الكافي في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

الكافي في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
المطبعة: فاضل
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-8276-64-0
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٢

منشأ انتزاع العنوانين كذلك يمكن مع اتحاد منشأ انتزاعهما ، وإنما الفرق بينهما في استفادة ذلك إثباتا من الإطلاقين ، حيث ينهض الإطلاقان بذلك عرفا مع اختلاف منشأ الانتزاع ، ولا ينهضان به مع اتحاده ، بل يكونان فيه متعارضين عرفا ، ومع فرض تقديم النهي لا مجال لإحراز ملاك الأمر.

لكن لا بد في المقام من إحراز ملاك الأمر ، لأن كراهة العبادة وعدم حرمتها تستلزم مشروعيتها وصحتها التي هي فرع ثبوت ملاكها. ومن هنا يمكن حمل الكراهة المستفادة من النهي على أحد وجهين :

الأول : الكراهة الحقيقة الراجعة إلى مرجوحية الفعل ، وذلك بأن يكون المجمع واجدا لملاكها مع ملاك الأمر المفروض. وحينئذ إن كان الأمر بدليا لا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة ـ كالصلاة في الحمام أو في السواد بالإضافة إلى وجوب صلاة الفريضة واستحباب صلاة النافلة المرتبة ، وصوم يوم عاشوراء بالإضافة إلى صوم القضاء ـ تعين عدم التزاحم بين الحكمين ، وعموم الحكم البدلي لمورد الكراهة ، بناء على ما سبق منا من عدم التضاد التام بين الأمر البدلي والنهي.

وإن كان بدليا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة ـ كالصلاة المذكورة مع ضيق الوقت ـ أو استغراقيا شاملا لمورد الكراهة ـ كالنوافل المبتدأة في الأوقات المكروهة ، واستحباب مطلق الصوم بالإضافة إلى يوم عاشوراء ـ لزم التزاحم بين الحكمين ، فإذا كان ملاك الأمر إلزاميا كان الأمر فعليا دون الكراهة فلا يتأتى توهم مانعيتها من التقرب الذي تقدم الكلام فيه. ومع عدم كون الأمر إلزاميا يتعين الترجيح بالأهمية.

فإن كان الأمر أهم لم تكن الكراهة فعلية وإن كان ملاكها فعليا. وإن كانت الكراهة أهم لم يكن الأمر فعليا ، كما هو الظاهر من مثل صوم يوم عاشوراء ،

٤٨١

حيث يظهر من أدلة النهي عنه مرجوحيته ، بحيث يكون تركه أرجح من فعله (١). بل قد يكون ظاهرها الحرمة ، لو لا المفروغية ظاهرا عن مشروعيته. وإن كان تحقيق ذلك موكولا للفقه.

نعم هذا لا ينافي إمكان التقرب بالفعل العبادي بلحاظ ملاكه وإن امتنع الأمر به. ولا فرق بينه وبين سائر موارد التزاحم المعهودة إلا في أن التزاحم في تلك الموارد اتفاقي ، فيكون التكليف في غير مورد المزاحمة فعليا ، وفي المقام دائمي لا يكون المرجوح فيه فعليا دائما ، مع اشتراكهما في إمكان تحصيل ملاك المرجوح ، فيمكن التقرب به بلحاظ ذلك بعد ما سبق في القسم الأول من عدم مانعية الكراهة من التقرب.

ودعوى : أنه يمتنع بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية التي يصلح معها للمقربية ، لأنه حيث يلزم من تحصيله فوت ملاك الأهم ينبغي على المولى سدّ باب تحصيله برفع اليد عنه بنحو لا يصلح أن ينسب إليه الفعل ويؤتى به لأجله ، منعا من تفويت الملاك الأهم ، ويبقى ملاكا اقتضائيا ، كما في سائر موارد التزاحم الملاكي.

مدفوعة : بأنه مع بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية وصلوحه للمقربية لا وجه لسدّ باب تحصيله بمجرد مزاحمته للملاك الأهم ، إذ لا يجب على المولى تحصيل الملاك الأهم في الخارج وتعجيز المكلف عن تفويته ، بل غاية ما يلزمه هو حفظه تشريعا ، وهو حاصل بتشريع الكراهة المفروض أهميتها.

الثاني : الكراهة الإضافية الراجعة إلى نقص الفرد المرجوح بلحاظ ماهية المأمور به بطبعها من حيث هي وإن كان راجحا في نفسه. وذلك أن الماهية المأمور بها قد يكون لها بنفسها نحو من الأثر والملاك مع قطع النظر عن

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٧ باب : ٢١ من أبواب الصوم المندوب.

٤٨٢

المشخصات والمقارنات. أما تشخصها في بعض الأفراد ومع بعض المقارنات .. فتارة : لا يكون له دخل في الأثر المذكور ، وأخرى : يختص بميزة لا تلائمه ، بل تقتضي نقصه ، وثالثة : يختص بميزة تلائمه وتقتضي زيادته. والأول هو الفرد العادي ، والثاني هو الفرد المكروه ، والثالث هو الفرد المستحب. وإن كان الكل مؤديا للمقدار الداعي لتشريع أصل الماهية وجوبا أو استحبابا ، ولذا كان مجزيا ، فيكون راجحا حقيقة ، وليست كراهة المكروه إلا إضافية بلحاظ الماهية بطبعها.

