع للحكم الواقعي الفعلي لا يستلزم اهتمامه بامتثاله. وأما ما سبق في المقدمة الثانية في وجه امتناع الرجوع للبراءة من العلم بعدم رضا الشارع بترك امتثال الأحكام الواقعية في معظم المسائل. فهو إنما

١٦٢

يقتضي اهتمامه بامتثالها في الجملة بالنحو الذي لا يلزم منه تعطيل الشريعة ، لا اهتمامه بامتثالها مهما أمكن. كما سبق هناك أيضا عدم إحراز الثاني في حق الشارع.

وأما الثالث فالظاهر عدم تماميته أيضا ، لأن الاحتياط التام في جميع المسائل وإن كان متعذرا ، إلا أنه يمكن تبعيض الاحتياط بالاقتصار على ما لا يلزم معه اختلال النظام أو العسر والحرج ، ولا ينحصر الأمر بالاقتصار على موارد الظن بالتكليف.

على أنه لو فرض لزوم الحرج أو اختلال النظام من الاحتياط في ما زاد على مقدار الظن فذلك وحده إنما يكفي في تعيين الظن ـ لو كان أقرب بنظر الشارع ـ إذا انسد باب العلم في مسألة واحدة ، أما مع انسداده في مسائل كثيرة فمع تعذر الاحتياط التام فيها أجمعها ـ للزوم المحذورين السابقين ـ كما يمكن الاكتفاء في الكل بالظن يمكن اختلاف المسائل في ذلك ، تبعا لاختلافها في الأهمية ، فيلزم الشارع بالحفاظ في المهم منها على الموافقة القطعية ، والاكتفاء في غيره بالموافقة الاحتمالية أو الموهومة ، لارتفاع المحذورين بذلك أيضا ، ولا ملزم بالأول ، بل هو تابع لنظر الشارع الأقدس.

وإن كان المراد به إثبات لزوم رجوع المكلف للظن عقلا وإن لم يكن حجة شرعا ـ وهو المعبر عنه في كلماتهم بالحكومة ـ فالأمران الأولان وإن تمّا في حق المكلف ، لأنه يرى أن ظنه أقرب ، وقد تنجزت عليه الأحكام الواقعية بالعلم الإجمالي المفروض ، فهو يهتمّ بمقتضى ذلك بامتثالها ، إلا أن الأمر الثالث لا يتم في حقه ، حيث يسعه الاحتياط للواقع في موارد احتمال التكليف زيادة على موارد الظن به ، فيجب عليه ذلك بمقتضى تنجز التكليف وعدم التنزل عن الاحتياط في غير مورد لزوم اختلال النظام والعسر والحرج ، ولا سيما مع اختلاف التكاليف في الأهمية كما أشرنا إليه قريبا.

١٦٣

على أن المبنى المذكور ضعيف في نفسه ، إذ لا وجه لوجوب العمل بالظن على المكلف مع عدم حجيته شرعا بعد أن كان المفروض في محل الكلام أن التنزل من الموافقة القطعية ـ عند تعذرها ـ للموافقة الاحتمالية من وظيفة الشارع الأقدس ، حيث لا بد مع ذلك من كون تحديد الموافقة الاحتمالية وتعيين مرتبتها من وظيفته أيضا ، لامتناع الإهمال في موضوع حكمه. ومعه يمتنع عمل المكلف بالظن مع عدم حجيته شرعا. وقد ظهر من جميع ذلك عدم نهوض هذه المقدمة بإثبات تعين العمل بالظن شرعا أو عقلا.

نعم قد يدعى لزوم العمل بالظن بلحاظ أن تعذر الامتثال العلمي يقتضي التنزل للامتثال الظني ، لأنه المرتبة الثانية للطاعة.

لكنه يشكل ـ مع عدم وضوح الكبرى المذكورة ، خصوصا مع اختلاف المسائل في الأهمية ـ بأن الامتثال الظني لا يكون بالاقتصار على موافقة مظنون التكليف ، بل لا بد فيه مع ذلك من ضم الموافقة في الشك في التكليف من دون ترجيح ، والاقتصار في ترك موافقة احتمال التكليف على موارد الظن بعدم التكليف ، كما نبّه له في الجملة بعض الأعاظم قدس‌سره.

