الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

وكذا خبر الضعيف المحتف بالقرائن الموجبة للوثوق بصدوره وركون النفس له ، مثل أخذه من الأصول المعتمدة عند الأصحاب ، واعتماد قدمائهم عليه في مقام الفتوى ، وغير ذلك مما يذكر في محله.

وقد صرح الشيخ قدس‌سره بذلك في كتاب العدة في غير موضع من كلامه ، قال في حال ما يرويه المخالف الثقة : «أما إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمة عليهم‌السلام نظر فيما يرويه ، فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره ... وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به ، لما روي عن الصادق عليه‌السلام : أنه قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رووا عنا فانظروا إلى ما رووا عن علي عليه‌السلام فاعملوا به. ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث ، وغياث بن كلوب ، ونوح بن دراج ، والسكوني ، وغيرهم من العامة عن أئمتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه».

ثم ذكر نظير ذلك في فرق الشيعة غير الاثنى عشرية ، وقال : «ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره وأخبار الواقفة ، مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى ، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلافه».

ثم ذكر الغلاة وأن أخبارهم ترد في حال تخليطهم ، ثم قال : «وكذلك القول فيما ترويه المتهمون والمضعفون. وإن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به ... فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرزا فيها ، فإن ذلك لا يوجب رد خبره ... لأن العدالة في الرواية حاصلة فيه ، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول

١٤١

شهادته ، وليس بمانع من قبول خبره. ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم».

ثم تعرض لاختلاف الأخبار ... إلى أن قال : «وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل ، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره. ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عن من يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم. [فأما إذا لم يكن كذلك ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة ، فإنه يقدم خبر غيره عليه] ، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به. فأما إذا انفردت المراسيل فجوز العمل بها على الشرط [الوجه. خ. ل] الذي ذكرناه. ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد ، فإن الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل ، فما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر ، وما أجاز أحدهما أجاز الآخر ، فلا فرق بينهما على حال ...» (١).

وقال في مقدمة كتاب الفهرست : «فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول فلا بد من أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح ، وهل يعوّل على روايته أو لا ، وأبين اعتقاده ، وهل هو موافق للحق أو مخالف له ، لأن كثيرا من مؤلفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة ، وإن كانت كتبهم معتمدة». وهو صريح في الاعتماد على كتب ذوي المذاهب الفاسدة ، ولا وجه

__________________

(١) العدة ج : ١ ص : ١٥١ ـ ١٥٥.

١٤٢

لاعتمادهم عليها إلا وثاقتهم في أنفسهم ، أو احتفافها بما يوجب الوثوق بها ، وإلا فمن البعيد احتفافها بما يوجب العلم بصدور جميع ما فيها. كيف؟! وقد صرح نفسه ـ كما تقدم في العدة ـ بعدم تيسر القرائن القطعية.

وقد أطال في خاتمة الوسائل في ذكر القرائن التي تشهد بصحة الأخبار الموجودة في الكتب. والظاهر أنه يريد ما يوجب الوثوق بها ، لا العلم التفصيلي بصحة جميع تلك الأخبار. وكيف كان فما ذكره شاهد بتسالم الأصحاب على العمل بأخبار الثقات غير العدول ، بل أخبار الضعاف مع احتفافها بقرائن توجب الوثوق بصدورها.

وأدنى سبر لكتب الأصحاب ـ بما فيها الكتب الأربعة ـ شاهد بذلك ، لاشتمالها على كثير من أخبار المجاهيل ، بل المضعفين والمطعون فيهم ، مع ظهور أن إثباتها في تلك الكتب ليس لمحض التدوين ، بل لركونهم إليها واستدلالهم بها. ولا يظهر منهم الغمز في أسانيد تلك الأخبار إلا نادرا في مقام التعارض ، أو لمخالفة الخبر لأصول المذهب بنظر المتصدي لذلك.

ولم يعرف الغمز بصورة ظاهرة إلا من المتأخرين ، كابن إدريس والمحقق ومن تأخر عنهما عند اشتمال الخبر على حكم مستبعد بنظرهم ، مع عدم طعنهم بنظائره في السند في موارد أخر ، بل يعملون بها متسالمين على قبولها ، حيث يشهد ذلك بأن طعنهم ناشئ عن الاستبعاد المذكور الذي قد يجرّ للتشبث بما لا يصح التشبث به ، من دون أن يقدح ذلك في الإجماع المذكور.

كيف ومن المعلوم أن تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة المتقدمة قد حدث متأخرا ، فقد قيل : إن أول من اصطلح على ذلك جمال الدين أحمد بن طاوس وتبعه تلميذه العلامة قدس‌سرهما ، ولم تكن طريقة القدماء على ذلك ، بل الصحيح عندهم ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه.