نعم الكراهة المذكورة إنما تصحح النهي الشرعي مع وجود المندوحة وإمكان تحصيل ملاك الأمر بالطبيعة في فرد لا نقص فيه ، أما مع عدمها وانحصار الامتثال بالفرد الناقص فلا يصح النهي عنه لأجلها ، إذ به ينحصر حصول ما يمكن تحصيله من الملاك الراجح.

ومن هنا لا مجال لتنزيل كراهة صوم يوم عاشوراء على هذا الوجه ، لعدم اختصاصها بمثل صوم القضاء مما يمكن امتثاله في غير اليوم المذكور ، بل يعم صوم التطوع الاستغراقي الراجع لاستحباب صوم كل يوم لملاك يخصه لا يفي به غيره. فيتعين تنزيل كراهته على الوجه الأول.

الأمر الثالث : بعد فرض اجتماع ملاكي الأمر والنهي في المجمع فقد تقدم في الأمر الأول لزوم تقديم النهي عملا ، لأن مفروض كلامهم وجود المندوحة في امتثال الأمر ، وأنه مع عدم المندوحة فيه وانحصار امتثاله بمورد الاجتماع يلحق المورد بالتزاحم الذي يتعين فيه تقديم الأهم.

وعلى ذلك لو فرض تقديم النهي في المجمع ـ لوجود المندوحة أو لأهميته مع عدمها ـ إلا أن المكلف اضطر لارتكاب أحد أفراد الماهية المحرمة التي منها المجمع فلا إشكال في سقوط النهي عن الفعلية في تمام أفراد الماهية ـ

٤٨٣

ومنها المجمع ـ بنحو البدلية مطلقا ولو كان الاضطرار بسوء الاختيار ، لما تقدم من امتناع التكليف مع تعذر امتثاله ، للزوم اللغوية. وحينئذ يلزم البناء على وجوب المجمع ، لأنه بعد فرض عدم تأثير ملاك النهي بسبب الاضطرار يتعين تأثير ملاك الأمر وفعليته.

لكن يظهر من المحقق الخراساني قدس‌سره امتناع الأمر مع كون الاضطرار بسوء الاختيار ، لكون الفعل حينئذ معصية ومبغوضا مستحقا عليه العقاب ، وذلك ينافي الأمر به ، لأنه فرع محبوبيته ، ومستلزم لكونه طاعة مستحقا عليه الثواب. وهو الفارق بينه وبين الاضطرار لا بسوء الاختيار.

ويشكل بأن مبغوضية الماهية من حيثية تفويت الملاك الأهم لا تنافي محبوبية خصوص المجمع بعد فوت الملاك المذكور ـ بسبب الاضطرار ـ من أجل تحصيل الملاك المهم ، فهو بعد الاضطرار محبوب فعلا وإن كان مبغوضا اقتضاء. ولا فرق بين الاضطرارين بالإضافة للملاك الذي هو المعيار في المحبوبية والمبغوضية ، والأمر والنهي. بل تقدم أن التكاليف الشرعية لا تنتزع من المحبوبية والمبغوضية ، بل من الخطاب بداعي التشريع ، وهو تابع لحال الملاك ، الذي لا يفرق فيه بين الاضطرارين ، كما ذكرنا.

وإنما الفرق بينهما في استحقاق العقاب على الحرام وعدمه. ولا دخل لذلك في إمكان الأمر ، إذ المؤاخذة على الحرام مع كون الاضطرار بسوء الاختيار لا تبتني على كونه حين وقوعه معصية فعلية ، كيف ولا إشكال في سقوط النهي قبل الفعل ، بل على كون إيقاع النفس في الاضطرار مصححا للعقاب عليه بلحاظ تفويت ملاك الحرمة به ، وهو لا ينافي الأمر به تبعا للملاك الآخر بعد فرض فوت الملاك الأهم بسبب الاضطرار ، فيقع امتثالا للأمر الذي صار فعليا بعد الاضطرار ، وإن كان فعل سبب الاضطرار منشأ للعقاب عليه ، لاستناد تفويت الملاك إليه.

٤٨٤

ونظير ذلك ما إذا لاحظ المولى ملاكا ، وجعل التكليف لحفظه ، فألجأه المكلف لرفع اليد عن ذلك التكليف مع بقاء ملاكه بإحداث الملاك الأهم المزاحم له ، حيث يكون إحداث الملاك المذكور بمنزلة التعجيز عن التكليف الأول في استحقاق عقاب مخالفته ، كالمعصية له ، وإن تعين على المولى التكليف على طبق الملاك الأهم الحادث بفعل المكلف ، كما يتعين على المكلف امتثاله بعد فعليته. كما لو أوجب المولى حفظ الماء لأمر يهمه ، ففعل المكلف ما يوجب عطش من يهتم المولى بحفظه ، واضطر بذلك المولى لرفع اليد عن التكليف المذكور والأمر بصرفه في رفع عطشه ، فإنه يستحق بسبب فعل ما يوجب العطش العقاب على صرف الماء وتفويت ذلك الأمر المهم ، وإن كان المولى قد أوجب عليه صرفه في رفع العطش بعد حصوله.