ومن هنا ينبغي أن يقال : بعد فرض تنجز التكليف بسبب العلم الإجمالي فاللازم عقلا ـ بعد فرض عدم وجوب الاحتياط التام ، للزوم العسر والحرج واختلال النظام ، وتنزل الشارع للموافقة الاحتمالية بتبعيض الاحتياط ـ الاقتصار في ترك الاحتياط على ما يرتفع به الحرج واختلال النظام ، بترجيح الاحتمال الأقوى للتكليف على غيره ، وترجيح التكليف الأهم أو المحتمل الأهمية على غيره. ومع تزاحم الجهتين ـ كما لو دار الأمر بين الأقوى احتمالا الأضعف ملاكا ، والأقوى ملاكا الأضعف احتمالا ـ يتعين التخيير.

نعم حيث يصعب ضبط ذلك وتحديده ، لاختلاف الأشخاص في الطاقة

١٦٤

فيما هو مورد الابتلاء من المسائل ، فالرجوع لذلك يستلزم الهرج والمرج واختلال النظام ، ومن أجل ذلك يعلم بتعيين الشارع في فرض الانسداد طريقا منضبطا في الجملة يسهل الرجوع إليه والعمل عليه ، وذلك موجب للاقتصار على المتيقن من الطرق المحتملة الجعل ، وهو الطرق العرفية ، كخبر الثقة والظواهر ونحوها ، لأنها الطرق التي يلتفت المكلف لطريقيتها بنفسه. فهذه الطرق لو لم يتيسر إثبات حجيتها ابتداء أو إمضاء لسيرة العقلاء فلا إشكال في حجيتها في فرض الانسداد بعد الالتفات لما سبق.

ولو فرض عدم وجود الطرق المذكورة في مورد الانسداد تعين الرجوع للظن ، لا لقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، بل لأنه الطريق الميسور للمكلف الذي يلتفت إليه بنفسه بعد عدم تيسر غيره وعدم التفاته له ، إذ يقطع مع ذلك برضا الشارع بسلوكه في ظرف تمامية المقدمتين الأوليين. ولو فرض عدم الظن تعين التخيير بين الأطراف.

ولا يختص ما ذكرنا بانسداد باب العلم في معظم الأحكام الذي هو محل الكلام ، بل يجري مع تمامية المقدمتين الأوليين ولو في مسألة واحدة.

هذا وقد أطال شيخنا الأعظم قدس‌سره وجملة ممن تأخر عنه في تنبيهات هذا الدليل ولواحقه. ولا ينبغي لنا صرف الوقت في ذلك بعد ما ظهر من عدم تمامية أصل الدليل المذكور.

وبذلك ينتهي الكلام في مباحث الحجج.

والحمد لله رب العالمين.

١٦٥

المقصد الثاني

في الأصول

وهي الوظائف المقررة ـ عقلا أو شرعا ـ للجاهل بالحكم من دون حجة عنده عليه. ولا بد في الرجوع إليها من عدم قيام الدليل على وجوب الفحص عن الواقع أو الحجة ، وإلا لزم الفحص أولا ، ثم الرجوع إليها بعد اليأس عن الظفر بها ـ كما تقدم في التمهيد لمباحث القسم الثاني من الأصول ـ لأن دليل وجوب الفحص يكون واردا على الأصل العقلي ومخصصا لدليل الأصل الشرعي لو كان له عموم في نفسه ، كما لعله ظاهر.

وينبغي التمهيد لمحل الكلام بذكر أمور ..

الأمر الأول : تقدم عند الكلام في وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري التعرض لحقيقة الأصول الشرعية وأما الأصول العقلية فهي متقومة بحكم العقل بالتنجيز والتعذير. ومرجع الأول إلى حكمه باستحقاق العقاب بمخالفة التكليف الواقعي المجهول ، المستلزم لاحتمال الضرر ، المقتضي بالفطرة للحذر. ومرجع الثاني إلى حكمه بقبح العقاب عليه ، المستلزم للأمن من الضرر بضميمة العلم بعدم خروج الشارع ـ وكل حكيم ـ عن مقتضى الحكم المذكور ، ومعه لا موضوع للحذر.

الأمر الثاني : لا ريب في تقديم الحجج على الأصول عقلية كانت أو شرعية ، وإنما الإشكال في وجه التقديم وحيث كان البحث في ذلك يبتني على النظر في مفاد كل من الحجج والأصول وفي أدلة اعتبارها كان المناسب الكلام

١٦٦

في ذلك بعد الفراغ عن البحث في الأصول. ومن هنا كان الأنسب إرجاء ذلك لمبحث التعارض.

الأمر الثالث : أشار غير واحد إلى مسألة أن الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة. ولا يخلو المراد بها عن إجمال. ويستفاد منهم حملها على أحد وجوه ..

