الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

له الوضع له بخصوصيته. وحينئذ يكون الوضع خاصا والموضوع له خاصا أيضا ، لخصوص كل من المعنى المتصور حين الوضع والمعنى الموضوع له.

ولا مجال معه للوضع لمعنى عام ، لأن الخاص يصلح للدخول تحت مفاهيم عامة كثيرة ، فلا يمكن الإشارة به لخصوص أحدها إلا بتجريده من الخاص ولحاظه بنفسه بما له من حدود مفهومية ، ثم الوضع له ، فيدخل في القسم الأول.

وعلى هذا تكون الأقسام الممكنة ثلاثة :

الأول : الوضع العام والموضوع له عام. واللفظ معه يحكي عن المعنى العام على عمومه.

الثاني : الوضع العام والموضوع له خاص. واللفظ معه يحكي على نحو البدل عن كل فرد من أفراد المعنى العام المتكثرة بما له من خصوصية مميزة.

الثالث : الوضع الخاص والموضوع له خاص. واللفظ معه لا يحكي إلا عن خصوصية شخصية واحدة.

وبلحاظ مميزات الأقسام الثلاثة يمكن فرضها جميعا في موارد الوضع التعيني الذي لا يستند فيه لواضع خاص. إذ على ذلك الوجه يمكن أيضا فرض اختصاص اللفظ بالمعنى وحكايته عنه على أحد الوجوه الثلاثة ، وبالأنحاء المميزة لبعضها عن بعض ، وإن لم يكن هناك واضع قد تصور معنى عاما أو خاصا عند إرادة الوضع.

الأمر الثالث : المعنى الحرفي

حيث سبق بيان أقسام الوضع بلحاظ المعنى الموضوع له ، فلا إشكال في وقوع الوضع العام والموضوع له العام ، كما في أسماء الأجناس. وكذا الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، كما في الأعلام الشخصية. وإنما الكلام في

٦١

وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص ، حيث ذهب جماعة إلى أن منه وضع الحروف وما ألحق بها من أسماء الإشارة والموصولات والضمائر والهيئات. وليس التقسيم المذكور إلا مقدمة لتحقيق حالها. وقد اختلفوا في حقائق مفاهيمها وفي عمومها وخصوصها ، وكثر النقض والإبرام في ذلك بما يضيق المجال عن تعقيب كلماتهم فيه ، ولا سيما مع كون مفاد الحروف ارتكازيا ، حيث قد يصعب الاستدلال في الارتكازيات. فلنقتصر على ما لا بد منه في بيان ذلك ، فنقول :

عمدة الأقوال في معاني الحروف وما ألحق بها ثلاثة :

الأول : أنها إخطارية ، بمعنى أنها مفاهيم متقررة في أنفسها مع قطع النظر عن مقام الاستعمال ، ولا يكون الاستعمال فيها إلا بعد خطورها في الذهن وإدراكها ، كالمفاهيم الاسمية. كما أنها عامة صالحة للانطباق على كثيرين. ولا فرق بينها وبين المفاهيم الاسمية إلا أنها آلية لا تصلح إلا للربط بين المفاهيم الاسمية ـ التي تقوم بها النسب ـ والمفاهيم الاسمية استقلالية لا تصلح للربط ، بل تكون أطرافا للنسب.

الثاني : أنها إخطارية آلية أيضا ، إلا أنها جزئية لا تحكي إلا عن خصوصيات النسب.

الثالث : أنها إيجادية بمعنى أنها موجدة للنسب الرابطة في مقام الاستعمال ، من دون أن يكون لها معان ذات واقع متقرر في نفسه ـ مع قطع النظر عن الاستعمال ـ يكون محكيا بها. وعليه لا بد من كون معانيها جزئية ، إذ لا وجود في الخارج للكلي.

إذا عرفت هذا ، فالأظهر في الجملة هو الثالث ، وتوضيح ذلك : أنه لا إشكال في أن جملة من الحروف ذات معان إيجادية تتحقق باستعمالها من دون

٦٢

أن يكون لها تقرر مع قطع النظر عن الاستعمال ، كحروف وهيئات التمني والترجي والنداء والاستفهام والطلب بأنواعه والنهي والإضراب ونحوها ، فكما يكون هناك أمر نفسي يطابق هذه الأمور أو يقاربها يكون لها وجود كلامي بأدواتها المعهودة ، وليس الأمر النفسي المذكور محكيا بهذه الحروف على نحو حكاية المعنى باللفظ الموضوع له ـ الذي يكون المعنى مدلوله المطابقي اصطلاحا ـ بل هو داع لإيجاد مضامينها في عالم التلفظ والكلام. كما أنه قد يكون داعيا لوجودها في عالم الإشارة ، كما لو حرك المستفهم بيده مثلا بداعي الاستفهام.

ولذا لا يلزم الكذب من الإتيان بها لإيهام تحقق ما يناسبها في النفس مع عدم تحققه ، كما لا يكون الإتيان بها بداع آخر ـ كالاستفهام بداعي التوبيخ أو التقرير ـ بقرينة مجازا.

وعليه لا يكون المراد بوضع هذه الحروف للمعاني المذكورة هو الحكاية بها عن هذه المعاني ، نظير وضع الأسماء لمسمياتها ، بل إيجادها في عالم الكلام والبيان بها ، نظير وضع المطرقة للطرق ، والسكين للقطع ، والسيارة للنقل ، غايته أن وضع هذه الأدوات للأغراض المذكورة لمناسبة طبيعية بينها وبين تلك الأغراض ، ووضع هذه الحروف لهذه المعاني ناشئ من تعارف استعمالها فيها ، من دون ملاحظة سبب طبيعي بينها. ومن ثم حسن تسمية هذه الحروف بالأدوات ، ولم يعهد منهم إطلاق الأداة على الاسم.

