الكافي في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-65-7
الصفحات: ٦٩٦
الجزء ١ الجزء ٢

تقصير في العمل بخبر العادل الضابط وإن لم يؤمن معه فوت الواقع ، كما لا يترتب عليه الندم. ولأجل ذلك كان عموم التعليل آبيا عن التخصيص عرفا ، ولو حمل على مطلق الجهل بالواقع لم يكن آبيا عنه ، لتعارف الطرق غير العلمية عند العقلاء ، وعدم منافاتها لمرتكزاتهم.

هذا كله بناء على حمل الجهالة على ما يقابل العلم ، وأما بناء على حملها على ما يناسب الطيش والحمق والسفه ويقابل الرشد والتعقل والحكمة فالأمر أظهر. ولعل الثاني هو الأشهر في الاستعمال في الكتاب والسنة وغيرهما ، فقد استعمل الجهل ومشتقاته في ما يزيد على عشرين موضعا من الكتاب الكريم في المعنى المذكور صريحا أو ظاهرا ، واشتهر استعماله في ذلك في السنة الشريفة ، كما يظهر بملاحظة كتاب العقل والجهل من الكافي وغيره ، وكذا الحال في استعمالات أهل اللغة.

نعم ورد استعماله بالمعنى الأول في مثل قولهم عليهم‌السلام : «أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه». إلا أنه دون الاستعمال في المعنى الثاني. ولذا كان الجهل عرفا صفة ذم مستتبعة للوم ، مع أن عدم العلم بنفسه وإن كان نقصا لا يستتبع اللوم أصلا. ومن ثم كان المعنى المذكور هو الأقرب في الآية الشريفة ، ولا سيما بملاحظة كونها إشارة إلى أمر ارتكازي عرفي ، كما لعله ظاهر. وحينئذ فقصور التعليل فيها عن مورد المفهوم ظاهر جدا.

نعم قد يقال : حمل التعليل على خصوص ما لا يقدم العقلاء على العمل به لا يناسب الآية الشريفة ، حيث وردت لردع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الصحابة عن محاولة العمل بخبر الفاسق ، إذ لا مجال لتوهم إقدامه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إقدامهم على ما لا ينبغي العمل عليه عند العقلاء ، بل لا بد من البناء على ورودها لردعهم في مورد سيرة العقلاء على العمل بالخبر زيادة في التحفظ.

١٠١

لكنه مندفع بأنه لا يظهر من الآية الشريفة الردع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لأهل التعقل والحكمة من المؤمنين والتابعين له صلى‌الله‌عليه‌وآله في القول والعمل ، بل سياقها كالصريح في مجانبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أطاعه من المؤمنين للعمل بخبر الفاسق في مورد النزول ، وأن الردع والتبكيت مختص بغيرهم من جهال الناس الذين ينعقون مع كل ناعق ويؤخذون بالتهريج والإرجاف من المنافقين ونحوهم ممن لا يتبع سبيل المؤمنين وقد ابتلي بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون في حياته وبعد وفاته. قال تعالى بعد الآية المذكورة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(١). فإنه كالصريح في انقسام المسلمين على أنفسهم ، طائفة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوقف عن خبر الفاسق ، قد حبب الله إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وهم الراشدون ، وطائفة أرادوا العمل به وحملوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك وأصروا عليه.

ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أبى عليهم ، فجاءت الآيتان الشريفتان تأييدا له وقمعا للفتنة كما نبه لذلك شيخنا الأستاذ قدس‌سره وسبقه إليه بعض المفسرين كالزمخشري في الكشاف وغيره على ما حكي.

ولو لا ذلك كان التدافع بين صدر هذه الآية وذيلها ظاهرا ، لمناسبة صدرها للتأنيب والعذل ، ومناسبة ذيلها للمدح والتشجيع ، فيلزم التدافع لو أريد بهما جماعة واحدة.

ومن جميع ذلك ظهر أن آية النبأ ليست رادعة عن سيرة العقلاء في العمل بخبر الواحد الثقة ، زيادة في التحفظ ، بل داعية لمقتضى سيرتهم ومرتكزاتهم من التوقف عن خبر غير المأمون ، والإنكار على من أراد العمل

__________________

(١) سورة الحجرات الآية : ٧.

١٠٢

به ، كما وردت أكثر آيات سورة الحجرات لتأديب المسلمين وتهذيبهم مما يشينهم من أخلاق وأفعال ، كرفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم توقيره ، وندائه من وراء الحجرات ، وسخرية بعضهم من بعض واغتيابهم لهم والتنابز بالألقاب ، ونحو ذلك مما يخرجون به عن مقتضى الحكمة والرشد.

وبذلك يتم ما ذكرنا من قصور التعليل عن مورد المفهوم ، فلا ينهض برفع اليد عنه لو تم في نفسه ، ولا موقع للإشكال المذكور من أصله.

ثم إنه بما ذكرنا يتضح أنه لا مجال للاستدلال بالآية الشريفة على عدم حجية خبر الفاسق مطلقا وإن كان ثقة في نفسه مأمونا منه التسامح في الكذب ، للزوم الخروج عن إطلاق الفاسق فيها بالتعليل بعد حمله على ما سبق. ولا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من ورود الآية للإرشاد إلى عدم جواز مقايسة خبر الفاسق بخبر غيره وإن حصل منه الاطمئنان ، لزوال الاطمئنان منه بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان متحرزا عن الكذب.

