الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

القديمة المتضمنة للأوقاف وغيرها ونحو ذلك ـ على ما يفهمونه منها حين الاطلاع عليها ، ولا يعتنى باحتمال تبدل المعنى ، وكون المعنى المتبادر إليه فعلا حادثا بعد الاستعمال الذي يراد تشخيص المراد منه.

نعم ، لو علم بحصول النقل وتبدل المعنى وشك في سبقه على الاستعمالات التي يراد تشخيص المراد منها وتأخره عنها فالظاهر التوقف ولزوم الفحص عما يعين أحد الأمرين.

بل قد يظهر من بعضهم لزوم البناء على مقتضى المعنى الأول ، لأن الأصل تأخر النقل. لكنه لا يخلو من إشكال فيما لو علم بتاريخ الاستعمال وشك في تاريخ النقل ـ فضلا عن غيره ـ لعدم رجوع الأصل المذكور للاستصحاب الشرعي ، إلا بناء على الأصل المثبت. وعدم وضوح بناء العقلاء وأهل اللسان على الأصل المذكور ، لعدم شيوع الابتلاء بذلك فيما هو مورد الآثار العملية ، ليتضح قيام سيرة لهم عملية على ذلك ، وعدم وضوح ارتكازياتهم فيه مع قطع النظر عن العمل.

بل الظاهر التوقف عن العمل بأصالة تشابه الأزمان وعدم النقل مع الشك فيه إذا كان هناك من الاستعمالات القديمة أو تصريحات اللغويين وغيرها ما يثير احتماله بوجه معتد به وإن لم يبلغ مرتبة الحجية ، لأن المتيقن من مورد عملهم بها غير ذلك ، وهو صورة الاحتمالات المجردة التي ليس لها مثير معتد به.

الأمر السادس : في استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد

من المعلوم إمكان تعدد معاني اللفظ الواحد إما بنحو الاشتراك ـ بناء على ما هو الظاهر بل المقطوع به من إمكانه ، بل وقوعه ـ أو مع كون بعضها أو تمامها مجازيا.

وقد وقع الكلام بينهم في إمكان استعمال اللفظ باستعمال واحد في أكثر

٨١

من معنى واحد على أقوال.

وظاهر المعالم وصريح الفصول والكفاية أن محل الكلام ما إذا استعمل اللفظ في كل معنى على حياله واستقلاله ، بحيث يلحظ بما به امتيازه عن غيره ، كما لو لم يستعمل اللفظ إلا فيه ، دون ما إذا استعمل في القدر المشترك المبني على إلغاء خصوصية كل معنى منها ، أو في المجموع المركب المبني على ملاحظة كل معنى ضمنا تبعا لفرض وحدة اعتبارية بين الكل ، لأن الاستعمال حينئذ في معنى واحد مجازي مبني على التوسع والعناية ولا إشكال في صحته ، كما صرح به غير واحد.

نعم ، لا بد من كون العناية والتوسع بأحد الوجهين المذكورين بنحو مقبول عند أهل اللسان غير مستبشع ولا مستهجن.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه قد أصرّ جماعة على امتناع الاستعمال في أكثر من معنى واحد على النحو الذي هو محل الكلام. لوجوه ..

الأول : ما يظهر من المحقق الخراساني قدس‌سره من أن حقيقة الاستعمال في الكلام ليس مجرد جعل اللفظ علامة على المعنى ـ ليمكن كونه علامة على أكثر من معنى ـ بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنه الملقى ، فيكون فانيا في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه ، ويمتنع لحاظ ذلك في استعمال واحد بالإضافة إلى معنيين ، لاستلزامه لحاظه فانيا في كل منهما.

لكن لم يتضح نهوض ذلك بالمنع ، لأنه إن رجع إلى امتناع فناء اللفظ في كل من المعنيين ، بل ليس له إلا فناء واحد.

أشكل بأن فناء الوجه في ذي الوجه ليس حقيقيا ، بل هو راجع إلى طريقية الوجه لذي الوجه ، ولا مانع من كون الشيء الواحد طريقا لشيئين ، وسببا لحضورهما معا في الذهن.

٨٢

وإن رجع إلى أن اتحاد اللفظ بالمعنى في مقام الاستعمال يمتنع فرضه في معنيين ، لامتناع اتحاد الشيء الواحد مع أمرين متباينين.

أشكل بعدم ابتناء الاستعمال ارتكازا على اتحاد اللفظ بالمعنى ، بل على مجرد طريقيته له ، كما ذكرنا.

وإن رجع إلى ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس‌سره من أن استعمال اللفظ في معنيين وفناءه فيهما مستلزم للحاظه آلة مرتين ، تبعا لكل منهما ، ويمتنع تعدد اللحاظ مع وحدة اللفظ الملحوظ حال الاستعمال.

أشكل بأن لا ملزم بتعدد لحاظ اللفظ تبعا لتعدد المعنى ، بل يمكن الاكتفاء بلحاظ واحد للفظ طريقا لكل من المعنيين حاكيا عنهما وفانيا فيهما.

الثاني : ما يظهر من بعض المحققين قدس‌سره من أن حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى باللفظ ، فاستعمال اللفظ وجود له بالذات ووجود للمعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل ، وحيث كان اللفظ الموجود بالذات واحدا امتنع تعدد الوجود التنزيلي للمعنى بتعدده ، لاتحاد الوجود والإيجاد بالذات.