١٤٣

وأي إجماع أقوى من مثل هذا الإجماع الذي جرى عليه قدماء الأصحاب في مقام العمل بعد الغيبة مدة تزيد على ثلاثة قرون ، وشاع بين المتأخرين جريهم على ذلك ، حتى اشتهر التعبير بانجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب. ويعلم من حال من اطلعنا عليه متابعتهم في ذلك لمن قبلهم من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وجريهم على طريقتهم ، لامتناع الخروج عن سيرة الأصحاب عادة في مثل ذلك من الأمور المهمة التي يكثر الابتلاء بها. ولا سيما بعد ما تقدم من الشيخ قدس‌سره.

وأما سيرة المتشرعة فهي لا تخلو عن غموض. فإنه وإن لم يبعد استنكارهم أخذ معالم الدين من غير العادل ، إلا أنه لا يبعد كون منشئها تنفرهم عنه بنحو يغفل عن فرض الوثوق بخبره ـ إما لتحرزه عن الكذب ، أو لاحتفافه بقرائن خارجية ـ حتى ينظر في ذلك ، فلا مجال لجعل سيرتهم من أدلة المنع في المقام ، فضلا عن أن تنهض بمعارضة سيرة العلماء التي تقدم التعرض لها.

وأما سيرة العقلاء ، فقد أشرنا آنفا إلى أنها عمدة أدلة الباب في تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر ، لأنها تابعة لمرتكزاتهم الوجدانية ، ولسيرتهم الخارجية الظاهرة. ولا ريب في عدم أخذ العدالة في موضوعها ، بل يكفي فيه الوثوق بالمخبر.

بل الظاهر أنها أعم من ذلك أيضا ، فهي تشمل خبر غير الثقة في نفسه إذا احتف بما يوجب الوثوق بصدقه من القرائن الداخلية أو الخارجية. فإن القرائن المذكورة وإن لم تكن حجة في نفسها ، إلا أنها توجب حجية الخبر ودخوله في مورد السيرة ، حيث لا يكون العمل به حينئذ تفريطا بنظر العقلاء.

ومن هنا كان الظاهر أن سيرة الأصحاب ـ التي سبق التعرض لها ـ مبنية على سيرة العقلاء ومتفرعة عليها ، فهي كاشفة عن إمضائها شرعا ، لا أنها مبنية على محض التعبد في قبالها.

١٤٤

ومن جميع ما تقدم يظهر لزوم الخروج عن إطلاق آية النبأ المقتضي لعدم حجية خبر الفاسق ، ولزوم التبين معه المقتضي لعدم الاكتفاء بالقرائن الخارجية ما لم توجب العلم بصدقه. على أنه لا يبعد قصور الإطلاق المذكور ، أما إذا كان الفاسق ثقة في نفسه فلقصور التعليل بالجهالة والندم عن خبره ، كما تقدم عند الكلام في مفاد التعليل. وإذا لم يكن ثقة في نفسه ، فلقرب كون المراد بالتبين هو العرفي الذي يحصل به الوثوق كما هو الحال في القرائن المذكورة.

ولا أقل من عدم ظهوره في التبين العلمي بسبب التعليل بالندم الذي يكفي في رفعه التبين المذكور.

بقي في المقام أمران :

الأول : لا يبعد اختصاص بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة بما إذا لم تقم قرائن تشهد بكذبه وعدم صدوره ،بحيث توجب الريب فيه عرفا ، وإن كان الراوي ثقة في نفسه. وربما يدعى أن ذلك هو الوجه فيما اشتهر من وهن خبر الثقة بإعراض الأصحاب عنه ، حتى قيل : كلما زاد السند قوة زاد وهنا بإعراضهم.

لكن الظاهر عدم كون إعراضهم في ذلك موهنا للسند ، بحيث يرتفع الوثوق معه بصدور الخبر ، بل هو موجب لارتفاع الوثوق بظهوره ، كما تقدم في المبحث الثاني من مباحث حجية الظواهر. وإلا فمن البعيد جدا التشكيك بنحو معتد به في صدور الروايات التي يرويها أعاظم الأصحاب ، ولا سيما مع إيداعها في الكتب المعدة لأخذ الأحكام ونحوها مما يعلم من حال مؤلفيها الاهتمام بتحري خصوص ما يوثق بصدوره.

الثاني : حيث كان من عمدة أدلة المقام سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة والخبر الموثوق بصدوره ، فمن الظاهر أنه لا فرق في السيرة المذكورة بين الروايات وغيرها. وذلك يقتضي عموم حجية خبر الثقة ما لم يثبت الردع عنه

١٤٥

في مقام خاص.

وعليه يبتني الاكتفاء في الجرح والتعديل بتزكية الواحد إذا كان ثقة أو قامت القرائن على صدقه ، ولا يعتبر فيه العدالة ، فضلا عن التعدد.