ففيه : أنه إن أريد به زوال الاطمئنان من خبره حقيقة بسبب الالتفات إلى فسقه. فهو غير مطرد ، لأن التحرز عن الكذب غير مختص بالعادل قطعا ، بل هو خلاف المفروض في محل الكلام.

وإن أريد به أن الشارع قد ردع عن خبره مطلقا وإن كان متحرزا عن الكذب ، لعدم اكتفائه بالاطمئنان الحاصل منه ، فلا مجال له بعد ما تقدم من ظهور التعليل في كونه ارتكازيا ، وظهور الآية في الحث على مقتضى الارتكاز العقلائي في التوقف عن خبر من لا يؤمن كذبه ، لا الردع عن مقتضى سيرة العقلاء في العمل بخبر من يؤمن كذبه زيادة في التحفظ. ومن هنا لا مجال للخروج عما دل على حجية خبر الثقة لو تم.

١٠٣

الوجه الثاني : مما أورد على الاستدلال بالمفهوم في الآية الشريفة أن المفهوم غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية ، إذ لا إشكال في عدم الاكتفاء فيها بخبر العدل الواحد ، بل لا بد فيه من التعدد. ومعه لا بد من طرح المفهوم ، لئلا يلزم إخراج المورد.

وقد أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس‌سره وغيره بأن المورد داخل في المنطوق وهو عدم حجية خبر الفاسق ، لا في المفهوم وهو حجية خبر العادل. وغاية ما يلزم هو تقييد المفهوم في الموضوعات الخارجية بالتعدد ، ولا يلزم منه خروج المورد. وإليه يرجع ما قيل من أن ارتكاب التقييد في المفهوم مقدم على إلغائه رأسا.

والذي ينبغي أن يقال : إرجاع الشرطية للمنطوق والمفهوم ليس لانحلالها إليهما حقيقة ، بنحو يكون هناك قضيتان يمكن طروء التقييد عليهما معا وعلى إحداهما دون الأخرى ، بل لدلالتها على معنى يستلزمها ، وهو إناطة الجزاء بالشرط المستلزمة لوجوده عند وجوده وانتفائه عند انتفائه. وحينئذ لو كانت الشرطية في المقام ذات مفهوم كان مفادها إناطة عدم حجية الخبر بالفسق المستلزمة لحجيته مع عدمه مطلقا ، وحيث لا مجال لذلك في الموضوعات الخارجية ، لعدم الإشكال في اعتبار التعدد فيها فلا بد إما من تخصيص موضوع الشرطية ـ وهو النبأ ـ بغير الموضوعات ، أو إلغاء ظهور الشرطية في الإناطة وحملها على مجرد بيان ترتب الجزاء على الشرط ، وحيث يمتنع الأول ، لاستلزامه خروج المورد عن الشرطية فالمتعين الثاني الراجع لعدم كون الشرطية ذات مفهوم ، وتوجه الإشكال.

وأما احتمال إبقاء الشرطية على عمومها والمحافظة على ظهورها في الإناطة المستلزمة للمفهوم مع تقييدها في خصوص الموضوعات الخارجية بالتعدد. فلا مجال له ، إذ التقييد المذكور لا يناسب الإناطة التامة ، ولا مجال

١٠٤

للتفكيك في الإناطة لبساطتها ، كما تقدم في مسألة تعدد الشرط مع وحدة الجزاء من فصل مفهوم الشرط. ولعله لذا ذكر في الفصول أن ذلك تكلف مستبشع.

اللهم إلا أن يحمل الأمر على عدم صلوح خبر الفاسق لأن يعمل به ويعتمد عليه ، فيكون مقتضى المفهوم ـ لو تم ـ صلوح خبر غيره لأن يعمل به ، وإن احتاج إلى التعدد وانضمام غيره له ، كما في الموضوعات الخارجية. وهو لو تم يستلزم رجوع المفهوم في المقام إلى حجية خبر غير الفاسق في الجملة ، لا مطلقا. فتأمل جيدا.

الوجه الثالث : أن حمل الفاسق في الآية على ما يقابل العادل الذي هو موضوع الحجية عند بعضهم لا يخلو عن إشكال ، لأنه وإن ورد استعماله فيه في بعض النصوص ـ مثل ما تضمن جواز غيبة المتجاهر بالفسق (١) ـ إلا أن تحديده به اصطلاح متأخر ، والشائع في الاستعمالات ـ خصوصا في الكتاب الكريم ـ إطلاقه في مقابل المؤمن ، كما هو المناسب لمورد الآية. بل في بعض النصوص النهي عن إطلاق الفاسق على المؤمن العاصي ، وأنه فاسق العمل (٢).

وحينئذ لا مجال لحمل القضية على المفهوم إلا بتقييده بالعادل ولا مجال لذلك ، إما لما سبق في الوجه الثاني من امتناع تقييد المفهوم ، أو لأن التقييد المذكور لما كان مستلزما لإخراج كثير من الأفراد أو أكثرها كان إلغاء المفهوم أهون منه وأقرب عرفا.