وفيه ـ مضافا إلى المنع من كون وجود اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، بل ليس اللفظ إلا حاكيا عن المعنى ، كما سبق ـ : أنه لا مانع من كون الوجود الواحد للفظ وجودا لكلا المعنيين تنزيلا ، وهو لا ينافي ما ذكره من اتحاد الوجود والإيجاد بالذات ، لأن التعدد في المقام ليس للوجود بالمعنى المطابق للإيجاد ، بل للموجود ، ولا ريب في عدم توقف تعدده على تعدد الإيجاد ، فهو نظير قتل رجل لشخصين بضربة واحدة.

ودعوى : أن مرجع وجود المعنيين بإيجاد واحد حينئذ إلى الاستعمال في مجموع المعنيين الذي سبق خروجه عن محل الكلام. ممنوعة لأن المعيار في الاستعمال في مجموع المعنيين لحاظ وحدة اعتبارية بينهما ، بحيث يكون

٨٣

كل منهما ملحوظا فيها ضمنا ، والمدعى في المقام إيجادهما معا في فرض لحاظ كل منهما استقلالا من دون لحاظ الوحدة الاعتبارية المذكورة.

الثالث : ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن الاستعمال في كل من المعنيين استقلالا مستلزم لتعدد اللحاظ في آن واحد ، وهو ممتنع عقلا. وكأن مراده استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين لكل من المعنيين ، كما نسب إليه في كلام بعضهم.

لكن دعوى استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين مع تعدد الملحوظ خالية عن الشاهد ، كما ذكره غير واحد ممن تصدى للجواب عن استدلاله ، بل غاية ما يدعى احتياجه إلى عناية وكلفة ، قد تصل إلى مرتبة التعذر عادة في حق عامة الناس.

وهناك بعض الوجوه الأخر ، لا مجال لإطالة الكلام فيها وقد يظهر حالها مما سبق. ومن هنا لا مجال للبناء على امتناع الاستعمال في أكثر من معنى عقلا.

فالأولى في وجه منعه : أنه خارج عن الطريقة العرفية في البيان ، فإن بناء أهل اللسان على قصر اللفظ في مقام الاستعمال على أداء معنى واحد في مقام التفهيم والتفهم ، ولو بسبب احتياج تعدد اللحاظ الاستقلالي للعناية التي أشرنا إليها. ومن ثم تكفي عندهم قرينة المجاز على صرف الكلام عن المعنى الحقيقي ، وقرينة أحد المجازات على صرف الكلام عن باقيها ، وقرينة أحد معاني المشترك على صرفه عن بقية معانيه. كما يتعين الإجمال مع عدم القرينة المعينة لأحدها ، أو لأحد المعاني المجازية في ظرف قيام القرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي .. إلى غير ذلك مما يتضح بأدنى ملاحظة لسيرة أهل البيان وارتكازياتهم.

٨٤

هذا ، وأما ما يتردد في كلام بعض المفسرين من حمل الكتاب المجيد على جميع المحتملات ، لأنه أشمل وأفيد. فقد يكون ناشئا عن الاهتمام ببيان عظمة الكتاب الشريف بنحو اقتضى الغفلة أو التغافل عن سيرة أهل البيان ومرتكزاتهم المشار إليها ، وإلا فمن البعيد جدا التزامهم بذلك في غير الكتاب المجيد.

نعم ، كثيرا ما يقصد المتكلم بيان لوازم المعنى المستعمل فيه التي يلتفت إليها عامة السامعين أو بعضهم ممن يقصد تفهيمه ، نظير الكنايات. لكنه لا يبتني على استعمال اللفظ فيها مع المعنى الملزوم ، بل على كون التنبيه لها من دواعي الاستعمال ، مع قصر الاستعمال على المعنى الملزوم.

ومثله سوق بعض الألفاظ لمحض العلامية على أمور خاصة غير المعنى المستعمل فيه ، لاتفاق خاص بين المتكلم وبعض من يطلع على كلامه ، لا تبتني على مقتضى الطريقة العرفية في البيان ، فلا تنافي ما سبق من خروج الاستعمال في أكثر من معنى عن سيرة أهل اللسان وارتكازياتهم في مقام البيان.

وكأن الارتكازيات المذكورة هي المنشأ لدعوى بعضهم أخذ الوحدة قيدا في المعنى الموضوع له ، حيث يترتب على ذلك عدم صحة الاستعمال في أكثر من معنى أو كونه مجازا ـ كما في المعالم ـ وإن أمكن في نفسه. وإلا فلا مجال للدعوى المذكورة بعد ما هو المعلوم من غفلة الواضع عن القيد المذكور في مثل الأعلام الشخصية مما له واضع خاص ، وكون المتبادر في غيرها هو المعنى بحدوده المفهومية من دون أخذ القيد المذكور.

ومن ثم لا ينبغي إطالة الوقت في مفاد الدعوى المذكورة ولوازمها. فالعمدة ما ذكرناه من المرتكزات.