نعم يختص ذلك بما إذا كان الخبر عن حسّ أو حدس قريب من الحسّ ـ كما هو مقتضى الأصل فيما يمكن فيه ذلك ـ أما إذا كان عن حدس واجتهاد ، فهو مبني على جواز الرجوع إلى أهل الخبرة ، المختص ارتكازا بمن يتعذر في حقه العلم ، مع امتناع رجوعه للأصل. والحمد لله رب العالمين.

١٤٦

الفصل الخامس

في حجية الإجماع المنقول

والكلام في ذلك متفرع على القول بحجية خبر الواحد ، حيث قد يدعى أن حجيته تستلزم حجية نقل الإجماع بخبر الواحد ، لأنه من أفراده. وينبغي تقديم أمور تنفع في تحرير محل الكلام.

الأمر الأول : اشتهر ذكر الإجماع في أدلة الأحكام في كلمات أهل الاستدلال ، حتى عدّ من الأدلة الأربعة. لكن صرّح أصحابنا رضى الله عنه بعدم حجية الإجماع في نفسه إلا إذا وافق المجمعون قول الإمام عليه‌السلام ، فالحجة قوله لا أقوالهم ، إذ لا مرجع للأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا الكتاب الكريم والعترة الطاهرة عليهم‌السلام. نعم قد يكشف الإجماع عن قوله عليه‌السلام ، فتكون حجيته في طول حجيته وراجعة إليها.

الأمر الثاني : إحراز موافقة الإمام عليه‌السلام للمجمعين يكون بأحد وجوه ..

الأول : العلم برأيه عليه‌السلام بطريق الحسّ ـ كالسماع منه عليه‌السلام ولو في ضمن مجموعة من دون أن يميز بشخصه ، أو ظهور إقراره للمجمعين مع اطلاعه على قولهم وتيسر الردع له ـ أو حدس يلحق بالحسّ ، كما في موارد الضرورات المذهبية أو الفقهية التي يعلم بعدم حصولها لو لم تستند لهم عليهم‌السلام.

الثاني : إحرازه حدسا بمقدمات نظرية يختلف الناس فيها ، كحسن الظن بالمجمعين بحيث يعلم بعدم اجتماعهم على الخطأ ، ولو في خصوص الواقعة ، لكونها موردا للابتلاء ، فيمتنع عادة خفاء حكمها عليهم.

١٤٧

وهذان الوجهان وإن تمّا في الجملة إلا أن ذلك يختلف باختلاف أشخاص المجمعين عددا وعلما وقربا من المعصومين عليهم‌السلام ، وباختلاف المسائل من حيثية مقدار الابتلاء الدخيل في وضوح حكم المسألة ، وباختلاف الأشخاص المطلعين على الإجماع في سرعة الجزم باللوازم واستيضاحها وعدمهما. ولا ضابط لذلك ، ليقع الكلام في تماميته وعدمها ، بل يوكل لنظر الفقيه في كل مسألة مسألة.

الثالث : إحرازه حدسا بقاعدة اللطف التي حكي عن الشيخ قدس‌سره البناء عليها ، بل تعذر الاستدلال بالإجماع لولاها.

وهي ترجع إلى امتناع اتفاق الأمة في عصر على خلاف الواقع المطابق لرأي الإمام ، بل يجب عليه حينئذ

إزاحة العلة بالظهور أو إظهار من يبين الحق في المسألة ، لطفا منه ، بملاك اللطف من الله تعالى ببعثه الأنبياء وإنزال الكتب لهداية الناس للحق ، فمتى تمّ اتفاقهم ولم ينقض من قبله عليه‌السلام كشف عن موافقتهم له عليه‌السلام وإصابتهم للحق الذي معه.

لكن الظاهر عدم تمامية القاعدة المذكورة ، بل لو وجب اللطف عليه تعالى لاختص مقتضاه بتهيئة سبل الهداية للكل بالطرق المتعارفة ، من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، ونصب الأعلام على الحق ، وإن أمكن ضياع الحق على الكل أو البعض بسبب تقصير الناس وظلمهم ومنعهم للإمام من القيام بكامل وظيفته في الهداية والإرشاد ، كما حصل فعلا في هذه الأمة وفي الأمم السابقة.

وإلا فلو وجب على الإمام حتما وعلى كل حال إزاحة العلة بمنع الإجماع من الانعقاد ، لئلا يضيع الحق على الكل ، لوجب عليه هداية الكل برفع الخلاف ، وتحقيق الإجماع من الكل على الحق ، لأن ملاك حسن الهداية للحق لا يفرق فيه بين الكل والبعض ، مع عدم وجوبه قطعا ، ولذا حصل الخلاف.

١٤٨

الأمر الثالث : لما كان المعيار في حجية الإجماع عندنا على موافقة المجمعين للإمام عليه‌السلام فربما يظهر من بعض كلماتهم أن الإجماع اصطلاحا هو الاتفاق المشتمل على قول الإمام عليه‌السلام بحيث يكون ظاهر ناقل الإجماع ـ مع عدم القرينة الصارفة ـ هو نقل قوله عليه‌السلام في ضمن أقوال المجمعين.