ويلحق بالحروف المذكورة في ذلك لام التعريف والضمائر وأسماء الإشارة والموصول ونحوها ، فإنها أدوات لإحداث نحو من الإشارة ، غايته أنها إما أن تتضمن الإشارة للشيء بنفسه ـ كما في أسماء الإشارة ـ أو من حيثية معهوديته في الذهن ـ كما في لام التعريف والضمائر ـ أو من حيثية بعض ما يتعلق به ـ كما في الموصول ـ فإن الإشارة في الجميع لا تقرر لها مع قطع

٦٣

النظر عن الاستعمال ، وإنما تتحقق به ، كما تتحقق الإشارة الخارجية بمثل تحريك اليد والعين.

نعم ، لما كانت الإشارة تتعلق بمشار إليه له تقرر في نفسه مع قطع النظر عنها وكانت مستلزمة لحضوره في الذهن فقد يدعى أنها حاكية عنه وأن معانيها إخطارية ، ولذا عدت من الأسماء ولحقتها خواصها ، فصلحت لأن تكون طرفا للنسب التامة والناقصة. ويتجه حينئذ الكلام في عموم معناها وخصوصه.

لكن الظاهر عدم حكايتها عن المشار إليه بنفسه ، ولا عن معنى يعمه ، على نحو حكاية الأسماء عن مسمياتها ، ليكون ذلك معناها المطابق لها ، بل لما كان المشار إليه يحضر بنفسه في الذهن بسببها تبعا لتحقق الإشارة ـ كما هو الحال في الإشارة الخارجية ـ يكون الحكم عليه ، لا على اسم الإشارة بما هو ذو معنى محكي به. ولذا لا يكون المشار إليه ارتكازا معنى لها ولا مصداقا لمعناها ـ مع قطع النظر عن استعمالها الخاص ـ بنحو يحمل عليها بالحمل الأولي الذاتي أو الشائع الصناعي ، كما تكون ذات زيد مثلا معنى للفظه ومصداقا لمعنى رجل مع قطع النظر عن استعمالها فيه.

ومثلها في ذلك هيئة الأمر فإنها مستعملة لإيجاد النسبة البعثية وإنشائها. ودلالتها على الطلب النفسي الواقعي بالملازمة العرفية ، لكونه الداعي النوعي لإنشاء النسبة المذكورة عرفا. وكذا أسماء الأفعال التي هي بمعنى فعل الأمر ، بل وكذا غيرها من أسماء الأفعال وهيئات وأدوات المدح والذم والتأكيد والقسم ، فإن الظاهر سوقها لإيجاد مضامينها في مقام البيان والكلام دون الحكاية عنها بها ، غاية الأمر أن يكون الداعي النوعي للاستعمال هو بيان وجود ما يناسبها في النفس. وهذا كله ظاهر.

وإنما الإشكال فيما يتضمن من الحروف والهيئات النسب التي لها

٦٤

محكي خارجي له نحو تقرر في نفسه مع قطع النظر عن الكلام ، بحيث تكون مطابقة مفاد الكلام لما في الخارج وعدمها معيارا في صدق الكلام وكذبه. حيث قد يكون ذلك شاهدا على كون معانيها إخطارية.

وذلك كأكثر حروف الجر والشرط والحصر وغيرها ، والهيئات الكلامية الدالة على النسب الخارجية التامة ، كهيئات الجمل الاسمية والفعلية غير الطلبية. بل حتى الناقصة كهيئات الإضافة والحال والتمييز وغيرها ، وهيئات المفردات الاشتقاقية. لأنها وإن لم تتصف بنفسها بالصدق والكذب ، إلا أنها لما كانت قيدا للنسب التامة المتصفة بها أو لموضوعاتها كان وجود المطابق الخارجي لها وعدمه دخيلين في صدق الكلام المتضمن لها وكذبه. وهو يستلزم تقرر مفاد تلك النسب مع قطع النظر عن الكلام.

ومن ثم قد تتجه دعوى أن معاني الحروف والهيئات المذكورة إخطارية ، والكلام متمحض في الحكاية عنها. ويتجه أيضا الكلام في أنها جزئية أو كلية.

وحينئذ قد يستدل على أنها كلية بصلوحها للحكاية عما لم يقع من النسب في القضايا الاستقبالية والطلبية ونحوها ، مع وضوح انطباقه على أكثر من وجه واحد ، وعدم أخذ خصوصية فردية فيه ، لتوقف التشخص على الوجود ، وذلك مستلزم لكون المفهوم والمعنى كليا منطبقا على كثيرين.

وكذا الحال فيما إذا حكي بها عن أكثر من نسبة واحدة ، كما في قولنا :

ساروا من البصرة ، وكما في القضايا الحقيقية ، كقولنا : من سار من البصرة ندم.

فإنه يناسب الحكاية بها عن مفهوم كلي ينطبق على كثيرين ، لا عن مفهوم جزئي متشخص في واحد.

وأما تشخّص مؤداها من النسب وجزئيته فيما هو واحد موجود ـ من مفاد القضايا الحالية والماضية ـ فإنما هو لملازمة الوجود للتشخص ، لا لأخذ

٦٥

الخصوصية الشخصية في المفهوم ، لوضوح عدم اختلاف مفادها فيها مع مفادها في القضايا الاستقبالية ونحوها ، فالخصوصية من لوازم مفادها لا مقوّمة له ، نظير استعمال أسماء الأجناس وإرادة أفراد خاصة لها.