الأول : أنه مع قطع النظر عن جعل الحكم الشرعي فهل يحكم العقل بإباحة الأفعال أو بالمنع عنها. بمعنى أن الفعل هل يكون منشأ لاستحقاق العقاب عقلا ما لم يرخص فيه الشارع ، أو لا يكون كذلك ما لم يمنع عنه الشارع.

الثاني : أنه في فرض ورود الحكم الشرعي في الواقعة وتردده بين الحظر والإباحة فهل مقتضى الأصل كونه حظرا أو إباحة؟ فهو راجع إلى تعيين حال الحكم الشرعي المجهول وتشخيصه. وقد يظهر هذا مما عن المحقق القمي قدس‌سره.

الثالث : أنه في فرض ورود الحكم الشرعي في الواقعة وعدم تشخيصه فهل يحكم العقل بجواز الإقدام ما لم يثبت المنع من الشارع ، أو بالمنع منه ما لم يثبت الترخيص من الشارع؟. وهو ظاهر الفصول.

وعلى الأخير فمرجع النزاع للنزاع في البراءة والاحتياط العقليين الذي عقد له الفصل الأول الآتي.

أما على الأول فهو أجنبي عن ذلك ، لأن موضوعه فرض عدم الحكم الشرعي ، وموضوع النزاع في البراءة والاحتياط العقليين فرض الجهل بحال الحكم الشرعي مع فرض وروده.

إلا أنه لا يبعد ملازمة القول بالحظر في المسألة المذكورة للقول بالاحتياط العقلي ، للتناسب بينهما جدا ، وإلا فمن البعيد جدا الالتزام بالمنع من الإقدام مع فرض عدم الحكم الشرعي مع البناء على جوازه ظاهرا مع ورود

١٦٧

الحكم الشرعي والجهل به. نعم البناء على الحظر في هذه المسألة لا يستلزم البناء على الاحتياط الشرعي ، بل يمكن معه البناء على البراءة الشرعية امتنانا من الشارع على المكلف. كما أن القول بالإباحة في المسألة المذكورة يجتمع مع كل من البراءة والاحتياط العقليين والشرعيين في ظرف الجهل بالحكم الشرعي مع فرض وروده ، ولا يستلزم القول بالبراءة العقلية ، فضلا عن الشرعية ، لإمكان كون ورود الحكم الشرعي سببا للزوم التحفظ عليه والاحتياط فيه عقلا أو شرعا.

وهكذا الحال في الوجه الثاني ، لظهور كمال التباين بين تشخيص الحكم الشرعي المجهول الذي هو مفاد القاعدة ، وتعيين الوظيفة العقلية عند الجهل من دون تشخيص له ، الذي هو مرجع النزاع في البراءة والاحتياط.

هذا والقاعدة على الوجهين الأولين وإن كانت أجنبية عما نحن فيه ، إلا أنها قد تنفع في مقام العمل. ومن ثم كان المناسب الإشارة لما هو الحق فيها عليهما تمهيدا لمحل الكلام.

ولا ينبغي التأمل في أن الحق على الوجه الأول الإباحة ، وأن استحقاق العقاب مشروط بالمنع الشرعي. ومجرد ملكه تعالى للمكلف ولأفعاله لا يقتضي عقلا إلا سلطانه على منعه ونفوذ تشريعه في حقه ، لا امتناعه عما لم يرخصه فيه. ولذا كان المرتكز عرفا احتياج المنع إلى الجعل بالبيان.

ولا مجال لقياسه بالملكية الاعتبارية التي تقتضي ارتكازا حرمة التصرف في المملوك ما لم يرخص فيه المالك ، بل ما لم يثبت الترخيص منه. لاختلاف سنخ الملكيتين ، لأن ملكيته تعالى حقيقية ، وهي لا تقتضي إلا ما ذكرنا. وأما الملكية الاعتبارية فهي ارتكازا إنما تشرع من أجل اختصاص المالك بملكه وإناطة السلطنة عليه به نوعا واقتضاء ، وإن كان عموم المنع الفعلي وخصوصه

١٦٨

مستفادا من أدلة شرعية تعبدية. على أن الوجه المذكور مبتن على فرض خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي ، وهو فرض لا واقع له.

وأما على الوجه الثاني فالظاهر التوقف ، ولا طريق لتشخيص الحكم المجهول وتعيينه. ومجرد ملكيته تعالى للعبد وأفعاله لا يقتضي نوعا كون الحكم الصادر منه هو الحظر ، بل هو تابع للواقع المفروض كونه مجهولا. كما لا مجال لتقريب الإباحة بأن الفعل منفعة خالية عن أمارات المفسدة. لأن عدم ظهور المفسدة فيه لا ينافي ثبوتها واقعا وثبوت الحظر بسببها.