لكنه خلاف الظاهر ، بل ظاهرهم إرادة إجماع العلماء أنفسهم ، ولو بلحاظ ملازمته لقول الإمام عليه‌السلام بنظر الناقل ، كما يشهد به مقابلة الإجماع في كثير من الموارد بالخلاف ، واستثناء بعض الأشخاص من الإجماع وغير ذلك مما لا يناسب إرادة المعنى المذكور. ولا سيما إذا كان نقل الإجماع في مقام الاحتجاج به ، لظهوره في خصوصية اتفاق الجميع في الاحتجاج ، لا أن الاحتجاج بقول بعض المجمعين ـ وهو الإمام عليه‌السلام ـ من دون أثر للباقين.

بل هو كالصريح من مثل نسبة الإجماع لعلمائنا ، أو أصحابنا ، أو فقهائنا ، أو فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام. نعم قد يحتمل إرادة دخوله عليه‌السلام من مثل نسبة الإجماع للأمة أو المسلمين أو أهل الحق أو الطائفة المحقة.

ومثله ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من اختصاص الإجماع اصطلاحا باتفاق أهل عصر واحد ، مستشهدا له ببعض كلماتهم.

فإنه وإن ناسب طريقة العامة ـ الذين شيدوا بالإجماع المزعوم خلافة الأولين المبتدعة ـ وطريقة القائلين بقاعدة اللطف منا ، إلا أنه لم يتضح بوجه معتد به بحيث يصلح لتحديد مصطلح خاص بذلك ، لتحمل عليه كلماتهم عند الإطلاق. ولا سيما مع ظهور كثير من كلماتهم في الفقه في إرادة إجماع جميع العلماء في جميع العصور. ويناسبه مقابلته بالخلاف بنحو يظهر منه إرادة الخلاف ولو بين أهل العصور المختلفة. ومن هنا لا مخرج عن مقتضى الإطلاق الظاهر في إرادة العلماء في جميع العصور.

١٤٩

نعم الاطلاع بطريق الحسّ على فتاوى أهل العصر الواحد ، فضلا عن علماء جميع العصور لا يتسنى عادة لأحد ، خصوصا المتأخرين ، مع تباعد الأمكنة ، وعدم تيسر الاطلاع على فتاوى كثير من العلماء ، أو لكونهم مغمورين لا ظهور لهم ، أو لضياع فتاواهم ، بل ربما لا يكون لبعضهم فتوى في المسألة ، لعدم نظره في أدلتها.

فلا بد من توجيه كلام مدعي الإجماع ، إما بحمله على إرادة خصوص أهل الفتاوي الظاهرة ، أو أهل الكتب المشهورة ، أو نحو ذلك ، وإما بحمله على إرادة الكل مع كون العلم بفتاواهم بطريق الحدس ، لاستبعاد مخالفتهم للمشهورين ، أو لابتناء الفتوى على أصل أو قاعدة إجماعية بنظر مدعي الإجماع ، كما تعرض لذلك شيخنا الأعظم قدس‌سره ، وأطال الكلام فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنه حكي عن جماعة أن ما دل على حجية خبر الواحد في الأحكام يقتضي حجية الإجماع المنقول من قبل الثقة ، لأنه من أفراده ، لرجوعه إلى حكاية قول الإمام عليه‌السلام في المسألة. بل ربما قيل : إنه من الخبر العالي السند ، لأن مدعي الإجماع يحكي عنه بلا واسطة.

والذي ينبغي أن يقال : حجية نقل الإجماع بملاك حجية خبر الواحد يبتني على أحد أمرين :

الأول : أن يكون مرجع كلام ناقل الإجماع إلى نقل قول الإمام عليه‌السلام في ضمن أقوال المجمعين.

الثاني : أن يكون ما ينقله من الأقوال ملازما عقلا أو عادة لقول الإمام عليه‌السلام ، فيكون خبره حجة فيه ، بناء على ما هو الظاهر من حجية الخبر في لازم مؤداه وإن لم يقصد المخبر بيانه.

أما الأمر الأول فهو بعيد عن ظاهر أكثر نقلة الإجماع ، كما سبق. مع أنه لا

١٥٠

مجال لحجيته بعد عدم كون ناقل الإجماع من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، وعدم اطلاعه على قولهم عليهم‌السلام بالسماع ونحوه من الطرق الحسّية. كما يبعد اطلاعه عليه بطريق ملحق بالحسّ ، كالتواتر الموجب للعلم لكل أحد ، وإلا لكان ذكره في مقام الاستدلال أولى من ذكر الإجماع ، لأنه أصرح في بيان الحجة. ومن هنا لا مجال للبناء على أصالة كون النقل عن حسّ أو حدس ملحق به.