هذا ، ولكن التأمل في حال بعض النسب شاهد بأن انتزاع الصدق والكذب لا يتوقف على كون أدوات النسب حاكية عن واقع متقرر في نفسه ، بل قد يكون مع حدوث نحو من النسبة الكلامية التي لا تقرر لها لو لا الكلام ولا وجود لها بدونه ، كما هو الحال في نسبة الاستثناء حيث لا تقرر لها في نفسها ، بل هي اعتبار محض متفرع على اعتبار عموم الحكم في مقام الاستعمال لغير من ثبت له. فليس الواقع المتقرر مع قطع النظر عن الكلام إلا عدم ثبوت الأمر المحكوم به للمستثنى وثبوته لما عداه من أفراد المستثنى منه ، وكما يمكن بيانه ببيان حال كل من القسمين على حدة ، فيقال مثلا : تقبل شهادة العادل ولا تقبل شهادة غيره ، يمكن بيانه بإثبات الحكم للكل واستثناء بعض الأفراد ، فيقال : تقبل شهادة المؤمن إلا غير العادل ، وبنفيه عن الكل واستثناء بعضها ، فيقال : لا تقبل شهادة أحد إلا العادل وبوجوه أخر ، كأن يقال : إنما تقبل شهادة العادل ، أو : تقبل شهادة العادل فقط ، وغير ذلك.

وذلك يكشف عن عدم المطابق للنسبة الاستثنائية المؤداة بالأداة مع قطع النظر عن مقام البيان ، وعدم التقرر لها بواقع خارجي محكي بالأداة حكاية المعنى باللفظ. وإنما يكون الواقع معيارا في الصدق والكذب بلحاظ كون الداعي لإيجاد النسبة عند أهل اللسان هو بيانه ، لا مجرد وجوده كما في مثل الاستفهام والطلب من النسب الإنشائية على ما سبق. فالفرق بين أدوات الاستفهام مثلا وأدوات الاستثناء ـ بعد اشتراكها في كون مضامينها إيجادية ـ أن الأولى لا تساق لبيان أمر خارج عن مقام الكلام ، وإن كان لا بد فيها من غرض ، كسائر الأفعال الاختيارية ، أما الثانية فهي تساق لبيان ما يصحح انتزاعها عند

٦٦

أهل البيان من دون أن يكون المصحح المذكور محكيا بها حكاية المعنى باللفظ ، لتكون إخطارية. وحيث كان موضوع الصدق والكذب هو البيان تعين اتصاف الثانية بهما دون الأولى.

وكذا الحال في أدوات العموم ، لأن العموم أمر متقوّم باللحاظ في مقام الحكم من دون أن يكون له ما بإزاء في الخارج ، بل ليس في الخارج إلا ثبوت الأمر المحكوم به للأفراد كل على حدة ، وإن كان الحكم العام يتصف بالصدق والكذب بلحاظ ذلك.

ولعل مثل أدوات الاستثناء والعموم في ذلك بعض أدوات العطف والإضراب ـ ك (أو) و(بل) ـ فإن مفادها إيجاد نحو من النسبة القائمة بالكلام التي ليس لها واقع وراءه محكي بها ، وإن كان إيجادها قد يكون بداعي بيان واقع خاص يكون وجوده وعدمه معيارا في الصدق والكذب. وبالاستقراء والتأمل قد يظهر ذلك في غيرها مما يدل على النسب في ضمن الكلام القابل للاتصاف بالصدق والكذب.

وإذا ثبت عدم ملازمة اتصاف الكلام بالصدق والكذب لكون معاني الأدوات إخطارية فلا طريق لإثبات كون المعنى إخطاريا في شيء من الحروف والهيئات ، بل ربما تكون بأجمعها إيجادية ، بأن تكون أداة لتحقيق نحو من النسب الكلامية في مقام البيان وإن كان الداعي لها قد يكون هو بيان واقع خاص يكون مصححا لاعتبار تلك النسب ومعيارا في الصدق والكذب عند أهل البيان. وهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدس‌سره. ولعله الأقرب.

كما قد يناسبه ما هو المعلوم من إمكان بيان الواقع الواحد بصور مختلفة وبأكثر من نسبة واحدة تقوم بها الحروف والهيئات المختلفة ، فكما يصح أن تقول : سرت من البصرة ، يصح أن تقول : بدأت بالسير من البصرة ، وكما يصح

٦٧

أن تقول : كان سيري من البصرة ، يصح أن تقول : مبدأ سيري البصرة ، وكما تقول : سافر زيد ، تقول : تحقق من زيد السفر ، وتحقق سفر زيد ، وحقق زيد السفر ، وهكذا الحال في غيرها من المضامين. فلو لا أن النسب اعتبارية محضة لا تتقيد بواقع واحد لكان المناسب عدم الحكاية عن الواقع الواحد إلا بنسبة واحدة.

كما يناسب ذلك أيضا ما هو المشاهد بالوجدان من عدم تصور معاني الحروف والهيئات وعدم أدائها لمعانيها إلا في مقام الاستعمال في ضمن تركيب كلامي ، بخلاف الأسماء فإنها لما كانت مطابقة لواقع متقرر في نفسه أمكن تصور مسمياتها والحكاية بها عنها وإن لم تكن في ضمن تركيب كلامي.

وبذلك تكون الحروف وما ألحق بها أدوات للربط في مقام اللحاظ والبيان بين المفاهيم الاسمية المستقلة المتفرقة.