ودعوى : أن العقاب في مثل ذلك على إحداث الملاك الأهم وهو فعل سبب العطش ، لا على صرف الماء المأمور به بعد حصول العطش. مدفوعة :

بأن إحداث الملاك الأهم وإن كان هو منشأ في استحقاق العقاب ـ نظير إحداث سبب الاضطرار في المقام ـ إلا أن العقاب بلحاظ الملاك الفائت ، ولذا يكون تابعا له قلة وكثرة. وإن أبيت فيه إلا عن ذلك جرى مثله في المقام ، لأنهما من باب واحد ، فيلتزم في المقام بأن العقاب على إحداث سبب الاضطرار.

وكيف كان فالمتعين في المقامين البناء على أن استحقاق العقاب على تفويت الملاك بسبب الاضطرار أو إحداث الملاك المزاحم لا ينافي الأمر على طبق الملاك الآخر الممكن التحصيل أو اللازم التحصيل لأهميته ، لعدم رجوع استحقاق العقاب بعد التفويت بأحد الوجهين إلى الوعيد المستتبع للداعي العقلي المنافي لمقتضى الأمر ، بل هو أمر واقعي لا أثر له في مقام العمل ، ولا ينافي الأمر.

ومن ذلك يظهر إمكان التقرب مع الاضطرار للحرام ، لأن الأمر بالشيء

٤٨٥

مستلزم لمقربيته. بل يكفي فيه سقوط النهي بسبب الاضطرار وعدم تأثير ملاك الحرمة معه في المبعدية والتمرد بالعمل ، حيث يمكن حينئذ التقرب بالملاك غير المزاحم. ولا يمنع منه كون الاضطرار بسوء الاختيار ، لأن التمرد معه إنما يكون بفعل سبب الاضطرار ، لا بفعل نفس الحرام بعده. والعقاب على فعل الحرام حينئذ ليس لكونه بنفسه تمردا ، بل بمعنى عدم معذرية الاضطرار في الإتيان به.

وبعبارة أخرى : ظرف القبح الفاعلي المنافي للتقرب هو ظرف الإتيان بسبب الاضطرار ، لا ظرف فعل الحرام ، وإنما هو ظرف القبح الفعلي الذي يستحق عليه العقاب من دون أن يمنع من التقرب.

نعم لا بد ـ مع ذلك ـ من الالتفات إلى سقوط الحرمة بسبب الاضطرار ، بحيث يكون الارتكاب لأجل ذلك ، لا لعدم الاهتمام بمخالفة المولى والتمرد عليه على كل حال ، بحيث تستمر حالة التمرد الحاصلة حين فعل سبب الحرام إلى حين فعل الحرام ، فيفعله تمردا على المولى ، لا لأجل سقوط حرمته ، والوجه في ذلك أن سقوط الحرمة بالاضطرار من سنخ العذر الذي لا أثر له في المعذرية وفي رفع التمرد ما لم يلتفت له المكلف ، ويعتمد عليه.

وأظهر من ذلك ما لو حصلت التوبة الماحية للذنب ووقع الندم على التورط بفعل سبب الاضطرار حيث لا إشكال حينئذ في إمكان التقرب. وما عن الجواهر من أن التوبة إنما يترتب عليها الأثر إذا كانت بعد الفعل لا قبله. إنما يتجه فيما إذا كان التمرد بنفس الفعل ، لا في مثل المقام مما يكون فيه التمرد سابقا على الفعل بفعل سبب الاضطرار مع لا بدية الفعل معه. مع أنه لو تم مختص بأثر التوبة الراجع للشارع وهو مسقطيتها للعقاب ، دون مثل التقرب من الآثار التكوينية حيث لا ريب في إمكانه معها. فلاحظ.

٤٨٦

ولنكتف بما ذكرنا من الكلام في الاضطرار ، حيث يغني عن الكلام فيما أطالوا فيه من حكم الخروج عن الأرض المغصوبة لمن دخلها بسوء اختياره ، لأن المهم من ذلك هو إمكان التقرب بالعبادة المبنية على التصرف في المغصوب حال الخروج ، وقد ظهر حاله مما سبق. وأما نفس حكم الخروج فلا يهم الكلام فيه بعد المفروغية عن لزومه عقلا ولو لتجنب أشد المحذورين. ومنه سبحانه نستمد التوفيق ، والحمد لله رب العالمين.

٤٨٧

الفصل السادس :

فی اقتضاء النهي الفساد

وقع الكلام بينهم في أن النهي عن العبادة أو المعاملة هل يقتضي الفساد أو لا؟

ولا يخفى أن عدّ هذه المسألة من مسائل الملازمات العقلية يبتني على ما هو الظاهر منهم من عدم الفرق في محل الكلام بين استفادة النهي من دليل لفظي واستفادته من غيره ، إذ عليه يكون موضوع البحث هو الملازمة بين النهي والفساد ثبوتا ، لا ظهوره فيه إثباتا.

