الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

ومرسلة العياشي عنه وحديث عمر بن يزيد المتقدمة عند الكلام في آية الإيذاء ، وما عن العدة عن الصادق عليه‌السلام : «قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها فيما ورد عنا فانظروا إلى ما رووه عن علي عليه‌السلام فاعملوا به» (١). لظهوره في المفروغية عن العمل بما ورد عنهم عليهم‌السلام. نعم لا إطلاق في ذلك ، وإنما سبق عند الكلام في آية الإيذاء تمامية الإطلاق في حديث حريز ، مع قرب حمله على صورة الوثاقة ، كما هو الحال في حديث عمر بن يزيد. فراجع.

الطائفة الثالثة : ما تضمن الإرجاع للشيعة ، أو للعلماء والرواة ولكتبهم. كقول الإمام الكاظم عليه‌السلام في كتابه لعلي بن سويد : «وأما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك. لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ...» (٢).

وفي كتاب الإمام الهادي عليه‌السلام لا بني ماهويه : «فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى» (٣).

ودعوى : اختصاصهما بالفتوى. ممنوعة ، لأن معالم الدين في الأول تشمل الروايات أو تختص بها. كما أن الثاني شامل بإطلاقه لأخذ الحديث. فتأمل.

وأوضح منهما في ذلك ما تضمن جواز الرجوع للكتب ، كموثق عبيد بن زرارة : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها» (٤).

وخبر المفضل بن عمر : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : اكتب وبث علمك في

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٧.

(٢) ، (٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٢ ، ٤٥.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٧.

١٢١

إخوانك ، فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم» (١) فإنهما كالصريحين في النظر إلى زمان الغيبة ونحوه مما تنقطع فيه طرق العلم وينحصر الأمر بالكتب. وحملهما على إرادة الرجوع إليها في خصوص ما يورث العلم بعيد جدا عن الواقع الخارجي ، ضرورة قلة المتواترات في الكتب وانقطاع القرائن القطعية المحتفة بأخبار الآحاد بتقادم الزمان.

ومثلهما في ذلك حديث محمد بن الحسن بن أبي خالد ، بل حسنه : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : جعلت فداك إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلما ماتوا صارت تلك الكتب إلينا. فقال حدثوا بها فإنها حق» (٢).

فإنه لو لا المفروغية عن حجية ما يرويه المشايخ في مقام العمل لم يحتج إلى الاستئذان من الإمام عليه‌السلام في رواية الكتب المذكورة ، إذ روايتها لمجرد إثبات الرواية وحفظها ، لتكون بعض السبب الموجب للعلم لا يحتاج إلى الاستئذان المذكور. بل لا يبعد أن يكون قوله عليه‌السلام : «فإنها حق» أنها كتبهم لا تحتاج نسبتها لهم إلى أن تروى عنهم ، لا أن ما تضمنته حق واقعا ، ليكون شهادته عليه‌السلام بحقيقة ما في الكتب المذكورة قرينة قطعية على صدور مضمونها ، لتخرج عن محل الكلام.

ولعل مثلها في ذلك ما عن الحسين بن روح وقد سئل عن كتب الشلمغاني بعد ما خرج التوقيع بلعنه : «أقول فيها ما قال أبو محمد الحسن بن علي «صلوات الله عليهما» وقد سئل عن كتب بني فضال ، فقالوا : كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال صلوات الله عليه : خذوا بما رووا وذروا ما

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٨ ، ٢٧.

١٢٢

رأوا» (١) حيث لا يبعد عدم كون الأمر بالأخذ بروايات المذكورين شهادة بصحتها ، بل لبيان عدم مانعية مخالفتهم للحق في أصول الدين من قبول رواياتهم مع وثاقتهم في أنفسهم ، لأن ذلك هو المناسب للسؤال ، وهو الجهة المشتركة عرفا بين كتب بني فضال وكتب الشلمغاني المصححة لتعدي الحسين بن روح «رضي الله عنه» عن مورد كلام الإمام عليه‌السلام ، بخلاف العلم بإصابتها للواقع ، فإنه جهة خفية لا خصوصية فيها لكتب بني فضال.

نعم لا مجال للاستدلال بما تضمن من الروايات الكثيرة الإرجاع أو التصحيح أو التقرير لكتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن (٢) ، وكتاب سليم (٣) ، وكتاب الفرائض عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) ، وكتاب ظريف في الديات (٥) ، وكتاب عبيد الله بن علي الحلبي (٦) والفضل بن شاذان (٧) وغيرها.