ولعل هذا هو منشأ الآلية التي ادعيت للحروف والهيئات تبعا للفارق الارتكازي بينها وبين الأسماء ، فيراد أنها آلات لإيجاد معان لا استقلال لها بأنفسها ، بل هي قائمة بغيرها ولا تلحظ إلا في ظرف تصوره في مقام البيان والإتيان بالتركيب الكلامي. وإلا خفي وجه كون المعنى الذي له تقرر مفهومي في نفسه آليا لا يتصور ولا يؤدى إلا في ضمن الكلام مع ما هو المعلوم من سعة الذهن في مقام اللحاظ والتصور.

نعم ، قيل في الآلية غير ذلك. لكن يضيق الوقت عن التعرض له وتعقيبه.

وبذلك يتعين كون معاني الحروف مطلقا جزئية ، لأن الإيجاد لا يكون إلا للجزئي ، غايته أن الواقع الخارجي الذي قد تساق لبيانه ويكون مصححا لانتزاعها عند أهل اللسان قد يكون كليا ، كما في القضايا الاستقبالية والطلبية

٦٨

ونحوها.

كما يتعين البناء على أن المعاني التي تتضمنها الحروف والهيئات ليست مصاديق للمفاهيم الكلية المذكورة في بيان معانيها ـ كالابتداء والانتهاء والظرفية ونحوها ـ لأن جزئيات تلك المفاهيم ليست أمورا اعتبارية تابعة للكلام ، بل لها نحو من التقرر في عالمها مع قطع النظر عن الكلام. غايته أنها قد تكون مصححة لاعتبار النسب المذكورة من دون أن تكون محكية بها. ولا يحسن تفسيرها بالمفاهيم المذكورة إلا تسامحا لضيق التعبير ، لتعذر تحديد المفاهيم الآلية الارتكازية على حقيقتها.

ولعل في محكي كلام السكاكي في المفتاح إشارة إلى ما ذكرنا ، قال : «المراد بمتعلقات معاني الحروف ما يعبر عنها عند تفسير معانيها ، مثل قولنا : (من) معناها ابتداء الغاية ، و(في) معناها الظرفية ، و(كي) معناها الغرض ، فهذه ليست معاني الحروف ، وإلا لما كانت حروفا ، بل أسماء ، لأن الاسمية والحرفية إنما هي باعتبار المعنى ، وإنما هي متعلقات لمعانيها ، أي إذا أفادت هذه الحروف معاني ترجع تلك المعاني إلى هذه بنوع استلزام».

تنبيهان

الأول : ربما تجعل ثمرة النزاع في كلية المعنى الحرفي وجزئيته قبوله للتقييد لو كان كليا وعدم قبوله له لو كان جزئيا ، لأن الجزئي لا يقبل الإطلاق فلا يقبل التقييد لتقابلهما تقابل العدم والملكة. ويترتب على ذلك الكلام في رجوع القيد في الواجب المشروط للهيئة ذات المعنى الحرفي أو للمادة ذات المعنى الاسمي. ومن ثم جزم شيخنا الأعظم قدس‌سره بامتناع رجوع القيد للهيئة ورجوعه للمادة مع اعترافه بأنه على خلاف مقتضى القواعد العربية. وقد حاول غير واحد التخلص عن الثمرة المذكورة بوجوه لا تخلو عن غموض أو إشكال ،

٦٩

ولا يسع المقام التعرض لها.

ولعل الأولى أن يقال : جزئية المعنى الحرفي إنما تمنع من نحو خاص من التقييد ، وهو الراجع إلى قصر المراد الجدي من الماهية على بعض أفرادها ، كالتقييد بلسان التوصيف ، ويقابله الإطلاق الراجع لعموم المراد الجدي من الماهية بتمام أفرادها ، لوضوح أنه لا موضوع لهما مع جزئية المفهوم وعدم انطباقه على كثير. أما ما لا يرجع من التقييد إلى ذلك ، بل إلى نحو من التضييق الراجع إلى قصور ما في الوجود الواحد المطابق للمعنى ، فالجزئية لا تمنع منه ، كما لا تمنع من الإطلاق الراجع إلى سعة الوجود المذكور ، لأن الوجود الواحد قابل للسعة والضيق معا.

ومن الظاهر أن تقييد الهيئة بالشرط لا يرجع إلى الأول ، فهو لا يقتضي حمل ماهية الطلب المستفاد من الهيئة على خصوص أفرادها الواجدة للشرط ، كما لا يقتضي إطلاقها إرادة ماهيته بتمام أفرادها ، بل ليس مقتضاه إلا إناطة الطلب الخاص المنشأ وتعليقه على الشرط بنحو يقصر عن حال فقده في قبال إطلاقها المقتضي لسعة الطلب الواحد بنحو يثبت في جميع الأحوال. فالفرق بينهما نظير الفرق بين الزوجية الدائمة والمنقطعة راجع إلى سعة الوجود وضيقه ، لا إلى كثرة الأفراد وقلتها. ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره بعض المحققين قدس‌سره من دعوى الفرق بين التقييد بمعنى التعليق والتقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى ، وأن الممتنع هو الثاني ، والمدعى في المقام الأول.

ومن الغريب ما سبق من شيخنا الأعظم قدس‌سره من رجوع الشرط للمادة مع اعترافه بأنه على خلاف القواعد العربية. إذ فيه : أن القواعد العربية ارتكازية ملازمة للظهور النوعي ، فكيف يكون مقتضى الارتكاز والظهور النوعي ممتنعا؟! بل ينبغي أن يكون ذلك كاشفا عن خلل في بعض مقدمات المدعى.