وهناك وجوه أخر لا يسع المقام التعرض لها ، لظهور ضعفها ، ولابتناء

__________________

(١) الوسائل ج : ٨ باب : ١٥٤ من أبواب أحكام العشرة حديث : ٤ ، ٥.

(٢) بحار الأنوار ج : ٢٧ ص : ١٣٧ باب : ثواب حبهم (ع) ونصرهم وولايتهم وأنها أمان من النار حديث : ١٣٩ ، وج : ٦٨ ص : ١٤٧ باب : الصفح عن الشيعة وشفاعة أئمتهم (ع) فيهم حديث : ٩٦.

١٠٥

جملة منها على تدقيقات وتكلفات لا ينبغي صرف الوقت فيها. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الآية الثانية مما استدل به على حجية خبر الواحد : قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) ، فإنها ظاهرة في وجوب الحذر تبعا لوجوب الإنذار ، لكونه غاية له بمقتضى كلمة «لعل» المسوقة مساق التعليل ، ومرجع وجوب الحذر إلى حجية قول المنذر في الأحكام الإلزامية القابلة للحذر ، ويتم في غيرها بعدم الفصل ، بل بفهم عدم الخصوصية بعد عدم ظهورها في تشريع وجوب الحذر بعد الإنذار تعبدا تأسيسا من الشارع ، بل في ترتبه طبعا ، وذلك إنما يكون بلحاظ السيرة العقلائية المرتكز مضمونها في الأذهان ، فتكون ظاهرة في إمضائها والجري عليها ، ومن الظاهر عدم خصوصية الأحكام الإلزامية في السيرة المذكورة.

وبذلك يظهر اختصاص الآية بالخبر الموثوق به على ما يأتي تفصيله ، لاختصاص السيرة به. ومعه لا حاجة إلى تكلف الدليل على التخصيص.

كما يندفع بذلك أيضا توهم أن وجوب الحذر كما يكون لحجية الخبر يكون للزوم العمل على طبقه احتياطا ، لتنجز الواقع المحتمل به ، فلا تدل الآية على حجية الخبر ، بل على مجرد منجزيته للتكليف المحتمل ، ولا موضوع لذلك في الخبر الذي يتضمن حكما غير إلزامي ، ليتعدى له بعدم الفصل أو بفهم عدم الخصوصية.

وجه الاندفاع : أن الأمر الارتكازي الذي يظهر من الآية إمضاؤه ليس هو مجرد لزوم موافقة الخبر ولو احتياطا ، بل لزوم الأخذ به تبعا لحجيته ، مهما كان

__________________

(١) سورة التوبة الآية : ١٢٢.

١٠٦

مضمونه. على أن الظاهر المفروغية عن ملازمة وجوب الحذر عقيب الخبر لعموم حجيته مهما كان مضمونه ، وذلك كاف في المطلوب لو فرض عدم ظهور الآية فيه في نفسها.

هذا وقد يستشكل في الاستدلال بالآية بوجوه ...

الأول : أنه لا إطلاق لها يقتضي وجوب الحذر عند الإنذار لعدم سوقها لذلك ، بل لبيان وجوب النفر ، مع المفروغية عن ترتب الحذر على الإنذار في الجملة ، لا مطلقا ، كما هو مقتضى كلمة «لعل» الظاهرة في عدم ملازمة ما بعدها لما قبلها ، نظير قولنا : انصح زيدا لعله يقبل منك ، وأبلغه لعله يصدقك ، فلعل وجوب الحذر يختص بما إذا تعدد المنذر أو قامت القرينة على صدق الخبر.

ويندفع بأن «لعل» في المقام ونحوه ظاهرة في ملازمة مطلوبية ما بعدها لما قبلها ، بمقتضى ظهورها في كونه غاية لطلبه ، وإن أمكن تخلفه بنفسه مع كونه مطلوبا ، نظير قولنا : أحسن لزيد لعله ينفعك وادفع له دينارا لعله يكفّ عن الطلب من الناس. فإنه ظاهر في كون الإحسان ودفع الدينار كافيين في استحسان النفع والكف ومطلوبيتهما من زيد ، بلا حاجة إلى أمر آخر.

وأما ظهور «لعل» في عدم لزوم ترتب الغاية فهو لأمر آخر غير عدم إطلاق الطلب ، كقصور المكلف لعدم علمه بمطلوبية الشيء ، كما قد يكون في مثل : أبلغ زيدا بمجىء عمرو لعله يزوره ، بأن يكون عدم زيارة زيد لعمرو ناشئا من عدم علمه بمطلوبية الزيارة منه أو تقصيره تسامحا في القيام بما ينبغي له ، كما في المثالين المتقدمين وفي مثل قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(١) ومنه المقام ، لأن الأمر بالنفر والتفقه والإنذار والحذر عام ينبغي أن لا يجهله أحد بعد النص عليه في الكتاب الكريم ولا سيما مع مطابقته

__________________

(١) سورة طه الآية : ٤٤.

١٠٧

للمرتكزات العقلائية ، وظهور الآية الشريفة في إمضائها ، كما سبق.