٨٥

هذا ، ويترتب على ما ذكرنا أنه لو دار الأمر بين حمل الكلام على المجاز وحمله على الاستعمال في أكثر من معنى تعين الأول ، لمقبوليته عند أهل اللسان دون الثاني ، وهي تكفي في القرينية على المجاز. ولا مجال معه للبناء على الإجمال فضلا عن تعين الثاني ، للبناء على كونه استعمالا حقيقيا ، والأصل في الاستعمال الحقيقة. لوضوح أن أصالة الحقيقة تختص بما إذا كان الاستعمال مقبولا عند أهل اللسان غير خارج عن طريقتهم.

وينبغي التنبيه على أمور.

الأول : اعلم أن ما ذكرنا يجري في المثنى والجمع فلا مجال لأن يراد بهما التعدد في الأفراد بلحاظ أكثر من مفهوم واحد ، بل ليس مفاد هيئاتهما إلا التعدد من أفراد المفهوم الواحد ، كما هو الحال في سائر الهيئات ، حيث لا يراد بها إلا خصوصية قائمة بالمفهوم الاسمي ، لا معنى في مقابله. وإليه قد يرجع ما قيل من أنهما في قوة تكرار المفرد. ولا يصح على حقيقته ، لوضوح أن تكرار المفرد راجع إلى تعدد استعمال الاسم ، ولا إشكال معه في إمكان تعدد المعنى الاسمي ، فكيف يقاس به المثنى والجمع في الاستعمال الواحد ، مع أنهما يتضمنان المفاد الاسمي والمفاد الحرفي الذي هو مباين له سنخا وقائم به؟!

وأما ما في المعالم من الاستدلال على جواز أن يراد بهما التعدد من معاني متعددة بتثنية الأعلام وجمعها ، مع وضوح تباين معانيها بنحو الاشتراك.

فيندفع بابتناء تثنية الأعلام وجمعها على التأويل بالمسمى الذي هو معنى واحد جامع بين معانيها المتباينة ، كما يشهد به خروجها مع التثنية والجمع عن التعريف إلى التنكير والشيوع ، وجريان أحكام النكرات عليها ، من قبول أداة التعريف ، والوصف بالنكرة ، وعدم جواز الابتداء بها إلا لمسوغ ، وغيرها. فهما نظير إضافة الأعلام التي لا تصح إلا بالتأويل المذكور الموجب للشيوع.

٨٦

ولذا كان ظاهر قولنا : هذان زيدان بيان اسمهما ، لا ذاتهما بخلاف قولنا : هذا زيد.

الثاني : لا يخفى أن بعض المفاهيم الإضافية ونحوها قد يختلف صدقها باختلاف ما يصحح اعتبارها ، كعنوان (الكبير) الذي يصدق تارة : بلحاظ العموم. وأخرى : بلحاظ الحجم. وثالثة : بلحاظ الشأن والأهمية. ورابعة : بلحاظ السن. ومثل ذلك وإن لم يوجب الاختلاف في المفهوم ، بل في معيار الصدق الذي هو نحو من الاختلاف المصداقي.

إلا أن الظاهر عموم ملاك المنع المتقدم له ، فيمتنع استعمال اللفظ في الإضافة الخاصة الخارجية بلحاظ أكثر من مصحح واحد لاعتبارها ، لأن ما هو موضوع الغرض والأثر والأحكام ليس هو الإضافة بنفسها ، بل منشأ انتزاعها المختلف باختلاف اعتبارها ، فلا بد من أخذ منشأ الاعتبار قيدا فيها ضمنا في مقام الحكم عليها ، ويمتنع ملاحظة أكثر من منشأ اعتبار واحد بخصوصيته ، وأخذه قيدا في مقام الاستعمال ، بعين ملاك امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى. إلا أن يكون بين مناشئ اعتبار الإضافة جامع عرفي فيمكن أخذه وحده نظير استعمال اللفظ في القدر المشترك بين معانيه. نعم ، لو لم يكن الاستعمال بلحاظ الإضافة الخارجية ، لم يحتج لملاحظة منشأ الاعتبار بخصوصيته ، وأمكن إرادة العموم ، كما هو الحال في موارد شرح مفهوم الإضافة.

الثالث : ورد في بعض النصوص أن للقرآن ظهرا وبطنا (١) ، وفي آخر أن له ظاهرا وباطنا (٢) ، وفي ثالث : أن له بطنا وللبطن ظهرا (٣) ، وفي رابع : أن له

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٧ ، وتفسير العياشي ج : ١ ص : ١١. ١

(٢) الوسائل ج : ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٩. ١

(٣) تفسير العياشي ج : ١ ص : ١٢. ١

٨٧

بطنا وظهرا وللظهر ظهرا (١).

وحيث كان الاستعمال في أكثر من معنى ممتنعا عقلا عند غير واحد فقد حاولوا توجيه النصوص المذكورة ونحوها بحملها ..

تارة : على ما يعم لوازم المعنى مما أريد بيانه تبعا لبيان الملزوم وإن لم يكن اللفظ مستعملا فيه ، نظير الكنايات التي تقدمت الإشارة إليها.

وأخرى : بما يراد من اللفظ بمحض العلامية التي تقدمت الإشارة إليها أيضا.