لأن تصحيحهم عليهم‌السلام للكتاب شهادة منهم بصحة ما فيه ، وهي قرينة قطعية مخرجة له عن محل الكلام ، وهو الخبر غير العملي.

ومثله ما تضمن الإرجاع لبعض الرواة والفقهاء أو النهي عن رد حديثهم ، كزرارة (٨) ومحمد بن مسلم (٩) وأبي بصير (١٠) والحارث بن المغيرة النضري (١١) وأبان بن تغلب (١٢) وزكريا بن آدم (١٣) ويونس بن عبد الرحمن (١٤) والعمري وابنه (١٥). لاحتمال خصوصية أولئك النفر عندهم عليهم‌السلام واطلاعهم على عدم مخالفة خبرهم للواقع أو ندرته ، بنحو يمتازون به عن غيرهم من الرواة.

__________________

(١) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي : ٢٣٩ طبع النجف الأشرف. وذكر في الوسائل ج : ١٨ ذيل الحديث في باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧٩. وباب : ١١ من الأبواب المذكورة حديث : ١٣.

(٢) ، (٣) ، (٤) ، (٥) ، (٦) ، (٧) : الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧٤ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٨٠ ، ٧٨ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٨١ ، ٧٧.

(٨) ، (٩) ، (١٠) ، (١١) ، (١٢) ، (١٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٧ ، ١٩. ٢٣ ، ١٥ ، ٢٤ ، ٨ ، ٣٠ ، ٢٧ ، ٣٣ ، ٣٤.

١٢٣

ومجرد التعبير منهم عليهم‌السلام عن أولئك بأنهم ثقات أو السؤال منهم عليهم‌السلام عن وثاقتهم لأجل العمل بروايتهم ، لا يشهد بعموم حجية خبر الثقة ، لأن الوثاقة من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص ، ومفاد هذه الروايات حجية خبر من هو ثقة عند الأئمة عليهم‌السلام بضوابطهم الدقيقة ، والمطلوب حجية خبر من هو ثقة عند المكلف وعامة الناس بضوابطهم العامة. ولذا كانت هذه الروايات شهادات رافعة للأشخاص المذكورين إلى مراتب عالية في الجلالة تقرب من العصمة في التبليغ ، وليست كشهادة سائر الناس للرجل بالوثاقة.

ومنه يظهر عدم صحة الاستشهاد بما في التوقيع الشريف : «فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فما يرويه عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحملهم إياه إليهم» (١) ومثله ما في تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام في بيان المتمسك بالقرآن : «هو الذي يأخذ القرآن وتأويله عنا أهل البيت وعن وسائطنا السفراء عنا إلى شيعتنا» (٢) لعدم وضوح كون المراد بالسفراء جميع الرواة من الشيعة أو الثقات منهم ، بل لعلهم خصوص المنصوبين من قبلهم عليهم‌السلام من ثقاتهم وخواصهم.

نعم ما تضمن الإرجاع للثقة ظاهر في إيكال تشخيصه للمكلف بالضوابط العرفية العامة ، كما هو الحال في بعض نصوص الطائفة الأولى.

«الطائفة الرابعة» : ما يدل بنفسه على المفروغية عن حجية خبر الواحد في الجملة ،مثل معتبر الفضل بن شاذان المتقدم عند الكلام في آية النفر. ونحوه معتبر عبد المؤمن الأنصاري عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اختلاف أمتي رحمة» قال عليه‌السلام : «إنما أراد قول الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِ

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٠.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٥ من أبواب صفات القاضي حديث : ٨.

١٢٤

فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنما أراد اختلافهم من البلدان ، لا اختلافا في دين الله ...» (١) ، وما عن روضة الواعظين للفتال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من تعلم بابا من العلم [عمل به أو لم يعمل] عمن يثق به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة» (٢).

وخبر جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «سمعته يقول : المؤمنون خدم بعضهم لبعض. قلت : وكيف يكونون خدما بعضهم لبعض؟ فقال : يفيد بعضهم بعضا ... الحديث» (٣).

وصحيح يزيد بن عبد الملك عنه عليه‌السلام : «تزاوروا ، فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم ، وذكرا لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم» (٤).

وفي خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الخيف المروية بطرق بعضها معتبر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (٥).

ومرفوعة الكناسي عنه عليه‌السلام : «في قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ليس عندهم ما يتحملون به إلينا فيسمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا ، فيسمعون حديثنا فينقلوه إليهم ، فيعيه هؤلاء ويضيعه هؤلاء ، فأولئك الذين يجعل الله لهم

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٠.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٢.