الأمر الرابع : الأصول العملية التي اهتم المتأخرون هنا بالكلام فيها وتنقيح مجاريها أربعة ، وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب. وهي تشترك في الجريان في الشبهات الحكمية ، الذي هو المعيار في كون المسألة أصولية. كما أن الثلاثة الأول تختص بالأحكام التكليفية ، والرابع يجري فيها وفي الأحكام الوضعية والموضوعات الخارجية.

ولم يتعرضوا لأصالة الطهارة ، وإن كانت تجري في الشبهات الحكمية أيضا ، إما لما قيل من أنها من الأصول المسلمة ، فلا تحتاج للبحث والاستدلال. أو لانصراف اهتمامهم للشك في الأحكام التكليفية ، لأهميتها وكثرة الابتلاء بها ، وليست هي كالأحكام الوضعية يقل الابتلاء بها نسبيا ، أو لتخيل كون الطهارة والنجاسة وسائر الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ، فهي راجعة إليها ، والشك فيها شك فيها ، فيرجع فيه للأصول الأربعة المتقدمة ـ ولعله إليه يرجع ما عن شيخنا الأعظم قدس‌سره من رجوع أصالة الطهارة لأصالة البراءة ـ أو لتخيل كون الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، لا من الأحكام الشرعية ، فالشبهة فيها موضوعية لا غير ، وإن كان موضوع الشك أمرا كليا ، كالفأرة والمذي.

١٦٩

ولعل الأقرب في وجه إهمالهم لها الثاني ، وإن كان هو كبقية الوجوه لا يخلو عن إشكال ولا يسعنا إطالة الكلام فيه في ذلك ، لعدم أهميته بعد كونه أشبه بالاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.

هذا وأما قاعدة : ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، فهي وإن كان تنفع في كثير من الشبهات الحكمية ، وتقع في طريق الاستنباط ، إلا أنها إما أن تكون قاعدة اجتهادية واقعية ، أو ظاهرية راجعة إلى استصحاب عدم الضمان ، وليست أصلا برأسه. وكذا أصالة اللزوم في العقود.

الأمر الخامس : بعد أن انحصرت الأصول التي اهتم المتأخرون بالنظر فيها هنا بالأصول الأربعة المتقدمة فقد حاول غير واحد تحديد موضوعاتها مقدمة للبحث فيها ، وهو تكلف لا موجب له ، لأن تحديد موضوعاتها يبتني على الكلام فيها وفي أدلتها ، وهو يختلف باختلاف الأنظار. فالأنسب الإعراض عن ذلك ، وإيكاله إلى ما يتحصل عند النظر فيها وفي أدلتها إن شاء الله تعالى.

والأولى صرف النظر لمنهج البحث وتبويبه إجمالا فنقول : بعد فرض عدم قيام الحجة في الواقعة .. فتارة : لا تؤخذ الحالة السابقة في الوظيفة العملية ، بل لا يلحظ فيها إلا الشك.

وأخرى : تؤخذ الحالة السابقة زيادة على الشك المفروض. فالقسم الأول هو مجرى البراءة أو الاحتياط أو التخيير ، والثاني هو مجرى الاستصحاب.

ثم الشك في القسم الأول .. تارة : يكون في أصل ثبوت التكليف الإلزامي أعني الوجوب أو الحرمة.

وأخرى : يكون في تعيينه مع وحدة المتعلق ، وهو الدوران بين وجوب الشيء وحرمته وثالثة : في تعيينه مع اختلاف المتعلق ، سواء اتحد سنخه ، كما في الدوران بين القصر والتمام ، أم اختلف ، كما في الدوران بين وجوب شيء

١٧٠

وحرمة آخر.

وهناك صورة وقع الكلام في رجوعها للصورة الأولى أو الثالثة ، وهي الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فالمناسب إفرادها بالكلام ، فتكون صور هذا القسم أربعا.