وأما الثاني فلا مجال لإحرازه بعد ما سبق من أن كلام ناقل الإجماع وإن كان ظاهرا بدوا في إرادة النقل عن جميع العلماء في جميع الأعصار ، وهو ـ لو تم ـ ملازم عادة لقول الإمام عليه‌السلام ، إلا أنه بعد العلم بامتناع الاطلاع على أقوالهم بطريق الحسّ لا بد من حمله على إرادة النقل عن بعضهم ، أو عن جميعهم اعتمادا على الحدس ، والأول لا يستلزم عادة قول الإمام عليه‌السلام ، والثاني لا يكون حجة في إثبات المؤدى ، فضلا عن لازمه المذكور.

هذا وقد ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن إجماع الأصحاب يكشف عن دليل معتبر عندهم خفي علينا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، وإلا احتمل استنادهم إلى ذلك ، لا إلى دليل آخر وراءه.

وحينئذ لو كان ناقل الإجماع مثل الفاضلين والشهيد قدس‌سرهم تعين حجية نقلهم ، لأنهم ينقلون نفس الفتاوى بلفظ الإجماع ، فتكشف عن الدليل المعتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة في البين ، بخلاف ما لو كان الناقل من تقدمهم ، لغلبة ابتناء حكايتهم الإجماع على تطبيق الأصل أو القاعدة بنظرهم ، لا على حكاية نفس الفتاوى.

لكنه يشكل بأن اتفاقهم على الفتوى إنما يستلزم وجود دليل معتبر عندهم ، لا وجود دليل معتبر واقعا ، إذ كما أمكن خطؤهم في الاستناد للأصل

١٥١

أو القاعدة أو الدليل المذكور في المسألة أمكن خطؤهم فيما اعتمدوه من الأدلة وخفي علينا.

مع أن الفرق في ناقل الإجماع بين مثل المحقق ومن تقدمه ـ لو تم ـ لا ينفع بعد ما سبق من امتناع اطلاع الناقل على فتاوى الكل حسّا ، بل لا بد من توجيه نقله بما تقدم ، مما لا مجال معه للاعتماد على نقله. ومن هنا لا مجال للبناء على حجية الإجماع المنقول في نفسه.

نعم قد تشهد القرائن في بعض الموارد بمطابقته للواقع أو للدليل المعتبر ، وهو يختلف باختلاف ناقلي الإجماع والمسائل المنقول فيها ، والأشخاص الذين يطلعون على النقل ، نظير ما تقدم في الأمر الثاني. كما قد يحصل العلم بالحكم من ذهاب المشهور له ، أو تسالم جماعة قليلة عليه ، أو غير ذلك مما لا ضابط له ، لينظر في تماميته.

١٥٢

الفصل السادس

في حجية مطلق الظن

ربما يدعى حجية مطلق الظن في الأحكام الكلية من دون خصوصية أسبابه. وقد استدل عليها بوجوه ..

الأول : أن في مخالفة الظن بالوجوب أو التحريم مظنة الضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم. وفيه أولا : أن اللازم دفع الضرر المحتمل وإن لم يكن مظنونا ، فيلزم تعميم هذا الوجه لمطلق احتمال التكليف. كما أن اللازم حجية الظن بالموضوع أيضا ، لا خصوص الظن بالحكم الكلي. ولا قائل بهما.

وثانيا : أن المراد بالضرر إن كان هو العقاب فالصغرى ممنوعة ، إذ ليس العقاب من لوازم التكليف الواقعي ، بل لا بد في استحقاقه من تنجز التكليف في رتبة سابقة ، ولا ينهض هذا الوجه بإثبات تنجزه بالظن.

وإن كان هو الضرر الدنيوي ، لما عليه العدلية من تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد الملزمة ، فيلزم من مخالفة التكليف فوت المصالح الملزمة ، أو حصول المفاسد الملزمة ، وهو نحو من الضرر. فهو ـ مع ابتنائه على تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وعدم الاكتفاء فيه بالمصلحة في جعل التكليف من دونها ، وهو محل نظر ـ يشكل بأن وجوب دفع الضرر المظنون والمحتمل عقلا حكم طريقي لتجنب الضرر الواقعي ، فلا يلزم من مخالفته إلا الضرر الواقعي مع إصابة الظن أو الاحتمال ، وليس الواجب واقعا إلا دفع ذلك الضرر.

١٥٣

وحينئذ فوجوب دفع الضرر الواقعي عقلا ليس كوجوب الطاعة يرجع إلى حكم العقل باستحقاق العقاب عليه ، ولا كوجوب العدل وحرمة الظلم يبتني على التحسين والتقبيح العقليين ، ليكون مستلزما لوجوبه شرعا ـ بناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل ـ المستلزم للعقاب ، كي يكون الظن بالضرر مستلزما للظن بالعقاب. بل هو راجع إلى أن حبّ الإنسان لنفسه يقتضي دفع الضرر عنها ، كما قد يهتم بدفع الضرر عن غيره لحبه له. فهو بالأمور الفطرية أنسب منه بالواجبات العقلية. وليس وراء الضرر المترتب أمر آخر من عقاب ونحوه يلزم دفعه.