(٣) ، (٤) ، (٥) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٧ ، ٣٨ ، ٤٣ ، وقريب منه حديث : ٤٤ من نفس الباب.

١٢٥

مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون» (١).

وحسن عبد السلام الهروي عن الرضا عليه‌السلام : «قال : رحم الله عبدا من أحيا أمرنا. قلت : كيف يحيي أمركم؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها للناس ، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا» (٢).

وما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المروي عن الرضا عليه‌السلام بطرق متعددة أنه قال : «اللهم ارحم خلفائي ـ ثلاث مرات ـ فقيل له : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال : الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنتي فيعلمونها الناس من بعدي» (٣). بناء على عدم اختصاصه بالأئمة عليهم‌السلام.

وصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في حديث : «الراوية لحديثنا يشدّ به [يسدده في] قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد» (٤).

وخبر حمزة بن حمران : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من استأكل بعلمه افتقر. قلت : إن في شيعتك قوما يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البر والصلة والإكرام فقال : ليس أولئك بمستأكلين ...» (٥).

وما عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث أنه قال للحسن البصري : «نحن القرى التي بارك الله فيها ... فقال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا إلى شيعتنا و [فقهاء] شيعتنا إلى شيعتنا ...» (٦) وقريب منه التوقيع الشريف (٧).

وما في خبر جميل عن الصادق عليه‌السلام في حديث أنه قال : «يا جميل ارو هذا الحديث لإخوانك ، فإنه ترغيب في البرّ» (٨).

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٥ ، ٥٢ ، ٥٣.

(٤) ، (٥) ، (٦) ، (٧) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢ ، ١٢ ، ٤٧ ، ٤٦.

(٨) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٠.

١٢٦

فإن هذه النصوص وإن لم يصرح فيها بحجية الحديث ، إلا أن ما تضمنته ـ من الاستفادة بالحديث بسبب النقل وإفادته وتبليغه وتعليمه للناس وتعلمهم له وشدّ قلوب الشيعة به ونحو ذلك ـ ظاهر في المفروغية عن حجيته بسبب النقل وصلوحه للعمل ، وبدون ذلك إنما يكونون عالمين بنقله ، لا به ، فضلا عن أن ينتفعوا به.

نعم لا إطلاق لها في ذلك. إلا أن حملها على خصوص صورة التواتر ونحوه مما يحصل معه العلم بعيد جدا ، ولا سيما بملاحظة الواقع الذي عليه الناس في معيار العمل بالحديث.

ومثلها ما عن تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام من قول الصادق عليه‌السلام : «وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، والعصبية الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم ، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه ، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم ، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة ، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ، ولا كرامة ، وإنما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ، لأن الفسقة يتحملون عنّا ، فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم ، وآخرون يتعمدون الكذب علينا» (١).

فإنه وإن كان واردا في التقليد إلا أن ذيله بضميمة المناسبات الارتكازية تقتضي عمومه للرواية.

وكذا ما تضمن الحث على أخذ الحديث عن صادق كقوله عليه‌السلام : «لحديث

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٠ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

١٢٧

واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها» (١) بناء على أن المراد بالصادق الثقة. أما لو كان المراد به الصادق الواقعي المعلوم الصدق ، وهم الأئمة عليهم‌السلام ـ كما هو غير بعيد ـ فهو خارج عن محل الكلام.

الطائفة الخامسة : ما قد يستفاد من مجموعها حجية الخبر ، وإن كان في دلالة كل واحد منها على ذلك نظر. كالمستفيض ، بل المتواتر المتضمن أنه من حفظ أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما (٢) فإنه وإن أمكن حمله على الحفظ لأجل تكثير طرق الرواية ليحصل العلم بصدورها لا لحجيتها في نفسها ، إلا أنه يبعد بلحاظ احتياج التواتر لشروط خاصة يصعب المحافظة عليها ، فلو توقف الانتفاع بالرواية على حصول العلم بها قلّت فائدة الحفظ ، وهو خلاف المنساق من هذه الروايات ، خصوصا المروي بطرق متعددة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من حفظ من أمتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» (٣) ، والآخر : «من حفظ من أمتي أربعين حديثا مما يحتاجون إليه من أمر دينهم بعثه ...» (٤) لأن المنساق منهما كون تحمل الرواية وبيانها كافيا في حصول الانتفاع وسدّ الحاجة.