الثاني : أن الحذر لم يجعل غاية لمطلق الإنذار وإن كان من واحد ، بل لإنذار الطائفة ، وإخبارهم بأمر واحد يوجب غالبا العلم به مع كونهم ثقات ، خصوصا في عصر صدور الآية ، حيث لم يؤلف الكذب في الأحكام الشرعية على صاحب الشريعة ، ويندر الخطأ مع أخذ الحكم منه مباشرة ، ويصعب انتشار خلاف الواقع عليه مع تيسر بيان الواقع له. وعليه لا تكون الآية واردة لإمضاء سيرة العقلاء الارتكازية بل لبيان لزوم الاستعانة بالغير في تحصيل العلم لمن وجب عليه تحصيله ولا يتيسر له تحصيله بنفسه. ويشهد به ما ورد من الاستشهاد (١) بها على لزوم النفر لمعرفة الإمام مع أنه لا بد فيه من العلم.

ودعوى : أن ظاهر مقابلة الجمع بالجمع إرادة الاستغراق والانحلال ، فالمعنى أن كل واحد من الطائفة ينذر بعضا من قومه.

مدفوعة بأن ظهور مقابلة الجمع بالجمع في الاستغراق والانحلال مختص بما إذا أخذ عنوان لا يصدق على الجمع ، كما في مثل : أكرموا جيرانكم وأدبوا أولادكم ، لوضوح أن علاقة الجوار والبنوة لا تقوم بالمجموع ، بل بكل جار وجاره وأب وابنه بنحو الانحلال ، دون مثل المقام حيث تكون نسبة القوم لأفراد الطائفة نسبة واحدة ، فإن حمله على التفريق وإن كان ممكنا إلا أنه يحتاج إلى دليل. على أن إنذار تمام أفراد الطائفة للقوم ولو مع تفرقهم فيهم موجب للعلم غالبا إن اتفقوا ، وإن اختلفوا ظهر اختلافهم ولزم التوقف على كل حال ، وخرج عن مفاد الآية. فتأمل جيدا.

نعم ذكر بعض الأعاظم قدس‌سره أن التكليف بكل من التفقه والإنذار والحذر استغراقي انحلالي ، لا مجموعي ارتباطي ، فيجب على كل واحد القيام بها وإن

__________________

(١) الكافي ج : ١ ص : ٣٧٨ كتاب الحجة باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام حديث : ١ ، ٢.

١٠٨

عصى غيره. فإن تمّ كان مقتضى الآية حجية الخبر من المنذرين بنحو صرف الوجود الشامل لإنذار الواحد ، لأن الحذر إذا كان غاية لوجوب الإنذار بنحو الانحلال دل على كفاية إنذار الواحد في وجوب الحذر الملازم لحجيته.

وما ذكره قدس‌سره مقطوع به في وجوب الحذر ، بل وفي وجوب الإنذار أيضا ، حيث لا إشكال ظاهرا في وجوب الإنذار على كل واحد من المتفقهين حتى لو عصى غيره. ومن ثم يكون هو الظاهر في التفقه أيضا ، كما هو الظاهر في غالب الخطابات الشرعية الموجهة للجميع. ولذا استفيد من الآية الشريفة وجوب الاجتهاد وتبليغ الأحكام كفاية على كل أحد وإن لم يقم به غيره. وبذلك يندفع الإشكال المذكور.

وأما الاستشهاد في النصوص بالآية الشريفة لوجوب النفر لمعرفة الإمام فهو بلحاظ ظهورها في جواز الاستعانة بالغير في الفحص وعدم وجوب مباشرة كل أحد له ، لا لظهورها في اعتبار المعرفة العلمية. ولزوم كون معرفة الإمام علمية مستفاد من دليل خاص غير الآية.

الثالث : أن التفقه الواجب إنما هو معرفة الأحكام الشرعية والإنذار الواجب إنما يكون بها ، والحذر إنما يجب على المكلف عقيبه لا عقيب كل إنذار ، لأن الحذر في الحقيقة إنما يكون بسبب الحكم الشرعي الواقعي ، ولا يحرز المكلف كون الخبر إنذارا بالحكم الشرعي إلا إذا أحرز صدقه ، فلا يكون وجوب الحذر شرعيا راجعا إلى حجية الخبر ظاهرا ، بل عقليا راجعا لوجوب طاعة الأحكام الشرعية ، فيخرج عن محل الكلام ، فالآية نظير قولنا : أخبر زيدا بأوامري لعله يمتثلها ، حيث يراد به فرض علمه بصدق الخبر.

وفيه : أن الحذر وإن كان في الحقيقة بسبب الحكم الشرعي ، إلا أنه لا مانع من كون الإنذار طريقا شرعيا لمعرفته وحجة عليه ، كما هو ظاهر الآية بالتقريب

١٠٩

المتقدم. وليس المراد بالإنذار بالأحكام الشرعية الذي استفيد من الآية حجيته إلا الإخبار عنها ، وهو يصدق على الخبر بها وإن لم يعلم صدقه.

وأما المثال المذكور فحمله على صورة العلم بصدق الخبر موقوف على عدم إعلام من يصله الخبر بحجيته ، ولو لعدم إعلامه بتكليف صاحبه بالإخبار.

وذلك لا يجري في المقام بعد خطاب الكل بالنفر والتفقه والإنذار والحذر ، ومطابقة ترتب الحذر على الإنذار للمرتكزات العقلائية التي يظهر من الآية إمضاؤها كما تقدم.

فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بالآية الشريفة ما ذكره غير واحد على تفصيل لا يسعه المقام. والأولى تقريبه بأن الإنذار والتفقه من وظيفة المفتي ، لا الراوي ، لأن التفقه في الدين عبارة عن معرفة أحكامه ، وهو لا يكون بمجرد تحمل الرواية وحفظها ، بل باستحصال الحكم منها ، لتمامية دلالتها بملاحظة القرائن الخارجية وعدم المعارض لها. كما أن الإنذار عبارة عن الإخبار مع التخويف ، وهو لا يكون بمجرد الإخبار عن المعصوم ، بل بالإخبار بالتكليف المستلزم للعقاب ، وهو الذي يستحصله الفقيه من الرواية.

نعم قد يظهر من معتبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام صدق الإنذار والتفقه بمجرد تحمل الرواية وروايتها ، لقوله فيه : «إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزوجل ... مع ما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة عليهم‌السلام إلى كل صقع وناحية ، كما قال الله عزوجل : فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ...» (١). لكن الاعتماد عليه في الخروج عن ظاهر الآية راجع إلى الاستدلال بالسنة لا بالكتاب. مع قرب حمله على الراوي الفقيه المتعهد بمضمون الرواية ، الذي يأتي التعرض له.

__________________

(١) الوسائل ج : ٨ باب : ١ من أبواب وجوب الحج وشرائطه حديث : ١٥.

١١٠

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن الإنذار وإن كان هو الإخبار المشتمل على التخويف إلا أنه لا يعتبر تصريح المخبر بالتخويف ، بل يكفي تضمن الخبر له واشتماله عليه وإن سيق لغيره ، ولذا يصدق على الفتوى مع عدم تصريح المفتي بالتخويف ، ولا فرق بين الفتوى والرواية في أن كلا منهما يشتمل على التخويف ضمنا ، فإن الإخبار بالوجوب يتضمن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.

ففيه : أن اشتمال الخبر على التخويف ضمنا وإن كان كافيا في صدق الإنذار ، إلا أنه لا بد من قصد المخبر له ، لابتناء خبره على الملازمة بين المخبر به والعقاب ، كي يرجع الإخبار به للإخبار بالعقاب ، وذلك مختص بالمفتي ، ولا يجري في الراوي الناقل لألفاظ الحديث من دون تعهد بمضمونه ، وأما الراوي المتعهد بالمضمون الذي ترجع روايته للرواية لفتواه بمضمونها فهو وإن كان منذرا أيضا ، إلا أن ظاهر الآية الشريفة حجية خبره من حيثية إنذاره ، لا مطلقا ، وهو راجع إلى حجية قوله في ترتب العقاب ، التي تختص بالعامي الذي يجب تقليده عليه ، وأما قبول المجتهد لإخباره بكلام الإمام ونحوه مجردا عما تضمنه من التخويف فلا دلالة للآية عليه بوجه.

ومنه يظهر اندفاع ما في الفصول من أنه إذا ثبت من الآية الشريفة حجية خبر الراوي المذكور ، لصدق الإنذار عليه ثبتت حجية خبر غيره بعدم القول بالفصل.

إذ فيه : أن حجية خبره بنفسه مجردا عن التخويف لم يثبت من الآية ، ليتعدى لغيره بعدم الفصل. وحجيته بلحاظ ما يتضمنه من التخويف راجعة إلى حجية فتواه في حق العامي ، ومن الظاهر ثبوت الفصل بينها وبين حجية رواياته فضلا عن روايات غيره.

١١١

نعم قد يدعى أن الآية وإن تضمنت حجية الفتوى ، إلا أنه يمكن التعدي منها لحجية الخبر بتنقيح المناط ، أو بالأولوية العرفية ، لأن الخبر لما كان من مقدمات الفتوى ، فحجية الفتوى المبتنية عليه وعلى الحدس تقتضي حجيته بالفحوى.

لكنه يندفع بأن ذلك إنما يتجه لو ثبت عموم حجية الفتوى على نحو حجية الخبر المدعاة ، أما حيث كانت حجية الفتوى مقصورة على العامي الذي لا طريق له لمعرفة الوظيفة الفعلية غيرها فحجيتها في حقه لا تستلزم عموم حجية الخبر بنحو يرجع له المجتهد الذي لا تكون الفتوى حجة في حقه ، لا عقلا ولا عرفا.

ومن هنا كان الظاهر أنه لا دافع للإشكال المذكور. وأن المتعين الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الفتوى ، دون حجية الخبر التي هي محل الكلام.

الآية الثالثة : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(١) بتقريب أن تحريم الكتمان ووجوب البيان يستلزم وجوب القبول ، وإلا كان لاغيا. ومن ثم استدل في المسالك على حجية خبر المرأة عما في رحمها بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(٢).

وفيه : أن وجوب البيان لا يلغو مع عدم حجيته وعدم وجوب قبوله إذا لم يوجب العلم ، لإمكان كون فائدته مجرد إثارة الاحتمال الملزم عقلا بالفحص أو الاحتياط. بل قد يكون سببا للعلم أو بعض السبب له ، كما لعله الأنسب في الآية

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ١٥٩.

(٢) سورة البقرة الآية : ٢٢٨.

١١٢

الشريفة ، لقرب نزولها في علماء أهل الكتاب وكتمانهم لعلامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي يعتبر فيها العلم.