وأما ما قيل من استحقاق الذم بإيقاع الضرر ، المستلزم لوجوب دفعه عقلا من باب التحسين والتقبيح ، نظير استحقاق الذم بالظلم. فهو في غاية المنع ، بل هو لا يستتبع إلا اللوم اللازم من التفريط المنافي للحكمة بحفظ ما يتعلق الغرض بحفظه.

وعلى هذا يكون مرجع الوجه المذكور إلى أن مخالفة المكلف الظن بالتكاليف تعرضه للوقوع في المفاسد وتفويت المصالح الموجبة للتكليف ، وليس وراء ذلك أمر آخر ، من دون أن يصلح للإلزام بمتابعة الظن ، لأن المصالح والمفاسد المذكورة قد لا تكفي في الداعوية ، إما لعدم كونها من سنخ الأضرار الشخصية الراجعة للمكلف نفسه ، بل أضرارا عامة لا يهتم بدفعها من لا يهتم بالصالح العام. أو لأن الإنسان قد يقدم على بعض الأضرار ، لعدم كونه حكيما ، أو لابتلائه ببعض المزاحمات ، ولو كانت هي صعوبة الاحتياط. وهذا بخلاف ما لو كان الوقوع في الضرر مظنة العقاب ، فإن العقاب بسبب أهميته وقوة داعويته ـ وإن ضعف احتماله ـ لا يصلح شيء لمزاحمته بنظر العقلاء.

وأما وجوب دفع الضرر شرعا المستتبع للعقاب بمخالفته ، فهو مختص ببعض الأضرار ، كتلف النفس أو ما يعم تلف الطرف ، ولا يعم كل ضرر

١٥٤

خصوصا الضرر النوعي.

وعلى ذلك لو رجع الظن بالتكليف للظن بمثل هذه الأضرار تعين وجوب مراعاة الظن المذكور حتى لو كان من جهة الموضوع. بل يجب في مثله مراعاة مطلق الاحتمال المعتد به. لكنه فرض نادر ، بل غير حاصل في الشبهات الحكمية ، فيخرج عن محل الكلام ، ولا ينهض بتأسيس القاعدة في المقام.

هذا كله مع أن هذا الوجه ـ لو تم ـ إنما يقتضي لزوم العمل بالظن بالتكليف ، لا الظن بعدمه ، ولا الظن بالأحكام الوضعية إلا بلحاظ استتباعها الظن بالتكليف ، فلو ظن ملكية قدر الاستطاعة مثلا كان مقتضى الوجه المذكور وجوب الحج ، دون جواز التصرف في المال. بل قد يكون مقتضى الاستصحاب عدم ملكيته وحرمة التصرف فيه ، وهو قد يستلزم الحرج أو اختلال النظام.

الثاني : أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح.

وفيه ـ مع أن مقتضاه لزوم الرجوع للظن حتى في الشبهة الموضوعية ، وامتناع نصب الحجة على خلافه ـ : أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح إنما يمنع من مخالفة الظن إذا تعلق الغرض بتحصيل الواقع. فإن كان المدعى لزوم حكم الشارع بحجية الظن فهو موقوف أولا : على تعلق غرضه بحفظ التكاليف الواقعية. وثانيا : على كون ظن المكلف هو الأرجح والأقرب للواقع بنظره. وكلاهما غير ثابت ، فقد تقدم في مبحث إمكان التعبد بغير العلم أن الشارع قد لا يتعلق غرضه بحفظ التكاليف الواقعية لأجل بعض المزاحمات المانعة منه. كما لا طريق لإحراز أن الشارع يرى أن ظن المكلف هو الأقرب للواقع ، ولا سيما بملاحظة ما ورد في القياس من أن ما يفسده أكثر مما يصلحه.

١٥٥

وإن كان المراد إلزام المكلف بالعمل على طبق الظن ـ وإن لم يكن حجة شرعا ـ تحصيلا للتكاليف الواقعية ، فهو موقوف على تعلق غرضه بتحصيل الواقع ، ولا ملزم به مع جريان الأصول المؤمنة منه عند عدم الحجة.

نعم لو تنجز الواقع على المكلف ـ كما لو قصّر في الفحص في موارد الدوران بين محذورين ، أو اضطر بسوء اختياره إلى ارتكاب أحد أطراف الشبهة التحريمية المحصورة ـ لزمه عقلا متابعة الظن بالتكليف ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

ومنه يظهر أن الوجه المذكور لا ينهض بجواز متابعة الظن بعدم التكليف ، إذ لا غرض في متابعة عدم التكليف لا للشارع ولا للمكلف ، بل يتجه الرجوع فيه للأصول أو الأدلة ، وقد يلزم من ذلك الحرج أو اختلال النظام ، كما تقدم في الوجه الأول.