ومن ثم لا يبعد اختصاصهما بما إذا كان الحافظ واجدا لشروط الحجية من الثقة والعدالة وغيرها.

ومن هذه الطائفة ما تضمن الأمر بكتابة الحديث وروايته ومذاكرته

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦٧ ، وقريب منه حديث : ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ من نفس الباب.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥ ، ٦ ، ٤٨ ، ٥٤ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٤ ، ٧١ ، ٧٢.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥٤ ، ٧٢.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٦٠.

١٢٨

ومدارسته ، ومنه قولهم عليهم‌السلام : «اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا» (١). وما ورد من الترخيص في النقل بالمعنى والتحذير من الكذابين ، ونحو ذلك (٢) حيث يشعر بحجية الخبر وإن لم يفد العلم ، وإلا لقلّت الفائدة في ذلك ، كما نبه له شيخنا الأعظم قدس‌سره.

وهذه الطائفة إن لم تنهض بالاستدلال تصلح للتأييد ، ويكون الاستدلال بالطوائف الأربع الأول. واستيعابها يورث القطع بحجية الخبر في الجملة ، لتواترها إجمالا.

الثالث من الأدلة التي استدل بها على حجية الخبر : الإجماع. والمراد به ... تارة : الإجماع القولي الراجع إلى تصريح العلماء بحجية الخبر.

وأخرى : الإجماع العملي الراجع إلى الاتفاق في مقام العمل على الرجوع للخبر من أجل العمل بمضمونه.

أما الأول فلا مجال لدعواه ، لعدم ثبوته تحصيلا ولا نقلا ، حيث لم ينقل التصريح بالحجية إلا عن الشيخ وبعض من تأخر عنه ممن تعرض للمسائل الأصولية ، وهم قليلون لا يكشف اتفاقهم عن الحكم الشرعي.

وأما الباقون فلم يهتموا بتحرير المسائل الأصولية ، بل صرح بعض من حررها بعدم الحجية ، كالمرتضى قدس‌سره وغيره ممن تقدم ، بل بامتناعها ، كابن قبة.

فالعمدة الوجه الثاني ، وهو الإجماع العملي. وتقريبه بأحد وجوه ...

الأول : إجماع العلماء على العمل به في مقام الفتوى والاستنباط.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي وغيرها.

١٢٩

الثاني : إجماع المسلمين بما هم مسلمون متدينون على العمل به في الشرعيات.

الثالث : إجماع العقلاء بما هم عقلاء على العمل به في أمورهم العامة.

والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا الوجه يسقط عن الحجية بثبوت الردع عنه من الشارع ، بخلاف الوجهين الأولين فإنهما لا ينهضان بالحجية إلا مع إحراز مطابقتهما لرأي المعصوم ، ومعه لا يعقل ثبوت الردع عن مؤداهما.

ويترتب على ذلك أنه لو ورد ما ظاهره الردع كان محكوما بالوجهين الأولين لو تمّا ، لامتناع حجية الظهور مع القطع بكذبه ، وحاكما على الوجه الثالث لو انحصر الدليل به ، لحجية الظهور وصلوحه للردع عن الوجه المذكور ، فيسقط عن الحجية.

أما الوجه الأول : فيمكن تحصيله بتتبع طريقة العلماء في مقام الاستدلال من زماننا إلى زمان الشيخين ، بل من قبلهما من أرباب الفتاوى ، سواء كانوا في مقام تحرير الفتاوى ، أو الاستدلال عليها ، أم في مقام بيانها بطريق إيداع الرواية ، كما هو حال مثل الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه. فإنهم متسالمون على الاستدلال بأخبار الآحاد والفتوى في فروع كثيرة ليس فيها إلا خبر واحد لا يوجب العلم. على ذلك جرى عامتهم لا ينكرونه ولا يتوقفون فيه. وإن أنكر بعض من يدعي عدم حجية الخبر ذلك في بعض الفروع جرى عليه في بقيتها وأغفل مبناه. وإلا اختل نظام الفقه والاستدلال.

ويقطع بأنهم قد جروا في ذلك على سنن من كان قبلهم من معاصري الأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم ، بنحو يقطع معه بإقرارهم عليهم‌السلام لهم على ذلك ، لامتناع الابتداع عادة والخروج عن طريقة عامة العلماء في مثل ذلك ، لتعذر الاتفاق عليه دفعة واحدة في عصر واحد عادة. وانفراد البعض به في بعض العصور ـ ثم

١٣٠

شيوع طريقته بين المتأخرين عنه ـ مثار للإنكار والتشنيع من معاصريه وأتباعهم. ولو كان لوصل ، لأهميته ، وتوفر الدواعي لنقله.