وقد يناسب الأول مرسلة العياشي عن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ظهر القرآن الذي نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم» (٢) ، وما في مرسلته الأخرى عن الفضيل عنه عليه‌السلام : «قال : ظهره وبطنه تأويله منه ما مضى ، ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع» (٣).

كما قد يناسب الثاني بعض التفاسير الغريبة الواردة عنهم عليهم‌السلام.

هذا ، وحيث سبق أن وجه امتناع الاستعمال في أكثر من معنى خروجه عن الطريقة العرفية ، فلا مانع من البناء عليه في القرآن المجيد ، لإمكان خصوصيته في المخاطب به والمخاطب ـ وهم أهل البيت عليهم‌السلام ـ وعهد بينه وبينهم خارج عن مقتضى طريقة أهل اللسان. بل قد يفهمه بعض الخواص ، على ما تشهد به بعض الوقائع المنقولة.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤١. ١

(٢) تفسير العياشي ج : ١ ص : ١١. ١

(٣) تفسير العياشي ج : ١ ص : ١١. ١

٨٨

الأمر السابع : في الحقيقة الشرعية

لا ريب في أن الألفاظ التي يطلقها المتشرعة على الوظائف الشرعية ، ـ كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والحج وغيرها ـ صارت حقائق فيها منقولة إليها ، فتتبادر منها بلا قرينة دون معانيها القديمة بحسب أصل اللغة.

وإنما وقع الكلام بينهم في أن ذلك حصل في عصر الشارع الأقدس ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي عرفه وعرف أتباعه المعاصرين له ، مع هجر المعاني اللغوية الأصلية ، أو بقائها في عرف غير الشارع وأتباعه ، فهي فيها حقائق شرعية ، أو لم يحصل في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنما حصل بعده في عرف المتشرعة المتأخرين عنه ، فهي حقائق متشرعية لا شرعية.

وتظهر ثمرة النزاع المذكور فيما وقع من الألفاظ المذكورة مجردا عن القرينة في الكتاب العزيز ، أو في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو كلام أتباعه المعاصرين له من من يترتب الأثر على تعيين مرادهم ، لأنه يلزم حمل الاستعمال على ما هو الحقيقة في عرف المتكلم الذي يجري عليه مساق كلامه.

وعن بعض الأعاظم قدس‌سره المنع من ترتب الثمرة المذكورة ، لأن هذه الألفاظ قد صارت في زمان الصادقين عليهما‌السلام حقائق في المعاني المستحدثة ، وما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريق الأئمة عليهم‌السلام بحكم ما يرد منهم ، وما ورد عنه من غير طريقهم خارج عن الابتلاء.

لكنه يشكل بأن ما ينقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريقهم عليهم‌السلام إنما يكون بحكم ما يرد عنهم إذا نقلوه في مقام بيان التشريع ، لظهوره في إرادة المعنى المعروف في عصرهم عليهم‌السلام ، وإلا كان عليهم التنبيه لاختلاف المراد به ، أما إذا كان نقلهم له لمجرد نقل ألفاظه ـ كما في موارد نقل الخطب ـ فلا ظهور له في ذلك. وأما ما ينقل عن طريق غيرهم فهو إنما يخرج عن الابتلاء إذا لم يبلغ مرتبة الحجية ،

٨٩

والجزم بذلك في جميع ما ينقل من طريق غيرهم يحتاج إلى مزيد فحص وتتبع. على أنه يكفي النقل غير الحجة في مورد قاعدة التسامح في أدلة السنن. مع أنه يكفي في الثمرة ما ينقل عن الأئمة السابقين على الصادقين أو عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريقهم. فالجزم بعدم فعلية الثمرة في غير محله.

ثم إن اختصاص النزاع والثمرة بتحقق الوضع في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد يكون ناشئا من أن أصل تحرير المسألة قد وقع من العامة ، أما بناء على ما عليه أهل الحق من حجية أقوال أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وأفعالهم فحصول الوضع في عصر كل منهم مورد للثمرة بالإضافة إلى ما يصدر منه ومن أتباعه في مقام الحكاية عنه ، كما هو ظاهر.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر أنه لا مجال للبناء على صدور الوضع التعييني من الشارع ، لما في ذلك من الكلفة والعناية غير المألوفة في تلك العصور ، ولم يكن الغرض الفعلي إلا تفهيم المعنى ولو بالقرينة. مع أن ذلك لو صدر لظهور وبان ، لأهميته جدا ، وتوفر الدواعي لنقله ، من دون موجب لإخفائه.

نعم ، قرب المحقق الخراساني قدس‌سره تحقق الوضع من الشارع باستعمال اللفظ في المعنى الشرعي على أنه معناه الدال عليه بنفسه ، لا بالقرينة ، ولو بإقامة القرينة على ذلك. نظير إنشاء العقود والإيقاعات وإبراز الالتزام بها بترتيب آثارها كالمعاطاة. بل ذكر بعض الأعيان المحققين قدس‌سره أنه لا بد من البناء على ذلك ، لأن سيرة أهل العلوم والفنون والصناعات المخترعة لهم على تعيين الألفاظ المناسبة ليسهل تفهيمها ، ولا تدون وتضبط إلا بعد تكامل العلم.