٧٠

هذا ، وقد منع بعض الأعاظم قدس‌سره من رجوع الشرط للهيئة ، لا لما سبق من جزئية المعنى الحرفي ، بل لأن الإطلاق والتقييد إنما يعرضان المفاهيم الاسمية الملحوظة استقلالا ، دون المفاهيم الحرفية التي هي آلية يتعذر لحاظها استقلالا.

لكنه يشكل بأن كون المعنى الحرفي آليا وإن ذكر في كلماتهم بنحو قد يظهر منهم التسالم عليه ، إلا أن المراد به لا يخلو عن غموض ، والمتيقن منه ما سبق من عدم تقرر المعنى الحرفي بنفسه بنحو يستقل بالتصوّر ، بل هو قائم بأطرافه فلا يتصور إلا عند تصورها في مقام البيان في ضمن الكلام ، وذلك إنما يمنع من التقييد الراجع إلى قصر الماهية على بعض أفرادها ، لأنه فرع تقرر المقيد في نفسه ، بنحو يكون له أفراد ، ولذا كان امتناع التقييد المذكور مطابقا للمرتكزات الاستعمالية ، أما التقييد بالنحو الآخر المتقدم فالوجه المذكور لا ينهض بالمنع عنه ، بل هو كتحديد النسبة بأطرافها ، لا بد من البناء على وقوعه بعد كونه هو المفهوم من الكلام ارتكازا.

التنبيه الثاني : يظهر مما سبق في حقيقة المعنى الحرفي أن الحروف والهيئات إن تضمنت نسبا ناقصة فهي قيود للنسب التامة أو لموضوعاتها ، وإن تضمنت نسبا تامة يحسن السكوت عليها فهي.

تارة : تتمحض في إنشاء مضامينها ولا تتصف بالصدق والكذب ، كحروف التمني والترجي وهيئة الأمر

وأخرى : تساق للحكاية عما يكون مصححا لاعتبارها. وهي التي تتصف بالصدق والكذب.

هذا ، ومن الظاهر أن هذا القسم كما يساق للحكاية ويتصف بالصدق والكذب ، كذلك قد يقصد به الإنشاء وإيجاد المحكوم به اعتبارا ، كما في صيغ

٧١

العقود والإيقاعات. وقد وقع الكلام في منشأ الفرق بين الاستعمالين وحقيقته.

ويظهر من المحقق الخراساني قدس‌سره اتحاد المعنى في الاستعمالين ، وأن الفرق بينهما ينحصر في اختلاف الداعي للاستعمال ، فهو في أحدهما الحكاية عن المعنى ، وفي الثاني إنشاؤه وإيجاده اعتبارا ، بل قد يظهر منه تعدد الوضع للمعنى الواحد بلحاظ اختلاف الداعي.

ويشكل بما هو المعلوم من استعمال صيغة الماضي والجملة الاسمية في الإنشاء مع تجرد الأولى عن الخصوصية الموجبة للدلالة على الماضي ، والثانية عن الخصوصية الموجبة للدلالة على الثبوت ، حيث يتحقق الأمر المنشأ في خصوص الزمان المتصل بالكلام. فإن ذلك كاشف عن اختلاف ما يستعمل فيه الكلام عند الإنشاء عما يستعمل فيه في مقام الحكاية ، بل الأمر كذلك حتى مع الإنشاء بصيغة المضارع ، لوضوح دلالتها في مقام الحكاية عن تحقق النسبة في مطلق الزمان المستقبل ، لا خصوص المتصل منه بالكلام.

ومن هنا كان الظاهر اختصاص الهيئات المذكورة وضعا بالأول ، وهو إيجاد النسب بداعي الحكاية عما يصحح انتزاعها بالخصوصيات الزمانية المذكورة ، لأن ذلك هو المتبادر منها. وأما استعمالها في مقام الإنشاء فهو مبني على القرينة والتوسع ـ بعد عدم وجود أداة كلامية صالحة له وضعا ـ مع تجريدها عما يناسب الخصوصيات الزمانية المذكورة. وأما تحقق المنشأ في الزمن المتصل بالكلام فليس ناشئا من أخذه في مؤدى الكلام ، بل لأن مقتضى طبع السبب تأثيره للمسبب بالمباشرة من دون فصل. ولذا قد يخرج عن ذلك بالتقييد ، والتعليق ، كما في الوصية التمليكية والتدبير ، حيث يكون التمليك والعتق فيها معلقا على موت الموصي والمدبّر.

وأما احتمال تعدد الوضع فلا مجال له بعد احتياج الاستعمال في مقام

٧٢

الإنشاء للقرينة دون الاستعمال في مقام الإخبار.

الأمر الرابع : في الاستعمالات المقبولة طبعا

لا يخفى أن الجري على مقتضى الوضع إنما يحسن بلحاظ كونه مقبولا عند أهل اللسان ارتكازا ، وعليه جرت سيرتهم. ومقتضى ذلك الجري على كل ما يناسب سيرتهم وارتكازياتهم في مقام البيان وإن لم يبتن على الوضع ، كما هو الظاهر في بعض الاستعمالات الشائعة عندهم.

منها : الاستعمالات المجازية ، بناء على كونها من استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، فإن الظاهر ابتناؤها حينئذ على مقتضى الطبع والذوق ، من دون نظر للوضع والواضع.