وأما احتمال ابتناء عمل القدماء بالأخبار على احتفافها بالقرائن القطعية ، لا على حجيتها في أنفسها ، وقد اشتبه ذلك على المتأخرين عنهم ، فتوهموا اتفاقهم على حجيتها ، وعملوا بها لذلك بعد خفاء القرائن عليهم. فلا مجال له ، لأن تحرّي القرائن القطعية في جميع الفروع الفقهية وضبطها محتاج إلى عناية خاصة لو كان بناء القدماء عليها لما خفي على المتأخرين مع تقارب العصور واتصال بعضهم ببعض وأخذ كل منهم عمن تقدمه.

والإنصاف أن ملاحظة ذلك توجب وضوح الحال بنحو يغني عن تجشم الاستدلال وتكلف البحث والنظر.

هذا وقد صرح بالإجماع بالوجه المذكور جمع من الأصحاب.

منهم : الشيخ قدس‌سره في العدة. قال في مقام الاستدلال على مختاره من حجية الخبر : «والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة ، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه ، سكتوا وسلموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمة عليهم‌السلام ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته. فلو لا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو» (١).

__________________

(١) العدة ج : ١ ص : ١٢٦ ـ ١٢٧.

١٣١

ثم أطال في تعقيب ذلك إلى أن قال : «ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجردها ، بل إنما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها ، [و] لأجلها عملوا بها ... قيل له : القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء مخصوصة ـ نذكرها فيما بعد ـ من الكتاب والسنة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ، لأنها أكثر من أن تحصى ، موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ، لأنه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ، أو دليله ومعناه ، ولا في السنة المتواترة ، لعدم ذلك في أكثر الأحكام ، بل لوجودها في مسائل معدودة ، ولا في الإجماع لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة. ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم ضرورة خلافه ... ومن قال عند ذلك إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنه يكون معولا على ما يعلم من الشرع خلافه» (١).

ومنهم : السيد رضي الدين بن طاوس قدس‌سره ففي محكي كلامه الذي ردّ به على السيد قدس‌سره : «لا يكاد تعجبي ينقضي كيف اشتبه عليه أن الشيعة [لا] يعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعية ، ومن اطلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل ذوي الاعتبار وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد ، بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر ذلك محمد بن الحسن الطوسي في كتاب العدة وغيره من المشغولين بتصفح أخبار الشيعة وغيرهم من

__________________

(١) العدة ج : ١ ص : ١٣٥ ـ ١٣٦.

١٣٢

المصنفين».

ومنهم : العلامة قدس‌سره ففي محكي النهاية : «إن الأخباريين منهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد ، والأصوليون منهم ـ كأبي جعفر الطوسي ـ عمل بها. ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم».

ومنهم : المجلسي حيث ادعى ـ كما عن بعض رسائله ـ تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد.

بل قد يظهر من السيد المرتضى قدس‌سره الاعتراف بعمل الأصحاب بخبر الواحد ، وأنه لا يعول عليه ، لأنه من الأمور المشتبهة. فعن محكي الموصليات : «إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجة في الأحكام ، حتى رووا عن أئمتهم عليهم‌السلام فيما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامة. وهذا يناقض ما قدمتموه. قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها إلى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ، وقد علم كل موافق ومخالف أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدي إلى العلم. وكذلك نقول في أخبار الآحاد».

ويؤيد ذلك ما عن ابن ادريس في تقريب الإجماع على المضايقة أنه قال : «إن ابني بابويه والأشعريين ـ كسعد بن عبد الله وسعيد بن سعد ومحمد بن علي بن محبوب ـ والقميين أجمع ـ كعلي بن إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد ـ عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة ، لأنهم ذكروا أنه لا يحل ردّ الخبر الموثوق بروايته». فإن اتفاق من ذكر ، مع معاصرة بعضهم للأئمة عليهم‌السلام ، وجلالتهم ورفعة مقامهم ، يناسب الاتفاق المدعى في كلام من سبق. بل عن المجلسي قدس‌سره أن عمل أصحاب الأئمة عليهم‌السلام بالخبر غير العلمي متواتر بالمعنى.