لكنه يشكل بأن تكوّن مصطلحات العلوم والفنون والصناعات تدريجي ، ولا همّ للمؤسسين إلا تفهيم المعاني بالطرق الميسورة ولو بضميمة القرائن. على أن هذا الوجه يشارك الوجه الأول في وجه المنع ، لعدم ترتب الغرض عليه إلا بظهوره ، ومعه لا بد من وصوله إلينا. بل حيث كانت الكلفة

٩٠

والعناية فيه أشد كان أولى بالمنع.

فالعمدة في المقام هو الوضع التعيني حيث يقرب حصوله في غالب الألفاظ المذكورة ، بأن استعملت أولا في المعاني الجديدة ، إما مجازا لمناسبتها للمعاني الأصلية ـ كالزكاة ـ وإما لأنها من أفراد المعاني الأصلية ـ كالصوم والأذان ـ ثم اشتهرت فيها حتى انصرفت إليها بعد مدة وجيزة في عرف الشارع الأقدس وتابعيه ، بسبب كثرة الاستعمالات منهم ، وأنس أذهانهم بالمعاني الجديدة بسبب الحاجة إليها دون المعاني الأصلية ، إذ يبعد مع ذلك عدم تحقق النقل في عرفهم ، بحيث يحتاجون في تفهيم المعاني الجديدة إلى تكلف القرائن الخاصة. غاية الأمر أن يبقى المعنى الأصلي معروفا عند غيرهم ممن لا يبتلي بالمعاني الجديدة. على أنه لا يبعد هجره عند الكل بعد ظهور الإسلام في بلاد العرب وانتشاره في أواخر عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا ، وقد ادعى المحقق الخراساني قدس‌سره الوضع للمعاني الشرعية بحسب أصل اللغة في كثير من الوظائف ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها ، لما تضمنته كثير من الآيات والنصوص من تشريعها في الشرائع السابقة.

لكنه إنما يقتضي ثبوت تلك المفاهيم في الشرائع السابقة ـ وإن اختلف ما عندنا عما عندهم في الخصوصيات المصداقية ، نظير اختلاف المصاديق عندنا في مثل القصر والتمام ـ ولا يقتضي تسميتها بالأسماء المخصوصة ، بل هو مقطوع بعدمه بعد اختلاف اللغة.

نعم ، لو ثبت بقاء معروفيتها بين أهل تلك الشرائع حتى اختلطوا بالعرب ، وألفها العرب بسببهم ، وعبروا عنها بالألفاظ المذكورة اتجه ذلك.

لكن لا طريق للجزم به إلا في مثل الحج والعمرة وغسل الجنابة والمسجد ونحوها مما ثبت في شريعة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وأخذه العرب منها.

٩١

ثم إنه قال في الفصول : «ربما عزي إلى الباقلاني القول بأن هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغوية والزيادات شروط لقبولها وصحتها ...». وعليه يكون إطلاقه على الوظائف الشرعية من باب إطلاق الكلي على بعض أصناف أفراده ، كما قد يناسبه لزوم لام التعريف لها.

لكنه يشكل بأنه لا ريب في عدم انطباق المعنى الموضوع له بحسب أصل اللغة على بعض تلك الوظائف ، كالزكاة. مع أن كونها من أفراد المعنى الأصلي لا ينافي تحقق الوضع لها في عرف الشارع بسبب غلبة الاستعمال ، كما وقع نظيره في بعض المفردات اللغوية ، كالعقبة والمدينة. بل لا إشكال في تحقق ذلك في عرف المتشرعة للتبادر القطعي ، وإنما الإشكال في مبدئه ، وما سبق منا ينهض بإثبات حصوله في عصر الشارع الأقدس. وأما اللام فهي للجنس لا للعهد.

تنبیه :

لو فرض عدم بلوغ ما سبق في تقريب الوضع التعيني مرتبة تقتضي القطع بالوضع ، إما مطلقا أو في خصوص بعض الألفاظ ولو في بعض الأزمنة ، فحيث يعلم بحصول النقل بعد ذلك يكون الشك في حال بعض الاستعمالات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام من صغريات ما إذا شك في تقدم النقل على الاستعمال وتأخره الذي تقدم منا في آخر الكلام في علامات الحقيقة لزوم التوقف معه والبناء على الإجمال ، لا على الحمل على المعنى القديم. فراجع.

٩٢

الأمر الثامن : في الصحيح والأعم

اختلفوا في أن ألفاظ العبادات مختصة بالصحيح أو تعمه والفاسد.

وينبغي تمهيد الكلام في ذلك بذكر أمور ..

الأول : لما كانت ثمرة البحث تتعلق بالبيانات الشرعية التي يترتب عليها العمل ، فالمهم في المقام تحديد مفاد الألفاظ الواقعة فيها وأنها ظاهرة في أي الأمرين الصحيح أو الأعم.

وحينئذ لا ريب في جريان النزاع بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية. وكذا بناء على عدم ثبوتها لو كان المدعى عدم صحة الاستعمال أو عدم وقوعه إلا في أحد الأمرين ، إما لأن العلاقة بالمعنى اللغوي مختصة به ، أو لوجود الجامع بين أفراده دون الآخر ، حيث يتعين حينئذ الحمل عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي.