وأما ما قد يدعى من ابتنائها إما على وضع اللفظ للمعنى المجازي ـ كوضع لفظ الأسد للرجل الشجاع ـ وضعا شخصيا ثانويا في طول وضعه للمعنى الحقيقي ، بأن يبتني الاستعمال في المعنى المجازي على ملاحظة المعنى الحقيقي. وإما على وضع الألفاظ وضعا نوعيا بلحاظ خصوصيات العلاقات المجازية المختلفة كالمشابهة والملازمة ونحوها. وإما على ترخيص الواضع في الاستعمال فيما يناسب المعنى من دون نظر إلى خصوصيات العلاقات المجازية.

فلا مجال له ، للقطع بعد ملاحظة سيرة أهل اللسان بعدم تحقق شيء من ذلك.

بل يمنع من الأول تعذر حصر الموارد التي يصح فيها الاستعمال المجازي ، ليمكن الوضع الثانوي لكل منها. ومن الثاني عدم اطراد الاستعمال بلحاظ كل علاقة مجازية في كل لفظ موضوع. كما يمنع منهما معا عدم توقف اختيار المستعملين للعلاقة المجازية ولموردها على ثبوت استعمالها عند أهل

٧٣

اللغة بالنحو الذي يتحقق معه الوضع ، بل كلما كانت مخترعة للمستعمل مبتدعة له كان مجلّيا. ويمنع من الثالث ما سبق من عدم ثبوت واضع خاص في ألفاظ المفاهيم العامة التي بها تقوم اللغة ، وعدم تصدي الواضع في خصوص بعض الموارد ـ كالأعلام الشخصية والماهيات المخترعة ـ للترخيص المذكور. بل ليس المدار في المجاز إلا على طبع المستعملين وأذواقهم. ولذا اشترك في كثير من العلاقات المجازية أهل اللغات المختلفة.

نعم ، بناء على ابتناء الاستعمالات المجازية على ادعاء دخول مورد الاستعمال في المعنى الموضوع له ـ كما عن السكاكي ـ تكون الاستعمالات المجازية مبتنية على الوضع ، لا خروجا عنه ، ويكون الطبع مصححا للادعاء المذكور ، لا للاستعمال ، ويخرج عن محل الكلام.

ومنها : استعمال اللفظ وإرادة اللفظ دون المعنى في مثل قولنا : (ضرب فعل ماض) و(من حرف جر). فإنه لا يبتني على وضعه لذلك ، ولا على استعماله فيه مجازا ، لعدم العلاقة المصححة لذلك ، بل على محض الجري على مقتضى الطبع. وإن كان الوقت يضيق عن تحقيق حاله وتفصيله.

نعم ، لا إشكال في أن الاستعمالات المذكورة في الموردين على خلاف مقتضى الأصل المعول عليه عند العقلاء وأهل البيان ، فتحتاج إلى القرينة ، وبدونها يحمل استعمال اللفظ على إرادة معناه الموضوع له ، لأنه مقتضى الطبع الأولي ، الذي يجري عليه البيان في تفهيم المقاصد وفهمها بمقتضى سيرة أهل اللسان وارتكازياتهم.

الأمر الخامس : في علامات الحقيقة

حيث عرفت حقيقة الوضع ثبوتا يقع الكلام في طريق إحرازه إثباتا. ولا يراد به إحرازه بالحجة ظاهرا الذي يكفي في مقام العمل ، لأن ذلك من المقاصد

٧٤

الموكولة لمباحث الحجج ، حيث وقع الكلام هناك في حجية قول اللغويين ، بل إحرازه واقعا بالعلم الوجداني بالنظر لبعض آثاره ولوازمه.

وقد ذكروا لذلك أمورا جعلوها علامات له.

الأول : التبادر. وهو عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بنفسه من دون حاجة للقرينة ، بحيث يكون اللفظ مؤديا للمعنى وموجبا لحضوره في الذهن ، لوضوح أن ذلك لا يكون إلا بسبب العلاقة الخاصة بين اللفظ والمعنى التي هي نتيجة الوضع ، فيدل عليها دلالة الأثر على المؤثر.

وقد استشكل فيه : بأن مجرد الوضع لا يكفي في التبادر ما لم يكن معلوما ، فإن كان التبادر موجبا للعلم الذي هو شرط في حصوله لزم الدور ، وإن كان موجبا لفرد آخر من العلم لزم اجتماع المثلين. مع أنه موجب للغوية علامية التبادر ، لوفاء العلم المذكور بالغرض ، فلا يحتاج للتبادر.

وأجيب عن ذلك : بأنه يكفي في التبادر العلم الارتكازي بالمعنى بسبب الاطلاع على استعمالاته المختلفة وإن لم يلتفت إليه تفصيلا بنحو يعمل عليه عند إرادة ترتيب أثره ، ويتجلى بالتبادر مفاد الارتكاز المذكور بنحو يترتب عليه العمل ، فما يترتب على التبادر نحو من العلم مخالف لنحو العلم الذي يتوقف عليه التبادر ، لا عينه ، ولا مثله.

نعم ، لا بد من العلم باستناد التبادر للفظ من دون دخل قرينة عامة أو خاصة فيه ، ومع الشك لا يصلح التبادر لإحراز الوضع.

ودعوى : أن الأصل عدم القرينة.

مدفوعة ـ مضافا إلى ما سبق من أن الكلام فيما يوجب العلم الوجداني بالوضع ، والأصل المذكور لا يوجب ذلك ، بل غايته لزوم العمل به تعبدا ـ بأن

٧٥

الأصل المذكور إن رجع إلى الاستصحاب الشرعي فهو مثبت ، لأن ملازمة عدم القرينة حين التبادر لحجية اللفظ في الدلالة على المعنى ليست شرعية ، بل خارجية بتوسط الملازمة بين تبادره منه من دون قرينة ووضعه له ، وبين وضعه له وظهوره فيه ، وبين ظهوره فيه وحجيته فيه.