١٣٣

ويشهد بثبوت الإجماع المذكور أمور :

منها : تصدي الأصحاب قديما وحديثا للجرح والتعديل وتمييز من تقبل روايته من غيره ، وتعبيرهم عن بعض الرواة بأنه مسكون إلى روايته ، أو أنه مقبول الرواية أو صحيح الحديث ، أو لا يعمل بما ينفرد به ، وتصريحهم بتصحيح ما يصح عن جماعة ، وقبول مراسيل بعض الرواة معللا بأنه لا يرسل ولا يروي إلا عن ثقة ، واستثناؤهم بعض الرجال من بعض الكتب أو في بعض الطرق ، لخصوصية توجب الريب في روايته المستثناة. إذ لا موضوع لذلك ولا فائدة فيه لو لم يكن العمل بالخبر غير العلمي ثابتا عندهم ، كما نبه لذلك الشيخ قدس‌سره في تتمة كلامه السابق.

ومنها : نقلهم عن بعض الرجال أنه يعتمد المراسيل أو يروي عن الضعفاء ، حيث قد يظهر منه أن نكتة التنبيه لذلك لزوم الحذر من روايته مع المفروغية عن قبول رواية من لا يكون كذلك. بل لا ريب في سوق ذلك في كلماتهم لتمييزه عن بقية الأصحاب بنحو يظهر في مفروغية الأصحاب عن العمل بالمسانيد المروية عن الثقات.

ومنها : تصريح جمع من قدماء الأصحاب ومتأخريهم بما يظهر منه المفروغية والتسالم على العمل بخبر الواحد في الجملة. فقد قال الصدوق قدس‌سره في ذيل أخبار سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفقيه : «ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا الباب لجاز أن ترد جميع الأخبار ، وفي ردها إبطال للدين والشريعة».

وقال المحقق في المعتبر في مسألة خبر الواحد : «أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر ... واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال : كل سليم السند يعمل به ، وما علم أن الكاذب] الصادق. ظ [قد يلصق والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ، إذ لا مصنف إلا وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر الواحد

١٣٤

العدل ...».

وعن المفيد الثاني ـ ابن الشيخ الطوسي ـ والشهيد في الذكرى : أن الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص. حيث لا وجه له إلا تنزيل فتاواه منزلة رواياته ، لأن فتاواه مضامين نصوص ... إلى غير ذلك مما يجده الباحث المتتبع شاهدا بوضوح الحكم بين الأصحاب وتسالمهم عليه. وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم «قدس الله تعالى سره وشكر سعيه».

ومن جميع ذلك يظهر وهن الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى قدس‌سره على المنع من العمل بخبر الواحد. فلا بد إما من تنزيله على أخبار المخالفين ، كما يناسبه ذكره لذلك في تعقيب حديث عدم توريث الأنبياء ، ويكون قد اعتمده لدفع الخصوم تهربا من طعن روايتهم بضعف الراوي ، كما يظهر ذلك من الشيخ قدس‌سره ، حيث قال في العدة : «فإن قيل : أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في أن خبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحة ذلك؟ ... قيل له : من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنما كلموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام الذين يروونهم خلافها ، وذلك صحيح على ما قدمنا. ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه ...» (١).

أو يكون مراده بالعلم ما يعم الوثوق ، بناء على ما حكي عنه من تعريفه بأنه ما يوجب سكون النفس ، أو غير ذلك مما يمكن به توجيه كلامه وإن كان على خلاف ظاهره ، وإلا فمن البعيد جدا خفاء عمل الأصحاب بالخبر عليه.

__________________

(١) العدة ج : ١ ص : ١٢٨.

١٣٥

وأما الوجه الثاني : ـ وهو سيرة المتشرعة على العمل بالخبر غير العلمي ـ فهو مما لا يظن بأحد إنكاره ، إذ لولاه لاختل نظامهم في أمور معاشهم ومعادهم ، لعدم تيسر العلم في جميع ما يبتلون به. وتحرّي طرقه وأسبابه يوجب توقفهم عن العمل في كثير من الموارد ، بل أكثرها ، وهو مخلّ بنظامهم.

ولا مجال لاحتمال سلوكهم في الشرعيات طريقا آخر غير نقل أخبار الأحكام عن الأئمة عليهم‌السلام في عصورهم عليهم‌السلام ونقل فتاوى المجتهدين بعد ذلك.

إذ لو كان ذلك لظهر وبان.