هذا ولا يفرق في جميع ذلك بين كون التكليف وجوبا وكونه تحريما. كما لا يفرق في منشأ الشك بين عدم النص وإجماله وتعارض النصين ، لعدم الأثر لذلك في المهم من محل الكلام. ومجرد شيوع الخلاف في الشبهة التحريمية وتميز إجمال النص ببعض جهات الكلام لا يقتضي تكثير الأقسام. كما أن احتمال التخيير مع تعارض النصين ، ليس للخلاف في حكم الشك ، بل لاحتمال حجية أحد النصين الذي يخرج معه المورد عن موضوع الكلام ، وهو أمر يخص باب التعارض. والكلام هنا في فرض التساقط وعدم حجية أحد النصين. نعم قد تختلف هذه الصور في بعض الجهات الأخر الخارجة عما هو المهم في المقام فقد يحسن التعرض لها استطرادا.

وأما إذا كان منشأ الشك الاشتباه في الموضوع فمن الظاهر خروجه عن محل الكلام ، لأن همّ الأصولي تشخيص الوظيفة في الشبهة الحكمية التي يكون مورد الشك فيها الحكم الشرعي الكلي. نعم ملاك البحث غالبا يعم ذلك فيستفاد حكمه تبعا ، وإن كان قد ينفرد ببعض الخصوصيات. فالمناسب التعرض لها استطرادا ، تتميما للفائدة ، من دون حاجة لتكثير الأقسام. ومن ثم يكون البحث في فصول أربعة للصور الأربع.

ثم إن الكلام في هذا القسم ـ بفصوله الأربعة ـ يختص بالشك في الحكم الإلزامي ، الذي هو المراد بالتكليف ، دون بقية الأحكام التكليفية ، فضلا عن الوضعية. وإن كان ربما يلحقها الكلام في بعض الجهات تبعا أو استطرادا ، على ما قد يتضح في محله إن شاء الله تعالى.

١٧١

القسم الأول

في البراءة والاحتياط والتخيير

وفصوله أربعة ، كما سبق.

الفصل الأول

في الشك في التكليف

المشهور الرجوع مع الشك في التكليف للبراءة مطلقا ، ونسب للأصوليين قاطبة. وعن معظم الأخباريين أو جميعهم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية ، بل عن الاسترابادي منهم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية أيضا ، وفي محكي كلام صاحب الحدائق موافقته فيها مع إجمال النص. لكن في محكي كلام آخر له إطلاق الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، ونفى الخلاف فيه في الوسائل. وأما الشبهة الموضوعية فالظاهر عدم الخلاف في الرجوع للبراءة فيها مطلقا تحريمية كانت أو وجوبية.

وكيف كان فالحق الرجوع للبراءة مطلقا. وينبغي الكلام هنا ... تارة : في مقتضى الأصل الأولي العقلي مع عدم البيان الشرعي حتى بالإضافة للوظيفة العملية مع الجهل بالتكليف الواقعي.

وأخرى : في مقتضى الأصل الثانوي المستفاد من الأدلة الشرعية الواردة لبيان حكم الجهل بالتكليف الشرعي الواقعي. ولا ينبغي الخلط بينهما مع

١٧٢

اختلاف مفاد الأدلة المستدل بها في المقام ونحو النسبة بينهما.

فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في مقتضى الأصل الأولي العقلي

ولا ينبغي الريب في حكم العقل بالبراءة في المقام ، الراجع لحكمه بقبح العقاب بلا بيان ، وهو المراد بالبراءة العقلية ، فإن الحكم بقبح العقاب يقتضي السعة في موارد احتمال التكليف المبني على الإلزام والاحتجاج والمؤاخذة. ولا ينافي ذلك لزوم الاحتياط عند تعلق الغرض بإصابة الواقع ، كما في الأضرار الواقعية التي يهتم بتجنبها.

هذا ولا يبعد كون الحكم المذكور مسلما عند الكل. إلا أن يكون مراد القائلين بأصالة الحظر الأصل الظاهري مع الجهل بالحكم الشرعي ، الذي هو مرجع الوجه الثالث المتقدم في معنى القاعدة ، حيث يرجع ذلك منهم لإنكار الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان. لكنه في غير محله قطعا ، لأن الحكم المذكور قطعي ارتكازي.

وأما الاستدلال للحظر بأن ملكه تعالى للعبد وأفعاله يقتضي عدم تصرف العبد بوجه مع الشك في إذنه تعالى فيه ، إذ لا يجوز التصرف في ملك الغير مع احتمال عدم إذنه.

فهو مندفع بأن ذلك إنما يتم في الملكية الاعتبارية ، عملا بأدلة شرعية تعبدية ، وملكيته تعالى للعبد ولأفعاله حقيقية ، وهي لا تقتضي عقلا إلا سلطانه على العبد بتكليفه له ، في مقام الثبوت ، وعدم لزوم طاعته في مقام الإثبات إلا ببيان مصحح للاحتجاج والإلزام ، وبدونه يقبح العقاب وإن كان التكليف ثابتا واقعا ، كما ذكرنا. وقياس إحدى الملكيتين بالأخرى في غير محله ، كما تقدم عند الكلام في أن الأصل الإباحة أو الحظر.