وإن كان أصلا عقلائيا مستقلا في نفسه فلم يثبت بناء العقلاء وأهل اللسان عليه في تشخيص حال التبادر مع الشك في الوضع ، كما لم يثبت بناؤهم عليه في تشخيص حال الاستعمال حينئذ ، بل غاية ما ثبت منهم الاعتماد عليه في تشخيص حال الاستعمال مع العلم بالوضع لو احتمل خروج المتكلم عن مقتضاه اتكالا على قرينة خفيت على السامع.

ولعل الوجه في الفرق : أن همّ العقلاء وعامة أهل اللسان معرفة مراد المتكلم للعمل عليه ، فلو بني على التوقف عن حمله على المعنى الموضوع له بمجرد احتمال قرينة خفيت على السامع سقطت فائدة الكلام في كثير من الموارد ، لعدم الإحاطة بموارد احتمال القرينة ، ليتسنى للمتكلم سدّها بالطرق القطعية. أما تحقيق منشأ التبادر ، أو كيفية الاستعمال ، مع معرفة المعنى المتبادر إليه أو المستعمل فيه ، وأنهما يستندان للفظ وحده ليكشف عن الوضع ، أو للقرينة فلا يكشف عنه ، فهو همّ الخاصة ممن استجدت لهم الحاجة لتحقيق المعنى الموضوع له ، ولا غرض فيه لعامة أهل اللسان أو العقلاء بمرتكزاتهم البيانية أو العقلائية ، ليتضح مبناهم وسيرتهم العملية فيه ، بمقتضى ارتكازياتهم التي يكون مقتضى الأصل موافقة الشارع لهم فيها.

ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال على وضع اللفظ للمعنى باستعمال أهل اللغة فيه ، تحكيما لأصالة الحقيقة وعدم القرينة. بل الاستعمال أعم من الحقيقة من هذه الجهة.

٧٦

الثاني : صحة الحمل وعدم صحة السلب. فقد ذكروا أن حمل اللفظ بما له من المعنى على شيء وعدم صحة سلبه عنه علامة على كونه حقيقة فيه.

كما أن صحة سلبه عنه وعدم صحة حمله علامة على عدم كونه حقيقة فيه ، بل لو استعمل فيه كان مجازا.

وتوضيح ذلك : أنه حيث كان مفاد الحمل بين الشيئين هو الاتحاد بينهما فلا بد فيه من جهة اتحاد بينهما ، ولا يصح مع الاختلاف بينهما من جميع الجهات ، كما أنه حيث كان حمل الشيء على نفسه مستهجنا ، لخلوه عن الفائدة فلا بد فيه من جهة اختلاف بينهما.

ومن هنا فالحمل عندهم قسمان :

أولهما : الحمل الأولي الذاتي. وملاكه الاتحاد بين طرفيه مفهوما مع التغاير بالاعتبار ، كالحمل بين المترادفين في مثل قولنا : القط هو الهر ، والحمل بين الحد التام والمحدود في مثل : الإنسان حيوان ناطق. والحيوان الناطق إنسان. وحينئذ إن صح سلب أحد المعنيين عن الآخر ولم يصح حمله عليه بالحمل الأولي الذاتي علم عدم وضع لفظ أحدهما للآخر وعدم كون استعماله فيه حقيقيا. وإن صح الحمل المذكور بين شيئين ولم يصح سلب أحدهما عن الآخر علم وضع لفظ أحدهما للآخر ، وكون استعماله فيه حقيقيا ، لأن مفاد الحمل وإن كان هو اتحاد المعنيين من دون نظر للفظ ، إلا أن لازم اتحاد المعنيين مفهوما كون اللفظ الموضوع لأحدهما موضوعا للآخر.

نعم ، لا بد من كون لفظ المحمول حقيقة في معناه المراد به حين الحمل ، ليستلزم كونه حقيقة في مطابقه الذي صح حمله عليه. وإليه يرجع ما سبق من تقييده بكون المحمول هو اللفظ بما له من المعنى ، فإن المراد به هو معناه الذي ينسب له ـ لكونه الموضوع له ـ لا معناه المراد به حين الحمل ولو مجازا.

٧٧

ثانيهما : الحمل الشائع الصناعي. وملاكه الاتحاد بين طرفيه خارجا مع الاختلاف مفهوما ، إما لكون الموضوع من أفراد المحمول ، لأن المحمول عنوان ذاتي له ، كحمل الإنسان على زيد ، أو عنوان عرضي له كحمل الأبيض على زيد ، وإما لتطابقهما في الأفراد ، كحمل النوع على الخاصة أو بالعكس في مثل قولنا : الضاحك إنسان ، أو : الإنسان ضاحك.

ولا يخفى أن الحمل المذكور لا يكشف عن معنى اللفظ الموضوع له وتحديد مفهومه ، بل عن سعة مفهوم اللفظ وانطباقه على ما حمل عليه بنحو يكون استعماله فيه حقيقة ، فهو غير صالح لمعرفة المعنى وتحديده من جميع الجهات. بل من الحيثية المذكورة لا غير. نعم لو كان معلوما من بقية الجهات كان الحمل متمما لمعرفته. أما لو لم يصح الحمل المذكور وصح سلبه عنه فإنه يكشف عن عدم سعة مفهوم اللفظ له وعدم انطباقه عليه ، فلو صح استعماله فيه كان مجازا.