نعم الظاهر أن عملهم به مستند لارتكازياتهم الأولية من دون حاجة لبيان خاص من الشارع ، وإلا لظهر ، لكثرة الحاجة للسؤال عن ذلك لو لا الارتكازيات المذكورة. فسيرتهم من صغريات سيرة العقلاء ، ومن شواهد إمضائها. ومن ثم كانت أولى بالاستدلال منها ، لما سبق في أول الكلام في أقسام الإجماع العملي من عدم نهوض ظهور الأدلة في عدم الحجية ـ لو تم ـ بمعارضتها.

وأما الوجه الثالث : ـ وهو سيرة العقلاء ـ فالظاهر عدم الإشكال في ثبوتها ، وحيث كانت السيرة المذكورة ارتكازية فالأصل حجيتها ما لم يثبت الردع عنها ، كما يظهر مما تقدم منا في ذيل الكلام في أصالة عدم حجية غير العلم. بل ذكر غير واحد أن عدم ثبوت الردع في المقام كاشف عن الإمضاء ، لأن السيرة المذكورة بمرأى من الشارع الأقدس ومسمع ، فلو لم يكن مقرا لها لردع عنها ، كما ردع عن القياس ، ولو ردع عنها لوصل الردع إلينا ، كما وصلنا الردع عن القياس ، لعموم الابتلاء وتوفر الدواعي لنقله.

بل لا ينبغي الإشكال في ظهور أكثر الأدلة المتقدمة ـ من الآيات والنصوص والإجماع ـ في إمضاء السيرة المذكورة ، كما تقدم التنبيه له في جملة منها. وإن كان هذا رجوعا عن الاستدلال بها إلى الاستدلال بتلك الأدلة.

١٣٦

نعم ربما يدعى نهوض العمومات الناهية عن العمل بغير العلم بالردع عن السيرة المذكورة ، حيث لا إشكال في حجية الظهور في العموم كسائر الظهورات ولو ببناء العقلاء الذي لم يثبت الردع عنه ، بل ثبت عدم الردع عنه وإمضاؤه ، كما سبق ، ومع حجيته ينهض بالردع في المقام ، فيسقط الخبر عن الحجية في رتبة متأخرة عن العموم. وقد حاول غير واحد المنع من نهوض العمومات بذلك بوجوه ضعيفة قدت ظهر بالتأمل.

والعمدة في ذلك : أن استحكام السيرة على العمل بالخبر موجب للغفلة عن شمول العمومات له ، فلا يترتب على العمومات الارتداع ، ولا يتأتى بها الغرض ، بل لا بد من ردع خاص رافع للعلة. واللازم كثرته وتأكيده بالنحو المناسب لاستحكام السيرة ، بل يتعين كونه أكثر وآكد من الردع عن مثل القياس الذي عرف العمل به عن جماعة خاصة من العامة ، فعدم ورود ذلك والاقتصار على العمومات شاهد بعدم الردع عن السيرة في المقام ، بل سبق أنه يستفاد إمضاؤها من جملة من الأدلة المتقدمة.

على أنه سبق عند الكلام في أصالة عدم الحجية المنع من تمامية العمومات المذكورة. ومن هنا لا ينبغي الإشكال في الرجوع للسيرة ، بل هي أهم الأدلة في المقام ، لنهوضها بتحديد ما هو الحجة ، بخلاف أكثر الأدلة الأخر ، حيث لا إطلاق لها ينهض بذلك ، كما تقدم.

الرابع من الأدلة التي يستدل بها على حجية الخبر : دليل العقل. وهو من وجوه ، بعضها يختص بإثبات حجية خبر الواحد ، وبعضها يقتضي حجية الظن مطلقا أو في الجملة ، فيدخل فيه الخبر ، أو يختص به بضميمة مقدمة خارجية ، وهو كونه متيقن الحجية من بين الظنون.

أما القسم الثاني فيأتي الكلام فيه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.

١٣٧

وأما القسم الأول فعمدته العلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار التي بأيدينا مما اشتمل على أحكام إلزامية ، الموجب لتنجز احتمال صدورها ، ولزوم موافقتها خروجا عن العلم الإجمالي المذكور.

وهذا الوجه ـ لو تم ـ لا يقتضي العمل بالأخبار التي لا تتضمن أحكاما إلزامية. بل حتى ما تضمن الأحكام الإلزامية إنما تجب موافقته احتياطا ، لا لحجيته شرعا ، الذي هو محل الكلام. ومن هنا لا ينبغي إطالة الكلام في هذا الوجه بعد وفاء الأدلة المتقدمة بحجية الأخبار شرعا في الجملة من دون خصوصية لمضامينها. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العصمة والسداد.