١٧٣

ومثله ما عن الشيخ قدس‌سره من الاستدلال على أن الأصل في الأشياء الحظر أو الوقف بأن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته ، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته.

لاندفاعه بمنع قبح الإقدام عقلا على ما لا يؤمن مفسدته ما لم يستلزم احتمال الضرر المساوق للعقاب ، وهو غير لازم في المقام بعد وجود المؤمن ، وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وقد تقدم في الوجه الثاني من وجوه الاستدلال على حجية الظن المطلق ما ينفع في المقام. فراجع.

وكيف كان فالظاهر أن الحكم المذكور مسلم عند الأخباريين ، وأن نزاعهم في المقام يبتني على دعوى وجود المخرج عنه ، وهو البيان الشرعي الوارد عليه.

ومن ثم استدل شيخنا الأعظم قدس‌سره عليه بالإجماع من المجتهدين والأخباريين. وإن كان الاستدلال على الحكم العقلي بالإجماع ونحوه من الأدلة التعبدية الشرعية في غير محله. إلا أن يكون لمجرد الاستظهار وسوق الأدلة الشرعية مساق الإرشاد للحكم العقلي المذكور. أو يكون المراد أنه لو فرض التشكيك في الحكم العقلي المذكور أمكن الاستدلال بالأدلة الشرعية على الأصل المذكور على أنه أصل شرعي أولي ، فلا يكون مرجع الإجماع إلى قبح العقاب ، بل إلى مجرد تأمين الشارع منه.

لكن الاستدلال بالإجماع حينئذ لا يخلو عن إشكال ، لقرب استناد المجمعين لحكم العقل المذكور أو لغيره مما يأتي الكلام فيه ، فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن حال الشارع. وأما ما يأتي من سيرتهم على الرجوع للبراءة في مقام الاستدلال ، فلعله مبتن على الأصل الثانوي لمثل حديث الرفع ، لا على الأصل الأولي الذي هو محل الكلام.

١٧٤

هذا وقد يستدل على الأصل المذكور ـ بعد حكم العقل والإجماع المتقدمين ـ بالكتاب والسنة.

أما الكتاب فبآيات ..

الأولى : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) ،

بناء على أن بعث الرسول كناية عن وصول البيان ، لا مجرد بعثه وإن لم يصل البيان ، فإن ذلك هو المناسب لظهور كون القضية ارتكازية ـ كما هو المناسب لسياقها الآتي ـ لما هو المرتكز عرفا من توقف العقاب على البيان.

وقد أورد شيخنا الأعظم قدس‌سره على الاستدلال بها بأن ظاهرها الإخبار بعدم وقوع العذاب سابقا إلا بعد بعث الأنبياء ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع على الأمم السابقة. وكأنه لما اشتهر من دلالة «كان» على النسبة في الزمان الماضي.

لكن ذلك إنما يتعين إذا سلطت «كان» على النفي كما في قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)(٢) ، وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً)(٣).

أما إذا سلط النفي على «كان» فكثيرا ما تنسلخ عن الزمان الماضي ، ويدل التركيب على نفي النسبة مطلقا ، بل على أنه ليس من شأنها الوقوع ، كما هو المفهوم من الآية المتقدمة ونظائرها ، كقوله تعالى : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(٤) ، وقوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(٥) ، وقوله عزوجل : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ

__________________

(١) سورة الإسراء الآية : ١٥.

(٢) سورة المائدة الآية : ٧٩.

(٣) سورة النبأ الآية : ٢٧.

(٤) سورة الكهف الآية : ٥١.

(٥) سورة الأنفال الآية : ٣٣.

١٧٥

مَحْظُوراً)(١) ، وقوله عزّ اسمه : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(٢) ، وغير ذلك.

هذا مع أن ظاهر العذاب هو العذاب الأخروي أو ما يعمه ، ولا سيما بملاحظة سوق الآية في سياق الآيات المناسبة للعذاب الأخروي ولقضايا ارتكازية عامة. قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً* مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٣).

على أنه لو تم ما ذكره فمن الظاهر عدم سوق الآية لمحض الإخبار ، بل لبيان جريه تعالى في العذاب على طبق الموازين العقلائية اللازمة أو الراجحة المراعاة من كونه مسبوقا بإقامة الحجة ، فيدل على ثبوت ذلك في العذاب الأخروي بفهم عدم الخصوصية أو بالأولوية العرفية. ومن ثم كانت دلالة الآية وافية جدا.