نعم قد ينافي ذلك ما عن بعضهم من دلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة فيها ، فلو كانت المسألة عقلية لكان اللازم عدّ القول المذكور قولا بالنفي ، لا قولا بالإثبات ، كما عن بعضهم. لكن لا مجال لرفع اليد بذلك عما سبق. فالأولى إدخال المسألة في الملازمات العقلية وعدّ القول المذكور قولا بالنفي ، فإنه أولى بنظم البحث. ولا سيما مع قرب كون منشأ القول المذكور دعوى الملازمة الشرعية بين الحرمة والفساد ـ لظهور بعض النصوص في ذلك كما يأتي ـ وإن لم تستفد الحرمة من دليل لفظي ، حيث لا مجال مع ذلك لكون المسألة من مباحث الألفاظ.

هذا وقد تقدم في المسألة الخامسة من مبحث حقيقة الأحكام الوضعية من المقدمة أن الصحة والفساد في العمل منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الغرض المهم عليه ، فما تم فيه ما يعتبر في ترتب الغرض المهم هو الصحيح ، وغيره الفاسد. وحينئذ لما كان الغرض المهم من فعل العبادة هو

٤٨٨

الإجزاء والخروج عن مقتضى الأمر بها كان المبحوث عنه في المقام منافاة النهي عنها لترتبه ، أما الغرض المهم من المعاملة ـ عقدا كانت أو إيقاعا ـ فهو ترتب مضمونها شرعا ، فيكون المبحوث عنه في المقام منافاة النهي لذلك.

وحيث كان منشأ المنافاة في كل منهما مباينا لمنشئه في الآخر كان البحث في مقامين.

المقام الأول

في العبادات

وقد يقرب اقتضاء النهي عنها فسادها بمنافاة النهي للأمر بها الذي لا بد منه في مشروعية العبادة وصحتها. وهو يبتني على ما تقدم في المسألة السابقة من التضاد بين الأحكام.

لكن قد تقدم المنع من عمومه لما إذا كان الأمر بدليا يمكن امتثاله بغير مورد النهي. على أن المفروض في محل الكلام إن كان هو إحراز ملاك الأمر في مورد النهي ـ بدليل خاص أو بمقتضى الضابط المتقدم في تلك المسألة ـ فمن الظاهر أن ذلك يكفي في صحة العبادة وغيرها مما يؤمر به ولو مع سقوط الأمر. وإن كان المفروض عدم إحراز ملاك الأمر في مورد النهي فذلك هو منشأ الفساد ثبوتا ، دون النهي. غاية الأمر أن دليل النهي قد يمنع من إحراز ملاك الأمر من إطلاق دليله ، وهو أمر آخر غير اقتضاء النهي الفساد.

مضافا إلى أن الوجه المذكور لا يختص بالعبادة ، بل يجري في كل مأمور به وإن كان توصليا ، لوضوح أنه لا مجال لإجزاء ما لا يشمله الأمر ، ولا يكون واجدا لملاكه ، مع أن ظاهر أخذهم العبادة في موضوع الكلام خصوصيتها في اقتضاء النهي الفساد.

٤٨٩

ومن هنا كان الظاهر ابتناء اقتضاء النهي الفساد على مانعية النهي الفعلي من التقرب ولو مع إحراز الملاك ، بل ولو مع عموم الأمر لمورد النهي ، إما لإمكان اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان ، أو لعدم التضاد التام بين النهي والأمر البدلي. وقد تقدم تفصيل الكلام في الأمرين في المسألة السابقة.

ويترتب على ذلك أمور :

الأول : اختصاص اقتضاء النهي الفساد بما إذا التفت المكلف للنهي وكان منجزا بعلم أو حجة أو أصل. أما مع عدم تنجزه أو مع الغفلة عنه أو عن تنجزه ـ ولو تقصيرا ـ فيمكن التقرب به وجدانا. نعم قد يدعى عدم كفاية التقرب المذكور مع التقصير المصحح للعقاب ، وهو يبتني على تحديد التقرب المعتبر في العبادة الذي هو بالفقه أنسب. كما أنه لا يختص بالنهي الواقعي ، بل يجري مع اعتقاده خطأ أو احتماله بوجه منجز ولو مع عدم وجوده.

وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة الوجه الأول ، لوضوح التنافي بين الأمر والنهي بوجودهما الواقعي ولو مع عدم تنجزهما ، ولا أثر لتنجزهما فيه.

الثاني : اختصاص الاقتضاء بالنهي التحريمي ، دون التنزيهي ، لما تقدم في العبادات المكروهة من عدم مانعيته من التقرب. بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لعموم التنافي للنهي التنزيهي. إلا مع إمكان امتثال الأمر بغير مورد الكراهة ، لما تقدم عند الكلام في تضاد الأحكام من عدم التضاد أصلا بين الكراهة والأمر حينئذ.