نعم قد تدعى الملازمة العرفية بين وجوب الإخبار ووجوب القبول وإن لم يكن بينهما ملازمة واقعية. لكنها ـ لو تمت ـ مختصة بما إذا كان الغالب انحصار طريق معرفة الشيء بالإخبار المأمور به ، ولم يكن الغالب فيه إفادة العلم. ولعل منه إخبار النساء بما في أرحامهن ، دون المقام ، لعدم انحصار المعرفة بأخبار الآحاد ، خصوصا في عصر نزول الآية.

هذا مع أن موضوع الآية الشريفة ما أنزله الله تعالى في الكتاب ، وهو في الفقه الحكم الشرعي الذي يكون بيانه وظيفة المجتهد دون الراوي ، فإنه لا يحكي إلا كلام الإمام أو نحوه ، وهو وإن كان ملازما في الجملة لما أنزله الله تعالى إلا أن الملزوم غير محكي له ، كما تقدم نظيره في آية النفر. فتأمل جيدا.

الآية الرابعة والخامسة : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١). وقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢). فإنهما ظاهران في أن وظيفة الجاهل السؤال من العالم ، تنبيها إلى سيرة العقلاء الارتكازية على ذلك. ومن ثم ينصرف إلى خبر الثقة ، نظير ما تقدم في آية النفر.

ودعوى : أن ظاهر أهل الذكر بقرينة السياق إرادة علماء أهل الكتاب ، كما عن بعض المفسرين. مدفوعة بأن ورود القضية مورد الإمضاء لسيرة العقلاء الارتكازية موجب لإلغاء خصوصية موردها عرفا لو تم عدم العموم فيها لفظا.

على أنه لم يتضح وجه اقتضاء قرينة السياق ذلك ، إذ غاية ما يقال في

__________________

(١) سورة النحل الآية : ٤٣.

(٢) سورة الأنبياء الآية : ٧.

١١٣

تقريبه أن الآيتين واردتان لردع المشركين عن دعوى عدم بعث الأنبياء من البشر ، والاستشهاد بعلماء أهل الكتاب لإبطال ذلك ، لأنهم يقرون ببعثهم. وهو كما ترى ، لأن مدعي ذلك من المشركين لا يرى علماء أهل الكتاب من أهل الذكر ، بل ينكر عليهم ويكذبهم كما ينكر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكذبه ، ومن يقر لهم بذلك مع الدعوى المذكورة متناقض متعنت قد لا يحسن خطابه والاحتجاج معه.

ولا يبعد كون تفريع الأمر بسؤال أهل الذكر على إرسال الرسل ، للتنبيه إلى أن فائدة إرسالهم هداية الناس بما أنزل إليهم ، وأن على الناس اغتنام ذلك بالسؤال عما أنزل على الأنبياء وأخذه من أهله ، كما قد يناسبه قوله تعالى بعد الآية الأولى : (... وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(١). وهو المناسب لما يأتي من تفسيرها بأهل البيت عليهم‌السلام.

ومثله في الإشكال ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنه ليس المراد بأهل العلم مطلق من علم بشيء ولو بسماع رواية من الإمام ، وإلا لدلّ على حجية قول كل عالم بشيء ولو بطريق الحس ، مع أنه يصح سلب هذا العنوان عنه ، بل المتبادر من الأمر بسؤال أهل العلم سؤالهم عما يعدون عالمين به ، فينحصر مدلوله في التقليد دون الرواية.

إذ يندفع بأن الظاهر صدق العنوان على الرواة كالمجتهدين ، عملا بإطلاق العلم الشامل للحسي ، ولعله هو المناسب لمورد الآية. وصحة سلب العنوان عن من علم بشيء بطريق الحس مبني على إطلاق العنوان في الأعراف المتأخرة على خصوص العالم بطريق الحدس ، بل خصوص من يعلم بالأحكام الشرعية ، وهو لا يصلح قرينة على حمل الآية على ذلك ، والخروج

__________________

(١) سورة النحل الآية : ٤٤.

١١٤

بها عن المعنى اللغوي ، خصوصا مع ظهورها في إمضاء السيرة العقلائية المشار إليها.

نعم يشكل الاستدلال على المدعى بالآيتين لوجهين :

أحدهما : أنه لا ظهور لهما في كون السؤال لأجل العمل ، ليدل بإطلاقه على ترتب العمل على الجواب وإن لم يوجب العلم الراجع لحجيته ، بل يمكن أن يكون لأجل تحصيل العلم في مورد الحاجة له ، وهو لا ينافي كون القضية ارتكازية ، إذ الارتكاز كما يقتضي العمل بخبر الثقة وإن لم يحصل منه العلم ، كذلك يقتضي السعي لتحصيل العلم في مورد الحاجة له بالسؤال من الغير والاستعانة به وعدم الاقتصار على ما يدركه الإنسان بنفسه مستغنيا عن غيره.

ثانيهما : أنه يلزم رفع اليد عن ظهور (أَهْلَ الذِّكْرِ) البدوي في مطلق العلماء ـ لو تم ـ بالنصوص الكثيرة الظاهرة ، بل الصريحة في اختصاص أهل الذكر بالأئمة عليهم‌السلام وعدم شمولها لغيرهم بالنحو الذي ينفع فيما نحن فيه. كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : إن من عندنا يزعمون أن قول الله عزوجل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنهم اليهود والنصارى. قال : إذن يدعوكم إلى دينهم. قال : ثم قال بيده إلى صدره : نحن أهل الذكر ونحن المسئولون» (١) ، وغيره (٢).