هذا ، ولكن الحمل وعدم صحة السلب بقسميه وإن كان ملازما للحقيقة إلا أنه لا يصح جعله علامة لها ، لتوقفه على العلم بتحقق النسبة المصححة له بين الطرفين ، ومع العلم بها يعلم بالحقيقة فلا يكون علامة لها وسببا للعلم بها ، وإلا لزم الدور أو اجتماع المثلين ولغوية العلامية المذكورة نظير ما سبق في التبادر.

وقد حاول غير واحد توجيه ذلك بالاكتفاء في حصوله بالعلم الارتكازي ، كما سبق في التبادر. لكنه يشكل بالفرق بين الحمل والتبادر بأن التبادر من سنخ الانفعال الذهني ، فتكفي فيه العلاقة الذهنية الارتكازية ، بخلاف الحمل وعدم صحة السلب ، لأنهما نحو من الحكم ، وهو لا يتسنى للحاكم ما لم يتوجه تفصيلا للنسبة التي تضمنها ولطرفيها ، ولا يتسنى له العلم بصحتها ما لم يتوجه تفصيلا لما يصححها ويطابقها في عالمه ، ولا يكفي فيه

٧٨

الوجود الذهني الارتكازي من دون أن يتجلى له ويستوضحه تفصيلا.

الثالث : الاطراد. فعن بعض المتأخرين عدّه من علامات الوضع.

ويظهر من بعضهم أن المراد منه أن اطراد استعمال اللفظ في المعنى كاشف عن وضعه له.

وقد استشكل فيه المحقق الخراساني قدس‌سره بأن المجاز وإن لم يطرد بلحاظ نوع العلاقة المجازية كالمشابهة والملازمة ونحوهما ، إلا أنه قد يطرد بلحاظ خصوص مواردها ، كالشجاعة المصححة لاستعمال الأسد ، والخبث المصحح لاستعمال الذئب ، والمكر المصحح لاستعمال الثعلب ونحوها.

وتقييد الاستعمال الذي يكون اطراده علامة بما إذا لم يكن بعناية ، مستلزم للغوية علاميته وابتنائها على الدور أو اجتماع المثلين ، نظير ما سبق في صحة الحمل وعدم صحة السلب ، إذ لا بد من العلم بالعلامة تفصيلا ، ومع العلم بعدم العناية في الاستعمال يعلم بالوضع للمعنى المستعمل فيه في مرتبة سابقة على تحقق العلامة.

وقد ظهر من جميع ما تقدم انحصار علامة الوضع والحقيقة بالتبادر ، دون صحة الحمل وعدم صحة السلب ، والاطراد.

نعم ، سبق أن علامية التبادر مشروطة بإحراز استناده لحاق اللفظ ، وإحراز ذلك يحتاج إلى مئونة ، إذ كثيرا ما تكون القرائن الدخيلة مغفولا عنها ، خصوصا العامة منها ، ككثرة الابتلاء بالمعنى ، الموجبة لاشتباه الانصراف بالتبادر ، وكمقدمات الحكمة الموجبة لاشتباه مقتضى الإطلاق بالمعنى المتبادر إليه ، وكشيوع التلازم بين المعنيين الموجب لاشتباه معنى اللفظ بلازم معناه ، ونحو ذلك مما يحتاج معه تمييز حال التبادر لمزيد من التأمل والتروي.

ومن أهم ما يستعان به في ذلك الاطراد وصحة الحمل وعدم صحة

٧٩

السلب ، حيث يظهر بالاطراد عدم دخل كثير من الأمور ـ التي يحتمل قرينيتها ويطرد الاستعمال بدونها ـ في التبادر ، وبعدمه عدم الوضع للمعنى على إطلاقه ، أو عدم استناد التبادر لحاق اللفظ ، بل للقرائن التي يتخلف بتخلفها.

كما يظهر بصحة الحمل وعدم صحة السلب سعة المفهوم ، فلو تبادر خصوص بعض أفراده انكشف كونه من سنخ الانصراف المستند لبعض القرائن ، ويظهر بصحة سلب اللفظ عن بعض أفراد المعنى المتبادر إليه وعدم صحة حمله وجود خلل في تبادر المعنى على إطلاقه .. إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد من التأمل في حدود المعنى وخصوصياته.

ومن هنا فالعلامات الثلاث كثيرا ما تشترك بمجموعها في تحديد معنى اللفظ ، ويستعين بها الفاحص المتثبت في الوصول إلى ما خفي من جهاته ، فلا ينبغي الاكتفاء بالتبادر والتسرع في الاستنتاج بسببه.

تنبيه :

لا يخفى أن العلامات المذكورة إنما تشخص المعنى الثابت للفظ حين حصولها ، دون المعنى الثابت له حين صدور الاستعمال الذي يراد تشخيص مفاده ، كالاستعمال الوارد في الكتاب والسنة ، فاللازم الفحص عما إذا كان هناك بعض الاستعمالات أو الأمارات الكاشفة عن تبدل المعنى ، فإن أحرز ذلك لم يعمل على المعنى الحالي ، بل على المعنى الأول لو أمكن تشخيصه بالطرق المعتبرة.

وإن شك في تبدل المعنى فقد صرحوا بأن اللازم العمل على المعنى الحالي لأصالة تشابه الأزمان وعدم النقل ، المعول عليها عند العقلاء وأهل اللسان ، حيث لا إشكال عندهم في حمل الاستعمالات القديمة ـ في الكتاب والسنة وكلام العلماء والمؤرخين والكتاب والشعراء والوصايا والأوراق

٨٠