الثالث : عموم اقتضاء النهي الفساد لمقدمة الحرام المأتي بها بقصد التوصل للحرام ، أو التي يترتب عليها الحرام قهرا ، لكونها حينئذ تمردا على المولى ، فلا يمكن التقرب بها ، كما تقدم عند الكلام في مقدمة الحرام في ذيل مبحث مقدمة الواجب. بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لأن

٤٩٠

وقوع المأمور به مقدمة للحرام الفعلي وإن كان قد يوجب سقوط الأمر للتزاحم ـ كما لو انحصر المأمور به بما يترتب عليه الحرام قهرا ـ إلا أنه لا ينافي ثبوت ملاكه فيه ، ويتعين معه الإجزاء.

بقي شيء

وهو أنه بناء على اقتضاء النهي الفساد لأحد الوجهين السابقين فالنهي في المقام يكون على وجوه ..

أولها : النهي المتعلق بالعبادة بنفسها وبتمامها. ولا إشكال في اقتضائه الفساد.

ثانيها : النهي عن جزئها. والأمر فيه كذلك ، لأن الجزء حيث كان عبادة يفسد بالنهي ، وفساده مستلزم لفساد الكل. إلا في فرض اجتزاء الشارع بالناقص ، نظير موارد حديث : «لا تعاد الصلاة ...» (١) ، أو فرض تداركه بإعادة الجزء في محله. ومنه يظهر أنه يكفي في الفساد كون الجزء عباديا وإن لم يكن المركب بتمامه كذلك.

ثالثها : النهي عن شرط العبادة. والظاهر أنه بنفسه لا يوجب فسادها ما لم يثبت مانعيته منها ومبطليته لها ، كما ثبت مانعية لبس الحرير للرجال من الصلاة زائدا على حرمة لبسه عليهم.

لكن ذكر بعض مشايخنا أن النهي عن الشرط يستلزم تقييد الشرط بغير الفرد المحرم ، ضرورة أن المأمور به لا بد من مغايرته في الخارج للمنهي عنه ، فالعبادة المقترنة بالشرط المنهي عنه لا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها ، فتقع فاسدة لا محالة. وهو لو تم لا يقتضي مبطلية الشرط المحرم ، بل عدم إجزائه

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ باب : ١٠ من أبواب الركوع حديث : ٥.

٤٩١

ولزوم تحقق الفرد الحلال من الشرط ، كما لعله عليه يبتني كلامه في الفقه.

وفيه : أن تقييد المأمور به بالشرط لا يرجع للأمر بالشرط ، كي يدعى منافاة النهي له ، ويلزم قصور الشرط المأمور به عن الفرد المنهي عنه ، بل هو راجع إلى أن المأمور به هو خصوص المقارن للشرط بنحو لا يسع غيره من دون أن يكون الشرط نفسه مأمورا به. ولذا قد يكون الشرط غير اختياري كالوقت ، على ما تقدم توضيحه في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية من مبحث مقدمة الواجب. وحينئذ لا ينافيه حرمة الشرط بوجه.

فوجوب خصوص الصلاة المقارنة للستر مثلا لا تنافي حرمة الستر بوجه ، فلا ملزم بتقييد الستر الذي هو شرط في الصلاة بخصوص الفرد الحلال. إلا أن ينحصر الشرط بالحرام ، حيث يلزم التزاحم بين الحكمين. وهو خارج عن محل الكلام.

ومثله ما ذكره بعض المحققين قدس‌سره في وجه اقتضاء النهي عن الشرط البطلان من أن التقرب بالمتقيد بالمبغوض كالتقرب بالمبغوض ، وكذا الأمر بالمتقيد بالمبغوض كالأمر بالمبغوض. وهو راجع إلى امتناع الأمر بالمشروط والتقرب به مع حرمة الشرط.

لكن امتناع الأمر بالمشروط مع حرمة الشرط يختص بما إذا انحصر الشرط بالحرام ، كما سبق. وأما التقرب بالمشروط مع حرمة الشرط فلم يتضح الوجه في امتناعه بعد كونهما فعلين متباينين اختياريين صادرين عن إرادتين ، لا دخل لإحداهما بالأخرى.

نعم لو انحصر الداعي لفعل الشرط المحرم بفعل المشروط ، بحيث تبتني إرادة المشروط على إرادة فعل الشرط والعصيان به لم يبعد امتناع التقرب بالمشروط ، كما قد يتضح بالتأمل في المرتكزات. نظير ما ذكرناه في الفقه من

٤٩٢

امتناع التقرب بالمركب إذا استلزم فعل الحرام تدريجا ، كالوضوء بالاغتراف من إناء الذهب ، لأن الغسل بنفسه وإن لم يكن محرما ، إلا أن القصد للغسل الوضوئي إذا رجع للقصد إلى إكماله بتكرار الاغتراف المحرم امتنع التقرب به.