وأما بناء على صحة الاستعمال في كل منهما بنحو يحتمل وقوعه فقد يشكل عموم النزاع بأنه بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية يكون الاستعمال في كل منهما مجازيا ومعه لا مرجح لأحدهما.

اللهم إلا أن يقال : حيث لا إشكال في صيرورة الألفاظ المذكورة حقائق في المعاني المذكورة بعد ذلك بسبب الوضع التعيني الناشئ من كثرة الاستعمال فتعيين أحد الأمرين ـ من الصحيح والأعم ـ حينئذ راجع إلى أنه هو المستعمل فيه في الصدر الأول ولو غالبا لكونه مقتضى القرينة النوعية ، وأن الاستعمال في الآخر لو وقع يحتاج إلى قرينة خاصة. وحينئذ لو شك في حال الاستعمالات الواقعة قبل حصول الحقيقة الشرعية مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي يتعين حملها على ما هو مقتضى القرينة النوعية التي جرى عليها الاستعمال المستتبع للوضع التعيني بعد ذلك.

٩٣

وبذلك يظهر أن الكلام إنما هو في ألفاظ العبادات التي ثبت وضعها ـ ولو عند المتشرعة ـ في الخصوصيات الخارجة عن معانيها اللغوية ، حيث تكون بذلك من الماهيات المخترعة للشارع التي يمكن الكلام في اختصاصها بالصحيح وعمومها للفاسد ، دون غيرها مما بقي على معناه اللغوي ، وإن قيّد ببعض القيود في مقام الأمر به ، كقراءة القرآن والركوع والسجود ، فضلا عن غير العبادات ، كالإنفاق على الزوجة ، حيث لا موضوع للنزاع فيها ، بل يتعين الرجوع في تحديد مفاهيمها للغة والعرف. بل أكثر ذلك لا يتصف بالصحة والفساد ، عدا المعاملات التي يأتي الكلام فيها في ذيل هذا البحث.

الثاني : تقدم في المسألة الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن الصحة والفساد منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الأثر المهم ، وأن تعريف الصحة بإسقاط الأمر أو بإسقاط الإعادة والقضاء ، ليس للاختلاف في مفهومها ، بل للاختلاف في معيار صدقها ، تبعا للاختلاف في الغرض المهم.

ولم أعثر عاجلا على تصريح في كلماتهم بتعيين معيار الصحة في المقام.

نعم ، لا يبعد عن أكثر حجج القائلين بالصحيح إرادة الموافقة للأمر الواقعي. وإن كان من البعيد جدا بناؤهم على عدم صدق المسميات المذكورة على ما أسقط الإعادة والقضاء إذا لم يطابق الأمر. فالمناسب إيكال ذلك للنظر في حجج القول المذكور. ومثله الكلام في عموم النزاع للصحة من حيثية الشروط مطلقا أو في

الجملة. فإن الكلام في ذلك هنا سابق لأوانه يستغنى عنه بالتأمل في تلك الحجج.

الثالث : ذكروا أن ثمرة النزاع في المقام تظهر في الخطابات الشرعية المتضمنة لعناوين العبادات ، فبناء على الأعم يمكن التمسك بإطلاقات الخطابات المذكورة لنفي اعتبار ما يحتمل اعتباره في صحة العمل من الأجزاء والشرائط إذا لم يتوقف عليه صدق عناوينها عرفا ، أما بناء على الصحيح فلا

٩٤

مجال لذلك ، لأن الشك في اعتبار شيء في العمل مساوق للشك في الصحة وفي صدق عنوانه بدونه ، ولا بد في التمسك بالإطلاق من إحراز عنوانه.

لكن قد يمنع التمسك بالإطلاقات حتى بناء على الأعم لوجهين :

أولهما : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من أنه حيث قام الإجماع بل الضرورة على أن الشارع لا يأمر بالفاسد فقد ثبت تقييد الأمر بالمسميات المذكورة بكونها صحيحة جامعة لتمام ما يتعين فيها واقعا ، ومعه لا مجال للتمسك بالإطلاق مع الشك في صحة العمل بناء على التحقيق من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من جهة الخاص.

ويندفع بأن عنوان الصحيح لم يؤخذ قيدا زائدا في المأمور به ، ليجب إحرازه ، بل هو منتزع من مقام الأمر ، فكل ما تعلق به الأمر هو الصحيح ، فإذا كان مقتضى إطلاق الخطاب تعلق الأمر بالمسمى كان هو الصحيح ، واحتاج إثبات دخل ما زاد عليه في المأمور به وفي الصحة إلى دليل.

ثانيهما : ما أصر عليه قدس‌سره في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين من أن جميع الأوامر الواردة في الكتاب المجيد بالعبادات ـ كالصوم والصلاة والحج ـ ليست واردة في مقام بيان ما هو المشروع والمأمور به منها ، بل في مقام الحث عليه والتأكيد على ذلك ، مع إهمال بيان المأمور به وإيكاله إلى الخطابات المتعرضة لذلك والواردة قبله أو التي ترد بعده.

وعمم في التقريرات ذلك لخطابات السنة الشريفة أيضا ، وذكر أنها إما أن تكون في مقام الإهمال أو في مقام بيان خواص العبادات وآثارها ، لا في مقام بيان المأمور به منها إلا ما شذ.