وأما ما ذكره بعض مشايخنا قدس‌سره من أن ذلك من باب تطبيق الكلي على مصداقه ، فلا تنافي عمومه لغيره ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام أنه لو ماتت الآية بموت من نزلت فيه لمات القرآن ، وأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣.

(٢) تراجع النصوص المذكورة في الكافي ج : ١ ص : ٢١٠ باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم‌السلام. وفي الوسائل ج : ١٨ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي ، وفي كتاب حجة الخصام ص : ٢٤٠.

١١٥

فيندفع بأن مفاد النصوص المذكورة اختصاص الآيتين بهم ، لا مجرد نزولها فيهم أو تطبيق أهل الذكر عليهم ، فهما كسائر الآيات المختصة بهم عليهم‌السلام كآيات الولاية والمودة والتطهير ، التي لم تمت ، لأنهم عليهم‌السلام باقون ما بقي القرآن مرجعا للناس وحجة عليهم.

ومثله دعوى : أن ذلك من التفسير بالباطن الذي لا يمنع من حجية الظهور.

لاندفاعها بأن التفسير بالباطن إنما لا ينافي حجية الظهور إذا لم يرد مورد الردع عنه ، كما هو ظاهر النصوص المذكورة. مع أن كون التفسير المذكور من التفسير بالباطن لا يناسب مساق النصوص المذكورة جدا.

بل بملاحظة ما سبق منا في تقريب عدم اختصاص أهل الذكر بأهل الكتاب يتضح كون التفسير المذكور هو الأقرب بعد التأمل ، لأن الذكر ـ بمقتضى ما سبق وغيره ـ هو الكتب السماوية المنزلة ، والحقيقون بأن يكونوا أهلها هم من أودعت عندهم وعرفوها حق معرفتها ، وقد انحصر ذلك بهم عليهم‌السلام بعد أن ورثوا الأنبياء بأجمعهم. وأما علماء أهل الكتاب فهم أهل الذكر ادعاء من دون حقيقة. كما أن علماء المسلمين لما كان علمهم بما كان في الكتاب مبنيا على الاجتهاد والحدس فكونهم من أهله مبني على نحو من التوسع والتسامح ، وانحصار المراد بأحد الفريقين في فهم عامة الناس مبني على الغفلة أو التغافل عن مقام أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وحقيقة علمهم بالكتاب.

نعم في جملة من النصوص أن الذكر هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن أهله عليهم‌السلام هم أهل الذكر ، واستدل في بعضها (١) على ذلك بقوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣١.

١١٦

إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ)(١). وهو مبني على نحو من التكلف ، فيشبه التفسير بالباطن.

إلا أنه لا يبعد أن يكون سلوك ذلك من أجل تجنب الاعتماد في إثبات المطلوب على حقيقة قد لا يعترف بها الخصم ، وهي اختصاصهم بعلم الكتاب ، واللجوء لحقيقة لا تقبل الإنكار وهي كونهم عليهم‌السلام أهل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإلا فقد تضمن بعض النصوص (٢) أن الذكر هو القرآن ـ ولو لأنه أهم الكتب السماوية والمهيمن عليها والذي يجب الرجوع إليه فعلا ـ وأنهم عليهم‌السلام أهله.

وهو الظاهر من النصوص الكثيرة المقتصر فيها على كونهم أهل الذكر من دون تنبيه لوجه ذلك.

الآية السادسة : قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٣).

وتقريب الاستدلال بها : أن بعض المنافقين المؤذين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذمه وقول السوء فيه لما خوّف من وصول ذلك له صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنه أذن يقبل كل ما يسمع ويصدق كل ما يقال له ، فإذا أنكرنا وحلفنا صدقنا ، فنزلت الآية ورد الله تعالى عليهم بأن تصديقه لكم ليس حقيقيا ، بل صوريا ، وهو خير لكم ، إذ لولاه لأوقع بكم وعاقبكم ، وليس إيمانه الحقيقي إلا بالله تعالى ، وللمؤمنين ، فهم الذين يصدقهم حقيقة ، دونكم. فيدل ذلك على رجحان تصديق المؤمنين وحسن الاعتماد على خبرهم وحجيته.

__________________

(١) سورة الطلاق الآية : ١٠ ـ ١١.

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ٧ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢ ، ١٣.

(٣) سورة التوبة الآية : ٦١.

١١٧

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره وأطال فيه من حمل قوله (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) على التصديق الصوري وإظهار القبول من دون تصديق حقيقي ، تأكيدا لما تضمنه قوله تعالى : (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) الذي لا يراد به التصديق الحقيقي ، بلحاظ كون المخاطب به المنافقين الذين يعلم عدم تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم حقيقة.

فهو بعيد عن ظاهر الآية جدا ، لظهور سياقها في مدح المؤمنين بتصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، الملزم بإرادة المؤمنين الحقيقيين ، لا ما يعم المنافقين. بل إطلاق عنوان المؤمن على ما يعم المنافق في مثل هذه الآية ، الواردة لذم المنافقين ، بعيد جدا ، ولا يناسب ذيلها المفصل بين المؤمنين والمؤذين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرحمة والعذاب.