نعم هي إنما تدل على عدم تحقق العقاب ، لا على عدم استحقاقه ، لإمكان أن يكون عدم العقاب تفضلا منه تعالى وزيادة في الاستظهار في إلقاء الحجة على المكلفين. ومجرد ظهور الآية في أنه ليس من شأنه تعالى إيقاع العذاب قبل إرسال الرسل ، لا ينافي ذلك ، لأنه سبحانه الأولى بمزيد التفضل والاستظهار. لكن ذلك كاف في المطلوب ، لتحقق الأمن من العقاب معه ، وبه يرتفع منشأ الاحتياط ، وهو احتمال الضرر.

__________________

(١) سورة الاسراء الآية : ٢٠.

(٢) سورة مريم الآية : ٦٤.

(٣) سورة الإسراء الآية : ١٣ ـ ١٥.

١٧٦

بقي شيء

وهو أن مقتضى إطلاق الآية توقف العذاب على إرسال الرسول في الجملة ، ولو ببيان وجوب الاحتياط ، دون بيان خصوص التكليف المعاقب عليه. ومن ثم كانت دالة على أن البراءة مقتضى الأصل الأولي ، فلا تنافي قيام الأدلة الشرعية على وجوب الاحتياط حيث تكون رافعة لموضوع الأصل المذكور.

الثانية : قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(١) ، دلت على أنه لو لا بعث الرسل لكانت الحجة للناس على الله تعالى ، وهو شاهد بأن الأصل الأولي البراءة ، ولو كان هو الاحتياط لكانت الحجة له تعالى ، ولكان العبد يستحق العقاب ، حتى مع عدم بعث الرسل.

لكن قد يشكل ذلك بأن ثبوت الحجة للناس مع عدم بعث الرسل أعم من جريان البراءة ، لأن وجوب الاحتياط على الناس مع الشك في التكليف لا ينافي وجوب اللطف عليه تعالى ببعث الرسل من أجل بيان شرايع الدين وتنبيه الغافلين ، فإن عليه تعالى أن يرفع العلة من قبله ، وإن لزم على الناس مع الشك الاحتياط للتكليف ـ بمقتضى الأصل الأولي أو الثانوي ـ لو منعت الأسباب الخارجية من معرفتهم ، ومن وصول بيانه تعالى لهم.

نعم لو ثبتت الحجة للناس مع عدم بعث الرسل في خصوص أمر العقاب ، بحيث يقبح بدون بعثهم رجع ذلك إلى المعذرية المساوقة للبراءة. لكن الآية لا تدل على ذلك بخصوصه ، وثبوت الحجة عليه تعالى أعم ، إذ قد يكون لمجرد وجوب اللطف عليه ، كما ذكرنا.

__________________

(١) سورة النساء الآية : ١٦٥.

١٧٧

اللهم إلا أن يستفاد ذلك من إضافة الحجة للناس ، لظهورها في كون جهة الاحتجاج تخص الناس ، وذلك إنما يكون بلحاظ عقابه تعالى لهم ، وأما وجوب اللطف المذكور عليه تعالى ـ لو تم ـ فهو أمر يخصه ولا يتعلق بالناس ، لتكون لهم الحجة بلحاظه. ومن ثم لا يبعد وفاء الآية بالمطلوب.

نعم يجري فيها ما سبق في الآية الأولى من أنها تدل على الأصل الأولي ، إذ يكفي في ارتفاع حجة الناس إرسال الرسول بوجوب الاحتياط.

الثالثة : قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(١) ، بدعوى : دلالتها على أن هلاك الهالكين لا يكون إلا عن بينة ، وبدونها لا هلاك. نعم إنما تدل على الأصل الأولي إذ يكفي في البينة بيان وجوب الاحتياط.

لكنه يشكل بأن ظاهر الآية ـ بقرينة سياقها ـ أن الغرض من جمع المسلمين والمشركين في صعيد واحد مقدمة لحرب بدر تحقق البينة للهالكين والناجين. وذلك بنفسه لا يدل على توقف الهلاك على البينة ، كما لا تتوقف النجاة عليها ، بل قد يكون لمزيد الاستظهار بإقامة الحجة ، ولا سيما مع معلومية أن المراد بالبينة هنا زيادة البيان وتأكيد الحجة ، الذي لا يتوقف عليه الهلاك قطعا ، لما هو المعلوم من سبق الحجة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الواقعة المذكورة. فالآية أجنبية عما نحن فيه. وربما يستدل ب آيات أخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها.