وما ذكره قدس‌سره قد يتم فيما ورد في مقام التأكيد على العمل والحث عليه ،

٩٥

كقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) ، وقوله عزّ اسمه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٢) ، وقوله سبحانه : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(٣) ، لأن مقام الحث والتأكيد يناسب سبق التشريع ومعرفة المشروع.

ولا يتم فيما يتضمن الأمر بالوظيفة وتشريعها ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٤) ، وقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...)(٥) ، لأن مقام الأمر والتشريع كما يناسب بيانهما يناسب بيان المشروع والمأمور به ، فالاكتفاء في بيانهما بذكر العنوان ظاهر في الاكتفاء به على إطلاقه. وأظهر من ذلك ما تضمن بيان بعض قيود المأمور به كالنصوص المتضمنة للأمر بصلاة ركعتين ، أو بسور معينة ، حيث تظهر الثمرة فيها بالإضافة إلى غير القيد الذي تضمنته.

الرابع : الوضع لكل من الصحيح والأعم يبتني على فرض جامع بين أفراده يكون هو الموضوع له ، وتكون إرادة خصوصيات الأفراد عند إطلاق العنوان من باب تطبيق العام على الخاص. ومن هنا يتعين الكلام في تعيين الجامع على كل من القولين ، بل هو من أهم مباحث المسألة ، وعمدة ما يبتنى عليه الاستدلال فيها.

والكلام فيه في مقامين :

المقام الأول : في الجامع الصحيحي. وقد يشكل تصويره بلحاظ

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية : ٤٥. ١

(٢) سورة البقرة الآية : ٢٣٨. ١

(٣) سورة النساء الآية : ١٠٣. ١

(٤) سورة البقرة الآية : ١٨٣. ١

(٥) سورة آل عمران الآية : ٩٧. ١

٩٦

اختلاف أفراد الصحيح في كثير من العبادات ـ كالوضوء والصلاة والزكاة والحج ـ اختلافا فاحشا. ولا مجال لأخذ عنوان الصحيح فيه ـ الذي هو جامع لشتاتها ـ لأن العنوان المذكور متفرع على الأمر ومنتزع منه ، فلا يكون مقوما لمفهوم المأمور به.

لكن جزم المحقق الخراساني قدس‌سره بوجوده وإمكان الإشارة إليه بخواصه وآثاره ، فقال : «فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذلك الجامع ، فيصح تصوير المسمى ، كلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء ، وما هو معراج المؤمن ونحوها».

وهو يبتني .. أولا : على عموم الآثار المذكورة لتمام أفراد الصحيح وقصورها عن تمام أفراد الناقص الذي لا يطابق الأمر أو الذي لا يجزي.

وثانيا : على امتياز كل عبادة ذات عنوان خاص بأثر يخصها لا يشاركها فيه غيرها.

وثالثا : على ما أشار إليه هنا وفي غير مقام من ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر.

ولا طريق لإثبات الأول ، لأن الآثار المذكورة سيقت في الأدلة لبيان الفائدة ، لا لبيان ملاك الأمر أو موضوعه الذي يدور مداره وجودا وعدما ، فلا مانع من عمومها لبعض أفراد الفاسد ، خصوصا ما كان المكلف معذورا في نقصه. كما لا مانع من قصورها عن بعض أفراد المأمور به أو المجزي ، وعدم ثبوتها إلا للفرد الكامل منها ، وهو المشتمل على بعض شروط القبول أو كلها. ولا مجال للاستدلال على عمومها بإطلاق أدلتها بعد ورودها في مقام الحث والتأكيد على العمل ، لا في مقام تشريعه.

ولا سيما مع ظهور بعض أدلة شروط القبول في عدم الاعتداد بالعمل

٩٧

بدونها ، حيث يبعد جدا ترتب الآثار المذكورة عليه. بل هو صريح خبر يونس : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : اعلم أن الصلاة حجزة الله في الأرض فمن أحب أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته فلينظر ، فإن كانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنكر فإنما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز ...» (١).

ومثله الثاني ، لأن مجرد نسبة الأثر للماهية لا يقتضي اختصاصها به ، وليس في أدلتها قرائن تشهد به. كما ربما لم يرد في بعض الوظائف أدلة تشهد بثبوت آثار لها ، لينظر في ظهورها في اختصاصها بها.

وأما الثالث فقد أشار للاستدلال عليه في مبحث الواجب التخييري بأنه لا بد من نحو من السنخية بين العلة والمعلول.

لكن المراد بالسنخية إن كان هو كون الأثر من سنخ المؤثر ، المستلزم لاتحاد المؤثرات سنخا بعد فرض وحدة أثرها ـ الذي هو عبارة أخرى عن وجود الجامع بينها ـ فلا ملزم به ، بل لا مجال له ، لرجوعه إلى لزوم وجود الجامع الماهوي بين العلة والمعلول ، ولا يظن من أحد البناء عليه. وإن كان المراد بها أن استناد الأثر للمؤثر فرع خصوصية ذاتيهما ، لما قيل : من أنه لو لا ذلك لأثر كل شيء في كل شيء ، فهو لا يقتضي لزوم الجامع بين المؤثرات ، إذ لا استحالة في كون الخصوصية الذاتية للأثر الواحد تناسب تحققه بمؤثرات متعددة لا جامع بينها. ومن هنا لا شاهد للملازمة التي ادعاها. ولذا أنكرها بعض المحققين وغيره ، بل يظهر منهم إنكارها من جماعة من أهل المعقول.