رابعها : النهي المتعلق بوصف العبادة الخارج عنها. وقد ذكر المحقق الخراساني قدس‌سره أن الوصف إذا كان لازما للعبادة ، بحيث لا يمكن وجوده في غيرها ـ كالجهر في القراءة الذي لا ينفك عنها ، وإن أمكن انفكاكها عنه واتصافها بغيره ـ كان النهي عنه مساوقا للنهي عنها ، فيترتب عليه حكم النهي عن العبادة.

وهو غير ظاهر الوجه ، إذ مجرد ملازمة الوصف للموصوف لا تقتضي اشتراكهما في الحكم ، ولا تمنع من اختلافهما في المقام بعد فرض إمكان خلوّ الموصوف عن الوصف ، فيكون الوصف حراما والموصوف واجبا.

نعم لما كان الموصوف في المقام هو فعل المكلف الذي هو من الأمور المتصرمة غير القارة في الوجود ، فإن كان الوصف منتزعا من فعل منفصل عنه في الوجود وبإرادة متجددة لا دخل لها بارادته ـ كالعجب بالعبادة وإعلام الغير بها المتأخرين وجودا عنها ـ فلا إشكال في عدم مانعية حرمة الوصف المذكور من التقرب بالفعل الموصوف حين وقوعه. إلا أن يكون إيجاده بداعي التوصل لتحقيق الوصف ، حيث يكون العمل حينئذ تجريا مبعدا يمتنع التقرب به.

وإن كان منتزعا من فعل مقارن له في الوجود منتزع من أمر قائم به ـ كالجهر بالقراءة ـ أو خارج عنه ـ كالرياء به ـ أشكل التقرب به مع الالتفات لحرمة الوصف ، لأن القصد للفعل قصد لتحقيق موضوع الوصف المحرم الذي يكون به وجوده وبعدمه عدمه ، وبلحاظ ذلك يكون مبعدا يتعذر التقرب به. والتفكيك بين القصدين تبعا لتعدد الفعلين دقة لا يكفي في تحقق

٤٩٣

التقرب ارتكازا.

وعلى ذلك يبتني بطلان الصلاة مع الرياء ببعض خصوصياتها الخارجة عنها ـ كالتحنك حالها أو إيقاعها في المسجد أو جماعة ـ فضلا عن مثل التأني فيها أو الجهر بها أو اختيار بعض السور المأثورة فيها.

المقام الثاني

في المعاملات

ولا ينبغي الإشكال في عدم اقتضاء النهي عنها الفساد لو كان راجعا لحرمة المعاملة بعنوانها ـ كما في حرمة البيع حين النداء لصلاة الجمعة ـ فلا يمنع من ترتب أثرها عليها. إذ ليس نسبتها لأثرها إلا نسبة الموضوع لحكمه ، ومن الظاهر عدم منافاة حرمة الموضوع لترتب حكمه عليه ، كتحريم كثير من الأسباب الشرعية ، كأسباب الضمان والقصاص والكفارات وغيرها. وأظهر من ذلك ما لو رجع النهي إلى حرمة المعاملة لجهة خارجة عنها ، كما لو حرم إيقاع العقد الكلامي لإضرار الكلام بالعاقد ، أو لحرمة كلام أحد المتعاقدين مع الآخر.

وإنما الإشكال فيما لو كان راجعا لحرمة الأثر ، بحيث لا تحرم المعاملة إلا لكونها الفعل الاختياري المستتبع لترتبه شرعا مع عدم قدرة المكلف عليه مباشرة ، نظير تنجيس المسجد الذي يحرم بلحاظ ترتب النجاسة عليه. ومثاله في المقام ما لو حرم بيع المصحف أو المسلم من الكافر لقيام المفسدة بتملك الكافر لهما ، فقد يدعى استلزام التحريم للفساد لوجهين :

الأول : أن ترتب الأثر على المعاملة لما لم يكن لخصوصيتها التكوينية بل لحكم الشارع به تبعا لها ـ الراجع لامضائه لها ـ فمع فرض ترتب المفسدة

٤٩٤

عليه ومبغوضيته شرعا ـ ولذا حرمه ـ كيف يمكن جعله من قبله وحكمه بترتبه؟! ، بل يتعين عدم حكمه به ، الراجع لفساد المعاملة.

وقد يدفع ذلك بإرجاع النهي في مثل ذلك إلى المؤثر ـ وهو المعاملة ـ لأن الأثر ليس فعلا للمكلف ، لا بالمباشرة ولا بالتسبيب ، لعدم كون سببية السبب ذاتية ، بل هو تابع لاعتبار الشارع الخارج عن اختيار المكلف ، فيمتنع نهي المكلف عنه ، ويتعين رجوع النهي للنهي عن إيجاد المعاملة بنفسها ، لأنها الفعل الاختياري له ، فيلحقه حكم الصورة الأولى.

وفيه : أن ذلك وإن تم ، إلا أنه لا يفي بدفع الإشكال بعد فرض أن موضوع المفسدة والمبغوضية هو الأثر ، وأن ورود النهي على المعاملة ليس إلا لكونها الأمر الاختياري الموصل له في الجملة ، إذ كيف يجعل الشارع الأثر مع ذلك؟!