وأما السنة فبعدة أحاديث.

الأول : الموثق أو الصحيح عن حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال لي : اكتب ، فأملى عليّ : إن من قولنا : إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ،

__________________

(١) سورة الأنفال الآية : ٤٢.

١٧٨

ثم أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ... وما أمروا إلا بدون سعتهم ، وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون له ، وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ...» (١). فإن المنسبق منه إرادة الحصر وأنه تعالى لا يحتج عليهم بما لم يعرّفهم. نعم هو يدل على الأصل الأولي ، لأن دليل الاحتياط ـ لو تم ـ يصلح لأن يحتج به تعالى على العباد ، لأنه مما عرّفهم ، ولا دلالة في الحديث على عدم الاحتجاج إلا مع الإعلام بالحكم الواقعي ، ليناسب الأصل الثانوي. ونحوه في ذلك الصحيح عن ابن الطيار عنه عليه‌السلام : «قال : إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم» (٢).

الثاني : صحيح عبد الأعلى بن أعين : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال : لا» (٣) ، فإنه صريح في عدم مؤاخذة من لم يعرف سواء أريد بالمفعول به فردا مرددا أم فردا معينا مفروضا في الخارج. وكذا لو كان المراد به العموم لأنه نكرة في سياق النفي.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنه على الأخير يكون ظاهره السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا. مدفوع بأن ظاهر الحديث السؤال عن من لم تتحقق له المعرفة لا عن من لا قابلية له للمعرفة. نعم من لا يعرف شيئا أصلا قاصر غالبا. إلا أن ظاهر الحديث كون موضوع السؤال عدم معرفته لا قصوره. كما أن الحديث ظاهر في بيان الأصل الأولي ، لعدم صدق موضوعه على العارف بوجوب الاحتياط.

الثالث : حديث حفص بن غياث : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من عمل بما علم

__________________

(١) الكافي كتاب التوحيد باب : حجج الله على خلقه حديث : ٤ ج : ١ ص : ١٦٤.

(٢) الكافي كتاب التوحيد باب : البيان والتعريف ولزوم الحجة حديث : ١ ج : ١ ص : ١٦٢.

(٣) الكافي كتاب التوحيد باب : حجج الله على خلقه حديث : ٢ ج : ١ ص : ١٦٤.

١٧٩

كفي ما لم يعلم» (١). وهو صريح في عدم المؤاخذة مع عدم العلم. نعم يكفي العلم بوجوب الاحتياط في لزوم العمل الذي تضمنه الحديث. فيطابق الأصل الأولي المذكور.

الرابع : صحيح عبد الصمد بن بشير : «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث من أحرم بقميصه قال عليه‌السلام : «أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (٢). وهو ظاهر في الجهالة في جميع الجهات التي هي موضوع الأصل الأولي.

لكن استشكل شيخنا الأعظم قدس‌سره في الاستدلال به بأنه ظاهر في اعتقاد الصواب أو الغفلة عن الواقع ، ولا يعم صورة الشك والتردد التي هي محل الكلام. وكأن وجهه ـ مضافا إلى مناسبته لمورده ـ ظهور الباء في قوله عليه‌السلام :

«بجهالة» في السببية ، لا محض المصاحبة ، ولا يكون الجهل سببا للعمل إلا مع الغفلة أو اعتقاد الصواب بنحو الجهل المركب. أما مع الشك والتردد فالجهل بنفسه لا يقتضي الإقدام ، بل التوقف ، والإقدام معه يستند لأمر آخر من أصل أو غيره.

وهناك بعض النصوص الأخر ذكرها شيخنا الأعظم قدس‌سره لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد عدم العثور على سندها. نعم لا يبعد العثور بالتتبع على نصوص أخر تنفع في المقام. والأمر سهل بعد وضوح الأصل المذكور.

المقام الثاني : في الأصل الثانوي.

وهو تابع للأدلة الشرعية. ولو تم وجوب الاحتياط شرعا كان واردا على حكم العقل ـ في المقام الأول ـ بقبح العقاب بلا بيان رافعا لموضوعه ، لاختصاص الحكم المذكور بما إذا لم يهتم الشارع الأقدس بحفظ التكاليف

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٠.

(٢) الوسائل ج : ٩ باب : ٤٥ من أبواب تروك الإحرام حديث : ٣.

١٨٠