على أن ما ذكره من الوجه يشكل ـ مضافا إلى ذلك ـ بوجهين :

أولهما : أنه كيف يمكن فرض الجامع الماهوي بين أفراد الصحيح مع اختلافها في الخصوصيات المعتبرة في فردية الفرد له ، فإنه وإن أمكن اختلاف

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ٢ من أبواب أفعال الصلاة حديث : ٨.

٩٨

أفراد الماهية الواحدة في الخصوصيات ، بل هو مما لا بد منه في تباين الأفراد وتعددها ، إلا أنه ليس بنحو تكون الخصوصيات دخيلة في فردية الفرد للماهية ، بل هي زائدة عليها ، لا يستلزم تخلفها خروج الفرد عن الفردية. أما الخصوصيات المتباينة في المقام فقد تكون مقومة لفردية الفرد ، لتوقف صحته عليها دون غيره من الأفراد ، بل قد تكون مانعة من فرديتها ، كالركعة الرابعة المقومة لصلاة العشاء والمبطلة لصلاة المغرب.

ثانيهما : أن وجود القدر الجامع المشترك واقعا لا يكفي في التسمية ما لم يكن معلوما ومحدودا ولو إجمالا ، ليكون هو معنى اللفظ المختص به ، وليتصور عند الاستعمال في مقام الحكاية عنه وأدائه باللفظ. وحينئذ فالجامع الماهوي المذكور إن كان مدركا بنفسه كان الأولى التنبيه له وبيان حدوده التفصيلية ، ولم يحتج لاستكشافه من طريق الأثر بضميمة الملازمة المتقدمة.

ودعوى : أنه يكفي تصوره من طريق أثره إجمالا ، فالصلاة مثلا هي ذوات الأفعال الناهية عن الفحشاء والمنكر بما لها من واقع متقرر في نفسه.

مدفوعة : بأن مقتضى ذلك كون ترتب الآثار المذكورة ملازما ذهنا لمعاني تلك الألفاظ ، لعدم إدراكها إلا من طريقها ، وهو ظاهر البطلان ، كيف؟! ولازمه لغوية القضايا المتضمنة إثبات الآثار لتلك الوظائف ، لرجوعها إلى قضايا بشرط المحمول.

على أن ذلك لو تم أغنى عن استكشاف الجامع الحقيقي بالملازمة بين وحدة الأثر ووحدة المؤثر ، حيث يكفي الجامع الاعتباري المذكور المتقوم بلحاظ الأثر وإن فرض عدم الجامع الحقيقي بين أفراده.

وأشكل من ذلك دعوى أخذ الآثار في مفهوم الجامع بحيث يتقوم بحيثية صدورها زائدا على ذوات الأفعال. إذ فيها ـ مضافا إلى ما سبق من عدم التلازم

٩٩

الذهني بين الأمرين ، وإلى بداهة التباين بين مفهومي الصلاة والناهي عن الفحشاء مثلا ـ : أن لازمه الرجوع مع الشك في اعتبار شيء فيها لقاعدة الاشتغال ، لرجوع التكليف حينئذ للتكليف بأمر بسيط زائدا على الذات ، وهو منشأ انتزاع العنوان ، وحيث يشك في تحقق ذلك يجب إحراز الفراغ عنه بالإتيان بالأمر المشكوك ، على ما يأتي توضيحه عند الكلام في قاعدة الاشتغال تمهيدا للكلام في المتباينين من الفصل الثالث من الأصول العملية إن شاء الله تعالى ، مع أن بناءهم على الرجوع معه للبراءة.

هذا ، وأما شيخنا الأعظم قدس‌سره فإنه ـ بعد ملاحظة ما سبق من اختلاف أفراد الصحيح في الأجزاء والشرائط ، فلا يمكن فرض الجامع المركب بينها ، كما لا يمكن ملاحظة الجامع البسيط بينها المنتزع من جهة عرضية انتزاعية ، كالمنتزع من الأثر الخاص ، لنظير ما سبق ـ ذكر ـ كما في التقريرات ـ أن الوجه هو الالتزام بأن الموضوع له هو خصوص الأجزاء والشرائط الثابتة في حق القادر المختار العالم العامد من دون حاجة إلى فرض جامع عنواني بسيط بينها. وليس ما ثبت في حق غيره من أفراد المسمى الشرعي حقيقة ، بل هو بدل مسقط عنه وإن أمكن أن يكون من أفراد المسمى عند المتشرعة ، لتوسعهم في استعمال الألفاظ.

لكنه كما ترى! لا مجال للالتزام به :

أولا : لأن الأجزاء والشرائط الثابتة في حق القادر المختار العالم العامد مختلفة باختلاف الأنواع والأفراد في الصلاة والزكاة والحج وغيرها ، فلو أمكن فرض قدر جامع بينها وحدها أمكن فرضه بينها وبين غيرها مما ثبت في حق غير الشخص المذكور.

وثانيا : لأن أدنى ملاحظة للاستعمالات في عرف الشارع ومعاصريه

١٠٠