مضافا إلى أن قبح ترجيح المرجوح على الراجح إنما يقتضي العمل بالظن في فرض تعلق الغرض بتحصيل الواقع إذا تعذر الاحتياط ـ كما تقدم في المثالين السابقين ـ وهو مبني على ما يأتي في دليل الانسداد. ومن ثم جعل هذا الوجه من مقدمات الدليل المذكور.

هذا مع أن المراد من هذا الوجه وما قبله إن كان هو حجية الظن مطلقا ولو مع انفتاح باب العلم والعلمي في معظم المسائل كانا منافيين لأدلة عدم حجية الظن ، وحيث كان ثبوت مضمونها من الشارع قطعيا ضروريا لزم رفع اليد عنهما ، لأنهما كالشبهة في مقابل البديهية. وإن كان هو حجيته مع انسداد باب العلم أو العلمي ، ليمكن جمعها مع الأدلة المذكورة ، بحملها على صورة الانفتاح ، كانا مبنيين على ما يأتي في دليل الانسداد.

الثالث : دليل الانسداد. وهو يبتني على مقدمات ، عمدتها ثلاث.

١٥٦

الأولى : انسداد باب العلم والعلمي ـ وهو الدليل المعتبر ـ بالحكم الشرعي.

الثانية : امتناع الرجوع للأصول الشرعية والعقلية المقررة للجاهل من البراءة والاحتياط وغيرهما ، وعدم ثبوت غيرها.

الثالثة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح. ومع تمامية المقدمات المذكورة يتعين العمل بالظن.

ولا حاجة في ذلك إلى إضافة مقدمة رابعة ، وهي عدم جواز إهمال الأحكام الشرعية ، كما صنعه شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره. إذ الإهمال إن كان على خلاف القاعدة فلا وجه لتوهم جوازه حتى يحتاج لفرض عدم جوازه في مقدمات الدليل. وإن كان مطابقا للقاعدة فهو عبارة أخرى عن امتناع الرجوع للبراءة المفروض في المقدمة الثانية.

إلا أن يراد بإهمال الأحكام الشرعية إهمالها تبعا لسقوطها واقعا بسبب الجهل ، فيكون أمرا آخر غير ما يأتي في المقدمة الثانية. لكنه بعيد عن ظاهر بعض كلماتهم ، ويأتي الكلام فيه تبعا للكلام في الاحتياط.

ومثله ما ذكره المحقق الخراساني قدس‌سره من إضافة مقدمة خامسة ، وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف شرعية ، إذ لا حاجة للعلم المذكور لو تمت المقدمات الثلاث. نعم قد يكون العلم المذكور دخيلا في تمامية المقدمة الثانية ، وهو لا يقتضي أخذه في قبالها.

ومن هنا يقع الكلام في المقدمات الثلاث.

أما المقدمة الأولى : فقد ذكروا أنها عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي في معظم المسائل. لكن مع تمامية المقدمتين الأخريين يكفي انسداد باب العلم ولو في مسألة واحدة ، كما في موارد التقصير في الفحص وتعذر الاحتياط ، كما

١٥٧

أشرنا إليه في الوجه الثاني لتقريب حكم العقل بحجية الظن.

نعم تمامية المقدمة الثانية فيما لو لم يكن المكلف مقصرا ـ كما هو محل الكلام ـ موقوفة على فرض الانسداد في المعظم ، حيث يلزم من البراءة والاحتياط المحاذير الآتية. فخصوصية الانسداد في المعظم ليست دخيلة في أصل الدليل ، بل في تمامية مقدماته في محل الكلام.

وكيف كان فمن الظاهر انسداد باب العلم في المعظم وأما العلمي فانسداده موقوف على عدم حجية مقدار يفي بالمعظم من أخبار الآحاد التي بأيدينا ، لعدم ثبوت التعبد بصدورها أو بدلالتها.

لكن الظاهر حجية المقدار المذكور ، لما تقدم في الفصل الأول من حجية الظواهر مطلقا ، ومنها ظواهر الأخبار ، ولو لعدم اختصاص حجية الظواهر بالمشافهين أو المقصودين بالإفهام ، وفي الفصل الرابع من ثبوت التعبد بصدور الأخبار مع الوثوق به أو برواتها. ومن ثم لا تتم المقدمة المذكورة.

وأما المقدمة الثانية : فالظاهر تماميتها في الجملة ، لعدم الإشكال في امتناع الرجوع للبراءة لو تم انسداد باب العلم في معظم المسائل ـ كما هو مفاد المقدمة الأولى من كلامهم ـ للعلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في المعظم ، فيلزم من الرجوع للبراءة المخالفة الإجمالية الكثيرة.