ولعل الأولى دفعه ـ مضافا إلى أن لازمه البطلان مع كون النهي تنزيهيا ، لمشاركته للتحريمي في كونه ناشئا عن مفسدة وإن لم تقتض الإلزام في حق المكلف ـ بأن الحكم وإن كان ذا مفسدة ومبغوضا للحاكم ، إلا أنه يمكن اختلاف حاله قبل وجود الموضوع عن حاله بعده ، ولو لتجدد المزاحم لتلك المفسدة ، فإن ذلك يقتضي مبغوضيته قبل وجود الموضوع ـ كالمعاملة في المقام ـ بنحو يوجب النهي عن إيجاده فرارا عن تحقق المزاحم الملزم بجعل الحكم وإن لزمت المفسدة. ولذا لا يكون النهي عن إعطاء الأمان منافيا ارتكازا لنفوذه ، دفعا لمفسدة التغرير بالمستأمن وخديعته.

ونظيره في الأحكام الشرعية غير المعاملات تحريم تنجيس المسجد الراجع للنهي عن إيجاد سبب النجاسة بلحاظ سببيته لها لا لذاته ، مع الحكم بها بعد تحققه ، وتحريم إقرار ذي اليد بما تحت يده لغير المالك بلحاظ كونه

٤٩٥

تفريطا بأمانته ، لما يستتبعه من حكم الشارع ظاهرا بحرمان المالك منها من دون أن ينافي الحكم المذكور الراجع لحجية الإقرار. وفي الأمور العرفية ما لو كان خروج الدار عن ملك مالكها مبغوضا له لمفسدة مهمة ، إلا أنه كان يرى أن في عدم مضي بيع ولده لها مفسدة أهم ، فإنه ينهى ولده عن بيعها ، ويمضي بيعه لو وقع.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره من أن النهي عن المسبب بالنحو المذكور موجب لسلب سلطنة المكلف على المعاملة وحجره عنها ، فلا ينفذ تصرفه ، لوضوح اعتبار سلطنة موقع المعاملة عليها في نفوذها.

وفيه ـ مع أن لازمه البطلان لو كان النهي متعلقا بالمعاملة بعنوانها لا من جهة خصوص السبب ، كالنهي عن البيع وقت النداء ـ : أن السلطنة المعتبرة شرعا في موقع المعاملة هي السلطنة الوضعية الراجعة إلى أهليته من حيثية كون التصرف من شئونه التابعة له ، كالمالك الكامل والوكيل والولي الشرعي ، وهي منوطة بأمور خاصة ليس منها حلّ المعاملة تكليفا ، لا السلطنة التكوينية الراجعة إلى قدرته على المعاملة خارجا ، ولا التكليفية الراجعة لترخيصه فيها شرعا.

بقي في المقام أمور ..

الأول : قد يدعى استفادة الملازمة الشرعية بين النهي والفساد من النصوص الواردة في نكاح العبد بغير إذن مولاه الظاهرة في أنه لو كان عاصيا لله تعالى فسد نكاحه ، كصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده ، فقال : ذاك إلى سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما. قلت : أصلحك الله ، إن الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون إن أصل النكاح فاسد ، ولا تحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنه لم

٤٩٦

يعص الله وإنما عصى سيده ، فإذا أجازه فهو له جائز» (١) ، وغيره.

ودعوى : أن نفي عصيانه تعالى لا يناسب فرض عصيان السيد ، لوضوح ملازمته لعصيانه تعالى ، فالحكم بالصحة معه لا يناسب اقتضاء النهي الفساد ، بل عدمه. ولا بد أن يكون المراد بنفي عصيانه تعالى نفي عصيانه الوضعي الراجع لمشروعية النكاح ذاتا.

مدفوعة : بأن المراد من نفي عصيانه تعالى ليس هو نفي مطلق العصيان ، لينافي فرض عصيان السيد ، بل نفي خصوص عصيانه الراجع لمخالفة نهيه بلحاظ حقه بالمباشرة ، لا بتوسط حقوق الناس بعضهم على بعض. ويكون المتحصل من الرواية : أن مانعية النهي حدوثا وبقاء تابعة له حدوثا وبقاء ، فالنهي عن المعاملة إن كان راجعا لحقه تعالى فحيث لا رافع له ، لعدم تجدد الرضا منه بما خولف فيه ، يستتبع فسادها رأسا بنحو لا يمكن تصحيحها ، وإن كان راجعا لحق الناس فحيث يمكن ارتفاع النهي الشرعي بتجدد رضا من له الحق تكون صحتها مراعاة بذلك ، لارتفاع نهي الشارع به. هذا ما قد يرجع إليه كلام بعض الأعاظم قدس‌سره في توجيه الاستدلال.

لكنه يشكل بأن النهي عما وقع لا يقبل البقاء ولا الارتفاع ، لعدم الموضوع له بعد مخالفته ، والعصيان المسبب عنه لا يرتفع بعد تحققه.