المقام الثالث : في تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر

بعد الفراغ عن حجيته في الجملة حسبما استفيد مما تقدم في المقام الثاني.

وقد اشتهر بين المتأخرين تقسيم أخبار الآحاد إلى أربعة أقسام ..

الأول : الصحيح ، وهو ما كان راويه عدلا إماميا.

الثاني : الموثق ، وهو ما كان راويه ثقة غير إمامي.

الثالث : الحسن ، وهو ما كان راويه إماميا ممدوحا ، من دون أن يرد فيه قدح ولا نص على العدالة. والظاهر أنه لا بد من رجوع المدح إلى ما يوجب الوثوق بصدقه والأمن من كذبه.

الرابع : الضعيف ، وهو ما عدا الأقسام الثلاثة السابقة. ويدخل فيه ما كان بعض رواته مجروحا أو مجهول الحال ، إما مع معرفة اسمه ، أو بدونها ، كما في المرفوع والمرسل.

ومع اختلاف رجال سلسلة السند في هذه الأمور يلحق الحديث

١٣٨

بالأدنى ، لأن النتيجة تتبع أخسّ المقدمات.

ويبقى ما رواه إمامي ثقة لم تثبت عدالته ، وما رواه ممدوح غير إمامي ، خارجا عن الأقسام السابقة. والظاهر إلحاق الأول بالموثق حكما ، والثاني بالحسن.

هذا ويظهر مما سبق في المقام الثاني أن عمدة الأدلة في المقام هي الأخبار والإجماع.

أما الأخبار فحيث لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ، بل إجمالا ، يتعين الاقتصار على المتيقن من مضمونها. ومن القريب جدا حصول اليقين من استيعابها بحجية خبر الثقة وإن لم يكن عادلا ، لدلالة جملة منها عليه ، كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام : «قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق. قال : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت» (١) ، وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم عليه‌السلام فترد إليه» (٢) ، وما في حديث عمر بن يزيد المتقدم عند الكلام في آية الإيذاء من قوله عليه‌السلام : «إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا ، فلم يثق به ، فهو كافر» (٣) ، وما تقدم عند الاستدلال بالسنة عن روضة الواعظين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من تعلم بابا من العلم] عمل به أو لم يعمل [عن من يثق به ...» (٤) ، وما عن الإمام الكاظم عليه‌السلام في كتابه لعلي بن سويد : «لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٠.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤١.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٩.

(٤) الوسائل ج : ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٢.

١٣٩

وخانوا أماناتهم ...» (١) ، فإن تعليل عدم القبول من غير الشيعة بخيانتهم ظاهر في كون منشئه عدم الوثوق بهم. وكذلك ما ورد في كتب بني فضال (٢) ، وما تقدم في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الظاهر في حجية خبر المضيع للحديث (٣) الذي هو غير عادل غالبا. فإن النصوص المذكورة ظاهرة في حجية خبر الثقة وإن لم يكن عدلا.

وهي معتضدة بإطلاق قوله عليه‌السلام في صحيح حريز المتقدم عند الكلام في آية الإيذاء : «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم» (٤) ، ونحوه مرسلة (٥) ، حيث يلزم الاقتصار في تقييده على المتيقن وهو الوثاقة ، دون العدالة التي هي أخص.

بل هو المستفاد من جملة من النصوص المتقدمة الظاهرة في المفروغية عن حجية الخبر وإن لم يكن لها إطلاق في ذلك ، لظهورها في الجري في الحجية على مقتضى سيرة العقلاء الارتكازية ، حيث لا إشكال في قبول خبر الثقة بمقتضى سيرتهم.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في استفادة حجية خبر الثقة من النصوص ، وعدم اعتبار العدالة في الراوي.

وأما الإجماع فقد سبق أن الاستدلال به إنما يكون بالإجماع العملي منه الراجع لعمل علماء الشيعة ، وسيرة المتشرعة ، وسيرة العقلاء. ولا ينبغي الريب في عمل قدماء الأصحاب من العلماء بخبر الثقة وإن لم يكن إماميا عادلا ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لكتب الجرح والتعديل وطريقة أهل الفتوى والاستدلال.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٢.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٧٩.

(٣) الوسائل ج : ١٨ باب : ٨ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٥.

(٤) الوسائل ج : ١٣ باب : ٦ من أبواب الوديعة حديث : ١.

(٥) تفسير العياشي ج : ٢ ص : ٩٥ حديث : ٨٣ من تفسير سورة براءة.

١٤٠