بل لو فرض عدم مانعية العلم الإجمالي من الرجوع للبراءة في تمام الأطراف فهو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما واحدا أو أحكاما قليلة يمكن تسامح الشارع فيها ، دون ما إذا كان أحكاما كثيرة ، فضلا عما إذا كان معظم الأحكام ، حيث يلزم من إهمالها تعطيل الشريعة ، وهو الذي عبّر عنه شيخنا الأعظم قدس‌سره بمحذور الخروج عن الدين.

كما أنه لو فرض كون تعذر الاحتياط التام في أطراف العلم الإجمالي

١٥٨

موجبا لسقوط التكاليف الواقعية عن الفعلية بنحو لا موضوع معه لتبعيض الاحتياط فلا مجال لذلك في المقام ، لأجل المحذور المذكور. وقد سبق عند الكلام في عدد مقدمات هذا الدليل احتمال كون ذلك هو المراد من عدم جواز الإهمال الذي جعل مقدمة رابعة في كلام جماعة. بل لا بد من البناء على بقاء الأحكام الواقعية على الفعلية ولزوم حفظها في مقام الامتثال في الجملة.

وأما الاحتياط فهو وإن كان مقتضى القاعدة في العلم الإجمالي ، إلا أنه قد يدعى الإجماع على عدم وجوبه في المقام.

لكن حيث كانت المسألة من المستحدثات ، لبناء الأصحاب سابقا على انفتاح باب العلم ، فلا مجال لدعوى الإجماع ، فضلا عن حجيته.

وأما دعوى الإجماع الارتكازي ، الراجعة إلى أن المرتكزات الفقهية تناسب منع الأصحاب من وجوب الاحتياط لو التفتوا لفرض الانسداد. فهي راجعة إلى الاستدلال بالمرتكزات ، وهو غير ظاهر بنحو معتد به. فالعمدة في المقام وجهان :

أولهما : لزوم اختلال النظام من الاحتياط ، لكثرة موارد الجهل ، مع كون الاحتياط في بعض المسائل ذا وجهين نظير ما أشرنا إليه في الوجه الأول من أن مقتضى الاحتياط مع الشك في ملكية المال الذي تتحقق به الاستطاعة للحج هو الحج من دون تصرف في ذلك المال ، ومع ابتناء العمل في كثير من المسائل التي هي مورد الجهل على مسائل أخر هي مورد الجهل أيضا.

مثلا مقتضى الاحتياط في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر عدم الاجتزاء به في رفع الحدث ، لكن لو انحصر الماء به وبماء محتمل النجاسة فمقتضى الاحتياط للمكلف التطهر بالأول ثم بالثاني وأداء الصلاة في الوقت ، فإذا قدر بعد ذلك على ماء مقطوع الطهارة تطهر به من الخبث المحتمل ثم تطهر

١٥٩

من الحدث وقضى الصلاة ، فيلزم تعدد جهات الاحتياط في العمل الواحد.

ومن الظاهر أن المحافظة على الاحتياط في جميع ذلك وتعيين ما ينبغي سلوكه عند تزاحم جهات الاحتياط مستلزم لاختلال النظام واضطراب أمر المعاش والمعاد ، خصوصا في حق العامي المحتاج لصرف الوقت في تعلم المسائل وضبطها. ولا ريب في عدم رضا الشارع الأقدس بذلك. بل هو يستلزم ترك كثير من الواجبات وفعل كثير من المحرمات ، بنحو يرجع لتعذر الاحتياط التام.

ثانيهما : أنه يلزم من الاحتياط العسر والحرج. وذلك لأن مقتضى أدلة نفي العسر والحرج رفع الأحكام التي يلزم منها الحرج ، والأحكام الواقعية في المقام وإن لم تكن بدوا حرجية إلا أنه حيث فرض اشتباهها فلا يحرز امتثالها إلا بالاحتياط التام الراجع للموافقة القطعية ، وذلك مستلزم للحرج لما سبق في الوجه الأول.

وحينئذ إن قيل بأن لزوم محذور من الاحتياط التام لا يصحح للشارع الاكتفاء بالاحتياط الناقص الراجع للموافقة الاحتمالية ، لعدم سلطان الشارع على التصرف في مقام الطاعة ، بل هو من مختصات العقل ، وليس للشارع إلا التصرف في الحكم الشرعي التابع له حدوثا وبقاء ، فمقتضى أدلة رفع الحرج في المقام رفع الأحكام الواقعية ، لصيرورتها حرجية بسبب الاشتباه المقتضي لوجوب الاحتياط الحرجيين ، وحيث لا مجال للبناء على سقوط الأحكام الواقعية وخروجها عن الفعلية في المقام ، لاستلزامه تعطيل الشريعة ـ كما سبق ـ يتعين قصور دليل الحرج عن المورد إلا أن يعلم بأهمية محذور الحرج أيضا بنحو يتعين سلوك طريق يجمع بين عدم تعطيل الشريعة وعدم لزوم الحرج.

وإن قيل بأن للشارع مع لزوم محذور من الاحتياط التام التنزل للاحتياط

١٦٠