ودعوى : أن المراد بارتفاع النهي والعصيان المسبب عنه ارتفاع موضوعه ومنشأ حدوثه ، وهو في المقام مخالفة مقتضى سلطنة السيد الذي يرتفع بتجدد رضاه.

مدفوعة : بأن ذلك لا يكفي في تصحيح المعاملة الفاسدة من غير جهة مخالفة مقتضى السلطنة ، فمن تزوج ذات العدة أو بنت زوجته غير المدخول

__________________

(١) الوسائل ج : ١٤ باب : ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث : ١.

٤٩٧

بها ، لم يصح زواجه بخروج الأولى من العدة أو طلاق أمّ الثانية.

على أنه لا مجال لفرض العصيان التكليفي ـ الذي هو محل الكلام ـ في مورد النص بعد ظهور عدم عصيان العبد تكليفا بمجرد إيقاع العقد ، كما لا يتحقق في أكثر موارد إيقاع المعاملات الباطلة وغير المشروعة. كما أنه لا يناسب سياق عصيان الله تعالى بعصيان السيد مع عدم فرض سبق النهي من السيد الذي يتوقف عليه عصيانه التكليفي.

ومن هنا كان الظاهر ما ذكره غير واحد من حمل العصيان في المقام على العصيان الوضعي المنتزع من إيقاع المعاملة على خلاف الوجه المشروع.

ويرجع مضمون النصوص إلى أن مخالفة المعاملة للوجه المشروع إن كان بإيقاعها على وجه لم يشرع أصلا ـ كالنكاح في العدة ـ فهي تبطل ذاتا ، ولا تقبل التصحيح ، وهو المراد بمعصية الله تعالى. وإن كان بإيقاعها على وجه مشروع ذاتا ، وإنما لم تنفذ لمخالفتها مقتضى سلطنة الغير ، كالمولى ـ وهو المراد بمعصية السيد ـ أمكن تصحيحه برضا من له السلطنة وإجازته. فتكون هذه النصوص أجنبية عن محل الكلام من النهي التكليفي.

الثاني : قال في التقريرات : «حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ، والمنقول عن نهاية العلامة التوقف. ووافقهما فخر المحققين في نهاية المأمول». وقد ذكر للاستدلال على ذلك وجهين يرجع أولهما إلى اعتبار القدرة في متعلق النهي مع قطع النظر عنه ، والثاني إلى لزوم صحة متعلق النهي ، لعدم الفرق بينه وبين متعلق الأمر.

لكن الأول لا يقتضي القدرة بعد النهي ليتوهم منافاتها للبطلان. على أن البطلان لا ينافي القدرة بناء على الأعم ، لصدق العنوان المنهي عنه مع البطلان على المبنى المذكور. وأما بناء على الصحيح فمتعلق النهي وإن لم يكن مقدورا إلا مع الصحة ، لتوقف عنوانه عليها ، إلا أن متعلق النهي هو واجد العنوان ـ وهو

٤٩٨

الصحيح ـ لو لا النهي ، لتقدم الموضوع على حكمه رتبة ، وحينئذ فهو مقدور وإن صار فاسدا بسبب النهي.

ومنه يظهر اندفاع الثاني ، لأن متعلق الأمر والنهي ليس إلا ما يصدق عليه العنوان في رتبة سابقة على حكمه ومع قطع النظر عنه ، وحينئذ فاختصاص متعلق الأمر والنهي بالصحيح لا ينافي الفساد في رتبة متأخرة عن الحكم.

الثالث : محل الكلام في العبادات والمعاملات هو النهي التكليفي عن العبادة أو المعاملة المستتبع للعقاب ، دون النهي الوارد للإرشاد لبطلان العمل وعدم ترتب الأثر عليه ، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، وعن بيع ما ليس بملك ، فإنه مسوق لبيان الفساد إثباتا ، مع استناده ثبوتا لعدم تمامية الملاك ، لا لملازمته للنهي. كما إنه لا يقتضي تحريم العمل تكليفا. ومثله النهي عن ترتيب الأثر ، كالنهي عن أكل الثمن ، فإنه وإن أمكن أن يكون تكليفيا بالإضافة إلى ترتيب الأثر إلا أنه لا يكون تكليفيا بالإضافة إلى إيقاع العمل ذي الأثر ، بل يدل على فساده لا غير.

نعم قد يجتمع الأمران في العبادة أو المعاملة فتكون محرمة تكليفا وفاسدة وضعا ، كما هو الظاهر في الصلاة بلا وضوء والمعاملة الربوية. بل قد توجب بعض المعاملات شدة حرمة الثمن بحيث يكون أكله أشد من أكل مال الغير بدون إذنه ، كما قد يظهر في بعض أدلة حرمة الربا. لكنه خارج عن محل الكلام وتابع للدليل الخاص ، ولا ضابط له. فلاحظ.

والله سبحانه وتعالى العالم.

انتهى الكلام في مبحث اقتضاء النهي الفساد

وبه ينتهي الكلام في الملازمات العقلية

كما يختم به الكلام في قسم الأصول النظرية

والحمد لله رب العالمين

٤٩٩
٥٠٠