ومثله دعوى : أن اختلاف تعدية فعل الإيمان ـ حيث عدي لله تعالى بالباء وللمؤمنين باللام ـ قرينة على إرادة التصديق الصوري في الإيمان للمؤمنين. لما قيل من أن اختلاف التعدية للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان.

لاندفاعها بعدم تبادر ذلك في اللام ، بل الظاهر منها التصديق الحقيقي ، كما في قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ)(١) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ)(٢) ، وقوله عزّ اسمه : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(٣) ، وغير ذلك مما هو كثير جدا.

واختلاف التعدية إما لأن المراد بالإيمان به تعالى هو الإيمان بوجوده ووحدانيته ـ كما هو ظاهر الآية في نفسها ـ أو الإيمان بقوله ، كما هو ظاهر

__________________

(١) سورة البقرة الآية : ٧٥.

(٢) سورة آل عمران الآية : ١٨٣.

(٣) سورة الشعراء الآية : ١١١.

١١٨

صحيح حريز الشاهد لما نحن فيه أيضا من أن الإيمان للمؤمنين بتصديقهم.

فقد روى حريز أن إسماعيل بن الإمام الصادق عليه‌السلام دفع إلى رجل من قريش بلغه أنه يشرب الخمر مالا ليشتري له به بضاعة ، فأكل الرجل المال ، فدعا إسماعيل في الطواف بالأجر والخلف ، قال حريز : «فلحقه أبو عبد الله عليه‌السلام فهمزه بيده من خلفه وقال له : يا بني فلا والله مالك على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته. فقال إسماعيل : يا أبت إني لم أره يشرب الخمر ، إنما سمعت الناس يقولون. فقال : يا بني إن الله عزوجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدق الله ويصدق للمؤمنين. فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم ، ولا تأتمن شارب الخمر ...» (١) ، وقريب منه مرسلة العياشي (٢).

وحملهما على التصديق الصوري بعيد جدا ، ولا سيما مع تطبيق الإمام عليه‌السلام شارب الخمر على الرجل المذكور. بل لا مجال له في حديث عمر ابن يزيد : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أرأيت من لم يقرّ بأنكم في ليلة القدر كما ذكرت ولم يجحده. قال : أما إذا قامت عليه الحجة ممن يثق به في علمنا فلم يثق به فهو كافر ، وأما من لم يسمع ذلك فهو في عذر حتى يسمع ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين» (٣).

هذا ولو تم ما ذكرنا فلا إطلاق للآية الشريفة يقتضي عموم تصديق المؤمنين ، لعدم ورودها في مقام بيان لزوم تصديقهم ، بل في مقام بيان أن تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم دون المنافقين ، مدحا لهم بذلك وردعا للمنافق المذكور من دون أن ينافي اعتبار بعض الأمور في تصديقهم.

__________________

(١) الوسائل ج : ١٣ باب : ٦ من أبواب الوديعة حديث : ١.

(٢) تفسير العياشي ج : ٢ ص : ٩٥ حديث : ٨٣ من تفسير سورة براءة.

(٣) الوسائل ج : ١ باب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٩.

١١٩

نعم قد يستفاد ورودها للعموم بضميمة صحيح حريز ، لتعقيب الاستدلال بها ببيان الكبرى العامة. ولكن مقتضى حديث عمر بن يزيد انصرافها إلى الثقة ، ولا يبعد انصراف صحيح حريز إليه أيضا. إلا أن ذلك كله خروج عن الاستدلال بالكتاب إلى الاستدلال بالسنة.

هذا تمام ما عثرنا عليه من الآيات التي استدل بها في المقام. وقد ظهر عدم نهوض ما عدا الأخيرة منها بالمدعى.

الثاني من الأدلة التي استدل بها لحجية الخبر : السنة ، وهي على طوائف ..

الطائفة الأولى : ما ورد في الخبرين المتعارضين ، وقد روي منها في الوسائل سبع عشرة رواية فيها الصحيح والموثق وغيرهما (١) ، وفي مستدرك الوسائل خمس روايات منها ما هو تكرار لما في الوسائل لمجرد اختلاف السند (٢).

وهي وإن اختلفت في الحكم بالتخيير والترجيح والتوقف إلا أن ظاهرها المفروغية عن قبول الرواية لو لا التعارض. ويبعد حملها على خصوص ما يقطع بصدوره ، لندرة التعارض معه. بل لو قطع بدوا بصدور الرواية ، إلا أن الالتفات لوجود المعارض لها يستلزم غالبا زوال القطع ، خصوصا مع التنبيه في بعضها على كون الراويين ثقتين ، حيث يقوى معه ظهورها في أن المقتضي للعمل هو الوثوق بالراوي. مع أن اشتمال بعضها على المرجحات السندية ـ كالأوثقية ـ مانع من حملها على صورة العلم ، إذ لا موضوع للترجيح بها معه.

الطائفة الثانية : ما تضمن الأمر بالعمل بالحديث ، كصحيح حريز

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١ ، ٥ ، ٦ ، ٨ ، ٩ ، ١١ ، ٢١ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٤ ، ٣٦ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٨.

(٢) مستدرك الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١ ، ٢ ، ٨ ، ١٠ ، ١١.

١٢٠